الروح الدمقراطي
إن كل ما سمَّيْناه «دمقراطيًّا» في هذا الكتاب جديد في تاريخ الحضارة، وقد نشأت النظم الدمقراطية والمُثُل الدمقراطية العليا وسط عادات ومعتقدات قديمة، ولا يزال بعضها باقيًا مستترًا يعترض كل رقي جديد، ولا تزال توجد فضلًا عن السياسة والخطط الصناعية تيارات خفية من الإحساسات والمشاعر، يصعب معها أن تتقدم الدمقراطية، ومثال ذلك أن بعض أنواع الثقافة وطرق التربية تقاوم النزعة إلى المساواة في السياسة، وإلى الحرية في الأعمال الصناعية، مقاومة لا يكاد يشعر بها أنصارهما؛ لذلك كان أصعب المشاكل التي تواجهها الدمقراطية، هو «الجو» الاجتماعي السائد في المجتمع الذي تقوم فيه النظم الدمقراطية ومُثُلها العليا، وهذا الجو يَظهَر في طرق الحديث والعمل، وفيما بين الناس من فروقٍ اجتماعية واختلاف في الملبس والمسكن والأعمال، وهذه كلها تؤثر في السياسة والصناعة وتتأثر بهما كذلك، ولا يَخفَى أن الجو الاجتماعي السائد في مجتمعٍ ما يكاد يكون كله من عمل التربية، والحق أن عددًا من أصعب المشاكل في الدمقراطية الحديثة، قد نشأ من نظام التربية وطرائقها التي ورثها الجيل الحاضر عن المجتمعات السابقة لعهد الدمقراطية، فلا بد إذن من خلق جو اجتماعي دمقراطي في المدارس وغيرها من معاهد التربية القائمة في جميع المجتمعات، إذا أريد أن يكون للنظم الدمقراطية فيها أثر قوي فعَّال.
ولقد كان تقدُّم التربية الشعبية من أول بشائر الدمقراطية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك أن العمال في النظام الصناعي الجديد شعروا بحاجتهم إلى زيادة معلوماتهم، كما شعر البروتستنت الأولون بحاجتهم إلى أن يتعلَّموا قراءة الإنجيل؛ لكي يُصبِح الدِّين دمقراطيًّا، فأُنشئت لهذا الغرض مدارس «الصدقة»، التي كان يعينها الموسرون المحسنون؛ لكي تؤدِّي أغراضًا دينية، وكانت هذه المدارس هي «ومعاهد الصناع الآليين» ومجلات التربية الشعبية، كلها قوًى اختيارية تعمل في سبيل التربية الدمقراطية في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن النظام السياسي لم يتأثر بالمَثَل الأعلى الجديد، وهو إيجاد مجتمع أعضاؤه كلهم «متعلمون» إلى حدٍّ ما، إلا في العَقْد السابع والعقد الثامن من القرن التاسع عشر، عندما أخذتِ الدولة في بروسيا وفرنسا وإنجلترا على عاتقها واجب إنشاء المدارس لتعليم الشعب بأجمعه، وكذلك شَرَع وُلاة الأمور في البلاد الغربية لأول مرة في التاريخ يَعُدُّون العُدَّة لتعليم جميع النساء والرجال على السواء، وكان هذا العمل خطوة واسعة في سبيل إيجاد مجتمع متساوي الأفراد؛ ولذلك تُعَدُّ المدارس في الدول الغربية الحديثة جزءًا جوهريًّا من النظم الدمقراطية؛ لأن الغرض الذي أُنشئت من أجله أن يتعلَّم الشعب كله المبادئ العامة على الأقل، وأن يتساوى أفراد المجتمع رجالهم ونساؤهم في الفُرَص التي تُتاح لهم؛ ليتعلَّموا ويُدرِكوا الخير إدراك المتحضِّرين.
على أنه مهما تكن مقاصد الداعين الأولين إلى تعليم الشعب عامة، فإننا يجب أن ننظر إلى النتائج الطبيعية التي وصلوا إليها بالفعل، إننا إذا فعلنا ذلك خُيِّل إلَيْنا أن الروح الدمقراطي؛ أي إدراك الناس لمعنى المساواة الاجتماعية، وتوزيع الفراغ بين الناس جميعًا، والإخلاص للمصلحة العامة، لا يكاد يزيد اليوم في قوته في بعض البلاد، على ما كان عليه قبل أن يُعنَى بنشر التعليم العام؛ ولذلك يقول بعض الناس إن كل ما يرمي إليه النظام المدرسي الحاضر، هو أن يؤيد خضوع الأغلبية القديم لطبقة الأغنياء، ويقول البعض الآخر إننا إذا سلَّمنا بأن الغرض الذي يرمي إليه هذا النظام غرض دمقراطي، فإن الطرق التي يسير عليها طرق عقيمة، ليس هذا هو المكان الذي نَصِف فيه نظام التعليم الحاضر وصفًا مفصلًا، أو نحلِّل فيه جميع آثاره، لكن علينا أن نذكر، قبل كل شيء، أن نسبة الأمية قد نقصت بفضل النظم الدمقراطية، وليس أدلَّ على ذلك من أن نسبة الأميين الذين لا يستطيعون أن يقرءوا أو يكتبوا أية لغة من اللغات، لا تَقِلُّ عن ثمانين أو تسعين في المائة في البرازيل والهند، وأنها كانت قريبة جدًّا من هذا الحدِّ في الروسيا، قبل أن تستعين الدكتاتورية فيها بالنتائج التي رضيت بها الدمقراطية في النظام المدرسي، أما نسبة الأميين في فرنسا وبريطانيا العظمى والدول الأوروبية الصغرى، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ما خلا الولايات الجنوبية؛ أي في البلاد ذات الحكومات الدمقراطية، فهي قليلة جدًّا، وتلك نتيجة من نتائج التربية الشعبية لا نظير لها في التاريخ.
