الدمقراطية والسِّلْم
١
لا ننكر أن مقصد دعاة الدمقراطية الأوائل في أيام الثورة الفرنسية، لم يكن مقصورًا على تغيير علاقة الشعب بنظام حكومته، بل كان يشمل أيضًا تغيير العلاقة بين الدول بعضها وبعض، ولا ننكر أنهم كانوا يعرفون أن الحرب من الشرور ذات الصلة الوثيقة بمطامع الأمراء؛ ولذلك جهروا مرارًا بمقاومتهم كل حرب اعتدائية، ولكنهم لم يُنشئوا نظامًا يقوم مقام الحروب، ولم يفكروا تفكيرًا منتجًا في خطةٍ تحل محل الحرب في «الدفاع عن الحقوق».
وكانت العاطفة المستولية على نفوس الشعب دون أن يشعر بها، هي أن النظام الدمقراطي في كل دولة لا يتعدَّى أثره حدودها، وكان طلب الحقوق والسلطات السياسية محصورًا في داخل الحدود التي افترضوها «للأمة»، وكان الناس يشعرون شعورًا غامضًا بأن الأمة تشمل السكان الذين تجمعهم وحدة اللغة والعادات، ونما الحكم وتركزت إدارته في حاضرة الدولة، وكان الجزاء الذي يرجو أن يناله المصلحون المتطرفون نظير أعمالهم، هو ما يكون لهم في العاصمة من المكانة، وأصبح النظام الدمقراطي «قوميًّا»، كما أصبح الذين يُطلَق عليهم لفظ «الناس» هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا لفظ «الأمة»، وصار «الرأي العام» الذي يظن أنه هو المسيطر على الحكومة، عبارة عن عاطفة رعاياها وحدهم لا عواطف غيرهم من الأجانب، ولا يفهم من هذا الإحساس العام أن غيره قد رُفض بعد درس وتمحيص، بل الحقيقة أن مسألة التبعة الملقاة على كل حكومة نحو الحكومات الأخرى، أو نحو أهل كل دولة أخرى ورعاياها، لم يُعِرْها أحد قط أقلَّ اهتمام، اللهم إلا عددًا قليلًا من فقهاء القانون «الدولي» وطلابه، ومن الأدلة على ذلك أن أنصار حماية التجارة وحريتها مثلًا، كانوا خلال الجدل الذي يقوم بينهم بشأن التجارة الخارجية، يفترضون جميعًا أن في وسع أية حكومة أن تغض النظر عن تأثير سياستها في أهل الدول الأخرى ورعاياها، ولم يعترض معترض على سياسة تجارية بأنها يمكن أن تضر بالأجانب.
ذكرنا من قبل أن للشعوب في داخل الدول التي ساد فيها الحكم الدمقراطي حق مناقشة السياسة العامة علنًا، وأن للمجالس النيابية المُنتَخَبة فيها حق مراقبة السلطة التنفيذية، لكن النظم القديمة التي تربط الدول بعضها ببعض، وبخاصة نظام الهيئات الدبلوماسية المكونة من السفراء ووزراء الخارجية، لم تَكَد تتأثَّر بالنظام الدمقراطي مطلقًا، وذلك أن معظم الدول كانت قبل عام ١٩١٤ دولًا مَلَكية، وأن السياسة الخارجية فيها كانت تعد من حقوق الملوك الخاصة، وكان السفراء يعينون لدى «البلاط»، ولا يعينون لدى المجالس النيابية أو الشعوب، ولما كان أكثر من نصف دول العالم في ذلك الوقت لم يرقَ في فن الحكم، فوق المستوى الذي بلغتْه الدول الأوروبية في عصر النهضة، لم يكن مستغربًا أن تسير «الدمقراطيات» الجديدة في علاقاتها الخارجية على الأنماط السائدة وقتئذٍ، وكان من أثر ذلك أن بعض المعاهدات التي عقدتْها الدول الدمقراطية نفسها وقيدت بها الشعب كله، قد وقعت من غير أن يؤخذ فيها رأي المجالس النيابية المنتخبة، وكان وزراء الخارجية فيها يتذرعون بحجج عهد النهضة، فيمتنعون عن الإدلاء بما يطلب إليهم من المعلومات، وعن مناقشة السياسة الخارجية «لأسباب خاصة بسلامة الدولة» أو مراعاة «للمصلحة العامة».
