عيوب الدمقراطية وفوائدها
١
٢
والمطعن الثاني الذي يُوجَّه إلى الدمقراطية، وهو أحدث عهدًا من المطعن الأول، أنها تقوم على أساسٍ من التمويه إنْ لم نَقُلْ من الغش والخداع، فالمفروض في الأحزاب السياسية مثلًا أنها جماعات حرة، تتألَّف من أشخاص قد اختاروا لأنفسهم خطة من الخطط السياسية، ولكن الحقيقة أن معظم أعضاء أي حزب سياسي قد انضموا إليه اتباعًا لسياسة آبائهم؛ أو لوجود صلة واهية بين هذا الحزب وبين إحدى البيئات أو الديانات أو المصالح الاقتصادية، والحق أنه يستحيل على الإنسان أن يعتقد أن أغلبية الناخبين، يعنون ببحث ما يُلقَى على مسامعهم من الحجج المؤيدة لمقترحات الحزب الذي يُعطونه أصواتهم في النهاية أو الداحضة لها، وأقل من هذا احتمالًا أن يفكر الناخبون تفكيرًا جديًّا في صالح المجتمع بوجهٍ عام، حينما يختارون نائبًا يمثلهم في أحد المجالس النيابية، بل الذي يحدث بالفعل أن معظم الناخبين يصدرون أحكامًا سطحية تقوم على أسسٍ واهنة.
على أنه إذا سُلِّم بأن في استثارة بعض العواطف خيرًا ونفعًا، فقد يلوح أن الدمقراطية تظل من الوجهة العملية محتالة مخادِعة؛ لأنها تُتِيح الفرصة لمَن لا يتأثَّرون بالحجج لأن يُحاجوا ويُجادِلوا، وذلك اعتراض لا يُوجَّه في الحقيقة إلى الدمقراطية نفسها، بل يوجه إلى الخطط التي يَسِير عليها السياسيون، ولكن الناقدين في هذا أيضًا يفترضون في الدمقراطية أكثر من حقيقتها، إن الدمقراطية تكون مخادِعة حقًّا إذا كان من مستلزماتها التظاهر بالأدلة والحجج، ولكن نُقَّاد الدمقراطية كثيرًا ما يخلطون بين النظريات والأعمال، ويحكمون على العمل بالفساد إذا لم يتفق مع نظريةٍ بالية عتيقة، قد يكون صحيحًا أن قليلًا من الناخبين يحكِّمون العقل والمنطق قبل أن يُعطوا أصواتَهم، ولكن الدمقراطية لا تتطلب ذلك من جميع الناخبين، بل الذي تتطلَّبه أن تُتاح لكل إنسان الفرصة التي تمكِّنه من أن يستخدم من العقل ما يَرَى استخدامَه، وبذلك ينمِّي القليل الذي لدَيْه منه، والدمقراطية العملية لا تفترض أن يكون كل إنسان منطقيًّا يحكِّم عقله في كل مسألة، بل كل ما تفترضه أن يستطيع كل إنسان أن يكون كذلك في أية مسألة، وليس في ذلك الافتراض شيء من الغش والخداع.