قد لا نكون في حاجةٍ إلى القول إن قدرة عامة الشعب على القراءة والكتابة، تنجيهم من هذر القول وفضوله، وتمكِّنهم من نقد مَن يتصدرون للزعامة أو يدَّعون الخبرة والمهارة، لكن الموقف كله موقف جديد، ولا شك في أن نتائج ما بُذل من الجهود حتى الآن، لم تحقق ما كان يُرجَى منها من الآمال؛ لأن في الطرق العملية التي سارت عليها نظم التربية عيوبًا خفية، منشؤها أن التربية، ونقصد بها هنا التعليم المدرسي، نشأت في مدنية الاسترقاق ونَمَتْ في مدنية الطبقات والعقائد الكنسية التحكمية، ولم يكن الغرض الذي ترمي إليه هو أن تفي بحاجات الزُّرَّاع وأصحاب الحِرَف، بل كانت غايتها أن تسدَّ حاجة طبقة صغيرة من «الأخصائيين» في داخل الهيئة الاجتماعية، وظلَّت حتى بعد أن أصبح الغرض منها أن تشمل جميع الطبقات في القرن التاسع عشر، تحمل في ثناياها جميع الفروض والعادات التي كانت تسود المجتمع العتيق، فاحتفظت بما كان يجب عليها أن تجتثَّه من أصوله، وتُثبت ما كان من واجبها أن تحطِّمه لتحلَّ مكانَه؛ ولكن هذا لم يحدث لأن «التربية» في حدِّ ذاتها قد أخفقت؛ بل لأن نوع التربية الخاص الذي اتُّبع لم يكن يصلح قط لإيجاد مَلَكة النقد والإحساس بالصالح العام، الذي يحرسه ويحافظ عليه أنداد متعاونون، وهذه المَلَكة وهذا الشعور لا غنى عنهما في السَّيْر نحو المَثَل الدمقراطي الأعلى، فلم تكن التربية في حد ذاتها إذن هي السبب في عجز المدارس عن تثبيت قواعد الدمقراطية، بل كان سبب ذلك العجز هو الجو الاجتماعي الفاسد، الذي لم تقوَ التربية على محْوِه وخلْق جوٍّ غيره.
والجو الاجتماعي الذي يُشاهَد في آداب أي مجتمع ومُثُله الأخلاقية العليا، هو المَظهَر الذي يعبَّر به عما يسود ذلك المجتمع من أفكارٍ وفروض، يسلِّم بها ولا يكاد يشعر بها، فتَحِيَّة السيدة بخلْع القبعة، والتسليم باليد عند التلاقي أو الافتراق، وسيلتان للتعبير عن الاحترام وعن المُثُل الاجتماعية للحياة المشتركة في بلاد الغرب، لكن أحدًا لا يفكر في المعاني التي تنطوي عليها هذه الصور من الآداب، وأهم من هذه الصور العبارات الشائعة على الألسنة، والتي ننطق بها من غير تفكيرٍ كثير، كتقسيم المجتمع إلى طبقاتٍ «عليا» و«وسطى» و«سفلى»، ومن العبارات الشائعة في اللغة الإنجليزية التفرقة بين الطبقة «المستريحة» والطبقة «العاملة»، وهي تفرقة تنطوي على معنًى غير دمقراطي في أساسه وجوهره، وليست الفروق بين الطبقات والمقاييس التقليدية التي تُقاس بها الثقافة، ناشئة كلها من الفوارق الاقتصادية في الداخل كما يعتقد بعض الناس، بل قد يكون منشؤها اختلاف الجنس ووسائل اللهو أو العقيدة الدينية، ومهما يكن هذا المنشأ فإن الذي لا شك فيه أن المجتمع الدمقراطي، لا يَقبَل أن ينقسم إلى طبقاتٍ كالتي نراها في المجتمعات الغربية، كما لا يَقبَل نظام الطبقات السائد في بلاد الهند.
