نشأة الدمقراطية
١
الدمقراطية لفظ متعدِّد المَعَاني يَمُتُّ إلى العواطف ببعض الصلة، إذا رأى فيه بعض الناس لواء خفاقًا يدعوهم إلى الانضواء تحته، لا لفظًا علميًّا جامدًا خاليًا من العاطفة، فقد يرى فيه البعض خرافة عتيقة ذهبتْ روعتها وأبلَى الزمان جِدَّتَها، ذات صلاتٍ ممقوتة بالرأسمالية والاستعمار؛ لذلك لم يكن موضوع هذا الكتاب مما يُبحث عنه في معاجم اللغة، بل مما يُبحث عنه في عواطف الأحياء من الناس؛ الرجال منهم والنساء وأهوائهم وعاداتهم ومعتقداتهم؛ أي إن البحث في اشتقاق اللفظ ومعرفة أصله لا يكاد يُفِيدنا في شيء، بل إن خير وسيلة لمعرفة معنى الدمقراطية، أن ننظر إلى ما يعمله مَن نعيش بينهم من الرجال والنساء، فإذا فعلنا ذلك رأَيْنا عامة الناس؛ رجالهم ونساءهم في بعض البلاد يتمتعون بقسطٍ من السلطة السياسية، عن طريق الجمعيات النيابية والوزارات المسئولة، وتلك هي الدول الدمقراطية.
لكننا نرى الشعوب في أكثر البلاد تسيطر عليهم فئة قليلة من الحكام، سلطانهم مُطلَق من كل قَيْد، ولا يُباح للناس أن يَنقدوه، وفي بعضها أُعيدت منذ عهدٍ غير بعيد السلطة السياسية بشكلها القديم.
لقد كانت كثرة الناس في البلاد الغربية منذ عشرين عامًا، إذا ذُكرتْ أمامَهم المبادئ الدمقراطية، عدُّوا ذلك من نافلة القول أو مِن البديهات، وكان يظن أن الناس وإنْ لم يُؤتَوْا حظًّا كاملًا من العقل والإدراك، لا يَستَحْيون أن يفكِّروا ذلك التفكير القليل الذي تسمح لهم به مداركهم، فإذا شاء أحدهم أن يسلك سبيلًا، كان أفضل له أن يسلكها مختارًا من تِلْقاء نفسِه، لا أن يُرغَم على سلوكها، وكان أكثر الناس «رقيًّا» يقولون إن الخير في أن نُقنِع عامة الناس أن يفعلوا ما ينفعهم وينفع غيرَهم، لا أن نُكرِهَهم على فعله، وكان يظن أن النظم التي يُطلِق عليها الناس اسم النظم الدمقراطية، لا سيما السياسية منها، تطلق عقول عامة الناس بعض الإطلاق، وتسمح لهم أن يفكروا باختيارهم ومن تلقاء أنفسهم، وتشجع البحث والمناقشة في مختلف الآراء تمهيدًا للفصل في السياسة العامة، تلك كانت نظرة الناس منذ عشرين عامًا، ولكن من الخطر أن تُعَدَّ المبادئ، حتى المبادئ الحسابية، من البديهات المفروغ منها؛ لأن مَن يفعل ذلك يَنسَ أن هذه المبادئ قد كشفتْها للناس في يومٍ من الأيام جهود بُذلتْ عن قصد، وليستْ هي حقائق أُوحِيَتْ إلى الناس من غير تفكيرٍ وتصوُّر وتجربة، انظر مثلًا إلى الضرب في أرقام فوق العشرة، تجد أنه كان عملًا لا يستطيعه عامة الناس قبل القرن السادس عشر، أما الآن فإننا لا نجد في ذلك شيئًا من الصعوبة، كذلك الحال في فن الحكم فقد جُرِّبت فيه عدة طرق، ابتغاء بثِّ التعاون المتبادَل بين مَن تجمعهم رابطة الجوار، وكان من أثرها أن ارتقى هذا الفن بعض الارتقاء في القرن التاسع عشر، وكان