ولننتقل الآن إلى هيئةٍ أخرى من الهيئات، التي تتولَّى أمرَها الحكومة منذ القِدَم، وهي القوات المسلَّحة، لقد وجهت الدمقراطية عنايتها إلى هذه القوات؛ لكي تضمن خضوعها «للسلطة المدنية»؛ أي للسلطة التنفيذية العادية المنتخَبة والمسئولة عن أعمالها، لكن التقاليد التي تَسِير عليها القوات المسلحة في معظم البلاد الأوروبية هي تقاليد عصر الإقطاع، ولا يزال الولاء يفهم عادة على أنه خدمة تُقدَّم إلى شخصٍ معين، غير أنه قد أمكن في بعض الدول أن يُنقَل هذا الولاء «للشعب» ووزرائه، بإعطاء الدولة أو الأمة شخصية معنوية، وهناك سبب آخَر لاهتمام الدمقراطية بالقوات المسلحة، وهو أن هذه القوات أداة من أدوات السياسة، ذلك أن هذه القوات نُظِّمت لغرضٍ خاص هو الذي سُمِّيَ فيما بعدُ «بالدِّفاع»، ولما تولَّتِ الحكومات الدمقراطية أمرَ القوات المسلَّحة، وَقَفَتْ من الدول الأجنبية الموقف التقليدي الذي كانت تقفه هذه القوات من قبل، والذي يُعبَّر عنه بلفظ «الدفاع»، فكانت تَعُدُّ الأجانب بطبيعتهم أشخاصًا لا يُركَن إليهم، خَطِرين لا يُؤمَن جانبُهم ولا يَنصاعون في الغالب لحكم العقل، يُضاف إلى هذا أن الحكم الدمقراطي نشأ في عالم كان الملوك لا يزالون هم المسيطرين عليه، ولا يبعد أن يهدِّد الملوك هذا النظام الذي خُيِّل إلى بعضهم أنه سيؤدِّي إلى ثلِّ عروشهم؛ ولذلك وقفت الدمقراطية بطبيعة الحال موقف الدفاع عن نفسها.
وكانت نتيجة ذلك أنْ جَرَتِ الدمقراطيات في القرن الماضي، كما جرى غيرها من الحكومات على خطة زيادة قواتها المسلحة، واتخذت الوسائل الحربية أداة لتنفيذ مطالبها، ولم تَرَ الدمقراطية في أوروبا حرجًا من أن تسير على سياسة التجنيد الإجباري العام؛ أي أنْ تفرض الخدمة العسكرية في القوات المسلحة على جميع الرجال، والحق أن العقول، حتى في البلاد الدمقراطية، لم تفارقها بعدُ العقيدة القديمة، وهي أن الخدمة العسكرية أسمى الواجبات الوطنية.
أما العلاقات بين الدول فلم يكن هناك مفر من أن يؤثِّر فيها تقدُّم الحكم الدمقراطي، حتى وإنْ كان هذا التأثير غير مقصود بالذات، ذلك أن عامة الشعب إنما يهتمُّون بالمَطعَم والمَلبَس أكثر من اهتمامهم بالمجد والشهرة؛ وما ذلك إلا لأن معظمهم ممن يعملون بأيديهم، وأن أغلبيتهم الساحقة ممن يكسبون قُوتَهم بعَرَق جَبِينهم، وأن المجد والشهرة من الأغراض الخيالية التي تَسعَى إليها الطبقات العليا المستريحة، التي لا يُضطَرُّ أفرادها إلى العمل لكسب قُوتِهم، ومنشؤهما ذلك البهاء الروائي الذي يُحيط بالعادات القديمة، التي نَسِيَ الإنسان معناها الأصلي، وهما الدعامتان الأساسيتان اللتان تقوم عليهما شهرة القواد في الحروب، ومع أن من الممكن الاستعانة بدعوى الشرف القومي والعزة «القومية»، لتهيئة الشعب الكثير العدد لأن يعجب بالسطوة التي تجيء عن طريق النصر في ميدان القتال، فإن نظام الحكم الدمقراطي يظل غير صالح بطبيعته لإعداد عقول الشعب للحرب، وهذا هو منشأ القول الذي كان يتردد كثيرًا في القرن التاسع عشر، وهو أن «السلم» من المعاني التي ينطوي عليها لفظ الدمقراطية.
وكان المصلحون السياسيون ودُعاة حرية التجارة الأولون، يعتقدون أن السِّلْم سيكون هو النتيجة الطبيعية للحكم القائم على أساس حق الانتخاب الشعبي، ولكن يلوح أن السِّلْم لم يكن يُقصَد منه في ذلك الوقت إلا أن تَقِف إحدى الحكومات موقف الصداقة من حكومةٍ أخرى، أو أن يقف شعب من آخَر هذا الموقف؛ أي إنه كان مسألة عواطف أو مقاصد حسنة، ولم يكن مسألة نُظُم تُقام وخطط تُرسَم للوصول إلى هذا الغرض؛ ولهذا ظلَّتِ النظم القديمة قائمة منتشرة وإن كان الحكم الدمقراطي يُناصِر «السلم».
