العقائد المُعارِضة للدمقراطية
١
ولقد ظلَّ فلاسفة السياسة قرونًا عِدَّة يَبحَثون في الطريقة التي تؤدِّي بها الحكومة أعمالها، وفي وسائل تنظيمها، وكان من نتائج بحثهم أن عَرَف عامة الناس كثيرًا من الاصطلاحات السياسية؛ كالاقتراع والانتخاب والقانون، وأصبحتْ لغة الناس العادية في نقاشهم وفي صحفهم السيارة تتضمَّن نظرية في الحكم تؤثِّر في كلِّ بحث يُثار في الدمقراطية، لكن هذا الجدل الذي يُثار حول النظريات التي يُبنَى عليها الحكم الواقعي، يَجِب ألَّا يَحجب عن عيوننا حقيقة هذا الحكم؛ لأننا لو أخذنا بالنظرية كاملة غير منقوصة، لوجدنا أن في نظم الحكم عادات وأفعالًا لا تتفق معها بحال من الأحوال، فنرتبك ونَضِل من غير داعٍ، فليس بصحيحٍ مثلًا أن «الشعب» الحر صاحب السيادة، تُمْلِي عليه حكمتُه أن يختار أعظم أفراده نبلًا وأوفرهم ذكاءً وجدًّا؛ ليُعبِّروا عن إرادته الإجماعية في مجلس من خيار الساسة، يشمله النظام التام ويسير بإرادته وزراء الدولة، الذين هم أعظم منه نبلًا وأوفر ذكاءً وعقلًا، ذلك كله حديث خرافة! وشتان ما بين حقيقة السياسة والحكم وبين ما يُكتَب عنهما في الكتب! وإنْ كنَّا لا نُنكِر أن ما يعتقده سواد الناس قد يكون في معظم الأحيان، أبلغ أثرًا وأعظم أهمية في الشئون العامة مما يحدث بالفعل، والسبب في هذا الاختلاف بين الفرض والحقيقة، أن الدمقراطية من الناحية العملية وليدة النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد نشأت على أثر ما بذلتْه الأمم الأوروبية من الجهد لمعالجة مشاكل النظام الصناعي الجديد، وكان لا بد أن يستعين أصحاب العقول الراجحة في ذلك الوقت، بما كان سائدًا فيه من الآراء والعادات، ولم تكن لهم عن ذلك مندوحة وهم الذين نَشَئُوا في القرن الثامن عشر وتثقَّفوا «بثقافته»؛ ولذلك انساقوا من حيث لا يعلمون إلى الاعتقاد بصحة بعض الآراء السائدة وقتئذٍ عن الناس رجالهم ونسائهم، وهي آراء أقلُّ ما نعتقده فيها الآن أنها أفكار مشكوك في صحتها؛ فقد افترضوا مثلًا أن في وُسْع أيِّ إنسان، أن يتعلَّم كيف يستخدم عقلَه أحسنَ استخدام في شئون السياسة العامة، وهو اعتقاد خاطئ في كثيرٍ من نواحيه، كما افترضوا أيضًا أن المحاجة هي تقدير المنافع ووزنها، وأن خير أنواعها ما لم يكن للعواطف أثر فيه، وذلك أيضًا خطأ محض، وقد أخذوا بناءً على هذين الفرضين وغيرهما من الفروض، يُقِيمون نظامًا جديدًا من الحُكْم يَفِي بالأغراض التي وَسِعَها علمهم، فلم تكن نتيجة عملهم هي المثل الدمقراطي الأعلى، بل كانت هي النظام العملي الذي لا يزال قائمًا في بعض الدول الغربية.
فالدمقراطية إذن من الوجهة العملية نظام مِن نُظُم الحكم، تقوم السلطة العامة المنظمة فيه على اتفاقٍ ملحوظ بين عِدَّة طوائف مختلفة، تريد أن تستخدم هذه السلطة لفائدتها، فهو اتفاق بينها على ألَّا تَتَقَاتَل، إذا استطاعتْ كلٌّ منها أن تَصِل إلى هذه السلطة في وقتٍ من الأوقات، وقد نظَّمت هذه الطوائف نفسَها على هيئة أحزاب سياسية، منشؤها التقاليد في بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية، والمميزات الاقتصادية والاجتماعية في بعضها كبريطانيا العظمى، وهي في البعض الآخَر كفرنسا طوائف من السياسيين المحترفين، وتسعى كل طائفة من هذه الطوائف؛ لكي تستعين بأكبر عدد مستطاع من الأفراد، وتحصل على أكبر عدد من أصواتهم، وتختلف هذه الطوائف بعضها عن بعض في تفاصيل السياسة التي يدعو إليها كل منها، ولكنها كلها تفترض أنها لا تقصد بما تعرضه وتدعو إليه خيرَها وحدَها بل خيرَ المجتمع؛ أي خير الأمة بصفةٍ عامة، وأهم الوسائل التي يستخدمها أفراد هذه الطوائف، لإظهار مقدرتهم الشخصية والوصول إلى السلطة من طريقها هي الخطابة السياسية، وقد يستطيع بعض الأفراد وهم في كراسي الحكم، أن ينالوا بواسطة الصحافة بعض الشهرة والمكانة بحسن إدارتهم للأعمال الحكومية أو مقدرتهم في المفاوضات السياسية، ويناصر معظمُ الساسة العاملين طائفةً أو حزبًا من هذه الأحزاب يرأسه زعيم منتخب، أما كثرة الأهالي فلا تُعنَى بالشئون العامة عناية دائمة، وأكبر الظن أنها لا تستطيع أن توجِّه إلى تلك الشئون هذه العناية الدائمة، ولكنْ من المستطاع أن يُستَعان بنفوذهم كلهم في