النظم الدمقراطية
١
إن ما تم على يد الدمقراطية حتى الآن، وما يمكن أن يتم على يديها في المستقبل، يرجع بعضه إلى النظم التي استُخدمت حتى الآن، والتي يمكن أن تُستخدَم فيما بعدُ؛ ذلك بأن الدمقراطية، من حيث هي مَثَل أعلى للحكم، قد أَوْجَدت نُظُمًا جديدة تُعَدُّ نموذجًا لما يجب أن تكون عليه الدمقراطية من الوجهة العملية، وقد استرعت هذه النظم من اهتمام الناس، أكثر مما استرعتْه الأغراض التي وُجدت هي من أجلها، ويرجع معظم السبب في ذلك إلى أن السياسة العملية وفن الحكم يهتمَّان بكيفية تحقيق حاجيات الناس أكثر مما يهتمان بهذه الحاجيات نفسها، ولما كان الناس يعتقدون بحق أن المَثَل الأعلى يكون أكثر جاذبية، إذا ثبت أن في الإمكان تحقيقه، فإن الغرض الذي كانت ترمي إليه الجهود المبذولة لإيجاد مجتمع متساوي الأفراد، تقوم حقوق الشخص فيه على رضاء غيره من الأشخاص لا على قوَّته هو، لم يكن ليحتاج إلى بحثٍ مستمر؛ لأنه كان مفروضًا أن هذا الغرض قد اتُّفق عليه بوجهٍ عام، في الوقت الذي كانت النظم الموصلة إليه تَرقَى وتنمو، أما الآن فقد أصبحنا لا نَسلَم من الاعتراض إذا افترضنا أن المجتمع المتساوي الأفراد الذي لا تسيطر عليه القوة، هو المجتمع الذي يفضله كافة الناس، لكننا إذا لم نسلِّم بأن قيام مثل هذا المجتمع أمر مرغوب فيه، فإننا لا نستطيع أن نفهم حقيقة الوسائل التي تسير عليها النظم الدمقراطية، وعلى هذا فإننا سنصف هذه النظم وندرسها هنا، على افتراض أن المساواة والرضا هما الغرض المقصود من نظام الحكم.
والاقتراع يحدث في انتخابات النواب وفي إصدار القرارات في المجالس النيابية؛ فأما في الحالة الأولى، حالة اختيار النواب، فقد طالب به الشعب أولًا في أوائل القرن التاسع عشر؛ ليستعين به على الاشتراك مع بعض الطبقات والجماعات الممتازة في السلطة السياسية، وكان المفروض وقتئذٍ أن خير ما يحفظ «مصالح» الفرد، هو أن يختار مَن يُمثِّله في المجلس النيابي، وسبب ذلك أن ملوك إنجلترا في العصور الوسطى كانوا يجمعون المال من رعاياهم، بطريقة تطورت بالتدريج حتى أصبَحَتْ هي النظام البرلماني الحديث، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من هذا الكتاب، فكان المَلِك إذا طلب مالًا أبدى المطلوب منه رأيه في هذا الطلب بوساطة النواب، وبذلك أصبح اختيار هؤلاء النواب في آخِر الأمر موكولًا إلى أعيان الجهة، أو أغنيائها الذين استعانوا بالنظام النيابي على مراقبة السياسة العامة، فكان طبيعيًّا إذن أن يعتقد المُصلِحون في أواخر القرن الثامن عشر أن إعطاء الصوت لنائب ما، وسيلة من وسائل الاشتراك في السلطة، ثم جُعل حق الانتخاب في كثيرٍ من الأقطار بعد سنة ١٨٣٠ أو حوالي ذلك الوقت، ميزة تُمنَح لبعض الطبقات الاجتماعية ذات الأملاك الثابتة، وقُصر أولًا على الرجال دون النساء، بعد أن كان هذا الحق قبل ذلك الوقت يُورث أو يُشترى بالمال، وقد أكثروا وقتئذٍ من ذكر «الشعب» و«الشعب ذي السيادة»، ولكن «الشعب» من الناحية السياسة لم يكن يشمل في خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، حتى في البلاد الدمقراطية، إلا عددًا قليلًا من الذكور ذوي الأملاك، وهؤلاء هم الذين كان يظن أن لهم «مصالح حقة في البلد»، أما غير هؤلاء كالنساء أو العمال اليدويين مثلًا فكان المفروض أنه لم تكن لهم مثل هذه المصالح، مع أنه كان يُطلب إلى العمال اليدويين أن ينضموا إلى صفوف الجيش، ألَا ما أعجبَ هذه الأوهامَ السياسيةَ وأكثر سخافاتها!