وليستِ الأفكار التي تدلُّ عليها الآداب والتعبيرات التقليدية في وقتنا الحاضر، إلَّا أثرًا من آثار المدنيات السابقة، وإذا كان من عادة الناس أن يبقَى في عقولهم ما حدث في الماضي كأنما هو من طبيعة الأشياء، فإنهم ينظرون إلى الصور القديمة للمدنية كأنما هي المدنية نفسها، ويفترضون أنه لا يمكن وجود حضارة أو ثقافة، إلا إذا وُجدت الفوارق بين الطبقات «المستريحة» و«العاملة»، وقامت طبقة «عليا» من السادة والسيدات بوضع القواعد التي يجب أن يراعيها الناس في صِلاتهم الاجتماعية، والناس يَمِيلون إلى الاعتقاد بأن ما كان صحيحًا في الماضي، يظل صحيحًا في الحاضر مهما اختلفتِ الظروف، بل يميلون إلى ما هو أسوأ من هذا، فيَعُدُّون ما كان مجرد تقرير للواقع وصفًا لحالٍ مثالية، فيَقبَلون من حيث لا يشعرون العادات القديمة، ويتخذونها موازين يقدِّرون بها قيمة الحضارة الحديثة.
ولقد كان من نحس الطالع أن ارتبط لفظ الدمقراطية في أول الأمر بالحكم القائم في أثينا القديمة؛ حيث كان عدد كبير من مُلَّاك العبيد يسيطرون على النساء والرقيق، ويعتمدون عليهم في أداء الخدمات الأساسية اللازمة للمدنية؛ ولذلك أُطلِق لفظ الدمقراطية حتى في العصور الأخيرة على المجتمعات، إذا كان عدد كبير من أهلها الذكور الذين لهم حق الانتخاب يسيطرون على السياسة العامة، وإن بقي غيرهم من الذكور لا يشتركون في هذه السيطرة، وبقيت النساء كلهن ولا حظَّ لهن فيها، وبذلك كان أول مَن عرف أن روح المساواة والحرية أو جوهما روح طيب وجو صالح، هي تلك الفئات الصغيرة من الناس، التي نالت المساواة والحرية لأفرادها وحرَّمتْها على غيرهم، ولم تكن «الدمقراطية» الأثينية إلا تجربة أُجريت في ميدان ضيق محصور، وبقيت بضع سنين قليلة تستر وراءها مدنية استرقاقية، وكذلك كانت دمقراطيات المدن في العصور الوسطى، تجربة أُجريت في عالمٍ غريب عن هذه الدمقراطيات، ولا يمتُّ إليها بصِلة، ولا يزال النساء في فرنسا وغيرها من البلاد «اللاتينية» أو «الكاثوليكية»، محرومات حتى الآن من حق الاشتراك بأنفسهن في السلطة السياسية عن طريق الانتخاب، مع أن الناس يسمون هذه البلاد بلادًا «دمقراطية»، وأغرب من هذا أن أغلبية السُّود في الولايات الجنوبية من بلاد الولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكنهم أن يشتركوا بأنفسهم في الإشراف على السياسة العامة، مع أن المفروض أن دستور الولايات المتحدة هو خلاصة «الدمقراطية» العملية، لكن هذه الأمثلة التي ضربناها لبقاء الروح أو الجو غير الدمقراطي مستترًا وراء لفظ «الدمقراطية»، ليست إلا عجزًا وقصورًا مسلَّمًا بهما عن بلوغ المَثَل الدمقراطي الأعلى.
أما البلاد التي بقيت فيها مدنية الاسترقاق قائمة، ولكن بشكلٍ خفي غير واضح، فهي بريطانيا وما ماثلها من البلاد التي مَنَحَتْ جميع الراشدين من أهلها رجالًا ونساءً نصيبًا مباشرًا من السلطة السياسية، وسبب ذلك أن تقاليد «الحرية» التي قامت على أساسها إصلاحات القرن التاسع عشر تكاد تكون كلها تقاليد سياسية محضة، ولا يزال كثيرون يعتقدون جادِّين أن الناس جميعًا يتمتعون بالحرية والمساواة، إذا كان لكلٍّ منهم صوت في الانتخاب، وكثيرًا ما نسمعهم يقولون إن العامل يعيش في مجتمعٍ ذي نظم دمقراطية، إذا كان له الحق في أن يُعطِيَ صوتَه لأي شخص يختاره، والحق أننا لا ننكر كما قلنا من قبلُ أن تقرير حق الانتخاب كان خطوة إلى الأمام؛ لأن عامة الشعب استطاعت بفضله أن تُشرِف على تصريف السياسة العامة بعض الإشراف، ولكن جزءًا آخَر من تقاليد «الحرية» في القرن التاسع عشر لا يزال مناقضًا للدمقراطية كل المناقضة؛ لأنه يحتال على الاحتفاظ بعقائدٍ مدنية الاسترقاق بما يشبه المكر والخداع؛ إذ يفترض أن الكثرة الغالبة في المجتمع من طبقة «دنيا» وأن هذا «من طبيعة الأشياء».
