مدينةٌ تخصُّه
تأكَّد من رصِّ البضائع داخل الدكان، ثم أغلق الباب الحديدي بالرتاج. رنا إلى السيدة المُطِلَّة من سطح البيت، ثم اتجه إلى الطريق الصاعدة نحو السعدية.
لا يذكر متى اجتذبته العينان الواسعتان، والقامة الطويلة، والشَّعر الحنطي المُسدَل على الكتفين؟ متى تنبَّه إلى وقفتها في الشرفة المُطِلَّة على الحديقة الداخلية، أو فوق السطح، ربما كانت تودِّع أباها على الباب الخارجي. صارت من يومها تكوينًا في حياته، يرقبها، وإن حرص ألَّا يجاهر برفع نظره ناحية البيت، يخشى الأعين الراصدة والمتوجسة.
رآها تجول بحصانها في داخل حديقة البيت، وفي الخلاء. تعرف كيف تتحكم في الجواد، كيف تشدُّ اللِّجام، وكيف تُرخيه. لا يدري أين تعلَّمَت ركوب الخيل!
تردَّد الخدم على دكانه لشراء احتياجات الجواد.
ألِفَ — في أوقات مُختلَسة متباعدة — تضييق ما بين عينيه، يحدِّق في الملامح التي استهوَته. ربما مضى ناحية باب البيت، يحاول أن يستزيد من استمتاعه بالملامح الجميلة التي اجتذبَته من بعيد. يعود إلى نفسه بصيحة الحارس المنتهرة، يكتفي بالرُّنوِّ إليها في نافذتها البعيدة، أو وهي تُطلُّ من السطح على الخلاء والمزروعات أمامها، يتمنى أن تستدير مرةً واحدة، تلتفت إليه، فترى عينيه العالقتَين بها.
حين ألحقه المعلِّم أبو يعقوب بالعمل في دكانه المُطِلِّ على بيت سعد الكندي، عُني بتعليمه أنساب الخيل، وأعمارها، وطرق تربية الجياد، وترويضها، وعلاج ما يصيبها من أمراض، والإتجار فيما تحتاجه. يقضي النهار بطوله في الدكان، يبيع كل ما يحتاجه المهلبي وجواده؛ الكمامة واللِّجام والمهماز والحزام والبرذعة، حتى السياط لها موضعها على جدران الدكان. يُعِدُّ الكمامات واللِّجام، يقصُّ الشَّعر، يُعِدُّ الأحزمة، يعالج حوافر الجياد، يرشد، ويقدِّم المعلومات، يعلِّم الكرَّ والفرَّ والمبارزة من فوق الجواد، يحذر من نهوض الجواد عن اضطجاعه، ومن الركلات المفاجئة والضربات، قوله: ركوب الجواد أفضل من ركوب المرأة، يسبق إلقاء النصائح والتحذيرات: إذا ركبتَ جوادًا فلا تكُن خائفًا، هو يعرف بغريزته إن كان راكبه يستحقُّ موضعه، أم يُلقي به إلى الأرض … لا تُرخِ لجام الحصان قبل أن تطمئنَّ إلى وقوفه تمامًا. عُرف عنه تربية الجياد التي ترفض وضع الأطواق حول أعناقها. يُعِدُّ الجواد بنفسه، يطمئنُّ إلى الحدوة الحديدية في قوائمه، وإلى السرج على ظهره، ينصح بأن تكون غُرَّة الجواد بيضاء، هي دليل على نقاء الدم والجنس.
قضى ما مضى من حياته مربِّيًا، يجيد التعامل مع الخيل، ويعرف أحوالها جيدًا، يفرِّق — بالنظرة السريعة — بين الجياد الأصيلة، والتي تجرُّ العربات، لكنه عجز عن ركوب الجواد بصفته فارسًا، يطمئنُّ إلى السرج، ويشدُّ لجامه، وينطلق. العيب ليس في جسده، ولا في قدراته، إنما العيب في مكانته المستقرة في القاع، لم يكتسب عنترة فروسيته إلا بعد أن صارت له المكانة التي يطلبها في قبيلته.