على أن حق الانتخاب الضيق الذي نالتْه الشعوب في أوائل القرن التاسع عشر، كان يُطلَق عليه اسم «الدمقراطية» تمييزًا له عن الملكية المطلقة أو الألجاركية، ولم تكن هذه التسمية جديدة، فقد ذكرنا من قبلُ أن المدن المستقلة في أيام الحضارة اليونانية الرومانية كانت تُسمَّى «دمقراطيات»، مع أن السلطة فيها كانت محصورة في يَدِ عدد من الذكور مُلَّاك البيوت الذين كانوا يسيطرون على النساء والرقيق، لكن تبيَّن بعد ذلك أن الحال الاجتماعية في القرن التاسع عشر لا يمكن معها مقاومة ما كان يطلبه النساء والعمال اليدويون من نصيب في السلطة السياسية، فنشأت من ذلك في بعض البلاد الدمقراطية بشكلها الحاضر، الذي يتمتع فيه الراشدون من الرجال والراشدات من النساء بحق الانتخاب، وقد بقيت النساء حتى الآن محرومات من هذا الحق في بعض البلاد، وهي على العموم البلاد ذات التقاليد الاجتماعية الاستبدادية كاليابان، أو التي للمذهب الكاثوليكي فيها سلطان كبير.
والطريقة المتبعة في النظام الدمقراطي لاختيار أعضاء المجالس النيابية هي طريقة الاقتراع السري، وبهذه الطريقة لا يُستطاع إرهاب الناخبين، ويتبيَّن الإنسان من طريقة فرز الأصوات بوجهٍ عام والحكومة القائمة بالأمر وقت الانتخاب؛ ذلك أنه إذا كان للحكومة القائمة بالأمر فعلًا؛ أي الأشخاص الذين بيَدِهم زمام السلطة والذين يحكم الناخب على أعمالهم، إشراف على فرز الأصوات؛ فإن الناخبين لا يَثِقون بالنتائج التي تُعلَن؛ ولهذا كان لا بد من وجود هيئة حاكِمة تسيِّر دولاب الإدارة، مستقلة عن سياسة الحزب الحاكم وقت الانتخاب؛ ومن هذا نشأت الحاجة إلى وجود هيئة الموظفين المدنيين التي لا يتعرض أعضاؤها للعزل تبعًا لإرادة الحكومة القائمة بالأمر وحدها، وبذلك يتحقق الغرض المقصود من الانتخاب، وهو تمكين المواطنين من أن يعبِّروا عن رغبتهم أو «إرادتهم» أو «رأيهم»، تعبيرًا صادقًا لا يخضعون فيه لضغطٍ أو قوة.