وثمة اعتراض من نوعٍ آخر لا يقوم على طريقة الدعوة إلى سياسة ما، بل على طريقة ابتكارها الأول أو كشفها، ومجمل هذا الاعتراض أن الخطة التي يسير عليها حزب من الأحزاب لم تشترك في وضعها عقول معظم أعضاء الحزب، بل هي نتيجة تفكير عضو واحد أو طائفة قليلة من الأعضاء، فإذا قام «الرأي العام» يطالب بهذا الشيء أو ذاك، فإن الذي يحدث عادة أن يتولَّى عددٌ قليل من الأعضاء استمالة كثيرين منهم إلى إصدار قرارات أو تأييدها، في حين أن كثيرين من هؤلاء المؤيِّدين لا يفهمون منها إلا النَّزْر اليسير؛ ولهذا يَعُدُّ نقاد الدمقراطية الرأي العام وهمًا وخرافة؛ لأن كثرة الناس لا رأي لهم مطلقًا في كثيرٍ من الموضوعات التي تهتم بها السياسة العامة، وقد تسمع بعض الناس يقولون إن حكم «الشعب» ليس في حقيقته إلَّا دعوى باطلة، تستتر وراءها السلطة الحقيقية، سلطة الفئة القليلة المحرِّكة للإرادة التي تكوِّن الرأي العام، وإنك إذا تحرَّيْتَ الحقيقة وجدتَ الأغلبية العظمى للناخبين في حزبٍ من الأحزاب، أو في جهةٍ من الجهات تخضع لنفوذ عدد قليل من الأفراد، وهؤلاء الأفراد القلائل الذين يسيطرون بالفعل على الرأي العام عن طريق الصحافة بنوعٍ خاص، هم فئة الأغنياء ووكلاء الأغنياء؛ ولهذا يقولون إن الرأي العام إنما يتكوَّن من المعلومات التي يختارها أصحاب الصحف لبعض مآربهم، ومن شهوة السلطة والنفوذ المتمكنة من نفوس هؤلاء الكبراء، فهو في رأيهم لا يعدو أن يكون مظهرًا من غرارة الأغلبية، وليست الخطة التي يظن أن الرأي العام يؤيدها أو يوجدها، إلا سلطة «اليد الخفية» للفئة أو الطبقة الحاكمة، وهي «حلقة» أو زمرة من الرجال في مركز السلطة لا يعرف أعضاؤها إلا مصلحتهم الخاصة.
هذا هو الاعتراض الثاني، وقبل أن نردَّ عليه نقول إننا لا يَسَعنا إلَّا أن نسلِّم بأن «السياسة العامة»، في جوهرها من وضع عدد قليل من أصحاب النفوذ، وهذا أمر لا مفر منه في كل مجتمعٍ مهما كانت صفته، وإذا كان للأغنياء في مجتمعنا الحاضر معظم النفوذ، فليس الذنب ذنب الدمقراطية مطلقًا؛ لأن هذه الحال قد نشأت من روابطٍ سابقة لعصر الدمقراطية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، قائمة على أساس الثروة، ولا تزال باقية إلى الآن حتى في المجتمعات التي يتساوى أفرادها في حقوقهم القانونية والسياسية، على أننا إذا صرفنا النظر عن الفروق الاقتصادية بين الناس وحصرنا بحثنا في نقطة الخلاف الكبرى، لا بد أن نسلِّم كذلك بأن اختلاف الناس في شخصياتهم وذكائهم، من شأنه أن يجعل لبعض الناس سلطة على غيرهم عند وضع الخطط السياسية، فإذا كانت الدمقراطية تجيز هذا النوع من السلطة أو تساعد عليه، فلا يصح أن يكون ذلك موضعًا للاعتراض؛ لأنها لا تفترض مطلقًا أن الناس متساوون في عقولهم أو أنهم يجب أن يكونوا متساوين، ولقد قيل بحق إن تساوي الناس كلهم، ليس إلا افتراضًا تبدأ به الدمقراطية «لكي تتبيَّن به أصلحهم.»
وخير ما يجب أن يُفهَم من عبارة: «المستقبل المهيَّأ لذوي المواهب»، هو المبدأ الدمقراطي الذي يوجِب إتاحة الفُرَص المتساوية للوصول إلى السلطة والنفوذ، وهذه الفرص تمكن أكثر الناس كفاية ونزاهة وغيرة على المصلحة العامة من الوصول إلى السلطة، ولا يوجد مذهب من المذاهب الفكرية يُنكِر على أمثال هؤلاء حقَّهم في الاستحواذ على السلطة، بل إن مما يؤخذ على الخطط الدمقراطية في هذه الأيام، أن الفُرَص التي تُتاح للناس ليست متساوية؛ لأن أبناء الأغنياء يمتازون عن غيرهم في سعيهم لنيل النفوذ السياسي؛ ولأن مقايس الكفاية والنزاهة والغيرة على المصلحة العامة مقاييس ساذجة غير دقيقة، على أن هذا العيب نفسه لا ينهض حجة على الغرض الذي ترمي إليه الدمقراطية؛ لأن المقاييس يمكن دائمًا إصلاحها كلما انتشر التعليم، وقوي في الناس شعور الجماعة، وقلَّلت الوسائل الدمقراطية من الفوارق بين الثروات، أما محو الكفايات البارزة الممتازة فليس من أغراض الدمقراطية، ولا يفترض ذلك فيها إلا مَن يشوِّهون مبدأ المساواة أو يسيئون فهم معناه، ولا يوجد رجل واحد يعتقد أن أثر الرجل البطيء الفهم في تكوين الرأي العام، يعادل أثر العبقري الفذِّ، وليس ينقص من قيمة الرأي «العام» أنه تكوَّن بتأثير طائفة قليلة من الناس، إذا كان ما أُتيح لكل فرد من الفرص للاشتراك في تكوين هذا الرأي يُعادِل ما أُتِيح لغيره.