أوقات الانفعال والثوران، غير أن فيهم فئات قليلة العدد تُعنَى عناية جدِّيَّة بالشئون العامة، وتكوِّن في هذا الموضوع أو ذاك ما يُعرف «بالرأي العام»، ولا شك في أن الدمقراطية التي من هذا النمط، هي تجربة يُراد بها حمل أكبر عدد مستطاع من أفراد المجتمع، على ألَّا يعملوا في الشئون العامة بأيديهم فحسب، بل بعواطفهم وعقولهم أيضًا، فليست هي إذن طريقًا للجدل بين الفلاسفة، ولا هي نزاعًا بين النَّوْكَى، وإنما هي وسيلة يستطيع بها عامة الناس رجالًا ونساء أن يتفقوا فيما بينهم، على أن يتعاونوا لتحقيق بعض الأغراض المشتركة، ولهذه الأغراض ما للوسائل من الأهمية؛ لأن لفظ «الدمقراطية» لا يُقصَد به في بعض الأحيان الأداة الحكومية القائمة بالفعل، وإنما يُقصَد به المَثَل الأعلى للحكم، والحق أن الأحزاب السياسية والانتخاب والمناقشات التي تتخذ أساسًا لسَنِّ القوانين، وغير هذه من الوسائل تقوم كلها على فرض أن المجتمع المتساوي الأفراد أمر مرغوب فيه، ومعنى هذا أن جميع الخطط التي تسير عليها الدمقراطية، إنما هي وسائل لإيجاد مجتمع من الرجال والنساء والأطفال، لكل فرد من أفراده الحق في أن ينمي جميع مواهبه إلى أقصى حدٍّ باتصاله مع غيره من الأفراد، وليس فيه واحد يُسخَّر لمنفعة فرد آخَر أو لمنفعة أية «أمة» أو «دولة»، ولا يَخفَى أن نظام الحكم الذي يستعين بالمناقشة والنقد، والذي تصدر أحكامه على أساس الاتفاق الذي قد ينقض فيما بعدُ، لا يمكن أن يؤدي إلى الطاعة العمياء أو السلطة المعصومة من الأخطاء، وأنه نظام لا يصلح للحرب ولا يعين على الاسترقاق، أيًّا كان نوعه حتى الاسترقاق الصناعي، وهو يفترض وجود غرض يسعى إليه لما يحقق بعدُ في أي مكان، فليس هو إذن نظامًا يدعو إلى السكون والركود، بل يبعث على الحركة الدائمة، ولكنه قد يتخذ من الوجهة العملية ستارًا لكل أنواع المطامع الشخصية والمساوئ الشعبية، وقد يُغرِّر بالعقول فيَخلق فيها أوهامًا سياسية لا وجود لها في الحقيقة، غير أنه على الرغم من هذا كله قد أنشأ أداة فنية للإدارة المنظمة والتشريع المُتقَن، نَعَم، إن الحكم الدمقراطي ليس في حقيقته كما يَصِفه أنصاره، ولكن الخير الذي عاد على الناس بفضله إلى أيام الحرب العظمى، يفوق ما عاد عليهم من أي نظام غيره.
٢
وتفترض هذه النظرية أن الناس كلهم خُدَّام «للأمة» الممثَّلة في الدولة كما تَصوَّرها هيجل، وأن أشرف الأعمال وأنبلها هي الحرب، تُوقَد نارها من أجل السلم بطبيعة الحال، والناس بإزائها صنفان؛ فأما المؤمنون بها فلا يحتاجون إلا إلى القيادة والإرشاد، وأما المُعارِضون الخارجون بطبيعة الحال على الحق الموحَى إلى الزعيم، فيجب أن «يُرَبَّوْا» بالعنف أو بالسجن.
ويعرض أنصار الدكتاتورية بنوعَيْها الشيوعية والفاشية نظريتهم على الناس؛ ليستبدلوها بالدمقراطية العتيقة البالية، ويزعم هؤلاء أن الحرية والعدالة النزيهة مبادئ سخيفة، أو أعذار كاذبة، تتخذ ستارًا لاستغلال الناس وحجب ما تأصَّل فيهم من فروقٍ اجتماعية وجنسية، وتؤمِن الدكتاتورية بنوعَيْها «بحق» الدكتاتور في أنْ يَقتُل أو يجدع أو يسجن من غير محاكمة، كل مَن يحاول تغيير النظام القائم، وتفسِّر الحق تفسيرًا جديدًا عجيبًا لا نظنه يختلف عن «القوة» في شيء، وتفترض النظرية الدكتاتورية أن أغلبية الخاضعين للحكم الدكتاتوري بنوعَيْه يَقبَلونه ويَرضَوْن عنه؛ وذلك لأن الدكتاتورية تَستَخدِم الاستفتاء وغيره من طرق الاقتراع، كما كانت تستخدمها عهود الطغيان القديم؛ لإيهام الناس بصفةٍ عامة أن أغلبية الشعب الساحقة تؤيدها، وإنْ كانت لا تَسمَح بأن يَسبِق الاقتراع أقلُّ نقْد أو مناقشة، فكأن هذه النظرية تقول: إن في مقدور مَن لا يصح الاعتماد عليهم في بحث أية مسألة أو تفهُّم معناها أن يُجِيبوا عنها جوابًا صائبًا، ولم يتضح لأحدٍ بعدُ حتى في الوجهة النظرية، كيف اختبرت مقدرة الفئة القليلة المشرفة على مصائر الأمور بالفعل، وعرفت كفايتها الفائقة، والغيرة على المصلحة العامة التي تتملك نفوسها، ولكن النظام يفترض أن هذه الفئة قد اختُبرت، وإن لاح لغير المؤمنين بالنظرية الدكتاتورية أن هذا الاختبار، لم يكن إلا القوة التي استحوذت عليها في الحرب الداخلية، والتي لا تزال محتفظة بها إلى الآن.