يضاف إلى هذا أن التجار وغيرهم من أصحاب الأعمال، كانوا ينقلون محصولات أوروبا ونفوذها إلى آسيا وأفريقية، وإن لم تكن هناك نظم أو هيئات حكومية تسد الثغرة الموجودة في علاقة الأمم والشعوب بعضها ببعض، واضطُرَّتِ الحكومات أن تسير في أثرهم، لا سيما الحكومات الدمقراطية التي انتشرت فيها النظم والأوضاع الصناعية الجديدة، وبذلك وجدتِ الدول «الدمقراطية»، وهي: بريطانيا العظمى وفرنسا وهولندة نفسها، قبل نهاية القرن التاسع عشر مضطرة إلى حكم شعوب خاضعة لسلطانها، فأخذ الاستعمار الحديث على عاتقه «العبء المُلقَى على كاهل الرجل الأبيض»، وأُقيم حكم الشعوب التابعة لغيرها بما فيها الشعوب التابعة للحكومات الدمقراطية على القوة، لا على رضاء المحكومين واختيارهم الحر، لكن الحقيقة أن المبادئ الدمقراطية لم يكن لها أثر في العلاقة بين الشعوب؛ ولذلك أسس الحكم الاستعماري، أو حكم الممتلكات الأجنبية، على النظام الاستبدادي القديم سواء أكان استبداديًّا عادلًا أم كان غير عادل. وكان من أثر إنشاء الإمبراطوريات والحمايات ومناطق النفوذ وغيرها من الأوضاع، أن قَوِيَتِ المنافسة القديمة بين الدول، التي كانت كلٌّ منها تَعُدُّ نفسَها مساوية في السيادة للأخرى، وقد جرَّ النزاع المقنَّع القائم بين هذه الدول للسيطرة على الأقطار المملوكة لها إلى الحرب العلنية في بعض الأحيان، ولم يكن يوجد في الحقيقة مبدأ يُرجَع إليه للتوفيق بين مطالب الحكومات المتنافسة غير النزاع والحرب.
والسبب في ذلك أن العلاقة بين الشعوب لم تكن تُعَدُّ في وقتٍ من الأوقات، من المشاكل التي تُعنَى بها الدمقراطية، ويلوح أن كبار المفكِّرين كانوا يَدْعون إما إلى العزلة الكاملة، أو إلى تقسيم العالم إلى عددٍ لا حصر له من الحكومات الصغيرة المنفصلة، وتلك هي الفوضى بعينها ونتيجتها الحرب لا محالة.
٢
لقد شرحنا في غير هذا المكان نظام العصبة شرحًا وافيًا، وذكرنا الواجبات التي يفرضها عهدها، وحسْبُنا هنا أن نشرح العلاقة بين هذا النظام وبين الدمقراطية؛ لأنه هو أحدث النتائج التي وصل إليها تقدُّم النظام الدمقراطي في الناحية الدولية، وكان طبيعيًّا ومحتومًا أن يقوم هذا النظام أو ما يشبهه، في الوقت الذي وضعت فيه الدولة تحت سيطرة كثرة أهلها العاديين، لكن تجارب الحرب العظمى وأهوالها، كانت هي الباعث الحقيقي على إقامة نظم سياسية جديدة تُعنَى بالعلاقات بين الدول.
٣
وأول ما نذكره عن عصبة الأمم، أنها هي النتيجة الطبيعية لنمو الدمقراطية في فن الحكم، ونقول بعد ذلك إن العصبة لا تستطيع أن تقوم بواجبها مطلقًا، إلا إذا كانت أعظم الدول المنضمة إليها، إن لم تكن كلها، دولًا دمقراطية، فأما أثر الدمقراطية في العلاقات القائمة بين الحكومات أو الشعوب المنقسمة إلى دول منفصلة، فقد أشرنا إليه من قبل، فقلنا إن الاتجاه العام في النظم الدمقراطية هو التحقير من مجد الحرب والشك في نفعها، ولكن المسألة ليست مسألة مَيْل الشعب أو عاطفته فحسب، بل إن طبيعة الحكم كلها في الدمقراطية تؤدي إلى تبديل نشاط الدولة القديم بأكمله، إذ تُعلِي من قدْر الخدمات التي تؤدِّيها، وتصغِّر من شأن السلطان والقوة التي تفرضها على شعبها، لقد كان تنظيم السلطة والقوة العسكرية من الأعمال التي تقوم بها أبسط أشكال الحكم الذي يشرف عليه الملوك، أما ماء الشرب الصالح ومجاري المدن؛ فهي من الأمور التي ترى الحكومات الاستبدادية أنها أحقر من أن توجِّه إليها الكثير من عنايتها، وأخص خصائص المجتمعات السابقة لعهد الدمقراطية هو الأمر والطاعة، وكان المعنى الذي يُفهَم من القانون في ذلك العهد، وهو أنه أمر أو نهي يتبعه «عقاب»، والمعنى الذي يُفهَم من لفظَيِ السيادة والسلطان، كلاهما يمكن الانتفاع به في الحرب، أما إصلاح نظام الصحة والتربية فلا أهمية فيه للسلطان والسيادة، وكلما عُني بتنظيم الدولة على أنها هيئة للخدمة العامة، الغرض منها ترقية شئون الحياة المتمدينة العادية، قلَّتْ أهمية القوة وقلَّ استخدامها في أغراضها؛ ولهذا تعمل الدمقراطية التي تُعنَى بالخدمات العامة، على جعل الدولة هيئة منظمة للعمل في سبيل المصلحة العامة، أكثر مما تجعلها معسكرًا مسلَّحًا أو عصابة من اللصوص وقُطَّاع الطرق.