وقد يُقال أحيانًا إنه إذا وُزِّعت الثروة توزيعًا أكثر انطباقًا على العدل والمساواة، فقلَّت بذلك سيطرة أصحاب رءوس الأموال على تكوين الرأي العام، أصبحت الدمقراطية أنقى عنصرًا وأقوى أثرًا، وعندئذٍ تَحول التطورات الاقتصادية بين الفئة الغنية القليلة وبين استئثارها بالسلطة السياسية، وتمهِّد الدمقراطيةُ الصناعية السبيلَ لقيام الدمقراطية السياسية، ذلك قول سنبحثه فيما بعدُ، على أن ثمة اعتراضًا آخَر على الدمقراطية يبقى قائمًا حتى إذا مُحي سلطان الثروة من الوجود، ويقوم هذا الاعتراض على ما يفترضونه من عجز الرجل العادي أو المرأة العادية عن الحكم في مسائل الشئون العامة، أو اختيار أليق الناس لتولِّي المناصب العامة.
ليس من السهل أن نردَّ تهمة العجز التي توجَّه للنواب المنتخبين؛ لأن الناس يختلفون في معنى لفظ «العجز»، كما أن علماء النظريات السياسية يخطئون كل الخطأ في حكمهم على السياسيين العمليين، ذلك بأن المقياس الذي تُقاس به كفاية الحكام الإدارية أو مقدرتهم على إدارة دفة السياسة العامة، يجب أن يختلف عن المقياس الذي يقاس به علمهم، فالخطيب الذي يستطيع أن يؤثِّر في طبقة العامة، ليس لهذا السبب أقل كفاية من زميله الذي لا يستطيع أن يؤثر إلا في الفلاسفة، وإذا فضَّل العامة من الشعب رجلًا يبغضه المتعلِّمون أو المثقفون، فإن هذا التفضيل لا ينهض دليلًا على عجزهم عن اختيار زعيم لهم، والحق أن من الصعاب التي تواجهها الدمقراطية أن المقاييس القديمة التي تقاس بها الثقافة، والتي يؤمن بها عادة أعداء الدمقراطية، تفترض وجود مجتمع من طبقاتٍ منفصلة، إن لم نقل إنها تفترض وجود مدنية قائمة على الاسترقاق، وإن ما يسميه البعض سوء أدب قد يكون في حقيقته أدبًا لا يناسب نظامًا اجتماعيًّا باليًا عتيقًا، وقد لا يكون ما يسمونه عجزًا إلا عدم القدرة على فعل ما لم تبقَ حاجة إلى فعله، كإصدار الأوامر إلى المرءوسين، وفي الحق إننا نشك كثيرًا في مقدرة نَقَدة الدمقراطية أنفسهم على النقد؛ لأن المقاييس التي يقدِّرون بها الكفاية تقوم على فروضٍ غير صحيحة، وأهم هذه الفروض الخاطئة هو إعجابهم اللاشعوري بالأشخاص «المتفوِّقين»، الذين يحبون بطبيعة الحال أن يُعَدُّوا منهم، لقد لجأت الدمقراطية حتى الآن إلى استخدام الخبراء، واصطَفَتِ الأخصائيين لتحسين الأحوال الصحية، وإصلاح طرق التربية والنقل ونُظُم الضرائب والوظائف العامة، وفي عملها هذا أكبر حجة تُفحِم نَقَدة الوسائل الدمقراطية، كما سنبيِّن ذلك فيما بعدُ، وحسبنا هنا أن نقول إن حسن قيام الحكومات بهذه الأعمال، هو المقياس الصحيح الذي تُقاس به كفايتها، وليس ذلك القياس هو احتفاظها بثقافة تقليدية قديمة.