نسي قريته القريبة من بغداد، وبقي في السعدية. اطمأنَّ إلى عمله في الدكان. لم يَعُد المعلِّم أبو يعقوب يقتصر على بيع أدوات الخيل. اشترى أرضًا خلاءً مجاورة، جعلها إسطبلًا للخيل، وأوكل له رعايته.
السياج من الخشب، تصله أوتادٌ وأعمدة، يحيط بمساحة الخلاء بالقرب من الإسطبل، جعلها موضعًا لرعي الخيل.
حاول أن يجتذب انتباهها، علا صوتُه بالغناء، ركب الجواد في دائرة أمام البيت، زيَّن واجهة الإسطبل بالأعلام والأشاير، ثم ظلَّ على اكتفائه بالنظر إليها من بعيد، يضيف من خياله ما لم تُسعفه عيناه برؤيته جيدًا.
الصورة التي يتخيلها لما في داخل البيت ذي الطوابق الثلاثة، لم يشاهدها بنفسه، ولا نقلها المتردِّدون على البيت، يشترون منه ما تطلبه الأُسرة، أو يحملونه لأسفارهم البعيدة. خمَّن أن الصالة الواسعة — لا بدَّ أن تكون كذلك — يُطِلُّ عليها طُرقتان دائريتان، في الطابقَين الثاني والثالث. يرى المرأة في نافذة بالطابق الثاني، إلى جانب صعودها إلى السطح، وجلوسها في الحديقة، ترعى بنفسها ثلاث شجيرات صغيرة تثمر وردًا. تصوَّر أن النافذة مقابلة للباب الذي يفضي إلى الطُّرقة المفروشة بالحصباء الملوَّنة، تحيط بالمكان حديقة ذات أشجار متكاثفة من كل الجوانب، وثمة الأقواس المستدقة، والشرفات الوسيعة، وأشجار السَّرو والنخيل.
تعلو من خلف البيت سلاسل الجبال، تتخللها دروب، وتلال، وهضاب تتناثر فيها مساحات الخضرة.
لاحظ ما طرأ على حياة أهل القصر؛ سافر الكثيرون إلى جهة غير معلومة. كان سعد الكندي يغادر «السعدية» إلى أعماله التجارية في مُدن الخلافة، يقضي أيامًا قليلة، ويعود محمَّلًا بالهدايا والخيرات، تفيض — كما يروي له الخدم — على البيت، فيقدِّم منها إلى الخدم والعبيد.
تابع الناس — عن طريق قوافل التجارة — أنباء المعارك بين جيش الزنج وجيوش الخليفة.
تقدُّم قوات الزنج في آفاق المعارك بدَّل الصورة تمامًا. هجر الناس المدينة، فرارًا من شدائد عظيمة قد تنزل، لا يملك أحدٌ ردَّها، ويحيق أذاها الجميع.
ذاعت أخبار انطلاق جيوش صاحب الزنج من مدينته «المختارة» إلى مُدن العراق والبحرين وخوزستان، واستيلائها على سُفن تعبر الخليج، القوافل والجماعات الراحلة والأفراد المسافرون، نقلوا الأخبار إلى القُرى والخلاء والجوامع والمساجد والفنادق والوكالات والأسواق.
لامس اسم علي بن محمد — قائد الثورة — أذنه للمرة الأولى، حين قرن جعفر أبو الفضل، صاحب الدكان الملاصق، اسمه بالسعي إلى التغيير، لا سادة ولا عبيد، لا أصحاب أراضٍ ولا مستغلين في الأرض.
لم يكُن لدريد الطيواني صداقات في المدينة، معارفه ومناقشاته وتعرُّفه إلى الأحوال من عابرين لخدمة جيادهم، مجرد كلمات لقطع الصمت: من أين؟ ما أخبار بغداد؟ إلى أين؟
قدَّم الرجل نفسه إلى الناس بأنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
هو إذَن من الدوحة المحمدية، السلالة النبوية، التي دعا جَدُّها الأكبر أن يُحييَه الله مسكينًا، ويُميته مسكينًا، ويحشره في زُمرة المساكين.
جذبه إلى الناس أنه لم يتعالَ في نفسه. تهافتوا عليه، عظُم اعتقادُهم فيه، هو الملجأ والملاذ للآلاف من العبيد المتطلعين لمجاوزة ظروفهم القاسية.