كذلك لا يستطيع مجتمعٌ من المجتمعات في هذا العالم الحاضر، الذي تتبادل دُوَله المتاجر الواسعة، والذي سهلت فيه سُبُل الاتصال وعمَّتْ جميع الأرجاء، لا يستطيع مجتمع من هذه المجتمعات أن يَحيَا حياة راقية من الوجهة المادية أو المعنوية، إلا إذا كانت حكومته تساعد غيرها من الحكومات، التي تعمل لهذه الغاية نفسها، وتتلقَّى منها المساعدة، فالفرنسيون مثلًا ينجون من الأوبئة وتُتاح لهم الفُرَص؛ لكي يُمتِّعوا أنفسهم بأنواع المسرات المختلفة والأفكار المستحدثة، إذا كانت الحكومات التي تعمل لهذه الغاية في بلاد الإنجليز والألمان، تقدم المساعدات للفرنسيين عن طريق حكومتهم، وليس هذا التعاون بين الحكومات قائمًا على العواطف أو الرغبة في إيثار الغير على النفس، بل يحتِّمه العقل والإدراك العادي، فالإدراك العادي الذي أنشأ في داخل الدولة نظام الحكم الدمقراطي، هو نفسه الذي يدفعها بطبيعته إلى أن توجه عنايتها في الخارج إلى نواحي النشاط الودي لا الحربي، وعلى العموم إن الدولة التي تقوم بما يجب عليها لأبنائها، من العناية بأحوالهم الصحية والتعليمية والتجارية والمالية، لا تستطيع أن تضطلع بهذه الواجبات إلا بمعاونة غيرها من الدول، وهذا التعاون يحتاج إلى تنظيم، والتعاون المنظم بين الدول هو السلم الحقيقي، فالسلم الذي نقصده إذن نظام موضوع وخطة مرسومة، وليس مجرد عاطفة، وهو عاملٌ جديد لم يكن له من قبلُ وجود في فنِّ الحكم، وليس اجتناب الحرب كل ما فيه، وإنما هو نظام دولي إيجابي يربط كثيرًا من الدول بعضها ببعض.
ثم إن الدمقراطية تَمِيل بطبيعتها إلى حلِّ المشاكل الداخلية في الدولة، عن طريق المناقشة لا عن طريق العنف، حتى إن التغييرات الأساسية في الحقوق القانونية، تتم في البلاد الدمقراطية عن طريق المناقشة بين ذَوِي الآراء المتعارِضة؛ أي إن المحافظة على الحقوق القائمة والاعتراف بالحقوق الجديدة، كلاهما قد رُوعي في النظام الدمقراطي من غير أن يلجأ الذين يتأثَّرون به إلى العنف والقوة، ولا يبرِّر النظام الدمقراطي استعمال القوة إلا للسلطات العامة، التي لا تنتمي إلى أحد الطرفين المتنازعين، والتي يُلجَأ إليها لمنع أحد الطرفين من أن يستخدم القوة لمصلحته، وحتى إذا لجأتِ الدمقراطية إلى القوة، فإن هذه القوة ليست هي الأساس الذي يقوم عليه سلطانها، وينتج من ذلك بطبيعة الحال أن المبادئ الدمقراطية تحرِّم على الدولة، أن تستخدم القوة في علاقتها بالدول الأخرى لتمنع الاعتداء على حقوقها؛ أو لتؤيد بها حكمها الخاص على مطالبها، بل إن الفرد في الدولة الدمقراطية لا حق له في استخدام القوة للدفاع عن النفس، إلا بفرض أنه نائب عن رجل الشرطة، أو على أنه يقوم بواجبٍ عمومي، ولا يحق له مطلقًا أن يقدِّر بنفسه أن حياته كانت مهددة بالخطر، إلا إذا استطاع أن يُثبِت ذلك للقضاء فيما بعدُ، وينتج من هذا أن المبدأ الدمقراطي يحتم على الدولة في علاقاتها بالدول الأخرى، أن تؤيد مطالبها بالحجة والمناقشة لا بالقوة والعنف، وألَّا تستخدم القوة لمنفعتها الخاصة بل للدفاع عن النظام الدولي، وفي هذا إنكار «لحق» الدولة التقليدي، في أن تتخذ الحرب أداة من أدوات السياسة القومية، وإذ كانت الحرب نظامًا عريقًا في القِدَم، تؤيِّده كثير من العواطف الخاطئة والكذب الروائي والمصالح الشخصية والمالية المتعددة، فإن مجرد إنكار «حق» الدولة القديمة في أن تلجأ إلى الحرب، لا يحتمل أن يقلِّل من خطر الحرب في المستقبل، لكن الدمقراطية مع ذلك لا تقاوم الحرب على أساس العاطفة فحسب، بل تقاومها أيضًا على أساس المبدأ؛ لأن الحرب والدمقراطية ضدان لا يتفقان.