لقد كانت معظم الانتقادات التي بحثناها هنا خاصة بتطبيق بعض المبادئ على الخطط التي تسير عليها الحكومات، ولقد قَصَرْنا همَّنا على الانتقادات الأساسية التي يلوح أنها تُلقِي ظلًّا من الشك على الغرض، الذي قامت من أجله النظم الدمقراطية، لكن خير ما يُرَد به على مثل هذه الانتقادات بوجهٍ عام، هو وصف النتائج الواقعية التي أدَّى إليها قيام الدمقراطية في القرن الماضي.
٣
إذا كان صحيحًا أن قيمة الشيء لا تُعرَف إلا بعد تجربته، فإن قيمة نظام الحكم الدمقراطي لا تُقاس بسهولة تنفيذه، بل بالأثر الذي يُحدِثه في الحياة العادية لعامة الناس، ولا شك في أن ما تم على يديه حتى الآن لا يدعو إلى الاغتباط، وحتى إذا كانت النظم الدمقراطية قد أفادت العالم في خلال القرن الماضي، فقد تكون عديمة النفع في وقتنا الحاضر، لكننا يحسن بنا قبل أن ندرس مشاكلنا الحاضرة أن نتعرف كيف حلَّت مشاكل أخرى كانت قائمة من قبل، نَعَم، إن في العالم كثيرًا من المساوئ تنتظر العلاج، ولكن وجودها يجب ألَّا يحجب عن بصائرنا قيمة الوسائل، التي تخلَّص بها العالم من الشرور والمساوئ السابقة، وما أكثر الرجال والنساء والأطفال الذين يعانون في أيامنا الحاضرة آلام الفاقة والضعف، وكلنا ينوء بالعبء الباهظ الذي ألقاه على كواهلنا استعدادنا لاتقاء خطر الحرب المقبلة، لكننا لا نقاسي الآن ما كان يقاسيه أسلافنا من عجز المحصولات الزراعية في بقعةٍ من بقاع الأرض، أو من انتشار الطاعون والهيضة والتيفوس في المدن، أو من الجهل الفاضح والإدمان الوحشي للمُسكِرات، اللذَيْن كانا يسودان البيئات الصناعية في الأزمنة الماضية، لقد نجا العالم الآن من هذه الشرور، ويرجع معظم الفضل في نجاته منها إلى نظام الحكم الدمقراطي، الذي تقدَّم في ظلاله العلم، وانتشرت المعارف بين عامة الناس رجالهم ونسائهم، فكانت لهم من ذلك القوة التي تغلبوا بها على هذه الشرور والآثام.
لا ننكر أن تنظيم الحكم على المبادئ الدمقراطية لم يكن وحدَه سبب هذا التقدم، لكن لولا هذا التنظيم لما استطاع الناس أن ينتفعوا بالعلم، وأن تنتشر بينهم المعارف إلى الحد الذي نراه الآن، وليس أدل على ذلك من أنه حتى بعد استخدام العلم في حاجات الجمهور وانتشار التعليم الشعبي في بعض الأقطار، ظلت بلاد أخرى ترزح تحت مصائب المرض والقحط كما كانت ترزح تحتها في العصور الوسطى، أما الأقطار التي استطاع الشعب فيها أن يُشعِر أولي الأمر بسلطانه، ويؤثر في أعمالهم بنفوذه، فهي البلاد التي نَجَتْ كثرة الناس فيها مما كانت تُعانيه في العصور الوسطى، فبريطانيا العظمى وفرنسا والدول الصغرى في غرب أوروبا، وبعض البلديات الألمانية والولايات المتحدة الأمريكية والأملاك البريطانية المستقلة، هي البلاد التي نجحت في القضاء على الأوبئة والمجاعات أكثر من غيرها، أي إن النجاح كان حليف الحكم الدمقراطي.