مما استعان به فن الحكم في تاريخه الطويل الدِّين والشِّعْر، ولكن الخوف والطمع والاندفاع في الولاء والإخلاص، قد استُخدمت كلها لحفظ النظام وتحسين العلاقة الاجتماعية، وكانت النتيجة أن بعض الناس رفعوا أنفسهم إلى كراسي الحكم، وبعضهم رفعتْه الظروف أو الجماعات التي كانت تتطلع للزعامة، وتغيَّرت أشكال الحكومات أكثر مما تغيرت الديانات أو طرق الحصول على الطعام واللباس واستخدامها لسدِّ حاجات الإنسان، ثم أسفرت التجارب المتعددة عن نوعٍ من الحكم جديد يُسمَّى «الدمقراطية»، لجأ إليه الناس عن قصدٍ في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وقد استُعير الاسم الذي أُطلِق على هذا النظام الجديد من نُظُم الحكم بشطرَيْه؛ أي تولِّي أمر الناس وخضوعهم، استُعير هذا الاسم من اللغة اليونانية؛ لأن التفكير السياسي في ذلك الوقت كان يُسَيْطر عليه تجدد الاهتمام بمدنية اليونان والرومان القديمة ذات الصبغة الاسترقاقية؛ ولأن قادة الفكر الذين كانوا يرغبون في الإصلاح الاجتماعي في القرن الثامن عشر، كانوا يتطلَّعون إلى الآداب اليونانية والرومانية القديمة؛ ليَجِدوا فيها الوسائل التي يستطيعون أن يُقِيموا بها قواعد الحكم على غير الأهواء الشخصية المتقلِّبة، وخُيِّل إليهم أنهم لن يَجِدوا لذلك النوع من الحكم بديلًا إلا حكم «الشعب»، الذي كان قائمًا حسب ظنهم في أثينا وروما مالكتَيِ الرقيق، لكن الحرية والمساواة في أثينا وروما كانتا امتيازًا اختُصَّ به نفر قليل من الذكور مُلَّاك البيوت، وهم الذين كانوا يحكمون سائر الشعب، وكانت السلطة السياسية فيهما موزَّعة بين هذا النفر القليل.
٢
وليست الطرائق التي كانت تتبعها أثينا وروما مما يتناسب مع أحوال وقتنا الحاضر؛ لأن الاسترقاق لا يرضاه الناس جهرة، ولقد كان التقيد بهذه الطرائق في الماضي القريب، معطلًا للجهود التي تُبذَل للوصول إلى حقيقة ما نفهمه من الدمقراطية، وما نسعى إليه من القضاء على الفقر والظلم والحروب؛ ذلك بأن هذه الشرور الثلاثة مما لا يتفق بحالٍ من الأحوال مع «الدمقراطية» كما نفهمها الآن، ولكنها مع ذلك كانت من العوامل المُعتَرَف بوجودها في كل أنواع الحكومات القديمة، وهذا سبب من الأسباب التي تدعونا إلى عدم البحث في أنواع الحكومات الأولى التي كانت تسمى حكومات «دمقراطية».
وقام في أثناء ذلك بعض الكُتَّاب في الشئون العامة فاستحدثوا نظرية للطبيعة البشرية؛ ليُفسِّروا بها سلطة الحكام الأدبية، على أساس غير الأساس القديم، وهو الاعتقاد بتلك الصفة السحرية المعروفة بحق الملوك «الإلهي»، وكانت أولى هذه النظريات نظرية العقد الاجتماعي، الذي أنشأ الناس بمقتضاه حكومتهم الأولى كما يزعم أصحاب هذه النظرية، ومعنى هذا أن الحكومة قائمة على نوعٍ من التراضي، لا على أمرٍ من الله، سبحانه وتعالى.