٣
ومهما يكن منشأ الدكتاتورية في الوجهتين النظرية والعملية، فإن الخطط التي يسير عليها هذا النظام جديرة بالعناية والدرس، وقد يكون من أحسن الأشياء في الموازنة بينها وبين الدمقراطية، أن نسلِّم لأنصار الدكتاتورية بكل ما يعزونه إليها من الفضائل، لنفرض إذن أن الدكتاتورين لا يصدرون في أعمالهم عن شهوة السلطة، أو المطامع الشخصية المستترة وراء دعواهم بأنهم يقومون بالواجب العام، ولنفرض أن الفئة المصطفاة القابضة على زمام الأمور، هي أقدر أفراد المجتمع وأكثرهم رغبة في العمل للصالح العام، وأن الزعماء واللجان المُسيطِرة على الدولة لا تضعف إذا لم تَجِدْ أمامَها مَن يُعارِضها، نسلِّم بذلك كله ونفرض أننا لا نبحث في أعمال الدكتاتورية في بلدٍ من البلاد القائمة، بل نبحث فيما نستطيع أن تعمله إذا أفلح أنصارها في عمل كل ما يرجونه من الخير، ولسنا نشك في أن مقدور دعاة الدكتاتورية أن يصرفوا بعض الشئون كشئون الحرب مثلًا، أحسن مِن تصريف رجال الحكم الدمقراطي لها، ولكن علينا في هذه الحال أن نسأل أنفسنا هل ما تُحسِن الدكتاتورية عملَه جدير بالعمل؟ قد لا تكون الدمقراطية مثلًا نظامًا صالحًا للاستعداد للحرب، ولكنها مع ذلك قد تكون السبيل الوحيدة لمنع خطر الحرب، وقد يظن أن في مقدور الدكتاتورية والدمقراطية أن تضطلع كلتاهما ببعض واجبات الحكومة كما تضطلع به الأخرى، ومثال ذلك شئون الصحة والتعليم والكفاية الصناعية.
وكثيرًا ما يشير دُعاة الدكتاتورية إلى ما يُشاهَد مِن رقيٍّ في شئون الصحة والتربية والإنتاج الصناعي، ويتخذون ذلك دليلًا على نجاح طريقتهم في الحكم، ولسنا نُنكِر أن الروسيين والإيطاليين قد يكونون أقوى صحة وأحسن تربية وأقدر على الحصول على بعض المنتجات الصناعية، مما كانوا قبل دخول الحكم الدكتاتوري إلى بلادهم، لكننا لا نظن أن الدكتاتورية الألمانية قد استطاعت أن تَرقَى بشئون الصحة والتربية عما وصلت إليه أعمال البلديات القديمة، قبل أن يخوض هتلر وأتباعه غمار السياسة، ومع ذلك فإننا إذا سلَّمنا أن في مقدور أية دكتاتورية أن تُرقِّي شئون الصحة والتربية، فإن هذا لا يعني أن الدكتاتورية خير من الدمقراطية؛ ذلك بأن الوسائل التي تستخدمها الدكتاتورية للوصول إلى هذه الأغراض، لم تُكشف ولم تَصِل إلى درجة الكمال إلا في كَنَف الدمقراطية، فكل ما تستخدمه الدكتاتورية من قوانين الصحة ووسائل جرِّ المياه إلى الدُّور والطرق الحديثة في تنظيم المدارس، قد أخذتْه من النتائج التي وصل إليها ذلك النوع من الحكم الذي تتظاهر باحتقاره؛ أي إن الدكتاتورين يستخدمون ما وصلت إليه الطرائق التي يُشبِعونها ذمًّا وتقريعًا، وهي حرية المناقشة، والبحث في الآراء المتعارضة، وانتقاد ولاة الأمور، وإن استخدام الدكتاتورية للنتائج التي وصلت إليها الدمقراطية؛ لَيُعَدُّ في ذاته اعترافًا من الأولى بما هي مدينة به للثانية، وليس ثمة شك في أن مَن لم يتعودوا التفكير بأنفسهم، لا يستطيعون أن يفهموا أن نتائج التفكير ليست وحيًا يوحَى إلى الناس، وإنما هي أحكام يصلون إليها بعدَ تفكيرٍ عميق ومجهودٍ كبير، فالأغبياء يظنون أن النتائج «عقائد» مقرَّرة؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفهموا الأبحاث التي أدَّتْ إلى هذه «العقائد» الموهومة؛ ولهذا نرى كثيرين من الناس يتوهمون أن المجاري والمدارس منشآت طيبة؛ لأن طاغية مُلهَمًا من الطغاة قد أُوحِيَ إليه أنها كذلك، في حين أن الناس قد كشفوا فائدة المجاري والمدارس بإنكارهم تلك المبادئ التي تمثلها الدكتاتورية.