على أن نجاح الحكومات الدمقراطية في القضاء على الأوبئة في القرن التاسع عشر حديث قديم قد بليت جِدَّته، وليس في الناس مَن يهتمُّ بالأخطار التي نجا منها، بل إنه إذا ما اطمأن لسلامته صبَّ اللعنات على مَن عمل لإنقاذه، ولاح له مَظهَر مُنقِذه مبتذلًا لا جِدَّة فيه؛ ولذلك لا يَرَى أحد في الغارات التي تُشنُّ على الوباء والجهل «مجدًا وفخارًا»، ألسنا نخرج سراعًا إلى ميادين القتال نحفر الخنادق، إذا نفخ في النفير ودقت الطبول، ولا نسير على أصواتها إلى حفر المصارف؟ وهل وجدتَ إنسانًا يقول إن في تصريف أقذار المدن، وفي مد أنابيب الماء إليها روعة وجمالًا؟ ولكن انظر إلى آثار هذه الأعمال؛ تجد أن آثارها هي نفوسنا الكريمة، فلولا ما أمدَّتْنا به الدمقراطية من وسائل لتحسين الصحة العامة، لكان كثيرون ممَّن جاوزوا الخمسين منَّا في عداد الأموات، ولأنهكت العِلَل مَن بَقِيَ منَّا على قيد الحياة، نعم، قد يكون في ذلك ضرر يلحق بالجيل الناشئ من الشبان، الذين ينتظرون الآن أعمالنا وأموالنا ليَنعَموا بها، ولكن يلوح بوجهٍ عام أن مِن الخير أن يكون المجتمع أقلَّ تعرضًا للموت والمرض مما كان عليه آباؤنا في العصور الوسطى، ولا ريب في أن رقيقي الحال في البلاد ذات الحكومات الدمقراطية، أقل تعرضًا للعِلَل والموت مما كانوا عليه في الأزمان الماضية، فلست ترى الآن بيننا طوائف المتسوِّلين من المرضى والمُقعَدين الذين كانوا يقفون على أبواب الكنائس في العصور الوسطى، وقد وصلنا إلى ما نحن فيه الآن بتحسين وسائل التغذية واستخدام العلم في علاج الأمراض، والفضل في كليهما عائدٌ إلى فن الحكم، نَعَم، إن مظاهر العظمة والفخامة في بعض العواصم، كانت من أعمال الحكومات التي يُسيطِر عليها الملوك أو الطبقات الحاكمة، كما كانت الحال في ألمانيا والنمسا قبل عام ١٩١٤، ولكن حتى في هذه الدول نفسها كانت نشأة الحكم الدمقراطي في البلديات، هي السبب في تحسين وسائل الصحة العامة.
وسنبحث فيما بعد في النظم والمنشآت التي أوصلتْنا إلى هذه الغاية، وحسبنا أن نلاحظ هنا أثر هذا النظام الجديد؛ لأن بعض الناس قد يَرَى أن تحسُّن الصحة أمر قليل الخطر، مع أنه قد خلق صنفًا جديدًا من الرجال والنساء تكوَّن منه مجتمع من نوع جديد، أعضاؤه أكثر تشابهًا في قواهم الجسمية والعقلية، وقد حدث معظم هذا التغير بفضل الحكومات «المحلية»، التي نظمت الصلات اليومية بين الأهلين المتجاورين، ولا تزال التقاليد تَرَى في ذلك العمل أمرًا عاديًّا خاليًا من الروعة، لكن الحقيقة أن تجمع الناس في المصانع والمدن منذ قرن من الزمان، على أثر انتشار النظام الصناعي الجديد وسهولة التبادل التجاري، زاد خطر المرض وضعف الصحة، وكانت المدن وقتئذٍ تحت سيطرة عدد قليل من ذوي الثراء، ولم يكن أحد يعرف أن المرض يمكن اتقاؤه بتنظيم وسائل الخدمة العامة، حتى بدت مساوئ الحالة الجديدة ظاهرة للعيان، فأثارت من الاهتمام والانتقاد ما أدَّى إلى اختراع نظم جديدة للعناية بالصحة العامة، ووسائل جديدة للوقاية من الأمراض، وكانت النتيجة التي لم تُقصَد لذاتها أنْ زاد متوسط عمر الشخص من حوالي ٣٤ سنة إلى ٥٩ في أقل من نصف قرن، كما زادت أيضًا مقدرة الناس على أن يَرَوْا ويسمعوا ويحسوا زيادة كبيرة.