وقد لا تكون المساواة في الحقوق السياسية في مجتمعٍ يفترض أن الثقافة والمدنية تتطلبان وجود طبقة «عليا»، إلا وسيلة للاحتفاظ بعدم المساواة في المركز الاجتماعي والواجبات الاجتماعية، أليس المعنى العملي الذي يُفهَم من القول الحر المأثور وهو «المستقبل المفتوح للمواهب»، أن الفرصة سانحة لكل فردٍ من أفراد الطبقة «الدنيا»، أن يترك طبقته ويرقى إلى أخرى أسمى منها؟ نعم، إن هذه العبارة كان يُقصَد بها في أول الأمر، أن المؤهلات الشخصية هي التي يجب أن تَرفَع الإنسان إلى السلطة والمكانة الاجتماعية، بصرف النظر عن الصلات العائلية أو غيرها من الامتيازات، ولم يكن في هذا اللفظ أية إشارة إلى الفروق بين الطبقات الاجتماعية، لكن الذي حدث بالفعل أن الطبقات الاجتماعية، قد بقيت بطريقةٍ تكاد تكون لا شعورية، حينما مُنح الأعضاء النابهون من الطبقتين الدنيا والوسطى المركز الاجتماعي الذي لا تَزَال تحتفظ به طبقة «عليا»، وإذا ما انتُزع من طبقة «العمال» أنشط أعضائها وأكثرهم جدًّا وضُمُّوا إلى طبقة أرقى منها، أصبحتْ طبقة العمال بعد انتزاعهم منها أكثر عجزًا وأقلَّ ناصرًا مما كانت عليه من قبلُ، وكانت النتيجة وجود مجتمع بعيدٍ كلَّ البُعْد عن الدمقراطية بسبب استعمال عبارة مبهمة غامضة، واتباع طريقة جديدة لتثبيت الفروق القديمة بين الناس وتقسيمهم إلى «أعلى» و«أسفل»، يُضاف إلى هذا أن الجزاء الذي تَمْنَحه تقاليد الحرية للأفراد الموهوبين جزاء اقتصادي في الغالب، ذلك أن أفراد الطبقة العليا كانوا ينعمون بإيرادٍ شخصي كبير، وكان أطفال الفقراء يتطلعون بطبيعة الحال إلى تحسين مأكلهم وملبسهم، والآباء من الطبقتين «الوسطى» و«السفلى» يتوقون إلى أن يُصبِح أبناؤهم مطمئنين على أنفسهم من الوجهة الاقتصادية، إن لم يكونوا يرجون لهم عيشًا رضيًّا هنيئًا، لكن الجزاء الاقتصادي لم يكن هو خير ما يُجازَى به صاحب المواهب الممتازة، بل كان هذا الجزاء هو إعجاب أعضاء المجتمع بآداب الشخص الراقي وسلوكه، وليس هذا الإعجاب إلا إفصاحًا صريحًا عمَّا يعتقده هؤلاء المعجبون، من أن الحضارة والثقافة مِلْك لرجال الطبقة الراقية ونسائها.
ولعل أوضح ما يُفصِح عن هذه العقيدة، هو طرق التربية في بعض الأقطار ونظامها التقليدي؛ ذلك بأن المدارس هي الوسيلة التي يُعِدُّ بها مجتمع اليوم الجيلَ الجديد، الذي سيضطلع بالخدمات العامة وينعم بمُتَع الحياة المشتركة؛ أي إنها هي الوسيلة لتكوين المجتمع المُقبِل، وليس المدرسون هم الذين يخلقون المُثُل الاجتماعية العليا ويطبقون المقاييس الاجتماعية، بل هم المعبِّرون عن أفكار الراشدين في المجتمع الذي يعيشون فيه، سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا به، ولقد نشأ نظام التربية السائد في وقتنا الحاضر وطرقها قبل أن يفكر الناس في الدمقراطية.
لكن النظام المدرسي في بعض البلاد ذات الحكم الدمقراطي لا يقسم المجتمع هذا التقسيم، ففي فرنسا كلها وفي بعض أجزاء من الولايات المتحدة مثلًا، يتلقَّى العلم أبناء الأغنياء والفقراء والتجار والصناع اليدويين جنبًا إلى جنب في مدارس الدولة، وقد أدَّى هذا إلى وجود مجتمع أقرب إلى الدمقراطية الصحيحة من نظيره في بريطانيا العظمى، فالتجارب الفعلية إذن لا النظريات وحدها تدل دلالة واضحة على أن وجود نظام مدرسي واحد لجميع أبناء الشعب أمر لا بد منه لقيام الدمقراطية، وليس سبب ذلك أن هذا النظام المدرسي يؤثر أقل تأثير في حق الانتخاب أو غيره من الحقوق السياسية، أو أن له أثرًا كبيرًا في اختلاف موارد الناس المالية، بل سببه أننا لا نستطيع أن نُنقِذ المجتمع من المقاييس الأخلاقية والأفكار التي يتصورها الناس عن الحياة المتمدينة، والتي ورثوها عن مدينة الاسترقاق القديمة، إلا إذا كان النظام المدرسي واحدًا لجميع أبناء الشعب، وبغير هذا لا يمكن أن تكون الآداب والأخلاق التي نُعجَب بها واحدة في المجتمع كله؛ أي إنه لا يمكن بغير هذا أن يُساهم كل شخص في إيجاد هذه الثقافة المقررة، بقدر ما يساهم في ذلك غيره، ويجني من فوائدها ما يجنيه سواه من غير زيادة ولا نقصان.