وينتج من هذا أن السلم في النظام الدمقراطي، يحتاج إلى هيئات تنظم العلاقة بين الدول على أساسٍ ثابت دائم؛ أي إنه لا بد من وجود وسيلة عملية تمكِّن الدُّوَل من أن تعمل مجتمعة للأغراض العامة، التي تسعى لها جميع الحكومات الحديثة كالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية بوجهٍ عام، ولا بد أيضًا من وجود نظام مقرر لمعالجة ما يقوم من النزاع بين الحكومات، بوسائل المناقشة والتوفيق والتراضي بدل الالتجاء إلى الحرب، وكل نظام للحكم في أية دولة من الدول الحديثة، لم توجد فيه هذه النظم والخطط السياسية، التي تستلزمها بطبيعتها لمعالجة الشئون الخارجية أو الأجنبية، لا يُعَدُّ نظامًا دمقراطيًّا كاملًا من هذه الوجهة، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن نظام عصبة الأمم القائم الآن أو ما يُشبِهه، هو نظام طبيعي يحتم وجوده نظام الحكم الدمقراطي، ولو لم يوجد هذا النظام لكان علينا أن نُوجِده، لنَصِل به إلى الأغراض التي يقوم من أجلها نظام الحكم الحديث، إن في مقدورنا بغير نظام العصبة أن نحصل على أسلاب الحرب، وأن نحصل على ما هو أعظم من ذلك، على الشرف والهيبة اللذين تجدهما العقول الساذجة في الحرب؛ أيْ أنْ نعيش في عالم العصور الوسطى الهمجي، بل إن في مقدورنا بغير العصبة أن ننال «السلم»، إذا كان معنى السلم هو الفترات التي تكون بين الحروب، أما السلم الحقيقي والحياة التمدنية في الظروف الحاضرة، فلا يمكن وجودهما إلا مع وجود هيئة دولية منظِّمة، والعصبة أول علامة من علامات هذا النظام، ولا يُعَدُّ أيُّ نظام من نُظُم الحكم «دمقراطيًّا» بحق، إلَّا إذا ارتبط مع غيره بهيئة سياسية، تؤدِّي تلك الخدمات التي تؤدِّي بعضها على الأقل عصبة الأمم الحالية، وعلى هذا فكل حكومة تعمل للمُثُل الدمقراطية العليا، لا بد أن تكون حكومة منظمة تنظيمًا لا يقتصر أثره على الشئون الداخلية، بل يتعدَّاه إلى الأغراض العامة الدولية.