يضاف إلى هذا أن التعليم قد نظم وتحسَّنتْ بعض وسائله في كنف الدمقراطية، وذلك أنه بعد أن اتَّسَعَتْ دائرة حق الانتخاب في أوائل القرن التاسع عشر، أنشأ ولاة الأمور في البلاد الدمقراطية مدارس لتعلم السواد الأعظم من السكان، ثم زادت رغبة عامة الناس في التعلم، كما تدل على ذلك الجهود التي بذلوها في سبيله دون معاونة الحكومات في أوائل القرن التاسع عشر، ورأى المسيطرون على القوة الاقتصادية أن الأوفق لهم، أن يستخدموا في الأعمال الصناعية على الأخص عمالًا نالوا حظًّا أوفر من التعليم؛ ولذلك نقصت نسبة الأمية في البلاد الدمقراطية، وأصبحت عادات الناس وطباعهم أرقى وأكثر حضارة مهما كانت أسباب هذا الرقي، وأُصلحت وسائل التعليم بتأثير العلماء الخبيرين، وبفضل السلطات العامة والمناقشات العامة، حتى أصبحنا الآن وإذا بنا نَرَى لأول مرة في التاريخ آباء الجيل الحاضر في البلاد ذات الحكومات الدمقراطية، دون غيرها ممن تعلموا في المدارس، نعم إن طرق التعليم المدرسي كانت طرقًا معيبة، وإن نظام التعليم الحاضر لا يفي بالغرض المقصود، ولكن من السخف أن نقابل الحالة الاجتماعية التي أدَّى إليها انتشار التعليم العام، بالحال التي كانت سائدة قبل قيام الحكم الدمقراطي.
وآخِر ما نذكره هنا أن أحوال العمل والعمال في عهد الدمقراطية، قد تحسنت عما كانت عليه في العهود السابقة، وأن الفضل في ذلك راجع بعضه إلى التشريع وبعضه إلى التنظيم الاختياري، الذي قام بها الأُجَراء من تِلقاء أنفسهم مستعينين بالحقوق التي خوَّلها لهم القانون، وهنا يجدر بنا أن نفرِّق بين وسائل الإنتاج الضرورية في العالم الحاضر وبين «الرأسمالية»؛ أي سيطرة رءوس الأموال ووكلائهم على هذه الوسائل، لا نُنكِر أن في التنظيم الصناعي مَخَاطرَ عِدَّة سببها، احتشاد جيوش العمال في المصانع وفي غيرها من الأماكن، لكن نظام الإنتاج الجديد كان نعمة وبركة ظاهرة عمَّتْ جميع الناس، فمِن مَنَافِعِه رخص الطعام والخدمات، وضمان العرض، وزيادة أنواع السلع النافعة، حسبنا هذا القول في فضل التنظيم الصناعي، أما الرأسمالية فقد كان من آثارها أن مزايا هذا النظام الجديد لم توزع بين الناس توزيعًا عادلًا يتساوى فيه الجميع، بل إن هذا النظام قد وضع مزايا استثنائية في يد فئة قليلة من الناس، استطاعت أن تنتفع بكل فرصةٍ سنحت لها للحصول على الثروة والاستئثار بها لنفسها، وساد الاعتقاد بأن الخير سيعم الناس جميعًا، بفضل الأعمال التي مكَّنتْ أفرادًا قلائل من الاستحواذ على الثروة الطائلة، ولكن الرأسمالية لم تجعل لهذا النظام الجديد من أثرٍ، إلا فتح أبواب لأنواع جديدة من النشاط، للتجارة بدل الزراعة، فأوجدت بذلك أصنافًا جديدة من الناس، وبقي المجتمع بوجهٍ عام كما كان من قبلُ لا تجد كثرته إلا الكفاف من العيش، ولكن مساوئ نظام المصانع، وبخاصة ما كان يقاسيه منها النساء والأطفال، قد أثارت عاطفة إنسانية كانت هي التي أعانتِ الدمقراطيين الأولين، وشجَّعت بوادر الثورة بين العمال، فأدَّى كل ذلك إلى سَنِّ القوانين للإشراف على جهود الفئة القليلة «المُغامِرة»، ولتقرير حق العمال اليدويين في تنظيم نقابات العمال، وغيرها من الجمعيات التي تعمل لمساعدة أعضائها وحمايتهم، ولم تستطع أية قوة، حتى قوة أصحاب رءوس الأموال في الصناعة الجديدة، أن تَحُول دُون ازدياد حرية العمال اليدويين والأُجَراء.