على أن هذا النظام المدرسي الذي يسوِّي في التعليم بين جميع أفراد المجتمع، لا يمكنه أن ينمِّي الدمقراطية إذا ظلت طرق التربية فيه هي الطرق التقليدية المُتَّبَعة الآن، ولا يَخفَى أن طرق التربية السائدة في فرنسا وفي بريطانيا العظمى هي بعينها الطرق التقليدية، لتعليم طبقة من الطبقات في مجتمعٍ غير دمقراطي، إن القاعدة الأساسية التي تقوم عليها هذه الطرق هي تعليم القراءة والكتابة؛ ولذلك فإن التربية النفسية مثلًا تجعل دمقراطية تلك البلاد دمقراطية «كَتَبة»، ويُخيَّل إلينا أن هذه الطرق تبعث في الفرنسيين كما تبعث في غيرهم شيئًا من الاحتقار الخَفِي للأعمال اليدوية، ولا يفترض في المدارس أن تعلم الناس كيف يحرثون الأرض أو يستخدمون الآلات، ولو أنها أرادت أن تفعل ذلك لما وجدت إلا القليل من المدرسين الذين يصلحون للقيام بهذه المهمة، وبذلك ينشأ الأطفال الذين سيعملون في المستقبل بأيديهم على احتقار العمل اليدوي، ويَرَوْن في القيام به استعبادًا لهم وامتهانًا لكرامتهم، وتفترض هذه النظم التعليمية التقليدية أن الإنسان لا يعمل بيده إلا إذا أُرغِم على ذلك إرغامًا؛ أي عمل كما يعمل العبد الذليل، وآخِر مَظهَر ظهر به هذا التفكير العتيق البالي في معنى الثقافة، هو الطعن المر الذي يوجِّهه إلى ملاحظة الآلات والإشراف عليها كُتَّاب خياليون لم يدخلوا في حياتهم مصنعًا، ولا يستطيعون أن يشرفوا على آلةٍ من الآلات، وذلك مظهر غاية في السخف والغرابة؛ لأن أصحابه يتطلَّبون منَّا أن نحترم المِعوَل والمجرفة ونحقر الكراكة والآلة البخارية، وليس هذا إلا بقية من أفكار الثقافة الاسترقاقية القديمة، التي ترتاب في كل ما هو نافع، لسنا ننكر أن من الاستعباد أن يُرغَم الرجل أو المرأة على العمل زمنًا طويلًا أمام الآلات الكبيرة، ولكن الناس كانوا أيضًا يُستعبَدون حين يشتغلون بالمعاول والمجارف، وليس شيء أسخف من الاعتقاد أن العُدَد الساذجة البسيطة أشرف من الآلات الضخمة؛ لأن الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه شرف العمل اليدوي، هو أن هذا العمل وسيلة لخدمة المجتمع؛ ولذلك كانت طرق التربية الأدبية التي تحقر من شأن العمل، الذي يسد حاجات الحياة المتمدينة أبعد الطرق عن الدمقراطية الصحيحة.
وقصارى القول أن الوسائل التي تستخدم لتربية المجتمع بوجهٍ عام، يجب أن تختلف كل الاختلاف عن الوسائل التي تُستَخدَم لتربية طبقة خاصة أو فريق خاص، لكن طرق التربية التقليدية التي لا تَزَال مُتَّبَعة في المدارس، تقوم كلها على حاجات طبقة خاصة مكوَّنة إما من أشخاص متفوقين يسيطرون على غيرهم، أو مِن الوكلاء أو السكرتاريين والكَتَبة؛ ولذلك يجب أن تقوم طرق التربية التي تحتاجها الدمقراطية، على أساس حياة المجتمع كلها من جميع نواحيها الضرورية؛ أي على الأعمال العادية الأساسية، ولا يستلزم هذا أن نعلِّم الأطفال كيف يحرثون الأرض أو يصنعون الخبز، ولكنه يستلزم بالتأكيد أن نجعلهم يفهمون حقيقة كل هذه الخدمات، التي يُسدِيها هؤلاء الصناع إلى المجتمع ويعظِّمون من شأنها، ولا شك أيضًا في أنه يستلزم الابتعاد عن الثقافة الأدبية المحضة، وبهذه الطريقة وحدها يستطيع الحارث ومسير الآلة في المستقبل أن يترك المدرسة، وقد تمكن منه شعور دمقراطي يجعله يُجِلُّ كلَّ عمل شريف، وينأى به عن احتقار العمل اليدوي احتقارًا ورثناه من غير شك عن الثقافة الأدبية ثقافة مُلَّاك العبيد، وبغير هذه الطريقة لا يتساوى جميع أفراد المجتمع في تعظيم كل مَن يخدمونه أيًّا كانت مهنتهم.