٢
ويتطلب تنظيم الاقتراع وإشراف المجلس النيابي على الحكومة، في ظل الحكم الدمقراطي انضمام الأهالي باختيارهم إلى أحزابٍ سياسية مختلفة، وإن كانت الأحزاب قد وُجدت قبل أن توجد الدمقراطية، وإن كانت قد وَرثت حتى في عهد الدمقراطية شيئًا من عادات الفرق والجماعات، التي كانت قائمة في عهد الحكم المطلق أو غيره من أشكال الحكم، وليست الدمقراطية هي سبب جميع العيوب التي نشاهدها في النظام الحزبي، بل إن منشأ بعضها هو طبيعة الزمرة أو الهيئة الصغيرة، التي تتولَّى الترشيح وتُشرِف على الأتباع، هذا ولا بد لكل حزب سياسي قائم في النظام الدمقراطي من «مكتب» حزبي به موظفون، ولا بد له أيضًا من برنامج يَسِير عليه وشخصيات قوية تُشرِف عليه، وقد تكون كل هذه خطرًا يتعرَّض له السعي لتحقيق المَثَل الدمقراطي الأعلى، ولكن كل حزب ضعيف في أية ناحية من هذه النواحي الثلاث الضرورية، لا أمل له في الاستيلاء على زمام السلطة؛ لذلك كان لكل حزب نواة صغيرة من أشخاص يعملون في الشئون العامة، وإلى جانبهم أتباع من أشخاص عاديين مختلفين في عددهم، «يتبعونه» تبعية تختلف قوةً وضعفًا، كما يتبعون مذهبًا دينيًّا أو ناديًا من النوادي، ويمثل كل حزب في الغالب آراء إحدى الطوائف التي لها مصلحة خاصة أو فائدة مالية تسعى لإدراكها، وقد تصعب التفرقة بين الخطط السياسية للأحزاب في بعض البلاد كالولايات المتحدة الأمريكية، وقد تكون الأحزاب في البعض الآخر كفرنسا مثلًا جمعيات من طوائف قليلة العدد من الساسة المحترفين، لا توجد بين وجهات نظرها أو سياستها العامة إلا أدق الفروق وأخفاها، لكن الأحزاب في جميع البلاد ذات النظم الدمقراطية، تساعد على إظهار الاختلافات في الآراء والتجارب الخاصة بالسياسة العامة، وإذا نجح حزب أو نجحت طائفة من الأحزاب في حمل أغلبية السكان على اعتناق آرائها، قبلت الأحزاب الأخرى أن يتولى الحزب الفائز أو الأحزاب الفائزة زمام الحكم، لقد ألِفَ قُرَّاء هذا البحث من الإنجليز والأمريكيين هذا النظام، إلى حدٍّ يجعلهم عاجزين عن إدراك ما فيه من جدة، وكثرة ما يحتاجه النجاح في تنفيذه من عاداتٍ وخصال دقيقة، وليس ذلك النظام من النظم التي يمكن إقامتها بين عشيةٍ وضحاها؛ لأنه يتطلب أن تتمكن عادة بحث السياسة العامة من نفوس مَن يختلفون في نظرتهم إليها، ويتطلب كذلك جوًّا من الاستقرار الاجتماعي يتعذر فيه استخدام العنف الشخصي إن لم نقل: يستحيل، ويتطلب فوق ذلك من الشعب بوجهٍ عام أن يفهم كيف يُستخدم العقل في استنباط وسائل جديدة للقيام بما يحتاجه من الأعمال، ولا تصلح الديانات الاستبدادية التي تأبى تحكيم العقل، ولا العادات التقليدية التي لا تَقبَل النقد، لأن تكون أساسًا يقوم عليه الجدل الدمقراطي بين الأفراد الذين ينتمون إلى أحزابٍ مختلفة، وكذلك قد تقوم الفوارق الشديدة بين الطبقات الاجتماعية حائلًا بين أصحاب الآراء المتعارضة وبين المناقشة الودية، لكن العادات والخصال الاجتماعية في بعض البلاد الأخرى تيسر سبل المناقشة العلنية في الآراء المتباينة، وقد ساعدت الأحزاب السياسية في هذه البلاد على إصلاح الحال الاجتماعية.