ولما كان من مستلزمات الدكتاتورية الحَجْر على المناقشة العلنية للآراء المختلفة في السياسة العامة، ومنع الناس من انتقاد السلطة القائمة، فإن الأحكام التي تصدر في ظل هذا النظام إنما يُتوصَّل إليها بوسيلةٍ غير الاستنتاج المنطقي، أو باستخدام الاستنتاج المنطقي استخدامًا قاصرًا محدودًا، وليست بنا حاجة في هذا البحث إلى تحليل الوسيلة الحقيقية التي تستخدمها الدكتاتورية للوصول إلى أحكامها، وحسبنا أن نقول إنها ليست هي الوسيلة الدمقراطية؛ لأنها لا تَقبَل المناقشة الحرة والانتقاد العلني، فليست هي إذن الوسيلة التي استعان بها العلم على تحسين وسائل العلاج وطرق التعليم، لكن أحدًا لا يجادل في أن طرق العلم خير من سائر الطرق، وأن الدكتاتوريات نفسها تستخدم ما وصل إليه العلم بهذه الطرق، وأن كشف حقيقة جديدة أفضل للإنسان من قبول هذه الحقيقة، من غير أن يعرف السبيل المؤدية إليها، على أننا نحب أن نقرر هنا أن المبدأ القائل بأن كشف الحقائق الجديدة أفضل من قبولها لا يكون صحيحًا، إلا إذا فرض أن ثمة حقائق جديدة لا بد في كشفها بالطريقة نفسها، أما إذا عُرفت الحقائق كلها فإن ذلك المبدأ لا يكون صحيحًا.
نسلِّم بأن الذين يتولَّوْن السلطة في الحكومات الدكتاتورية، قوم بلغوا حدَّ الكمال في النزاهة والمقدرة، فما هو أثر هذا النظام في أفراد الشعب الذين لا يشتركون في الحكم؟ أولئك يُرغَمون أو يُحمَلون على ترك شئون السياسة العامة كلها، يبحثها ويفصل فيها عددٌ قليل من الأفراد الممتازين، ففي شئون التربية يُلقَّن الأطفال والطلبة عقائد معينة، يقبلونها من غير أن يشكوا في صِدْقها، والغرض الذي ترمي إليه هذه النظم هو أن تصوغ عقول الأطفال والطلاب؛ لتجعلهم آلات مسخَّرة لإرادة «الزعيم» أو الفئة المُصطفاة، ومعنى هذا أن كل الحقائق الهامة قد عُرفت، وأن طريقة كشف الحقائق عديمة النفع، وأن «إرادة» الزعيم أو الحزب قد بلغت من الصلاح حدًّا لا يمكن معه تحسينها بالطريقة التي كوَّنتْها، فالزعيم في الفاشية يمثل «إرادة الأمة»، وهو اعتقاد سخيف لا معنى له، أما في الشيوعية فالمفروض أن «الحزب» يعبِّر عن أفكار الكتلة العاملة، التي لا تستطيع بغيره أن تعبِّر عن آرائها، وعلى هذا الأساس فإن جميع المخترعات الحديثة، التي يمكن الانتفاع بها في نشر الآراء وإيقاظ العواطف من داخل المدارس وخارجها، كالخيالة والمذياع والمطبوعات على اختلاف أنواعها، و«المظاهرات» العامة، كل هذه تستخدم لتصوغ أغلبية الشعب وتجعل منها آلات صالحة لتنفيذ إرادة «عليا»، ومن ذلك نرى أن نظام الدكتاتورية يُحرِّم على مَن ليس عضوًا في الفئة القليلة المسيطِرة، أن يستخدم ذكاءه أو ينتفع بعواطفه في كثيرٍ من تجارب البشر، كل أولئك قد حِيل بينهم وبين تجارب الاستكشافات الشخصية، وحُرِّم عليهم أن يبذلوا شيئًا من الجهد في سبيل هذا الاستكشاف، وأصبحت عقولهم وعواطفهم مقصورة على الأغراض التي توافق حكامهم، ولما كان كل نظام استبدادي ينقص من حيوية الخاضعين له وذكائهم، فإن الدكتاتورية ترفع من شأن الزعيم والفئة المُسيطِرة، بقدْر ما تحطُّ من القيمة الأدبية لكثرة الشعب؛ رجالها ونسائها وأطفالها.
لقد تبيَّن إذن أن المبادئ التي تقوم عليها الدكتاتوريات بنَوْعَيْها — دكتاتوريات اليمين ودكتاتوريات اليسار — مبادئ فاسِدة لا يصح أن يقوم عليها حكم، بصرف النظر عن أنها تلجأ إلى وسائل التعذيب والجدع، والقتل والسجن من غير محاكمة للتغلب على ناقديها، وقد يقول دُعاة الدكتاتورية إن معارضيهم جاهلون «جهالة» مستعصية على العلاج، لكننا نقول لهم إنه إذا لم يُثمِر النصح، فقد يكون ذلك ناشئًا عن عجز مَن يحاولونه أو ضعف حجتهم، وهل في مقدور إنسان أن يقول إنه إذا لم يَفهَم السامعون خطيبًا وقع الذنب كله على السامعين؟ الحق أنه ليس في وسع أي امرئ أن يدَّعي أن الحجج التي يُقِيمها أعداء الدكتاتورية عليها، قد أملاها عليهم جهلهم بحقيقتها، اللهم إلا إذا كان اعتقاده هذا قد رسخ في ذهنه قبل أن يستمع إلى هذه الحجج.