أطال الكلام عن الحياة التي يجب أن تتغير، أخذ على ناس العصر تراخيَهم عن مقاومة استبداد الخلافة. اتهم الوزراء والأمراء بأنهم يعيشون في مخالفة لقواعد الدين، يحرصون على التمتُّع بملذات الحياة. عاب على مُلَّاك الأراضي إقبالهم على المآكل، والمناكح، والتلذُّذ بالجاه، وامتلاك البشر، وأنهم يعيشون حياتهم بلا شغل ولا تعب، وغيرهم يروون الأرض بعَرَقهم ودمائهم. تحدَّث عن تفشِّي المعاصي، وترْك الطاعات، وكثرة الهوى، وطول الرغبة، والحرص على الدنيا، واستلاب ما هو حقٌّ للآخرين. حرَّض على العنف، وتجريد الأغنياء من أراضيهم وممتلكاتهم. دعا إلى هدم النظام القائم على الظلم والطغيان، ليبني بدلًا منه نظامًا جديدًا قائمًا على المساواة والعدل. وَعَد بتحرير الأرقَّاء، إغلاق كل الروافد التي تصبُّ في نهر الرقيق. استعاد قول الرسول: «لا يقُل أحدُكم عبدي وأَمَتي، وليقُل فتايَ وفتاتي.»
قال إنه لم يبدأ الثورة إلا بعد أن اقتنع بضرورتها. وقال إنه لا يعادي الخلافة، ولا سُلطة الخليفة المعتمد على الله، إنما يعادي الوزراء والأمراء الذين أباحوا لأنفسهم كل شيء. وقال: نحن لم نخرج ضدَّ الدين، فنحن مسلمون، لكننا نخرج ضدَّ الحاكم الظالم. وقال: آن الأوان لتتحرَّروا من الفاقة والظلم، وإن اجتماعكم سيضمن لكم خيرات الأرض التي تعيشون فيها، وسادة هؤلاء الجبابرة الذين يستغلونكم ويستعبدونكم.
حرَّض أعوانه على التبشير بدعوته، وضمَّ الأتباع من الزنج والعبيد الذين استوطنوا أهوار البصرة، ومن أهل المُدن والقُرى، في منطقة الخليج وجنوبي العراق، حتى هؤلاء الذين تُحزنهم عيشة أبناء المستنقعات.
سعى الأعوان لاجتذاب العبيد الذين ضاقت بهم الحياة، وتطلعوا إلى مجاوزة ظروفهم، والظَّفَر بالعدل. عابوا الصمت الذي يواجهون به ما يلاقونه من العَنَت والإيذاء والإهانات المتلاحقة، السَّوق بالسياط والأعمال التي لا تليق بالبشر.
تعدَّدت الروايات في الشوارع والأسواق والبيوت والخلاء والمجالس ونُزل القوافل.
تسامَع به الناس، تقاطروا من المُدن والقُرى والبادية لرؤيته والاستماع إليه، ضاق بهم الخلاء والمساجد والوكالات.
لم يقتنع بدعوته في البداية إلا القِلَّة من الزنج والعبيد، مَن تساوت نظرتهم إلى الحياة والموت. أدركوا أنه يدعو إلى فكرة جيدة، قد لا تبدو واضحةً تمامًا، لكنها اجتذبَتهم إليها.
أنكره آخرون: لماذا يثور على ناسه وأهله؟
في الأذهان ثورة الزنج الأولى زمن الأمويين، كثر أتباعُها من العرب والموالي، وأيَّدها العلماء والفقهاء، لكن مصيرها انتهى إلى الفشل.
هل يكون علي بن محمد امتدادًا لشيرزنجي، الذي خرج على الحجاج بن يوسف، في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان؟
هزم جيش الحجاج، وقتل قائده، لكن الهزيمة غيبته في النهاية.
هل يكون صاحب الزنج بديلًا لأسد الزنج؟ هل يمضي إلى النهاية نفسها؟ هل هي ثورة مشابهة لتلك التي قادها في المُوصل يحيى بن محمد أخو السفاح؟ أباح لأعوانه أعراض النساء، لم يردعه سوى كلمات زوجه الساخطة، المعايرة. جمع الزنج للعطاء، ثم أفناهم تمامًا.