هذا إلى أن انقسام المجتمع إلى طبقاتٍ على هذا النمط التقليدي يحط من شأن كثرته؛ إذ يجعلها تَرضَى بأن يستخفَّ بعملها وتستصغر فائدته لها ولغيرها، فإذا شئنا أن نستبدل بهذه المقاييس الطائفية الجو الدمقراطي الصحيح في المجتمع، وجب علينا أن ننهج في التربية جميعها نهجًا جديدًا، يجب أن تُستخدم الطرق الجديدة في جميع المدارس المعاول والإِبَر كما تُستخدم الأقلام والورق، ويجب ألَّا تكون التربية تربية عواطف خيالية، بل يجب أن تكون من أدواتها أحدث الآلات، فالطائرة والمذياع يمكن أن يُستخدما في تعليم الحساب والجغرافية، وغيرهما من المعنويات المجردة التي تسمى «مواد في منهج الدراسة»، ولما كانت مشاكل طرق التربية قد بُحثت في غير هذا المكان، فإنه لم يبقَ علينا إلا أن نقول إن الغرض الذي يجب أن تعمل له كل هذه الطرق هو إيجاد مجتمع متساوي الأفراد، يشترك أعضاؤه في تحمُّل أعباء الحياة المتمدينة وجني ثمارها.
على أنه إذا كان خلق المجتمع الدمقراطي يتطلب توحيد نظام التربية في المدارس والجامعات، والابتعاد به عن طرائق الكَتَبة، فإن من الضروري أيضًا أن يسري في نظام التربية كله شعور بوحدة الحياة العامة؛ أعني أنه يجب أن تسري في التربية الدمقراطية فكرة الحياة المشتركة، التي يجب أن يحياها جميع أفراد المجتمع، لقد كانت الدمقراطية القديمة فردية متطرفة في عقائدها الخاصة بالتربية، ولسنا ننكر أنه كان من الصواب أن يُلقَّن التلاميذ أن الواجب على كل واحد منهم أن يعمل بنفسه، وأن خير الثمار التي تستطيع التربية أن تنتجها وأعظمها نفعًا، هي أن تجعل الشخص يعمل ويتصور ويفكر باختياره ومن تلقاء نفسه، ذلك رأي يجب أن يكرر على الأقل في هذه الأيام، أيام التربية «حسب الأوامر» في ظل الدكتاتورية، ولكن «عمل الإنسان بنفسه» لا يناقض اتفاقه مع غيره، وإن كانت الدمقراطية القديمة تحقر من شأن هذا الاتفاق مع الغير؛ لأن طرقها في التربية قد ورثت الفردية المتطرفة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر؛ لذلك يجب علينا الآن أن نقاوم هذه العقيدة أو هذا الهوى، ونقرر أن الناس جميعًا يحتاج بعضهم إلى بعض، وأن «الاتفاق مع الغير» يمكن تعلُّمه، وأن حسن الصِّلات الاجتماعية والتعاون والعطف القومي، كل هذا يجب أن يكون أثرًا من آثار التربية، وبهذا وحده تكون الدمقراطية مجتمعًا حيًّا لا تلاقيًا عارضًا من أفراد أنانيين، وبتلك الطريقة وحدها يمكن أن يوجد في أي مجتمع تربة خصيبة وجو صالح، تنمو وتترعرع فيهما النظم الدمقراطية السياسية والاقتصادية؛ لذلك لم تكن أصعب خطوة وأهم خطوة في طريق إصلاح النظم الدمقراطية وبلوغ المَثَل الدمقراطي الأعلى، هي الخطوة السياسية أو الاقتصادية بل التعليمية.
وآخِر ما نذكره من النتائج أن العقيدة التقليدية التي يُنادي بها أنصار الدمقراطية، وهي القائلة بأن التربية تنقذنا من عقلية «الجماعة»، عقيدة إذا كانت صائبة من بعض النواحي فإنها خاطئة من نواحٍ أخرى، إن التربية في ذاتها خيرٌ لا شك فيه، ولكن المهم هو نوع التربية، بل كل الذي كانوا يفترضونه أن زيادة قليلة من الجرعة التي كان يُسقاها الناس من التربية القديمة، كفيلة بأن تمنع انتخاب الحمقى والطغام للمجالس النيابية، وتقي الرجال والنساء شر الصحافة المرتزقة وشر خداعها، ولا شك في أنهم كانوا في ظنهم هذا مخطئين؛ لأن التربية القديمة التي بقيت كما كانت في أواخر القرن الثامن عشر تربية ناقصة، وليس سبب هذا النقص أنها تركتِ الناس رجالهم ونساءهم عاجزين عن مناقشة قضية من القضايا أو فهم آراء نوابغ المؤلفين، بل سببه أنها لا تعظِّم من شأن العمل المادي، ولا تزيد من قدرة الناس على أن يعملوا معًا للصالح العام، وليست التربية التي تصلح للدمقراطية هي التي تقي الناس شر الأخطار، بل هي التي تمدهم بقوًى جديدة، كما أن القاعدة التي يجب أن تقوم عليها هذه التربية ليست هي الخوف من غرارة الدهماء، وهو خوفٌ لا يتفق مع أصول الدمقراطية مطلقًا، بل هي الثقة بقدرة الدهماء على أن يعيشوا مع زملائهم عيشة فيها من الحذق أكثر مما نراه الآن، وليست كثرة هؤلاء من البُلَهاء المُغفَّلين الذين لا يُنجيهم من غفلتهم إلا أن يزيد علمهم بالكتب وما فيها، بل إن كثرتهم لترغب في أن تعمل مع غيرها في وئام لمصالحها المشتركة إذا ساعدها على ذلك ما ورثتْه من الأنظمة.