٤
على أننا نعترف مع ذلك أن حجج خصوم الدكتاتورية، ليس من شأنها أن تُقنِع الفاشيين أو الشيوعيين؛ وذلك لأن هذه الحجج قائمة على صفاتٍ مفترضة في طبائع الناس وصلاتهم بعضهم ببعض، وليست من صفات الفاشي أو الشيوعي المُقتنِع بصحة عقيدته، ومعظمها صفات قائمة على العاطفة لم تَرْقَ إلى مستوى العقل الواعي، وإذا اعتقد امرؤ حقًّا أنه قد عَرَف كل الحقائق المُهِمَّة عن العالم أو عن الشئون العامة، فإنه لا يُرجَى منه أن يُدرِك قيمة الطريقة التي نسمِّيها بالطريقة العلمية، فإذا حاججْتَه بالمنطق زاغَ من منطقك، ولجأ إلى العاطفة الصاخبة أو إلى الألفاظ المزخرفة عن «اللقانة» أو الإلهام، وكذلك إذا اعتقد إنسان بحق أن من الرجال والنساء مَن هم عاجزون بطبيعتهم عن معرفة ما هو خير لهم، استحال عليه أن يفهم معنى «الدمقراطية»، ولا يخلو عصر من العصور من وجود كثيرين من «المُتعالِين» «المزهوِّين» المُعجَبين بآرائهم، الذين لا يتأثرون بحكم العقل والمنطق، ولا يستنكفون عادة أن يشهدوا بذلك على أنفسهم في صلفٍ وتِيهٍ، حينما يقولون: إن التفكير عمل «تحليلي» سطحي أو مادي.
إن القول بأن شخصًا من الأشخاص يَعرِف الحقيقة كلها، ويُلهَم الخيرَ إلهامًا اختُصَّ به هو دُونَ غيرِه من الناس، هو الذي يؤدِّي إلى الاعتقاد بوجود «الوحدات العليا»، مثل: «الأمة» أو «الكتلة العاملة»، التي يُمكِن أن يُضحَّى من أجلها بالأفراد رجالهم ونسائهم، وبذلك تتحول «الوطنية» الساذجة لدى الفاشيين و«الثورة» لدى الشيوعيين إلى كائناتٍ خرافية، يستتر وراءها حب السلطة الكامِن في نفوس مَن ينادون بالتفاني في حب الأولى أو الثانية، فكما أن المدرِّسين يذكِّرون التلاميذ أحيانًا «بمدرستهم القديمة»؛ ليستعينوا بذكراها على الدعوة لطاعتهم والإخلاص لهم، كذلك يخلط الناس بسهولة بين «الأمة» والفئة الحاكمة بالفعل في مجتمعٍ من المجتمعات، وينادي «بالثورة» مَن ليس في مقدورهم أن يحصلوا على السلطة بغير هذه الطريقة، لكن ذلك لا يُفهَم منه أن الفاشيين والشيوعيين قوم منافقون، بل إن الفئة الصالحة منهم لا تشعر بالبواعث النفسانية العميقة التي تحركها، كما لا يشعر بذلك الساسة أو «رجال الحكم» العاديون في الحكومات الدمقراطية، ذلك بأن المؤثرات السياسية المسيطرة على نفوس دُعاة أي حكم مهما كان نوعه تكاد تكون واحدة، وكل ما تمتاز به التقاليد الدمقراطية من هذه الناحية، أن هذه المؤثرات يمكن أن يُعرف عنها ويُقال فيها في ظل الدمقراطية أكثر مما يُعرف عنها، ويُقال فيها في ظل الدكتاتورية.
على أنه يجب ألَّا يُفهَم من هذا البحث في الدكتاتورية من الوجهتين النظرية والعملية، أن جميع دُعاة الشيوعية والفاشية خَوَنة أو حمقى، فقد يكون أحد أنظمة الحكم شرًّا في ذاته، ولكن منشأه قد يكون ضرورة دَعَتْ إليها حال اجتماعية خاصة، وقد تكون الظروف هي التي أوجدت «شخصية» من نوعٍ خاص، سنحت لها الفرصة فاستولت على زمام السلطة، لكن هذا النظام قد يكون في كثيرٍ من الأحيان نتيجة سعي لإشباع بعض حاجات الشباب أو حاجات أصحاب العزيمة والشهامة والحماس، كما ينشأ الشر في بعض الأحيان من الخير، ألستَ ترى الرجل المستمسك بعقيدةٍ من العقائد يَضطَهِد مَن يَسعَى لإنقاذهم؟ والرجل «الفاضل» تصدر منه في بعض الأحيان أعمال ذميمة، إذا كانت نيته في المقياس الذي يحكم به على فضائله؟ ومِن هذا يتضح أن من أسباب قيام الدكتاتورية بعد الحرب الكبرى وجود رغبات لم تشبع ويجب أن تشبع، فإذا لم تشبع الدمقراطية هذه الرغبات نبذها البعض على الرغم مما أفاده الحكم الدمقراطي في الماضي، ولما كانت هذه الرغبات هي رغبات جماعات ليست لها تجارب في الدمقراطية، أو يعوزها الزعماء الدمقراطيون، كانت النتيجة هي دكتاتورية ما بعد الحرب.