ذلك أن البرلمان الإنجليزي أخذ يُشرف شيئًا فشيئًا على السلطتين التشريعية والتنفيذية، حينما ابتدعت طريقة الحكم بوساطة مجلس الوزراء، وجعل اختيار الوزراء أنفسهم من بين أعضاء البرلمان، فصاروا بهذه الطريقة عُرضة للنقد والإقالة بإرادة البرلمان نفسه، وأصبحت هذه سُنَّة أخرى جديدة جوهرية ابتدعتْها الدمقراطية، وهي إشراف الجمعية المنتخبة على الهيئة التنفيذية، ولما جاء القرن التاسع عشر وأصبحت أغلبية الذكور الراشدين في البلاد هي التي تختار أعضاء هذه الجمعية المنتخبة، بدأتِ الدمقراطية الحديثة، وأصبح المقصود بكلمة «الشعب» هم الذكور الراشدين، لا «أصحاب الأملاك»، كما كان يُفهَم من هذا اللفظ في أمريكا وفرنسا وإنجلترا حتى أوائل القرن التاسع عشر، نَعَمْ، إن «الشعب» الذي يختار ممثليه لا يزال حتى الآن مقصورًا على الذكور الراشدين في فرنسا وسويسرا وغيرهما من «الدمقراطيات»، ولكن الأمم التي أصبحت أكثر من هذه إطاعة لحكم العقل والمنطق، قد خوَّلت النساء في وقتنا هذا نصيبًا من السلطة السياسية، فمنحتْهنَّ أيضًا حق الانتخاب، ولم تحصل النساء في إنجلترا على هذا الحق بأوسع معانيه إلا في عام ١٩٢٨، ولم يحصلن عليه في بعض الدمقراطيات الأخرى إلا قبل ذلك الوقت ببضع سنين، وكان حصولهن عليه آخِرَ أثَر من آثار المُثُل الدمقراطية العليا في النظم السياسية، وبهذه الخُطا التي خطاها فن الحكم وصلنا إلى الحالة القائمة الآن في شمال أوروبا الغربي وأمريكا والمستعمرات البريطانية المستقلة، وكان من أثر هذه القوى الجديدة التي وُجدت في ميدان السياسة، أنْ أَخَذَت وظائف الدولة تتبدَّل عمَّا كنت عليه من قبلُ.
الإنسان حيوان عاقل، يصون حقَّه ويَمْنَعه من الوقوع في الزَّلَل قوًى معتدِلة، يعهد بها إلى أشخاص يختارهم بنفسه، ويظلُّون قائِمِين بأداء واجبهم ما داموا خاضِعِين لإرادته.
٣
وإذن فالدمقراطية التي نحن بصددها في هذا الكتاب حديثة العهد جدًّا، وقد كان لهذه «الدمقراطية» الجديدة في القرن الماضي عِدَّة معانٍ مختلفة، أما الآن فيَلُوح أن الذي يفهمه معظم الناس منها، هو حق العدد الكبير من أفراد الشعب العاديين في كل بلدٍ من البلاد أن يستبدلوا بحكامهم حكامًا غيرهم، ويُشرفوا بعض الإشراف على طريقة حكمهم، ويتناقشوا علنًا في كل طرائق الحكم وقرارات الحكومة، مناقشة مصحوبة بحريتهم في انتقاد جميع ولاة الأمور، ولا شك في أن هذه الطريقة الجديدة من طرق الحكم بشقَّيْه؛ السيطرة والخضوع، أكثر تعقيدًا من الطرق القديمة، كما أن الآلة المولِّدة للكهرباء المستخدَمة في الإضاءة أكثر تعقيدًا من الشمعة، وهذا الاختلاف في الوسائل يؤدِّي إلى اختلاف في النتيجة، فإذا وُجد عدد كافٍ من الناس يرغبون في أن يَجنُوا تلك الثمار التي تُنتِجها الدمقراطية، كان في مقدورهم عادة أن يَجِدوا الوسائل التي تمكِّنهم من تسيير الآلة الحكومية الجديدة، على أن ما قام به الناس من التجارب وما بذلوه من الجهود لمعرفة الطرق المختلفة لسير الحكم الدمقراطي، قد أنسى الكثيرين منهم الغَرَض الذي مِن أجْلِه بُذلت هذه الجهود الأولى، أنساهم أن الغرض الذي من أجله قامت كل الحكومات سواء أكانت دمقراطية أم غير دمقراطية، هو أن تسهل على الناس أن يعيشوا بعضهم مع بعض، لكن من أصعب الأشياء بطبيعة الحال، أن يعيش الناس بعضهم مع بعض إذا سار كل منهم على هواه، وفي الناس كثيرون لا يعرفون لأنفسهم «هوًى» خاصًّا مطلقًا؛ ولذلك قد تَجِد منهم مَن يُعارض الدمقراطية؛ لأنها لا تُنِيل الإنسان ما يشتهي من جهة؛ ولأنه لا يشتهي ما تُنِيله إياه من جهةٍ أخرى.