لكن السياسة الحزبية على الرغم من هذا كله، قد أصبح اسمها موضع السخط في كل مكان، وكثيرًا ما يؤكد نقاد الدمقراطية أن هذه السياسة تُضحِّي بالمصالح «القومية» أو مصالح المجتمع بوجهٍ عام؛ ولذلك نرى بعض الساسة حتى في البلاد الدمقراطية يفخرون بأنهم «مستقلون»، وليس ثمة شك في أن الإفراط في الخير جائز، وقد أدَّى الإخلاص للأمة نفسه إلى شر الأعمال، بل إن الإخلاص لله قد اتُّخذ ذريعة للقسوة والاضطهاد، فلا غرابة إذا خرج بعض التابعين لحزبٍ من الأحزاب السياسية عن جادة العقل، واتبعوا خطة أنانية خالية من التبصر، يُضاف إلى هذا أن الأحزاب القائمة في هذه الأيام قد نَمَتْ متأثِّرة بالاعتقاد الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر، وهو أن الصالح العام يتكون من طائفةٍ من الصوالح المتفرِّقة المشتركة بين المصالح المتنافسة، وفي هذه الحال يَمِيل كل حزب إلى أن يعمل لمصلحةٍ واحدة أو عدد من المصالح المتفرقة، أو طائفة من المصالح المتقاربة، مفترضًا أن المصالح الأخرى يدافع عنها غيره من الأحزاب، وبذلك يصبح معنى «توازن المصالح» هو التنافس بين الخصوم؛ ولهذا السبب استُعيرت الاصطلاحات الحربية واستخدمت في الجدل السياسي؛ ولهذا أيضًا يلجأ المرشحون إلى الناخب يُمَنُّونه بأنه سينال هو نفسه نفعًا من هذا الاقتراح أو ذاك، ويلوح أن بعض الساسة يعتقدون أن فوزهم في الانتخاب يكون أقرب إلى الاحتمال، كلما كثرت الأسلاب التي يَعِدون بها مؤيِّديهم.
على أن هذا لا يستلزم أن يكون الحزب السياسي قطيعًا من الأنعام لا همَّ له إلا مصالحه، بل الواقع أنه قد يسير على خطة يبغي بها الخير العام للمجتمع بأكمله، كما أن الناخب قد لا يؤيد مشروعًا من المشروعات لمنفعته الذاتية، بل للمصلحة العامة التي يشترك فيها مع غيره من الأفراد، وللناس آراء كثيرة مختلفة صحيحة في معنى الصالح العام؛ ولذلك قد لا يكون اختلاف الآراء بين الأحزاب ناشئًا من اهتمامها بمصالحها المتعارضة، بل ناشئًا من اختلاف وجهة نظر كلٍّ منها، حتى ولو كانت كلها ترنو ببَصَرِها إلى مطمحٍ واحد، أو تسعى كلها لغرضٍ واحد.
لقد سبق القول إن الدمقراطية متصلة بالفردية من جهة، وبتوازن المصالح المتضاربة من جهةٍ أخرى، ولكن هذين المبدأين لا يُعدَّان من أصولها الجوهرية، إلا بقدْر ما يُعَدُّ اسمها الإغريقي من هذه الأصول، إنما المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه هو بحث الآراء المختلفة أو المتعارِضة، واتخاذ هذا البحث وسيلة لتعرُّف طريق العمل الصحيح، وهذا البحث يساعد عليه قيام الأحزاب السياسية؛ ولذلك كان كل ما يُبذل من الجهود لإلغاء هذه الأحزاب في حقيقة أمره جهودًا تُبذل لتركيز السلطة كلها في يد واحدٍ منها بعدَ القضاء على نُقَّاده ومعارِضيه؛ ولهذا أيضًا كان وجود الأحزاب التي تعمل لخير المجتمع كله، وإن اختلفت نظرة كلٍّ منها إلى هذا الخير، أمرًا جوهريًّا لا غنى عنه لمناقشة الشئون العامة، ولإشراف الشعب على الحكومة؛ لأن هذه الأحزاب تعمل في داخل المجلس النيابي وخارجه.
٣
لقد كانت المجالس النيابية في أول أمرها وسيلة لمقاومة السلطة التنفيذية والحَدِّ من حقوقها؛ وذلك لأن الحكومات كانت فيما مضى تُعَدُّ في الغالب خطرًا على المحكومين؛ ولأن أهم ما كان يُعنَى به الحكم فيما مضى، هو أن يُشرِف على المجتمع عدد قليل من الرجال لمنفعتهم الخاصة، ولا يزال معظم الرجال والنساء حتى الآن لا يَرَوْن في الحكم إلا سلطة تفرضها عليهم وعلى جيرانهم فئة خفية يسمونها «الحكومة»، والحق أن الحكومة لم تكن إلا طائفة قليلة من الأشخاص، استطاعوا بوسيلةٍ من الوسائل أن يسيطروا على المراكز الرئيسية، التي تجعل لهم سلطانًا على غيرهم من الناس، لكن «الحكومة» في معظم البلاد الدمقراطية، قد أصبحت بعد التجارب التي حدثت في القرن التاسع عشر جزءًا من المجالس التشريعية، وأهم الحكومات التي تُستَثنَى من ذلك هي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تنفصل السلطة التنفيذية عن مجلس الأمة انفصالًا تامًّا، وحيث يُعَدُّ هذا المجلس عينًا مذكاة على «الحكومة» وقوة محددة لسلطانها، لكن الريبة القديمة في الحكومات لا تزال مع ذلك باقية في جميع الدمقراطيات.