٤
لكن نظامًا كنظام العصبة لا يستطيع أن يقوم بما يجب عليه، إلا إذا كانت أعظم الدول المشتركة فيه دولًا دمقراطية؛ لأنها إن لم تكن كذلك فإن النظام الآخر الوحيد المستطاع عمليًّا هو الدكتاتورية؛ إذ إننا لا نعتقد أن حق الملوك الإلهي يمكن أن يعود إلى الظهور، ويتخذ أساسًا للحكم في أي بلدٍ من البلاد، فالدكتاتورية إذن هي النظام العملي الوحيد الذي يمكن أن يحلَّ محلَّ الدمقراطية؛ ولهذا سنقصر بحثنا هنا على العلاقات الخارجية أو الأجنبية للدولة في ظل الدكتاتورية، وأول ما نذكره هنا أن المعلومات التي تصل إلى الدولة الدكتاتورية من الخارج، وكذلك آراء النقاد الأجانب في سياستها الحكومية، كل ذلك تُفرَض عليه الرقابة أو يُمنَع منعًا باتًّا، أما الجمعيات الدولية الاختيارية فيُضيَّق عليها الخناق، إن لم تحرِّم الدولة الدكتاتورية على رعاياها الانضمام إليها؛ ولهذا لا يمكن أن ينمو في الدولة الدكتاتورية رأيٌ عامٌّ، يشترك فيه رعاياها مع رعايا الدول الأخرى، هذه هي النقطة الأولى في بحثنا، وأما الثانية؛ فهي أن الدكتاتوريات تُعِدُّ رعاياها للحرب إعدادًا عمليًّا إن لم يكن نظريًّا؛ ذلك بأن السلم ليس من طبيعة الدكتاتورية، وحتى إذا رغب الدكتاتور فيما يسمِّيه «سلمًا»، فإن الاستعداد للحرب نظام صالح يعد به الناس إلى الأغراض الأخرى، والنقطة الثالثة، وقد سبق أن ذكرناها من قبلُ، هي أن كل دكتاتورية تعتمد على الحزب الذي يتولَّى زمام السلطة، تُعَدُّ القوة أداة طبيعية، بل أداة مرغوبًا فيها من أدوات السياسة، فهي لهذا تميل بطبيعتها إلى الحرب، ويؤيد هذه الرغبة اللاشعورية في الكفاح فلسفة جبرية، تقول: إن لبعض الأمم أو الطبقات حقًّا طبيعيًّا محتومًا في البقاء.
أما الحكومة الدمقراطية فإنها تسمح لكل الآراء الخارجية أن تصل إلى رعاياها، وتجيز أن يأتلف كل ذي مبدأ فيها مع مَن يعتنق مبدأه في دولةٍ أخرى، وترحِّب بمناقشة سياستها الخارجية ومعارضتها، وهل رأيتَ غير الدمقراطية حكومة تُجِيز بالفعل الدعوة إلى السلم، بل تُجيز ما هو أبعد من ذلك، تُجيز المبدأ المتطرف القائل بعدم مقاومة الاعتداء بمثله، وبذلك تهيئ العادات والأوضاع الدمقراطية جوًّا عامًّا معاديًا للحرب، على أن الحكومة الدمقراطية تساعد على السلم الحقيقي، لسببٍ أكثر من هذا جلاءً ووضوحًا، وهو أن أغراضها الكبرى لا يمكن تحقيقها إلا بالطرق والأنظمة الدولية، وهذه الأغراض هي تحقيق الرغبات العامة للشعب رجاله ونسائه، وليست هذه الرغبات مقصورة على الطعام والشراب، بل تشمل أيضًا اطمئنان العقل والثقة بالمستقبل، وغيرهما من الأغراض التي تَسعَى لتحقيقها عصبة الأمم، فهي إذن لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة، إلا إذا كان عدد كبير من الدول التي تؤيِّدها دولًا دمقراطية، إن في الإمكان إنشاء عصبة من الدول الفاشية أو الشيوعية، ولكنها إذا أُنشئت لا تنشأ للأغراض التي ترمي إليها العصبة الحاضرة؛ لأن الحكومات الدمقراطية وحدَها، هي التي في مقدورها أن تسير العصبة القائمة الآن في الطريق الذي رسم لها من قبلُ.
على أننا لا نقصد بهذا كله أن أية حكومة من الحكومات القائمة بالأمر في هذه الأيام، تعمل مُخلِصة كل الإخلاص لإقامة صرح السلم المنظم، بل الحق أننا لا نزال في منتصف الطريق بين الهمجية والمدنية في جميع الشئون الدولية، ولا نزال كلنا حتى الذين يَرَوْن منَّا إمكان تغلُّب المدنية على الهمجية، نَخشَى خطر الانتكاس والعودة إلى الهمجية إذا ما دعا داعي القوة، حين تتعارض مصالح الدول، ويزيد من خطورة الموقف أن الدول جميعها، لا فرق بين الدمقراطية منها وغير الدمقراطية، مدجَّجة بالسلاح من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، ومع أن نُظُم السلم قد أُقيمت قواعدها على سبيل التجربة والاختبار، فإن سياسة السلم لا يكاد يفهمها أحد حتى الساسة المسئولون، ولما كان معظم أعضاء المجالس النيابية الدمقراطية أو البرلمانات على اختلاف أحزابهم يجهلون