وليس أسهل من أن يروع دعاة الدمقراطية بهذه المخاوف الموهومة؛ وهي «عقلية الجماهير»، و«الرجل المتوسط الذكاء»، و«عضو النقابة»، وتلك هي كلمات أقل ما يُقال فيها إنها أسماء لمسمَّياتٍ مجهولة لا يُعرَف عنها شيء، وماذا يَعرِف عن أولئك الناس العالِم والشخص «الراقي» الذي يُطِلُّ عليهم من نافذته، ولا يَلتَقِي قط في طريقه بالدهماء الذين يحملون إليه طعامه ويُنيرون له مسكنه، ونحن نقرأ بأن هؤلاء ليسوا من العلماء، وليسوا من القوم الأعلَيْنَ الراقِينَ، بل هم، والحق يُقال، من القوم «العاديين»، غير أن ذلك «الجمع» الذي يتخيله الرجل الراقي كذلك، إنما يتألَّف من أنواعٍ كثيرة شتَّى من الرجال والنساء بين طبائعهم العقلية من الاختلاف أكثر مما بين حِرَفهم وأعمالهم، أولئك هم المادة والعقل اللذان يتكوَّن منهما كل مجتمع، وليس يتكون من الحيوانات العاقلة التي تصوِّرها لنا الكتب الدراسية، بل إن تسعة وتسعين جزءًا من كل مائة جزء من الرجل الراقي، لا تختلف عن طبيعة الرجل العادي؛ لأن هذا الرجل الراقي يأكل وينام ويموت كالرجل العادي سواء بسواء؛ لذلك كان الرأي القائل بأن الوسيلة الوحيدة لإيجاد مجتمع دمقراطي متساوي الأفراد، هي خلق جماعة مكوَّنة من وحداتٍ تامة التماثل وهما من أوهام ذوي «الدرجات الرفيعة»، إن أساس الأخلاق أو السلوك واحد في جميع الناس، ولكنك لا تستطيع أن تجد واحدًا منهم «وسطًا» إلى درجة تنعدم معها شخصيته ومميزاته الخاصة، بل إنك لتجد أغلب الناس رجالًا كانوا أو نساء ممن يعملون طويلًا ولا ينالون من الأجر إلا قليلًا، إنك لتجد هؤلاء حتى في الظروف الحاضرة يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا، وهذا الاختلاف يزداد ويَقوَى في المجتمع المتساوي الأفراد، وليست الدمقراطية هي التي تَطبَع آلاف الرجال والنساء بطابعٍ واحد وتصبُّهم في قالبٍ واحد، وإنما الذي يفعل ذلك بهم هو ما يُقام في سبيل الدمقراطية من عوائق وبخاصة في النظام الاقتصادي، وليس الذي يقضي على الشخصية والمميزات الفردية هو العمل أمام الآلات، ولا التخصص في صنع أجزاء المصنوعات، وإنما الذي يقضي على الشخصية هو طول احتباس بعض الناس في العمل للحصول على الكفاف من العيش، وحرمانهم ما يكفيهم من الراحة والاستمتاع، وليست الظروف الحاضرة هي التي تَمنَع بعض الناس من فَهْم حقيقة المجتمع المتساوي الأعضاء، وإنما يمنعهم من فهمها ما بقي في المجتمع من عادات مدنية الاسترقاق، وليس نظام الإنتاج الصناعي ولا السلع الرخيصة هما اللذين يَحُولان دُونَ قيام المدنية الدمقراطية، وإنما يَحُول دُونَ قيامها سيطرة أولئك الذين يملكون آلات الإنتاج ويسخِّرون غيرهم من الناس تسخير الآلات، ولو اتسعت حقوق السلطات العامة، وأُجيز لها أن تمحو من الوجود هذا النوع من المعاملة، لصلح الإنتاج الصناعي لأن يكون أساسًا تقوم عليه مدنية جديدة.
على أن الحياة في المجتمع، وهي الحياة التي لا بد أن تزيد التربية من حذقها والمهارة فيها، لا تقتصر على الصِّلات بين المتجاوِرين؛ ولذلك يجب أن يكون من أغراض التربية أيضًا، تنمية روح التعاون الدمقراطي بين الأنداد في الشعوب والأجناس المختلفة، وبذلك تستطيع المدارس أن تعمل على بثِّ رُوح وطنية جديدة ليست من نوع الوطنية الحاضرة، وطنية الطبول والمدافع و«الدفاع»، والنصر بل وطنية الخدمة العامة والرابطة الوثيقة بين الأمم، إن الوطنية هي حب المرء بلدَه، لكن أسباب هذا الحب كثيرة منها ما هو خير ومنها ما هو شر، فحب المرء بلده قد يكون حبًّا خالصًا قويًّا، إذا لم يتصور أن بلده مكان ذو أعداء، بل تصوره جماعة من الرجال والنساء يسارعون إلى معاضدة مَن يحتاج إلى معاضدتهم، وإذا شئنا أن نُقيم هذه الوطنية المتمدينة مكان الصخب والعجيج القديم، كان علينا أن نكتب التاريخ من جديد فنجعله سِجِلًّا لما تبذله الشعوب كلها من جهود، كما يجب أن يشعر الجيل الجديد بأن أهم ما يجب عليه القيام به ليس هو «دفع» الخطر عنه، بل زيادة التعاون بينه وبين الشعوب الأجنبية.