وكان أهم القوى التي أدَّت إلى نشأة الدمقراطية، هي رغبة طائفة المُلَّاك والتجار في أن يُسيطروا على النظم التي يعيشون في كنفها، وشعور العَدَد الكبير من الناس أن مشيئة الحاكم وهواه أضرُّ الأشياء بدافعي الضرائب، ولقد كانت هذه المعركة في بعض الأحيان بمثابة احتجاج على السيطرة «الخارجية»، كما حدث في حرب الاستقلال التي أثارتْها المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية، فلما نالتْ هذه الولايات استقلالها، أنشأتْ لنفسها حكومة ذات سيادة لا يرأسها مَلِك، وقائمة على أساس دمقراطي، كما جاء في إعلان الاستقلال الصادر في عام ١٧٧٦ وفي الدستور الذي وُضع في عام ١٧٨٧، وكانت الحكومة الفرنسية قد أعانت هذه الولايات المتحدة في نزاعها مع بريطانيا العظمى، كما كان الكُتَّاب الفرنسيون على علمٍ بالنظرية البريطانية في الحقوق المدنية، ثم شبَّتْ في عام ١٧٨٩ ثورة في فرنسا، انتهتْ بإعدام مَلِكها في عام ١٧٩٣، وإعلان الجمهورية فيها، وخروج هذه الأمة، التي ظلَّتْ أكثر من قرنٍ من الزمان تتولَّى زعامة المدنية الأوروبية، خروجًا تامًّا على مبادئ الحكم القديم، التي كانت تقوم عليها سياستها الداخلية والخارجية، واستعار الفرنسيون من الأمريكيين ما كانوا يردِّدونه في أقوالهم عن «حقوق الإنسان» و«سيادة الشعب»؛ ليعبِّروا به عن المبدأ الجديد الذي سيتخذونه قاعدة لنظام الحكم في بلادهم.
وقد جاء في إعلان حقوق الإنسان الصادر في عام ١٧٨٩، والذي أقرَّتْه الجمعية الوطنية في باريس، أن الجهل واحتقار حقوق الإنسان هما كل أسباب بؤس الشعب وفساد الحكم، وتنص المادة الأولى من هذه العقيدة الجديدة على أن الناس يُولَدون متساوِين ويظلون أحرارًا متساوين في الحقوق، وجاء في المادة الثانية أن الغرض الذي تقوم من أجله كل هيئة سياسية، هو المحافظة على حقوق الإنسان المقرَّرة الطبيعية، وتقرر المادة الثالثة أن الأمة مصدر السيادة والسلطات جميعها، وتفترض المادة السابعة عشرة أن من البديهات الأولية أن: «حق المَلِك حقٌّ مقدَّس لا يصحُّ التعرُّض له»؛ وبذلك أصبح ما كان من قبل مجرد نظريات فلسفية قوة عظيمة الأثر في نظام الحكم، ومع أن المعاني المقصودة من ألفاظ «الحقوق» و«السيادة» و«الأمة» و«الملك» لم تكن واضحة كل الوضوح، فإن القوم قد خَطَوْا خطوة جديدة من الوِجْهة العملية، في إقامة سلطة الحكم على رضاء مَن لهم مصلحة مباشرة في الشئون العامة، وبخاصة مَن كان لهم شيء من المُلْك، وبهذا أصبحتِ الدمقراطية، كما نفهمها نحن، حقيقة سياسية واقعية.
وكان الانتخاب، إذا وجد اختلاف في الرأي، يتطلب فرز الأصوات، ومن ذلك نشأت عادة تقرير الرأي بالأغلبية، واتبعت الهيئة المنتخبة في أعمالها نظام إصدار القرارات بالأغلبية، الذي بمقتضاه نال أفرادها حظَّهم من السلطة؛ ولذلك حَرَصوا على أن تدلَّ نظرياتهم على أن «إرادة» أغلبية الجمعية هي حقيقة «إرادة الشعب»، أو أنها هي الطريقة العملية الوحيدة لتمثيل هذه الإرادة، ولقد أَلِف الناس في معظم البلاد نظام التمثيل النيابي وحكم الأغلبية، حتى لَيُخَيَّل إليهم أنه من الوسائل الطبيعية التي لا غِنى عنها في نظام الحكم، وأصبحوا منذ بداية القرن التاسع عشر يَرَوْن أن من الأمور البديهية أن يقوم الحكم على «رضاء المحكومين»، وأن يكون «الرأي العام» هو القوة المحركة في السياسة العامة، والحق أن أحدًا من الناس لا يكاد يرى أن مِن واجبه أن يسأل: هل يوجد حقًّا شيء يقال له: «إرادة الشعب» أو «الرأي العام»، وإذا وُجدا فما هو كنههما؟ وليس معنى هذا أن الأفكار القديمة عن الحكم الدمقراطي الأول أفكار خاطئة أو مُضلِّلة، كلَّا، إن هذه الأفكار كان مرجعها هو الحقائق، وهي التي دفعت الناس في طريق العمل، ولكننا الآن أصبحنا نعرف الشيء الكثير عن الحقائق التي بُنيت هذه الأفكار عليها، والفضل في ذلك راجع إلى علم النفس وتاريخ الإنسان الطبيعي والتاريخ الثقافي، لكن الحقيقة التي لا تزال قائمة على الرغم من هذا العلم، هي أن ما يعتقده الناس في الحكم لا يكاد يقلُّ أهمية عن حقائق الحكم نفسها، ومعنى هذا أن الاعتقاد في حدِّ ذاته حقيقة كغيرها من الحقائق الأخرى، ولما كان الناس يعتقدون أن الاقتراع يُظهِر «الرأي» أو «الإرادة»؛ أي الرأي المقرون بالعمل، فقد أصبح الغرض الذي ترمي إليه النظم الدمقراطية، أن تجعل رأي السكان جميعهم أو إرادتهم تُسيِّر أعمال الحكومة أو تؤثر في سَيْرها.