المشاكل الدولية، فإن هذه المشاكل تُحَلُّ باستثارة الأهواء والأحقاد القديمة، وإذا ما جاء وقت الانتخابات رأيتَ الناخبين كلهم يعارضون الحرب، ولكن قَلَّ منهم مَن يُعنَى أقل عناية بتغيير النظم القائمة أو السياسة المتبعة وتوجيهها وجهة سلمية، وليس في الشعور بسيئات الحرب والهتاف للسلم من فائدة، إلا بقدر ما كان من فائدة لشعور الناس في القرن الماضي بأن الهيضة وباء يجب القضاء عليه، إن مثل هذه العواطف لا تُجدي نفعًا إلا إذا أَوْحَتْ إلى الناس بخطةٍ للعمل مرسومة محددة، لكن الخطط العملية التي ترمي إلى التخلص من الحرب وتنظيم السلم الحقيقي، لا بد أن تحدث الاضطراب في بعض النظم القديمة الجليلة الشأن، كما فعلت من قبل مشروعات المجاري وإيصال المياه الصالحة إلى المدن، فتخفيض السلاح مثلًا أو الإشراف على تجارة الأسلحة والعدد الحربية، سوف لا يجعلان لأمةٍ من الأمم «أعظم أسطول» أو «أكبر جيش»، ولا يبقيان لأمةٍ من الأمم قواها المسلحة القديمة وكلمتها النافذة في خارج بلادها، وذلك ما لا تستطيع أغلبية الأمم أن تَقْبَله؛ ولذلك تراها تفعل كل شيء لمصلحة السلم، إلا الشيء الذي لا بد من فعله، ومن هذا يتضح أن مبادئ الدمقراطية التي تُقيم الحقوق على أساس المناقشة والاتفاق، لا على أساس القوة والبطش، لا تطبق تطبيقًا عمليًّا في علاقة الدول بعضها ببعض، بل إن نظم السلام نفسها كعصبة الأمم مثلًا، التي نشأت وبقيت تساندها الدول الدمقراطية، إن هذه النظم لا ينتفع بها الانتفاع الواجب.
٥
قلنا إن نظم السلم الإنشائي وسياسته هي النظم، وهي السياسة التي تتفق مع طبيعة الحكم الدمقراطي، وبقِيَ أن نرى الأثر الذي ينتج من تطبيق المبادئ الدمقراطية على الحكم القائم في العالم في الوقت الحاضر، نقصد على جزئه الخاص بالعلاقة بين الشعوب المختلفة في الجنس والقومية، وسنتخذ أساس بحثنا أن الغرض المقصود من الحكم، أن يمكن جميع الرجال والنساء من أن يعملوا بوسيلةٍ ما لتحصيل الخير، الذي يشتركون في الانتفاع به، وأن الكفايات الاستثنائية لا تُجيز انتزاع أزمة الحكم جميعها من أيدي عامة الشعب، ولا تبرر مطلقًا تكديس المنافع الخاصة لذوي الكفايات الاستثنائية، وسنفرض أيضًا أن النظم التي تستخدم للوصول إلى هذا الغرض تستلزم مناقشة الآراء المعارضة علنًا، ونقد ولاة الأمور وعزلهم طوعًا لإرادة الأغلبية، ولكن يجب ألَّا نستنتج من هذه الفروض أن الدمقراطية ينبني عليها اعتبار العالم كله وطنًا واحدًا، أو إيجاد حكومة واحدة له تقوم بالأمر فيه بدل الحكومات «القومية»، وعلى هذا الأساس تكون الخطوة الأولى، هي جعل الحكومة «القومية» مسئولة عن سياستها الخارجية، كما هي مسئولة عن سياستها الداخلية، وهذا يستلزم وجود نظم مختلطة أو دولية من نوع «النظم التعاهدية»، كما يستلزم أيضًا ألَّا تكون سيادة شعب ما عبارة عن سلطة مُطلَقة له خارجة عن القانون أو فوق سلطانه، بل تعني مسئوليته عن العمل الذي تتأثر به الشعوب الأخرى.
وبتطبيق هذا المبدأ على العلاقة القائمة بين المجتمعات المنظمة تنظيمًا راقيًا من جهة، والمجتمعات الساذجة النظم من جهةٍ أخرى؛ أي على حكم «المستعمرات»، نرى أن لا بد من توسيع دائرة نظام الانتداب الذي ينص عليه عهد عصبة الأمم، حتى تصبح كل حكومة «دمقراطية» تشرف على مجتمعٍ أقل من أهلها رقيًّا، مسئولة عن هذا الإشراف إلى حدٍّ ما أمام هيئة من الرأي العام أكبر من أهل بلدها، إن «الأمانة المقدسة» التي قيل إن عهد الانتداب يتضمنها واجب يؤدَّى لشعوب العالم قاطبة، والغرض الذي يرمي إليه هو رد هذه الأمانة إلى أهلها، بعدَ أن ينجح حاملها في إبراء ذمته منها، ويصبح وجوده لا داعي له، كذلك يجب أن تكون الحكومات المشرفة على أقطار غير مستقلة، ذات موارد طبيعية مسئولة عن كيفية استخدامها هذه الموارد أمام أناس من غير أهلها، ومِلَاك القول أن مبادئ الدمقراطية تستلزم وجود نظم وسياسة في الميدان الذي يكاد يكون غير مطروق، تحل محل الحرب الوحشية والقوة الغاشمة.