وهاك أمثلةً من الرغبات التي يجب عدلًا أن تَشِيع؛ أول هذه الرغبات هي الرغبة في أن يشعر الإنسان بأن له «مكانًا» في المجتمع، لكن البطالة والغموض الذي يُحِيط بالمرء، وشعوره الغامض بأنه مهمل، وهو شعور تملَّك كثيرين من الناس بعد الحرب الكبرى، كل ذلك قد جعل الناس يُسارِعون إلى تلبية نداء كل مَن يدعوهم إلى العمل بأنفسهم، ذلك بأن الفكرة القديمة التي تقول بأن كل ما يُطلَب إلى المرأة العادية والرجل العادي أن يُعطِيَ صوتَه من حينٍ إلى حين، وأن ذلك كفيل بإصلاح كل المفاسد وإزالة كل الشرور، إن هذه الفكرة لا تبعث في النفوس أملًا كبيرًا، وفضلًا عن ذلك فإن كثيرين من الشبان وبعض النساء قد اشتركوا في الحرب العظمى، وقاموا فيها بواجباتٍ يومية سعيًا وراء مصلحةٍ عامة، ونشأت بينهم وبين زملائهم روابط أوثقت عُرَاها الملابس العسكرية والبنود والطبول، وإن من أسباب قيام الفِرَق «السياسية» ذات القمصان الملونة في دول القارة الأوروبية؛ رغبة الشبان الذين كانوا أطفالًا في أيام الحرب في الاندماج في سلك الجندية، على أن من الطبيعي أيضًا أن يرغب الرجال والنساء في أن يظهروا زمالتهم في السعي لبلوغ غرضٍ من الأغراض العامة.
أما صاحب العقيدة الشيوعية فقد ثار وحُقَّ له أن يثور من جَرَّاء المظالم القديمة التي كان يُعانِيها العمال في الصنائع اليدوية، وكثيرًا ما كانوا يدعون إلى الصبر وانتظار صلاح حالهم، ولكن هذه الدعوة كثيرًا ما تكون حجة يتذرَّع بها مَن لا يُعانون الظلم؛ ليبرروا بها توانِيَهم عن العمل، وليس ثمة شك في أن مصالح أرباب الأعمال الصناعية، ومصالح العمال الذين يكسبون قُوتَهم باستخدام الآلات أو الأرض أو القُوَى الصناعية، مُتضارِبة مَهْمَا وضع من النظريات لتعليل هذا التضارب، وإن ذكريات الحرب الكبرى لتجعل عبارة: «حرب الطبقات»، التي يوصف بها النزاع القائم بين الطوائف المختلفة، تشبيهًا يصف حالة حقيقية واقعية، فلا بد إذن من إيجاد وسيلة لتحقيق رغبة الذين يَسعَوْن لإصلاح عيوب المِلْكية، واستغلال الطبقات العاملة، هذا فيما يختص بالشيوعية، وأما صاحب العقيدة الفاشية فهو في الغالب شخص يعجب بالثقافة القديمة إعجابًا موروثًا أو مكتسبًا، وقد قامت هذه الثقافة على إخضاع الطبقات الاجتماعية بوسيلةٍ من الوسائل.
على أن الرغبة في الاحتفاظ بالثقافة لا تتنافى مع الحق، كما يبعد أن يستطيع ضحايا أي نظام أن يستبدلوا به نظامًا أحسن منه، ولو كان ذلك في مقدورهم لما ضحوا بأهم مظهرٍ من مظاهر شخصيتهم؛ ولهذين السببين يلجأ الفاشيون إلى حماسة الشباب، ويهيبون بها أن تقوم في وجه كل دعوة لتبديل أحسن التقاليد وأفضلها في نظرهم.
غير أن قدرة الشيوعية والفاشية على إشباع الحاجات العاطفية لبعض الناس، لا يمكن أن تنهض حجة على صلاح أحد النظامين أو كليهما؛ وذلك لأن هذه الحاجات يمكن تحقيقها بوسائل أخرى، لكننا لا نحب أن يُفهَم من مقابلة الدكتاتورية بالدمقراطية، أن الدكتاتوريات القائمة بالفعل شرٌّ محْض.