ولقد كان عددٌ غير قليل من الرجال والنساء ذوي الهمة والنشاط، يؤمنون بالدمقراطية في القرن الماضي، ولكنهم كانوا يخوضون في سبيل إيمانهم غمرة من العادات والمعتقدات القديمة، يزينها كثيرٌ من الألفاظ الطنانة الرنانة، فقد نشر كثيرٌ من الكتب للاحتجاج على كل توسعٍ في منح السلطة السياسية والاجتماعية لعامة الشعب ودهمائه، وقال المثقفون: إن الدمقراطية سوف تقوض دعائم النظام، وتقضي على الثقافة والحرية «الحقيقية»، ويقصدون بتلك الحرية من غير شك ما يتمتعون هم به منها، ولا يزال بعض هؤلاء يردِّدون هذا القول في أيامنا هذه، وأما المتطرفون المتحذلقون فقد أخذوا يندبون ما سيصيب الحكومة من اختفاء «روح العصر»، وغيره من العناصر الأخرى ذات الروعة والجلال، لكن حق الانتخاب مع ذلك أخذ يتسع في القرن الماضي حتى ناله كثيرٌ من عامة الشعب، وأخذت رقابة هؤلاء العامة وسيطرتهم على الحكومة تزدادان وتقويان، وصارت مزايا القانون والنظام توزع بين أفراد الشعب عامة توزيعًا أقرب إلى العدل والمساواة، كذلك أمست العلاقة بين الحكومات بوجهٍ عام أبعد عن علاقة المصارعين أو القرصان، وأقرب إلى مبادئ السلم والعدل التي نادت بها الثورة الفرنسية، ولم يبقَ للحرب الآن في قلوب الناس ما كان لها من الإجلال منذ قرن من الزمان، ويرجع معظم الفضل في ذلك إلى الدمقراطية.
غير أن النجاح الذي لاقتْه جهود عامة الشعب للاشتراك في السلطة العامة، قد انتقص في أوروبا بين عامَيْ ١٧٩٣، ١٨٣٠، لكن مبادئ حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية أخذت تستجمع قواها مرة أخرى، واتسع نطاق حق الانتخاب في كثيرٍ من بلاد أوروبا الغربية، وتم إلغاء النخاسة والرِّقِّ بعد ذلك، واستمتعت طبقات التجار وأصحاب الأعمال بالإشراف على السياسة العامة، وشبَّتْ في العَقْد الرابع من القرن الثامن عشر وكذلك في عام ١٨٤٨، عدة ثورات «حرة» ومنح الملوك في بعض البلاد «دساتير»، سمحوا فيها بجزءٍ يسير من السلطة لعددٍ قليل من رعاياهم المصطفَيْنَ، ولم يحلَّ العَقْد الثامن من القرن التاسع عشر، حتى كان البلد الذي يُسَيْطر عليه هوى مَلِكه وبطانته ومشيئتهم المُطلَقة يُعَدُّ بلدًا من الطراز العتيق، ولم يَجِدِ الملوك بدًّا من أن يعترفوا بصراحة مختلفة الدرجات بأنهم مدينون بسلطانهم «للشعب»، ولم يلبث رؤساء الجمهوريات أن قُبِلوا في الأوساط الممتازة من المجتمعات الدبلوماسية، وبذلك تقربت الملكية القديمة من المَثَل الأعلى الدمقراطي، لكن دُعاة هذا المَثَل الأعلى قد تقربوا أيضًا من النظام القائم وقتئذٍ.