وأهم وظيفة يقوم بها المجلس النيابي هي التشريع؛ أي سَنُّ القوانين الجديدة، أما في غير الحكومات الدمقراطية فتتولَّى السلطة التنفيذية هذا العمل، وتُصدِر القوانين دون مناقشة عامة، لكن من مزايا الدمقراطية أن القوانين التي تُصدِرها تتغيَّر كلما حدث تغير واسع النطاق في حال الشعب، وبذلك تقوم طريقة تغيُّر الوزراء وتبدُّل الأغلبية في المجالس النيابية المنتخبة، مقام الثورة في مقابلة التطورات الاجتماعية التي تطرأ على الأمة، والقاعدة المُتَّبَعة أن القوانين التي تُصدِرها المجالس النيابية، تَعرِض مشروعاتها أول الأمر على لجانٍ من هذه المجالس، أو على هيئة المجلس كلها، وقد تُعَدَّل هذه المشروعات وقت مناقشتها، ولقد كان ما يُسَنُّ من القوانين الجديدة في عهد الحكومات القديمة قليلًا في عدده، بسيطًا في نوعه؛ ولذلك كان من حق كل عضو في المجلس النيابي، بمقتضى النظرية الدمقراطية القديمة أن يقترح أي قانون جديد، أما الآن فإن الذي يحدث بالفعل أن السلطة التنفيذية، هي التي تقترح كل القوانين الجديدة الهامة، إلا في النظام الأمريكي، وقد حدث تبدُّل عظيم الخطر في نوع القوانين منذ قيام الحكم الدمقراطي؛ إذ أصبحت القوانين الجديدة تُسَنُّ الآن عادة لتنظيم خدمات عمومية، أو تقرير قواعد عامة يرغب الأهلون جميعهم في السير على مقتضاها، وبذلك قلَّتْ أهمية القانون بمعناه القديم؛ أي التحريم وفرْض العقوبات على المخالف، ولم يَعُدْ أهم ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكره هو السلطة العليا و«العقوبات»، على أن الحقوق الأساسية التي تَحفَظ كيان المجتمع، لا تَزَال إلى الآن يؤيدها القانون الجنائي، ويذبُّ عنها العقاب الذي جعلتْه الدمقراطية الآن أكثر إنسانية مما كان.
ولننتقل بعد ذلك إلى الكلام على المجالس النيابية، فنقول إن أعضاء الهيئة النيابية القديمة في إنجلترا؛ أي مجلس العموم، ومجلس الأمة السابق على العهد الدمقراطي في الولايات المتحدة، تختارهم الآن هيئة الناخبين المكوَّنة من جميع السكان العقلاء الراشدين، وبذلك أصبحت هاتان الهيئتان تعملان متأثرتين بعوامل جديدة، والحق أنهما قد أُدخِل على نظامهما تعديل جوهري، لا تدل عليه أساليب العمل القديمة التي يسيران عليها، لكن جميع المجالس النيابية القائمة في الوقت الحاضر لم ينشأ منها واحد، بعد أن شمل حق الانتخاب جميع الراشدين، وبعد أن تعددت واجبات الحكومات حتى شملت الصحة والتربية، ويُستثنَى من ذلك مجالس الدول الجديدة التي خُلقت بعد الحرب الكبرى مثل تشكوسلوفاكيا؛ ولذلك كان معظم مجالس النواب التشريعية القائمة في البلاد الدمقراطية في الوقت الحاضر هيئات قديمة ذات تقاليد عتيقة، تقوم بين ناخبين جُدد يختلفون عن الناخبين السابقين كل الاختلاف، وتؤدي واجبات حكومية لا تقل عن الناخبين في جدتها.