وسع أتباعه من توزعهم في المُدن والبوادي، ينقلون دعوته، يتحدثون عن الأسرار الخفية التي ورثها عن السلف الصالح، يذيعون أخباره وفتوحاته، وانضمام الآلاف من العبيد، ومن السادة الذين آمنوا بمبادئه، إلى جيوشه.
تبعه خلق كثير، التفُّوا حوله، واستمعوا له، عاهدوه أن يعملوا بأمره، وما يشير به، والنهي عمَّا يَنهي عنه.
جعله ناس البحرين في موضع النبي. أظهروا الطاعة، وقدَّموا لجباته الخراج، وقَبِلوا أحكامه فيهم، وقاتلوا تحت إمرته. استجابت له أعداد هائلة من الزنج والنوبة والقرماطيين والفراتيين.
صار من الماضي رحيله — في بدايات دعوته — إلى هجر؛ أول مدينة انطلقَت منها دعوته. حاول أن يحرك الناس للثورة. تنبَّه الوالي إلى محاولته فأثار عليه الناس، وهاجموا أعوانه. بدَت الغيوم ملبَّدةً أمامه، مضَت خطواته التالية إلى الإحساء، في أحياء بني تميم وبني سعد، ثم تنقَّل في البادية من حيٍّ إلى حي، ومعه جماعات من ناس البحرين.
أزمع عدم التحرُّك إلا بعد أن يتهيأ الناس لما يدعو إليه.
طالت معاناته للإحباط، مَن خرج لإنقاذهم ينشغلون بالمسامرة والأكل والنوم والغناء ورزق الكفاف، لا يحاولون القفز من الأسوار، ولا يتلفتون بحثًا عمَّن يعينهم، كأنهم مرضى يرفضون الشفاء، استكانوا لما هُم فيه.
هذه هي البداية التي طال انتظاره لها.
أعطى الناس وعدًا بأنهم إذا مكَّنوه من أمرهم، فإنه سيطيع الله فيهم، لا يسفك دمًا بالعمد، متغاضيًا عن حدود الله، ولا يأخذ ما ليس من حقِّه، ولا يلجأ إلى العنف، ولا المصادرة، ولا العقاب البدني، ما لم يكُن القرار لخطأ يبلغ مرتبة الخطيئة.
قال إنه لا يطمح إلى عيشة غير التي يعيشها، يمتلك من الأموال والأراضي ما يُتيح له الطمأنينة. وقال إن ما يريده لنفسه دور القناة التي لا ترتوي، لكنها تحمل المياه إلى البشر والحيوان والطير والنبات. وقال إن الله قيضه ليكفَّ المعتدين والظالمين.
دعا إلى الثورة، وإلى شقِّ الطريق بالقوة نحو حياة كريمة، يفرضون فيها أنفسهم على السادة. ينتزعون لُقمة العيش من أيدي الذين استأثروا بها، لا يُهِمُّ إن كانت الوسائل مشروعة، أم غير مشروعة. الحقُّ يَهَب لكل شيء مشروعيته.
«إذا كان آباؤكم قد جلبوا إلى هنا رقيقًا، فإن من حقِّكم — بحُكم المواطنة — أن تصبحوا سادة.»
وعلا صوتُه: أنتم سادة هذه البلاد.
بدأت مشاعر الناس تتجه نحوه، ردَّدوا اسمه مقترنًا بالخوف والتوجس والقلق والتطلع والأمل. تبعه قوم كثير، وجدوا فيه المُنقذ الذي قد يفلح في تخليصهم مما يعانون، هو القائد الذي طال انتظار العبيد له كي يلتفوا حوله. تركوا أعمالهم، وأقبلوا عليه، التفُّوا حوله، أنصتوا لكلماته، بهَرَهم، ومَلَك عليهم نفوسهم. وضعوا آمالهم فيه كي يعيد لهم حقوقهم المسلوبة، حاولوا العمل بما تضمنته كلماته، أقسموا له على الطاعة المُطلَقة. بلغ عدد المنضمِّين إليه خمسة عشر ألفًا من الزنج والعبيد.