٥
ويسهل علينا أن ندرك العلاقة بين المَثَل الدمقراطي الأعلى والنُّظُم التي أُنشئت لتحقيق هذا المَثَل، إذا وازنَّا بين الدمقراطية والدكتاتورية. إن أقل ما تفترضه الدمقراطية، هو أنها تحاول استخدام جميع مواهب أفراد الشعب العاديين لتقرير السياسة العامة، ولا يخفى أن معنى هذا العمل وجود عقيدة من نوع ما في نفوس الدمقراطيين، معناه أن عامة الناس ذوو كفايات لم تُستَخدَم بعدُ، ولكنها يمكن إبرازها والانتفاع بها إذا أُقيم للحكم نظام يمكن من هذا الانتفاع، فليس الغرض من قيام الحكومة إذن هو الفوائد التي يجنيها منها المحكومون فحسب، بل هو أيضًا تكوين صنف خاص من الرجال والنساء، إن الصحة والعلم والشجاعة والوفاء من الصفات الطيبة التي توجد في طبائع جميع الرجال والنساء، ولكن أرقى أنواع هذه الصفات تَنتج من دوافع اختيارية في بعض الأفراد، ومن أجل هؤلاء تقوم نظم الحكم، كما تقوم من أجلهم أيضًا نُظُم الدِّين، ولما كان الناس لم يُخلَقوا لِيَنتَفِعَ بهم حُكَّامهم؛ ولا لِيُهيِّئوا سبيل المجد لأية هيئة من الهيئات دولة كانت أو أمة، فإن قيمة أي نظام من نظم الحكم تُقاس بالمستوى العقلي والخلقي الذي يبلغه مَن يقوم بينهم، وليس في الناس، رجالهم ونسائهم، مَن لا يستطيع أن يبلغ أرقى درجات الكفاية الخُلُقية والعقلية.
وخير وسيلة لاستخدام جميع مواهب الناس أن يُفسَح المجال لكل موهبة، تَظهَر في أي فردٍ من الأفراد في كل وقتٍ من الأوقات، ولا يُفهَم من هذا بطبيعة الحال أن الناس كلهم متساوون في مواهبهم، أو أنهم يجب أن يكونوا متساوين فيها، بل إن من الأسس التي يقوم عليها التعاون الدمقراطي وجود مواهب من أنواعٍ مختلفة؛ ولذلك فإن النظم التي تفترض أن كل إنسان يستطيع أن يقوم بكل عملٍ من الأعمال، ليست من الدمقراطية في شيءٍ وإن جَرَتِ العادة أن تعد كذلك، كما أن الفروق الموجودة في الكفايات في أي مجتمعٍ من المجتمعات، وإن كان صغيرًا كالأسرة مثلًا، ليست فروقًا في النوع فحسب، بل هي فروق في الدرجة أيضًا، فقد يفوق أحد الناس غيرَه في موهبةٍ بعينها، وقد يمتاز شخص عن غيره؛ لأنه يتصف بأنفع المواهب اللازمة للسياسة العامة؛ ولذلك كان من واجب النظم الدمقراطية أن تسمح للشخص ذي الكفاية بأن يقود غيرَه من الأشخاص مثلًا، ولكنها يجب ألَّا تسمح له بالتسلُّط عليهم، وثمة أشخاص يستطيعون أن يدركوا الصالح العام إدراكًا يفوق إدراك غيرهم، وأن يفهموا المشاكل الاجتماعية وطرق علاجها أسهل مما يفهمها سواهم؛ إذ ليس من المفروض في التقاليد الدمقراطية أن يتساوى الناس كلهم في كفايتهم للحكم على الشئون العامة أو السياسة العامة، أو أن مِن الواجب عليهم أن يَتَساوَوْا في تلك الكفاية، ولكنه يفترض مع ذلك أن على كل فرد أن يُصدِرَ حكمًا مستقلًّا من نوعٍ ما في هذه الشئون، والمفروض أيضًا أن عامة الناس يصدرون مثل هذه الأحكام، وأن مِن مصلحة الناس جميعًا أن يَكثُر عدد ما يصدرونه منها، ففي وسع كافة الناس مثلًا أن يعرفوا على الأقل هل تنفعهم حكومتهم أو تضرهم.
نعم، إنهم قد يخطئون في أحكامهم أحيانًا، ولكن قد ثبت بالبرهان القاطع أنه ما من أحدٍ إلا وهو معرَّض للخطأ، حتى الطغاة الذين لا ينتقدهم إنسان، بدليل أنهم يبدِّلون في خططهم السياسية، وترى التقاليد الدمقراطية أن احتمال الخطأ هو إحدى الوسائل المؤدية إلى معرفة الحقائق الجديدة؛ ولهذا كانت الخطة التي تسير عليها الدمقراطية، خطة المناقشة وانتقاد ولاة الأمور، جزءًا من النظام «العلمي» الذي يسير عليه الناس في أوروبا منذ القرن السادس عشر، ولا يمكن معارضة هذه الخطة إلا إذا سلَّمنا بالفكرة البالية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، وهي أن الحقيقة ثابتة ونهائية، قد يخفق الناس في الجهود التي يبذلونها من تلقاء أنفسهم للوصول إلى الحقيقة ولعمل الخير، ولكن هذه الجهود نفسها لها قيمة في ذاتها؛ لأنها جهود اختيارية ترفع «مستوى» السلوك والخُلُق الفردي؛ ولذلك كان الواجب المفروض على كل نوعٍ من أنواع الحكم، أن يشجِّع المحكومين على بذل هذه الجهود الاختيارية.