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى العلاقات بين المجتمعات المتساوية في الرقي والنظام، وجب أن تكون جميع الخطط السياسية المتبعة فيها نتيجة للمفاوضة والتوفيق بينها، فإذا لم تؤدِّ هذه إلى الغرض المطلوب، وجب أن تقرر هذه الخطط ويُفصَل فيها قضائيًّا على يد محكمة تنشأ لهذا الغرض، وهذا إذا تم يقضي على كل حجة يُتذرَّع بها لامتشاق الحسام، ويجعل القانون العام لا يعترف لدولةٍ من الدول بحق تدَّعِيه، إذا كانت قد حصلت عليه بإرادتها هي معتمدة على قوتها، أما المشاكل التي تقوم بين الدول بعضها وبعض، فإنها عند ذلك تُبحَث وتُسوَّى، كما تُسوَّى المشاكل التي تقوم بين الأفراد في إحدى الدول الحديثة، فالنظام المقترح إذن لا يخضع حكومات العالم لإرادة حكومة واحدة عالمية، بل يجعلها تقيم مجتمعة سلطة قضائية تخضع كلها لها.
فإذا رفضتْ إحدى الحكومات أن تنصاع إلى حكم القانون، أرغمتْها على ذلك سائر الحكومات بالقوة أو الضغط المختلف الأنواع، كالذي ينص عليه ميثاق العصبة، ولكن من المُسلَّم به أنه ما من حكومةٍ اعترفتْ صراحة بوجوب الخضوع لرأي المحكمة، وأباحت لأبنائها أن ينتقدوها؛ أي كان الحكم القائم فيها دمقراطيًّا حقيقيًّا، ما من حكومةٍ من هذا النوع تستطيع أن تنكث عهدها، من غير أن تعرِّض نفسها لثورة الشعب عليها، وليس من المستطاع إنشاء ما يسمِّيه البعض «شرطة دولية»، إلا إذا سبق إنشاءَها اعترافُ دول العالم بسيادة القانون، وإذا ما بلغتِ الدول هذا الحدَّ، أصبح استخدام قوة الشرطة ضد الحكومات الدمقراطية لا ضرورة له، أما غير الدمقراطية منها فلا يحتمل أن تقيِّد نفسها بواجب عرض جميع مطالبها على محكمةٍ عليا؛ وذلك للأسباب التي شرحناها من قبل، والتي تدل على نزعة جميع الدكتاتوريات للحرب.
وآخِر ما نذكره في هذا الفصل أن السلم الإنشائي، وهو التعاون في سبيل الحياة المتحضرة، والذي لا يقتصر على تجنب أسباب الحرب، يستلزم أن يعود إلى عمل الناس العادي رجالهم ونسائهم ما كان له من الشرف والقدر، ونقصد بعملهم العادي إنتاج السلع وأداء الخدمات اللازمة للحياة العادية، وبذلك يمتنع الناس عن تمجيد المحاربين والإشادة بذكرهم في كل دولة من الدول، وينظرون نظرة أكثر رقيًّا وحضارة من ذي قبل إلى عمال السكك الحديدية والنساجين وكَتَبة المَصارف، الذين يقف على عملهم اليومي نجاح السياسة التي تعمل بالتدريج على إطالة الحياة البشرية وتحسين نوعها، فلا نعود بعدئذٍ تطرق آذاننا الخطب القديمة بألفاظها الطنانة الرنانة، ألفاظ الموت في سبيل الوطن، التي تخفي الغرض الحقيقي الذي يرمي إليه رجال الحرب، وهو قتل الأنفس في سبيل الوطن، ويحل محل هذا النداء حماس أقل منه همجية ووحشية.
ويناقضه المذهب الاشتراكي الذي يقول إن على الحكومة أن تقوم بكل عمل، لا يستطيع الأفراد أن يقوموا به، أو يُحسِنوا القيام به، وهم طائفتان؛ الاشتراكيون المعتدلون ومذهبهم يرمي إلى إزالة المساوئ، التي أوجدتْها الرأسمالية؛ لكي تتحسن حال العامل، وذلك عن طريق التشريع، والشيوعيون ومذهبهم يرمي إلى انتزاع كل موارد الثروة وجعلها ملكًا عامًّا للأمة، وإشراف الدولة ممثلة في الحكومة على جميع المرافق العامة. (المُعرِّب)