٤
هذه هي الحال فيما يختص بنظام الحكم الداخلي، أما من حيث علاقة الدول بعضها ببعض، فإن أقلَّ ما يَفرِضه المَثَل الدمقراطي الأعلى أن يكون الإقناع لا القوة، خير وسيلة لتأييد حقوق إحداهن قِبَل الأخرى، لكن الدول التي يُسمِّيها الناس دولًا «دمقراطية» كانت كغيرها مدججة بالسلاح، ولم تكن سياستها الخارجية لتمتاز في شيءٍ عن سياسة الدول التي تسير على النظام القديم، ولا يمكن تفسير هذه الحال إلا بنظريةٍ من اثنتين؛ فإما أن العلاقة بين «الشعوب» لا تختلف في شيءٍ عن العلاقة التي كانت بين الملوك من قبلُ، وإما أن السياسة الخارجية والدبلوماسية لا تلائمان الدمقراطية بحالٍ من الأحوال، وبعبارةٍ أخرى: إما أن تكون الدمقراطية في الشئون الدولية هي الاستبداد بعينه، وإما أن المبادئ الدمقراطية «محلية» محضة لا تنطبق مطلقًا على العلاقة بين الدول، ومهما يكن من أمر النظريات؛ فإن الواقع أن الحرب والاستعداد المتزايِد للحرب، لم ينقطع لهما سبب طوال القرن التاسع عشر، ومعنى هذا أن قيام النظم الدمقراطية في داخل بعض الدول، لم يَمنَع هذه الدول نفسها من أن تحتفظ في علاقاتها بالدول الأخرى بالنظم القديمة، لم يَكَد يطرأ عليها أقل تغيير، فكأن المبادئ الدمقراطية لم يكن لها أثر في حكم المستعمرات ولا في الحكم «الدولي»؛ أي في العلاقة القائمة بين الدول بعضها وبعض.
لكن العوامل التي تَدفَع عامة الناس إلى المطالبة بنصيبهم من السلطة السياسية ما زالت تعمل عملها، ولقد كان من آثارها أن الصناع اليدويين في قليلٍ من البلاد الغربية أنشئوا في القرن التاسع عشر نقابات الصناع؛ ليتَّقِيَ بها مَن لا ملك لهم ما كانوا يقاسون من جرَّاء الاضطراب في الإنتاج والتوزيع حسب نظامهما التقليدي القديم، ولم تلبث هذه «الدمقراطية الصناعية» أن خَلَقَت لنفسها زعماءها، وحددت خطتها الثابتة المنسجمة، وإن كانت لا تزال محصورة في حدودٍ ضيقة، وخير ما أوجدتْه أنها أشعرتْ أعضاءها بصفةٍ عامة أن لا خير يُرجى من النظم السياسية، إذا ظلت النظم الاقتصادية هي المسيطرة على توزيع القوة والسلطان، وقد أفلحت نقابات العمال في أن تجعل لها بعض السيطرة على مستوى الأجور وشروط العمل في ظل النظام التقليدي القائم في بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وغيرها من بلاد أوروبا الغربية، أما في الولايات المتحدة فقد كانت حركة نقابات العمال ضعيفة لتأثرها بحركة العمال المهاجرين، كما كانت محافِظة في سياستها الاقتصادية؛ لأن فُرَص الإثراء الشخصي كانت فيها مهيأة تهيئة أقرب إلى العدل والمساواة منها في أوروبا، ولكن القرن التاسع عشر ما كاد ينتهي، حتى كانت نقابات العمال في كل البلاد الغربية قد كوَّنتْ لها طائفة من المعتقدات، أبطأتِ السير نحو الدمقراطية، إن لم تكن قد أوقفتْه بالفعل، ولا تزال الفكرة القائلة بأن من حق جميع أفراد المجتمع أن يتساوَوْا في حظِّهم من نِعَم المدنية جميعها، لا أن يقتصر هذا الحق على الحرية المدنية والتشريع، لا تزال هذه الفكرة تختمر وتعمل عملها في نظام العالم الاقتصادي.