شارك في الثورة الحرفيُّون وعمَّال السُّخرة وصغار التجار وعمَّال المواني والبطَّالون والكثير من الفقهاء والعلماء والمستنيرين.
تكاثرت المجالس والحلقات المنشغلة بالحديث عنه في أوساط الأغنياء، وبين جماعات العبيد. تكلَّم الناس عن الدعوة الجديدة، الدين الجديد الذي ينتشر في مناطق الزنج. كسبت الدعوة جماعات العبيد، استجاب الآلاف لدعوة علي بن محمد، تقاطروا عليه من المناطق القريبة والبعيدة، هربوا من أسيادهم وما يعانون.
نقص الأموال والسلاح مشكلة، سعى لحلِّها بالهجوم على القُرى المجاورة، هاجم قرية «الجعفرية»، أول ما صار إليه مائتان وخمسون دينارًا وسيوف وآلات وتراس، وثلاثة برازين منحها لقواده، وخصَّ نفسه بجواد.
آخر ما نقلَته الأخبار هزيمة جيش التركي أبي هلال، أربعة آلاف محارب، قتل منهم ألفًا وخمسمائة.
اختلطَت باحتدام المعارك عبارات التوقُّع والخوف والقلق والتحدي والأمل، بدا الارتباك واضحًا في كلمات الناس وتصرفاتهم. كثُر التلفُّت والقلق والحيرة، لا أحد يدري من أين سيأتي الزنج.
قلَّ المتردِّدون على المساجد، وخلَت الأسواق من البشر والحيوان والبضائع، وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذها، وغاب الرواة.
لاحَت نُذُر الكارثة القادمة.
كدَّس الناس صناديقهم وحمولات بيوتهم على جانبي الجِمال، وفوق ظهور الحمير. اتجهوا إلى المُدن والقُرى التي لم تبلغها المعارك، ما يتصورونه أمانًا.
تلاقَت القوافل في حيرة التنقل بين المُدن، تُطالعهم سحب المعارك، فيحلُّ الارتباك والفوضى، ويغيب الملاذ. غادر الآلاف من الخلق أراضيَهم وبيوتَهم، توزَّعوا في الخلاء، ووراء الجبال، نزلوا الأودية والقُرى، أخلى المزارعون أراضيَهم، أخذ الرعاة قُطعانهم إلى ما وراء التلال، لاذ مَن تبقَّوا بالخلاء، يناقشون ما يجري، ويتدبرون نتائجه، وتكوَّم السباخ في المستنقعات دون أن تزيحه الأيدي، وفاحت من الأركان رائحة الركود والعَطَن، وكثُر الدعاء والأنين والنشيج والصراخ.
قال دريد الطيواني لنفسه: هل يرفض علي بن محمد حُكم الخلافة لأنه يؤمن بالعدالة والمساواة وفعل الخير، أو لأنه — مثل سابقيه — يطمع في السُّلطة والرئاسة؟ هل يشغله صالح العبيد، أو صالح طبقته، أم إن فائدته الشخصية هي ما يسعى إليه؟
في السنة الأولى، احتلَّت جيوش الزنج مُدنًا منها الأبلة، عبادان، الأهواز، انعكس الصدى ذعرًا في بغداد، فَرَضت التوقُّعات احتمالاتها.
شُغل الخليفة المعتمد بمحاربة الصفارين، استغلَّ الزنج إهماله خطرهم، وانسحاب قوات من دجلة الأدنى، بسطوا سيطرتهم إلى الشمال، ووجدوا العون من القبائل العربية في البطائح جنوبي واسط.
عاود الزنج هجومهم على الأهواز، دخلوها للمرة الثالثة، أعملوا القتل والتدمير والسلب والنهب، قِيل إن عدد القتلى جاوز الخمسين ألفًا.
فرغ الموفَّق من أمر الصفارين، خلَّفهم جدارًا وراءه، والتفت لمواجهة الزنج.
أمر الخليفة جنده أن ينهضوا إلى مَن تداعى من الفسقة في أرجاء البلاد، اتَّهمهم بأنهم أهل ضلالة وخروج على حُكم الإمام.