يضاف إلى هذا أن الخير أو الحقيقة التي تكشف بطريق المناقشة والتجربة، هي الأساس الوحيد لسلطة الحكام الأدبية، وهذا المبدأ لا يتفق مطلقًا مع قولهم إن «الحق» لا يعدو أن يكون مظهرًا من مظاهر القوة المتفوقة، كما أن هذا المبدأ — مبدأ الحق أو الخير المستقل عن «إرادة» أي شخص من الأشخاص أو رغبته — هو أساس الدمقراطية؛ وذلك لأنه إذا كان في استطاعة أي فردٍ من الأفراد أن يتعرَّف الخير باستخدام مواهبه الخاصة، فإن «سلطة» الحكومة يمكن أن تعتمد على هذا الخير الذي يكشفه كل فرد من الأفراد، ومعنى هذا أن النفوذ الأدبي الكامن في أمر الحكومة الدمقراطية، هو مَيْل كل شخص أو الباعث الذي يدفعه لأن يتحرك باختياره في الاتجاه الذي يدلُّه عليه هذا الأمر؛ ولهذا فإنك لا تجد في الوسط الدمقراطي الصحيح شخصًا يُسخَّر لتنفيذ إرادة غيره، فليس إذن أساس السلطة الأدبية لحكومةٍ ما هو قوتها أو سلطانها الخارجي الذي تستطيع أن تَفرِضه على شخصٍ من الأشخاص، وليس أساس السلطة الأدبية للحكومة الدمقراطية هو إرادة الشعب فحسب، بل أساسها الصحيح أن هذه الإرادة حقَّة أو أنها في ذاتها مرتبطة بالخير العام، فالقوة الدافعة في الإنسان؛ أي «إرادته»، هي التي يُقال عنها إنها تَرضَى بالحكومة أو تُعاوِنها، وأما الشخص ذاته فإنه يتحرَّك من تلقاء نفسه مدفوعًا بالخير المستقل عن أهوائه وحالاته النفسية المتقلِّبة.
على أننا لا ننكر أن أخطاء قد ارتُكِبت ويمكن أن تُرتكب في المستقبل، عندما يُراد معرفة أي الناس هو المعتوه أو المجرم، ذلك بأن المقياس الذي تُقاس به قوة الإنسان العقلية قد يكون مقياسًا ساذجًا غير دقيق، وقد لا تكون «الجريمة»؛ أي الخروج على القانون خطأ من الناحية الأخلاقية إذا كان القانون فاسدًا، وقد يكون الذين يُعامَلون معاملة المجرمين ضحايا ظلم اجتماعي تَقَع تَبِعتُه على المجتمع كله، ولكننا نكرِّر هنا أن احتمال الخطأ في تطبيق مبدأ من المبادئ لا يُعَدُّ دليلًا على أن هذا المبدأ خاطئ، فإذا كانت الحكومات التي تدَّعي أنها حكومات «دمقراطية» قد استبدَّت وظلَمَتْ، وظهر هذا الظلم بنوعٍ خاص في معاملة الجنسيات الأجنبية عنها، فإنها عندما كانت تلجأ إلى هذا الاستبداد وذاك الظلم، لم تكن تسير على المبادئ التي تقوم عليها سلطتها الأدبية، بل كانت تنتهك حرمتها انتهاكًا، ذلك بأن هذه المبادئ تُمكِّن الناس على الدوام مِن أن يُجادِلوا أو يعارضوا الحكومة القائمة بالأمر فيهم، إذا رأَوْا أنها أخطأتْ فيما تدَّعيه من أنها تطبق هذه المبادئ في حالاتٍ معينة.
وقد يُقال أحيانًا إنه لا فرق بين الدمقراطية والدكتاتورية من الوجهة العملية؛ لأن الدمقراطية تُعامِل مُجرِميها كما تعامل الدكتاتورية معارِضيها، لكن هذا القول يغفل النقطة التي شرحناها من قبل نقطة اختلاف مبادئ الحكمين، إن الفارق الأساسي بين النظامين هو أن في وسع كل إنسان أن ينتقد أي قرار يصدر في ظل الدمقراطية ويتصل بالسياسة العامة، ويتفرع من هذا مبدأ أساسي آخَر أهم من المبدأ السابق، وهو أن الحقيقة بنتُ البحث، لا تكشفها إلا مناقشة الأفكار المتعارِضة، وأن الحقيقة الكاملة لم تُعرف كلها بعدُ.
ومجمل القول إذن أن ليست الدكتاتورية والدمقراطية متفقتين في الجوهر ومختلفتين في العَرَض؛ أي في مدى السلطة التي تُعطَى لمَن يقبضون على أزِمَّة الحكم، ولكنهما تختلفان في الأساس المعنوي الذي تقومان عليه، فليس الاختلاف بينهما كالاختلاف بين القوى «الطبيعية»؛ كالمَدِّ والجزْر أو التيارات البحرية أو الدوافع الغريزية في الإنسان، بل تختلفان كما تختلف الهمجية عن الحضارة أو العقائد التحكمية عن العلم الصحيح، وليست مبادئ الدمقراطية في الحقيقة إلا المبادئ العلمية استُخدمت لإصلاح شأن السياسة العامة؛ أي المبادئ التي رَفَعَتِ الإنسان عن مستوى القِرَدة الراقية، والتي قد ترفعه فيما بعدُ إلى درجاتٍ أسمى مما يتصوَّره العقل، لكن المبادئ التي تتكون منها عقيدة من العقائد لا تَظهَر قيمتها إلا بالتجربة والعمل، فقد يكون المَثَل الأعلى غايةً في الكمال، ولكنَّه لا يمكن العمل به، وقد يكون غامضًا مبهمًا لا يمكن أن يسترشد به في فن الحكم؛ لذلك يجب علينا أن ننتقل بالقارئ من العقائد المجردة إلى الحقائق الواقعية؛ أي من الصور العقلية التي نرغب في تحقيقها إلى النتائج الفعلية، التي يؤدي إليها العمل على تحقيق هذه الصور.