وهذا التعاون الوثيق هو الذي أوجد بالفعل الفنون الحديثة والعلم الحديث، وهو سبب ما نشاهِده من التقدم السريع في تطبيق العلم على الصناعة واستخدامه في معالجة الأمراض، وهل ينكر أحد أن الموسيقى والنحت والنقش والآداب كلها ذات صفة دولية؛ لأنها تعتمد على الصلة القائمة بين النوابغ العبقريين في الأقطار المختلفة المتعددة؟! أليس أهم أسباب تقدم العلوم أن الأمريكيين والإنجليز، قد استطاعوا أن ينتفعوا بالنتائج التي وصل إليها الألمان والفرنسيون والإيطاليون وغيرهم؟ أليس أكبر أسباب نجاح التجارة الدولية في تحسين طعام الناس جميعًا ولباسهم أنها تجارة تخطَّتِ التُّخُوم؟ إن الروح الدمقراطي ليتطلب الاعتراف بهذا كله.
وأخيرًا نقول إنه ليس من قَبِيل المُصادفات، أن تكون نشأة النظم الدمقراطية في السنين التي استُخدم فيها العلم أحسن استخدام لقضاء حاجات الإنسان العادية، لقد زاد عدد مَن لهم حق الانتخاب في نفس التاريخ الذي اختُرع فيه البَرْق والمسرة والمذياع، وكلما زاد عدد الرجال والنساء الذين يتمتعون بنصيب من السلطة العامة، سهلت سبل الاتصال بينهم جميعًا مهما بعدت الشُّقَّة بينَهم، كذلك كان عصر الدمقراطية هو العصر الذي تحسَّنتْ فيه طرق النقل بالسكك الحديدية والسفن البخارية والسيارات والطائرات، وسار الإنتاج الرخيص جنبًا إلى جنب مع المَيْل إلى المساواة الاجتماعية في العواطف والحقوق السياسية، وما أحسن ما قيل في هذا المعنى: «إن الإنتاج الكبير هو في جوهره إنتاج للجماهير.»
فالحركة الدمقراطية إذن ناحية من نواحي النشاط الإنساني الواسع المدى، الذي لا تكفي السياسة ولا الصناعة للدلالة عليه، لقد سَرَى في العالم نوع جديد من «الحياة في المجتمع»، وسواء أكانت الدمقراطية نظمًا فعلية قائمة أم مَثَلًا أعلى مبتغًى، فإنها تتفق «بطبيعتها» مع هذا النوع الجديد من الحياة؛ لأن روح العصر هو الروح الدمقراطي.
ولقد يلوح أن هذا الحكم ينقصه قيام الدكتاتورية والدعوة إليها؛ ذلك بأن أخطر ما يدعو إليه الداعون مِن نُظُم الحكم في هذه الأيام، هو النظم الاستبدادية العنيفة مسماة بأسماءٍ جديدة ومرتدية لباسًا جديدًا، ولقد يلوح أيضًا أن الرجوع إلى اضطهاد الخصوم السياسيين وإلى عقائد القرون الوسطى التحكُّمية، ينقض رأي القائلين بأننا نلمح بريق الدمقراطية ونَجِد ريحها في الهواء.
لكن النجاح المؤقت الذي تُصيبه العقول الساذجة لا يمكن أن يقف في سبيل الرقي الفكري العام؛ ذلك بأن نقد السلطات، ومناقشة الحقائق الجديدة، وأنماط الحُسْن والجمال الجديدة، كل ذلك راسخٌ في طبيعة الناس، فإذا لم تكن العلوم والفنون من الصُّدَف والمفاجئات، فإن الدمقراطية ليست إلا تطبيق المبادئ العلمية على الشئون العامة، ونقصد بالمبادئ العلمية مبادئ انتقاد السلطات وكشف الحقائق الجديدة؛ لذلك لا يبعد أن يَقضِيَ على العقائد الدكتاتورية التحكمية مَيْلُ أنصارها أنفسهم إلى التفكير، فلسوف يختلف فهمُهم لهذه العقائد، وإنْ بَقِيَ نصُّها كما هو، ولسوف يُرَى مرة أخرى أن اضطهاد الخصوم مستحيل، كما كان مستحيلًا في أيام التسامح الديني الأول، وذلك عندما تَقِلُّ الفروق بين الخصوم في عددهم وكفايتهم.
وإذن فالروح الدمقراطي الذي يقوم على الثقة بعامة الشعب، قد أُوتي من القوة ما يبعث في نفوسنا الأمل في المستقبل، وكل ما يحتاج إليه هذا الروح هو أن تزداد قُوَّته، حتى تتغلب على كل ما بقي من آثار الهمجية وعلى كل ما يَحُول دُونَ عودتها.