٤
كذلك كانت نتيجة الجدل الذي ثار حديثًا في فرنسا، أن برز إلى الوجود نفس هذا النزاع بين الهيئة التنفيذية ومجلس النواب، نعم، إن رئيس الجمهورية الفرنسية أقل سلطة من رئيس الجمهورية الأمريكية، وإن مجلس الوزراء في فرنسا لا يخضع لرئيس الجمهورية الفرنسية، خضوع مجلس الوزراء الأمريكي لرئيس الجمهورية الأمريكية، ولكننا نستطيع أن نقول بوجهٍ عام إن الرغبة في تركيز السلطة في يد الهيئة التنفيذية آخذة في الازدياد في جميع البلاد الدمقراطية، وقد سَاعَد على تقوية هذه الرغبة نمو هيئة الموظفين المدنيين، والحق إن تاريخ هذه الهيئة لَيُعَدُّ صفحةً من أهم الصفحات في تاريخ الدمقراطية. ولقد كان يتملك هذه الهيئة في إنجلترا حتى في العصور الوسطى، شعور الغيرة على المصالح القومية، مع أنها لم تكن من الوجهة الاسمية إلا خَدَمًا للمَلِك شخصيًّا، ومع أن المناصب الكبرى كان يُكافَأ بها عادة أتباع الشخص صاحب النفوذ السياسي، أو الطائفة صاحبة ذلك النفوذ، فلما استهل العقد الثامن من القرن التاسع عشر أصبح امتحان المسابقة هو طريق التعيين في الوظائف المدنية، وأصبح للبرلمان إشراف عليها، فبثَّ ذلك في نفوس الموظفين المدنيين شعورًا راقيًا بخدمة الصالح العام، ولما أُلقيت على عاتق الدولة في البلاد الدمقراطية واجبات جديدة، وزادت بذلك أهمية الأعمال السلمية إذا قوبلت بأعمال القوى المسلحة كما سنبيِّن للقارئ فيما بعد، أصبح الجزء الأكبر من الأعمال الحكومية يتكون الآن من الواجبات اليومية، التي يقوم بها الموظفون في الإدارات والوزارات المختلفة، الذين لا يتأثرون بالمنازعات السياسية العادية، والذين يعملون على الدوام للمصلحة العامة بإشراف السياسيين المختلفين، الذين يتولَّوْن مقاليد الحكم كلما تغيرت الحكومة، وأصبحت مهارة هؤلاء الموظفين المدنيين هي الدعامة التي تستند إليها السلطة التنفيذية.
فإذا لم تكن النظريات المعنوية إذن هي الدليل على حقيقة الحكم الدمقراطي، بل كانت التجارب الواقعية هي ذلك الدليل، فإن هذا الحكم لا يمكن أن يُتَّهَم بالتردُّد، وسلطته العليا لا يمكن أن تُتَّهَم بالضعف، بل إن من الحق أن نقول إن للهيئة التنفيذية في الحكومات الدمقراطية في بعض الوجوه، سلطانًا أعظم وأقوى أثرًا من سلطانها في الحكومات الدكتاتورية، إن المظاهر تَخدَع الإنسان أحيانًا، ترى الأوامر يُصدِرها الطغاة فتظنها أوامر عسكرية صادرة من قائد الجيش الأعلى، ولكن الطغاة حين يُحرِّمون على الناس حق نقدهم إنما يعترفون بضعف سلطانهم؛ ولذلك تراهم في حاجةٍ إلى سَيْلٍ مستمر من «الدعاوة» الرسمية يؤيدون به سلطانهم ويفسرون به أوامرهم، في حين أن أغلبية الأهلين العظمى تُطيع أوامر السلطة التنفيذية في الحكومات الدمقراطية، إطاعة قائمة على العقل في الأحوال العادية؛ لأن أوامرها لم تَصدُر إلا بعد بحثٍ ونقد؛ ولأنها يمكن أن يعقبها النقد على الدوام، وقد يلوح أن احترام السلطة العليا في الجيش، أكثر منه في هيئةٍ من الرجال الأحرار يعملون معًا لغرضٍ مشترك، مع أن الحقيقة على عكس ذلك تمامًا، على أنه مهما يكن الفرق بين الدكتاتورية والدمقراطية فيما يختص بسلطان الهيئة التنفيذية، فإن الذي لا ينكره أحد قط أن الحكومات الدمقراطية أيضًا، تُصدِر أوامرها وقراراتها في كل يوم؛ لأن الحكم سلسلة متصلة من الأعمال وليس عدة حوادث متقطعة تقع من آنٍ إلى آن.