٥
لذلك كان من السخف أن نظن أننا قد وصلنا إلى ما نبغي من الدمقراطية، بل إن الخطر ليَحِيق بالقَدْر الذي حصلنا عليه منها، وأكبر السبب في ذلك أن هذا القدر ضئيل، والآن نرى الدمقراطية تجاهد عن نفسها جهادًا عنيفًا لتحتفظ بما كسبه العالم منها في بعض النواحي السياسية، وما كاد هذا الجهاد العام يبدأ حتى توالت عليها الضربات من خلفها، وأخذت معاول الفاشية والشيوعية تعمل لتقويض دعائمها، بل لتقويض دعائم الحكم المتمدين بأجمعه، وبينا يعمل أنصار الدمقراطية لإصلاح نظام حكم المستعمرات، واستبدال الوسائل السلمية بالحرب في فض المنازعات، وإيجاد وسائل اجتماعية للإشراف على إنتاج الثروة وتوزيعها على الأفراد، نرى أعداء الدمقراطية لا يكتفون بالدعوة إلى الاستعمار والحرب الأهلية والقومية والسخرة، بل يدعون أيضًا إلى كم الأفواه ومنع المناقشات العامة وتحريم النقد، ويريدون أن يفرقوا بين الناس فلا يكونوا كلهم أحرارًا متساوين، بل تكون كثرتهم خاضعة محرومة حقوقها وحريتها، ونرى أنفسنا الآن كما رأينا أنفسنا مرارًا في تاريخنا القديم، قد أضلَّنا الجدل فلا ندري ما نرغب وما السبيل إلى تحقيق ما نرغب.
ولهذا يجب علينا عندما نبحث في الدمقراطية، أن نفرق بين المَثَل الأعلى «للدمقراطية»، وبين نُظُم الحكم القائمة في بعض البلاد والتي تُسمَّى بهذا الاسم، فأما الدمقراطية من حيث هي مَثَل أعلى، فهي الفكرة العاطفية التي ترمي إلى وجود مجتمع لم يُخلَق بعدُ، يتساوى كل أفراده رجالًا ونساء في حظِّهم من نِعَم الحياة المتمدينة جميعها، فلا يُعتَدَى عليهم ولا يُحكَمون حكمًا استبداديًّا، ويتمتعون بحظٍّ موفور من الثروة والراحة، فيستطيع كلٌّ منهم أن يَجِدَ في هذا المجتمع مجالًا حرًّا واسعًا لإظهار ما وَهَبَه الله من كفايات، ولمَّا كانت أهم هذه المواهب هي قدرة الفرد على أن يعمل مع غيره للمصلحة العامة، فإن المَثَل الدمقراطي الأعلى يتطلب أيضًا وجود مجتمع يمدُّه جميع أفراده بأفكارهم ومشاعرهم من تلقاء أنفسهم، ويقومون فيه كلهم بالأعمال العادية التي تَحفَظ ما بلغه من الرقي والمدنية، لكن علينا ألَّا نَنسَى أن المَثَل الأعلى وإنْ كان يُعبِّر عن الرغبة في شيء، يتطلب أيضًا معرفة الحقائق المرتبطة بما هو واقعي وما هو مستطاع، فكما أن من العبث مثلًا أن يتطلب الإنسان أن تخرج من نواة البلح شجرة غير النخلة، كذلك كان من العبث أيضًا أن يتطلب من الناس أن يكونوا ملائكة من نور؛ ولهذا يجدر بنا إذا أردنا أن تكون رغباتنا عملية ممكنة التنفيذ، أن نُلِمَّ بحقيقة الحياة البشرية الواقعية.