لكن عددًا قليلًا من نَقَدة الدمقراطية يحاجون، بأن التحسن الذي طرأ على حياة عامة الناس، لم يكن إلا طلاء من الذهب مُوِّهت به الأغلال التي في أعناقهم، وهؤلاء النقاد يُعارضون في الإصلاح الاجتماعي؛ لأنه يَجعَل كثرة الناس أقلَّ مَيْلًا إلى الانتقاض والثورة، لا نَعرِف قط حجة أوْهَى من هذه الحجة، ولكننا مع ذلك نسمح لأنفسنا بأن نناقش معناها، هذه الحجة تفترض أنه كلما زادت الحالة سوءًا كان ذلك أدْعَى إلى قلبها من أساسها، وذلك خطأ في فهم نفسية الناس؛ لأن الجياع والمرضى لا يصبحون أكثر نشاطًا وأعظم ذكاءً، بل بالعكس يضعف نشاطهم ويضمحل ذكاؤهم، أما الغذاء الصالح، فيجعل الناس أكثر استعدادًا للعمل لتحقيق رغباتهم، وحتى إذا كان لا بد من الالتجاء إلى العنف، لا إلى وسائل النصح والإقناع، فإن الصحة أقوى دعامة للثورة من المرض، ألَا ترى أن الأمراض التي كانت تفتك بأجسام الطبقات الفقيرة في العصور الوسطى، والجهل الذي كان مخيمًا على عقولهم، قد استعبَدَاهم أكثر ما استعبدتْهم القوانين؟ لكن عندنا لمَن يعيبون آثار الإصلاح الاجتماعي ردًّا أقل من الرد السابق مجاملة، إننا ليُخيَّل إلينا أن رغبتهم في السلطة أقوى من حبهم لسعادة عامة الشعب، لا ننكر أن الحرص على إصلاح صغائر الأمور، والرغبة في القضاء على «النظام» القائم من أساسه، قد يكونان في بعض الأحوال مما يُحمَد الإنسان عليه، ولكنهما قد يكونان في بعض الأحوال الأخرى من الأدلة على شهوة الحكم، المتمكِّنة من نفوس مَن لا يصلحون لإقناع غيرهم بآرائهم، إن أولئك الذين يحبون أن يصلوا إلى كراسي الحكم بأي ثمن، قد لا يشعرون في أنفسهم بتلك الرغبة؛ ولذلك لا تُعَدُّ رغبتهم فيه إثمًا يؤخَذون به، وقد تَظهَر تلك الرغبة بأشكالٍ وطرق متعددة، لكن الذين يتناولون السياسة العامة بالبحث في كنف الحكم الدمقراطي يحاذرون دائمًا، من الخطر الذي قد تؤدِّي إليه مطامعهم، فهم يخشَوْن دائمًا أن يُلهِيَهم عن تحسين حال طبقات الشعب المعيشية، تفكيرهم في ابتكار مشروع جديد أو إصلاح أداة في دولاب الإدارة، نحن نقر أن التقاليد الدمقراطية قد أساء إليها اندفاع دُعاتها وتسرُّعهم، ولكننا نقرِّر أيضًا أنها كانت على الدوام عونًا على تحسين حال الناس المعيشية؛ رجالهم ونسائهم وأطفالهم من نواحٍ معينة، وأن هذا التحسن قد جعل المجتمع كله في البلاد الدمقراطية أكثر اقتدارًا وذكاءً؛ ولذلك يخطئ مَن يقول إن ما أفاده الناس من الدمقراطية في شئون الصحة والتعليم والتنظيم الصناعي يحول بينهم وبين الرقي؛ إذ الحقيقة أنه يُتيح لهم الفُرَص ليبدِّلوا نظام المجتمع من أساسه.