٥
وإذا أراد الإنسان أن يفهم كيف تسير الأعمال في الحكومة الدمقراطية، فعليه أن يرقب الوزير وموظفيه في مصلحةٍ من المصالح يتخذون القرارات، ويُصدرون التعليمات، ويجتمعون بالخبراء وممثلي الأعمال والمصالح المختلفة، نعم، إن الحكومات لا تزال حتى الآن تؤدي الواجبات التي كانت تؤدِّيها من قبلُ، ولكن هذه الواجبات قد تغيَّرت عما كانت عليه، فأصبح الجيش مثلًا بعدَ أن قَوِيَتِ العاطفة الدمقراطية، لا يجيشه أفراد مستقلون من علية القوم يستأجرون الجند ويؤلِّفون الفيالق التابعة لهم، واختَفَتْ من الوجود فصائل الجند التي كانت تختطف الناس لتُكرِهَهم على الانتظام في سلك البحرية، وأضحى رجال القوات المسلحة يجمعون حسب قانون عام موضوع لذلك الغرض، أو يتطوعون باختيارهم لأداء هذا الواجب تحت إشراف المجالس النيابية، ولا يستطيع الضباط الآن أن يشتروا الرُّتَب بالمال، وأصبح اهتمام رجال الشرطة المكلَّفين بحفظ النظام، يوجَّه الآن إلى منْع الجرائم وتنظيم المرور أكثر مما يوجه إلى القبض على المجرمين، وأما المحاكم فقد أضحت الآن أقل تحاملًا على الفقراء والجهال مما كانت عليه منذ خمسين سنة لا أكثر، وترى الآن خيرة رجال القانون كما ترى مدارس الحقوق في فرنسا والولايات المتحدة، تعترف كلها بالمبادئ الاجتماعية التي يقوم عليها ويتضمنها كل قانون، وبالأغراض الاجتماعية التي يجب أن يؤديها القانون.
أما الواجبات الاقتصادية التي تضطلع بها الحكومات الحديثة، فلا تزال تشمل ما كانت تشمله في الزمن القديم من الحيطة ضد الاحتيال في المعاملات أو الغش في المأكولات، ولا تزال بعض الطوائف ذات المصالح الاقتصادية المختلفة تكافح؛ لكي تَنَال من الدولة بعض المساعدات المالية أو غير المالية وبخاصة الطوائف التي تعمل في التجارة الخارجية، وكل هذه من الواجبات التي كانت تضطلع بها الحكومات حتى في القرن السادس عشر، ولم تكن مما استحدثتْه الدمقراطية، غير أن هناك نوعًا من الواجبات الاقتصادية الجديدة التي تقوم بها الحكومة، وهو سَنُّ القوانين ووضْع الأنظمة الخاصة بالمصانع وتأمين العمال من البطالة؛ ولذلك أصبحتْ هيئات العمال في الوقت الحاضر وثيقة الصلة بالمصالح الإدارية الحكومية، كما كان الماليون والتجار متصلين بها في العهد القديم، وليست هيئات العمال القائمة في البلاد الدمقراطية هيئات خلقتْها الحكومات خلقًا، وإنما هي جماعات اختيارية مكونة من أشخاص لهم آراؤهم الخاصة بهم، وتهتم الحكومات في الوقت الحاضر بمنْع الإضراب وإقفال المصانع في وجه العمال، ولكنها لا تفعل ذلك بإصدار الأوامر بل بوسائل التراضي والتحكيم بين المتنازعين، وتوجه الحكومة عنايتها المستمرة لترقية وسائل الإنتاج، سواء أكان ذلك من حيث ظروفه المادية أم من حيث معاملة الصناع والزراع.