ويلوح أن الأساس الذي كان يقوم عليه المَثَل الدمقراطي الأعلى في وقتٍ من الأوقات، هو الاعتقاد بأن الناس كانوا في أول أمرهم فُرادَى متفرِّقين «أحرارًا»؛ أي لا صلة بين الواحد منهم والآخر، وأن هؤلاء الأفراد قد اجتمعوا ليكونوا المجتمع أو «الدولة»، وقد ارتبط هذا المَثَل الأعلى في القرن الثامن عشر بالدعوة إلى استخدام «العقل»، وتغليبه على العقائد التقليدية التحكمية والعواطف أو الانفعالات «الحماسية»، ومعنى هذا أن المثل الدمقراطي الأعلى كان في مبدأ أمره مثلًا «فرديًّا» و«عقليًّا» في آنٍ واحد، أما الآن فإننا نعلم أن اجتماع الناس بعضهم ببعض طبيعة متأصلة في نفوسهم، لا تقل في قوتها عن طبيعة الانفراد أو الانفصال بينهم إنْ لم تَزِدْ عليها، وأن التفكير لا يقتصر على العدِّ والحساب، ولا يمكن فصْلُه عن العواطف بحالٍ من الأحوال؛ ولهذا فإن المثل الأعلى للمجتمع المتساوي الأفراد في الوقت الحاضر، لا يشترط في أفراد ما كان يتطلبه الناس عادة فيهم منذ قرن من الزمان، ولكن لا يزال يفترض على الأقل أن كل فرد من أفراده، رجلًا كان أو امرأةً، قد أوتي شيئًا من قوة العقل والاختيار من تلقاء نفسه، كما أُوتِيَ نصيبًا من القدرة على الائتلاف مع زملائه، كذلك لم يعدم الناس رجالًا كانوا أو نساء حظَّهم من العواطف التي لا تَخضَع لحكم العَقْل، ولا يزال مِن طبْعهم القصور الذاتي، والعداوة والبغضاء بين بعضهم وبعض، ولكن المثل الدمقراطي الأعلى يتطلب أن تزداد قدرة الناس على أن يستخدموا ما وهبهم الله من عقلٍ وقوة اختيار وائتلاف.
وليستِ النُّظُم التي تُسمَّى بالنظم الدمقراطية، والتي أهمها النظم السياسية، إلا العدد والوسائل التي تُستَخدَم للاقتراب من المَثَل الدمقراطي الأعلى، وليس هذا المثل هو الكمال المُطلَق الثابت، وإنما هو مَعْلم أو دليل الاتجاه، فإذا أوجدنا النظم وبرعنا في استخدامها، فقد اتَّجَهْنا الاتجاه الصحيح، والغرض الذي تَسعَى لإدراكه الدمقراطية هو وجود مجتمع من أفراد متساوِين، يَعمَلون فيما بينهم للمصلحة العامة بالاتفاق مع المجتمعات الأخرى المماثِلة لمجتمعهم، أما النظم القائمة الآن، والتي نسميها نظمًا دمقراطية، فبعضها قديم سابق للنظم الدمقراطية، أُدخِل عليه شيء من التعديل، وبعضها نتيجة اختراع وتجارب في ميادين من العمل جديدة، فالحكومة البرلمانية؛ أي الحكومة النيابية المسئولة، مثلًا لا تبلغ من العمر إلا نيِّفًا ومائة عام، ولكن أصولها أقدم من ذلك عهدًا، ولا تزال بعض النظم القائمة كالقوى المسلحة التي تستخدمها الدول ليحارب بها بعضها بعضًا، وحقوق المِلْكية التي يسيطر بها بعض الناس على أفراد الشعب رجالهم ونسائهم، لا تزال هذه النظم حيث كانت في الزمن القديم، لم يؤثر فيها المَثَل الدمقراطي الأعلى أقل تأثير، أما غيرها كالنظم التي يُستعان بها على تربية الشعب وتحسين صحته، فحديثة العهد جدًّا لم يكن لها وجود في الزمن القديم، وكذلك شأن الدولة نفسها والنظام الدولي، الذي يربط كثيرًا من الدول بعضها ببعض، فكلاهما نظام عتيق، لكن مدلول لفظَيِ «الدولة» و«الحكومة» قد أثَّر فيه سَيْر الدمقراطية تأثيرًا أكبر مما يظنه الناس عادة.
ويَصدُق هذا أيضًا على «القانون» و«الحرية» و«السلم»، فكلها قد تغيَّر معناها تبعًا لرقي فن الحكم بتأثير التقاليد الدمقراطية؛ ولذلك يحسن بنا ونحن نقرأ الفصول التالية في هذا الكتاب، أن نَضَع نَصْب أعيننا عادات الناس الحقيقية رجالهم ونسائهم، ونهتمَّ بها أكثر من اهتمامنا بالألفاظ، وأول ما يجب علينا هو أن نعرف إلى أي حدٍّ تكون الدمقراطية، من حيث هي مَثَل أعلى، نظامًا مرغوبًا فيه أو قابلًا للتنفيذ، وعلينا بعد ذلك أن نعرف ما في النظم الدمقراطية القائمة الآن من خيرٍ وشر.