متى بدأ الهاتف داخله؟ متى بدأ يُصغي إلى الأصوات المشفقة، والآمرة، والمحذِّرة، كلمات واضحة، رائقة، تتحدث عمَّا ينبغي فعله، مَن ينطق الكلمات يعرف الأحوال جيدًا وما ينبغي فعله. ربما يداخله ارتباك، يتصور الهاتف من خلف شجرة يجلس تحتها، طائر عَلا الصوتُ باقترابه، وتلاشى بالاختفاء، موضع لا يتبيَّنه وسط القبور، صوت كالنداء يوقظه من نومه.
يتلفَّت حوله، يتوقع أن يتجسَّد له الطيف، لكن المرئيات تظلُّ على ثباتها، والهاتف يتناهى من موضع قريب لا يراه.
ظنَّ في البداية أنها وسوسة الشيطان، بَسمَل وقرأ المعوِّذتين، توقَّع أن تقتصر على أوقات الصلاة لإلهائه، لكنها شملَت أوقاتًا كثيرة، بمعانٍ طيبة، تدعو إلى الخير وصالح الناس. عرف أنه معمور الباطن، وأن العبارات — حتى التي لا يبلغه معانيها من الهاتف — تشير إلى الطريق التي يجب أن يسلكها لصالح الناس.
لمَّا أخذه الارتباك، سأل زوجه، للمرة الأولى، في أمر يخصُّه.
وهي ترنو إليه بنظرة مطمئنة: هذا هاتف سماوي، أصغِ إليه جيدًا، وافعل ما يشير به.
همس الهاتف في العزلة، يسمع صوته، ولا يرى هيئة المتكلم، كأنه يحتويه. الكلمات واضحة ومُدغَمة، ثم علَت الكلمات، خاطبته بما تردَّد في نقله إلى مَن حوله؛ العلم بالغيب، وملامسة روح النبوة.
لا يذكر متى حدث ما حدث، ولا كيف شكل ما يشبه السحب المتباعدة، تكاثفَت، اتصلَت، فهي سحابة هائلة مثقَلة بالمطر.
يأخذ غالبية قراراته عبر الكشف، أو التخاطر، أو الأحلام. ما يأتيه، أو يُملَى عليه، أوامرُ علويةٌ قصدها صالح الناس.
لم يعد يتثبت ما إذا كان النداء، الهاتف، يسري إليه في صحو، أم منام، أم رؤيا. الصوت واضح، نقي، بما ينفي الغربة.
كل أقواله وتصرُّفاته، وحتى صمته في أحيان كثيرة، استجابة لقوى علوية، تُملي إرادتها، فلا يملك المناقشة ولا الرد.
البداية حين أُودِع السجن — مع العشرات — عقب مقتل المنتصر. فرَّ من حبسه في مطمورة عميقة، لولا أنها بلا سقف فهي قبر. عرف أنه معمور الباطن، وأن العبارات — حتى التي لا يبلغه معانيها من الهاتف — تشير إلى الطريق التي يجب أن يسلكها لصالح الناس.
اكتشف في نفسه ما لم يكُن يعرفه، نبَّه إليه الناس العاديُّون بأقوال وتصرُّفات. يعيش الدنيا بجسده، لكنه يعيش بذهنه ووجدانه في السموات العُلا. عرف الناس ما لديه من قدرات، يمتلك قدرةً على الاستبصار وصدق التنبؤ، وأسرار المكاشفة، والنظر بعينَي الفِراسة، يجيد التقاط العلامات والإشارات الدالة، ويعي الدقائق الخفيَّة في حركات الخواطر والقلوب.
يراجع الحوادث، يتأملها، يربطها، يحلِّل بواعثها وما قد تنتهي إليه، يلحظ ما لا يلحظه بقية الناس، ما تعبره نظراتهم فلا يطيلون التوقُّف أمامه.
لمَّا ارتفع الهاتف في سمائه كشمس الظهيرة، واجه القريبين، في مدينة هجر، بما يعانيه. النقاط الصغيرة المبعثرة، تحوَّلَت إلى دائرة كاملة واسعة.