والقسم الثالث والأخير من واجبات الحكومة الحديثة، هو الخاص بالإصلاح الاجتماعي من طريق تحسين وسائل الصحة والتربية، ولقد أخذتِ الحكومات منذ منتصف القرن التاسع عشر تُعنَى بالشئون الصحية وبتوريد المياه الصالحة للسكان، وغير ذلك من وسائل اتقاء الأمراض، والحكومات بأدائها هذه الخدمات تثبت أنها حكومات دمقراطية خالصة؛ لأن الفائدة التي تُرجَى من ورائها لا تختص بها فئة أو طائفة معينة، بل يعمُّ خيرُها المجتمع بأكمله، وينال منها كل عضو فيه بقدر ما يناله كل عضو آخر، فمجاري المدن واحدة للأغنياء والفقراء، والمال الصالح الذي يقدَّم لهؤلاء هو نفسه الذي يقدَّم لأولئك، وقد أخذتِ الدولة تُعنَى عناية متزايدة بتنظيم الخدمة الطبية لمصلحة السكان عمومًا على السواء، وأصبح النظام الصحي بأكمله موضع النقْد المستمر، يوجهه إليه الأخصائيون أو تتطوع بتوجيهه جماعات من الأشخاص، تُعنَى عناية خاصة بهذه الناحية من نواحي الخير العام، وكذلك الحال فيما يختص بشئون التربية، فإن الدولة الحديثة تعمل الآن لتمكين جميع أفراد الجيل المُقبِل، من أن ينالوا على الأقل حظًّا من العلم، يقوِّي الرابطة التي بينهم وبين المجتمع عن طريق القراءة والكتابة، حتى كان من النتائج المباشرة للحكم الدمقراطي أن التعليم لم يبقَ ميزة تختص بها طائفة أو فئة بعينها، بل أصبح مما تقوم به المدارس والجامعات في بعض البلاد بإشراف الدولة ورقابة المجلس النيابي، وأصبح التعليم لا يُقصد به في ظل الدمقراطية، من الوجهة النظرية على الأقل، أن يُلقَّن الناس كلهم عقيدة خاصة، بل يُقصد به مساعدتهم على أن ينقدوا ما يعرض لهم من الشئون ويحكموا بأنفسهم عليه.
وتؤلف أنظمة الحكم في النظام الدمقراطي وحدة مرتبطة الأجزاء، وهذه الأنظمة هي نتيجة التجارب التي عملت في نواحٍ مختلفة للقضاء على بعض المفاسد والشرور، أو إطلاق قوًى جديدة كامنة في حياة المجتمع، لكن بعض هذه الأنظمة ليس إلا تكييفًا لوسائل عتيقة، كما أن بعضها ناقص مَعِيب، غير أن الأساس الوحيد الصحيح الذي يجب أن يُبنَى عليه ما يوجه إليها من نقد، هو المبدأ الذي قامت عليه أو الغرض الذي أُنشئت لتحقيقه، قد يكون البرلمان الإنجليزي أو مجلس الأمة الأمريكي مثلًا في حاجةٍ إلى الإصلاح، ولكن العقل لا يُجِيز القضاء عليه؛ لأنه لا يجعل من الأرض جنة كجنة الخُلْد، ولا يمكن كل فرد من أن ينال مبتغاه؛ وذلك لأن المجالس النيابية وغيرها من الأنظمة الدمقراطية لم تنشأ لهذه الغاية، نعم، قد يشتطُّ في مطالبه الجيل الناشئ الذي لم يألَف الأوضاع السياسية، والذي أكسبه التوسع السريع الحديث في حق الانتخاب قوًى جديدة وشعورًا جديدًا نحو الحكومة، بعد أن أصبحتْ في هذا الوقت وثيقة الاتصال بالحياة اليومية، كما أن من السخف حقًّا أن يُرجى من أي شكل من أشكال الحكم الدمقراطي، أن يجوز ذلك الرضاء العام الذي تعمل العقول الساذجة لنيله من طريق الدكتاتورية، لكن السخط على التقاليد قد يكون دعامة طيبة يُقام عليها بناء صرح الإصلاح السليم الرشيد، إذا اتبعت فيه الخطة التي ثبتت صلاحيتها وأدَّتْ في الماضي إلى خير النتائج.