أعدَّ في نفسه للغايات التي يسعى إليها، يثق في أنه سيبلُغها، لا يدَّعي الرجم بالغيب، ولا التنبؤ، إنما هي رؤيا تصدُر من داخله — بعون الله — تُتيح لذهنه أن يرى ما قد تعجز العين عن مشاهدته، ما يدور في خاطره يظهر أمامه حالًا.
كان مقرَّبًا إلى الخليفة المنتصر بالله. لمَّا قتل الأتراك المنتصر بالسُّم، شملَت اعتقالاتهم علي بن محمد، لم ينقذه إلا تمرُّد فرقة الجند الشاكرية ببغداد، ساعدهم الناس، فأُخلي سبيل علي بن محمد ضمن الذين أطلق الجند سراحهم. غادر علي بن محمد بغداد إلى سامراء، علم الخط والنحو والنجوم، ثم سافر إلى البحرين. قال في الناس إن سيطرة العسكر الأتراك غالبة على كل شيء، يستأثرون، ويولون، ويعزلون حتى الخلفاء. مؤامراتهم تقتلع مَن يعارض تدبيراتهم.
«الخليفة لا يستحقُّ تسميته إلا إذا أحسن سياسة شعبه.»
وهزَّ قبضة يده: عندما يعجز الخليفة عن إدارة بلده فإن الثورة تفرض نفسها.
دعا إلى الثورة ضدَّ الخليفة الذي يسيِّره الجند الأتراك.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
لا أعرف إن كانت ستقدَّر لي الحياة حتى أشهد نهايةً لتوالي الأحداث القائمة، أم إن أمطار الدماء ستُغرق البشر والشجر والحجر. يعود كل شيء إلى ما صار عليه عقب طوفان نوح؟ هل ما نراه الآن طوفانًا لم نرَه من قبل؟ هل هو مصير مشابه لما انتهَت إليه عاد وثمود؟ هل هو إعادة — بأيدي البشر — لما آلَ إليه مصير قوم لوط؟
أعدتُ تأمُّل ما كنتُ رأيتُه، وسمعتُه، وناقشني فيه ساسة وعلماء ووجهاء، وضعتُ كل أمر في ناحيته الصحيحة، ثم أعدتُ النظر إلى الصورة برُمَّتها، أبحث عن المعنى والعبرة، وأُطلُّ على قادم الأيام.
ذاكرتي خزانة لحكايات الخلفاء والوزراء والأمراء والكتبة والعمال والولاة والعلماء والوجهاء، أصِلُها، أربط حتى الأقوال العفوية، أو التي تبدو كذلك، أعيد تأمُّلها، أصِلُها بأقوال سابقة ولاحقة، أتعرَّف إلى الصورة بكل ما تتضمنه من جوانب مضيئة ومظلمة، أروي الحقائق كما اختبرتُها وتعرَّفتُ إليها في الأحداث.
لا أحد يذكر متى بدأت المشكلة، وإن أرجَعَها البعض إلى وجود جماعات العبيد في نهايات عهد المصعب بن الزبير. جُلبوا من المُدن المُطِلَّة على الساحل الشرقي لإفريقية، أُجبروا على العمل في الأراضي الواقعة شرقي البصرة، فضاء لا نهاية لآفاقه من المستنقَعات في القسم الأسفل من دجلة والفرات. المدُّ والجزر غطَّيَا الأراضي بطبقة ملحية سبخية، استورد أصحاب الضِّياع زنوجًا، جماعات من العبيد السُّود جُلبوا من شرقي إفريقية، وفئة الفراتيين القليلة من فقراء العرب، عملوا — سُخرة — في إزالة الطبقة الملحية من مياه الخليج، بين مدينتَي البصرة وواسط، تبين التربة الخصبة، الصالحة للزراعة. كومات السباخ تُوضَع في هيئة تلال، ينقلونها على ظهور البغال إلى حيث تُباع في المُدن والقُرى، العمل يستغرق النهار بأكمله، قد يمتدُّ لوقتٍ من الليل، لا يتقاضون أجرًا على أيِّ نحو، ما يحصلون عليه — في نهاية كل يوم — قليل من التمر والسويق والطحين، ضربات السياط تؤذي أجسادهم ونفوسهم، بما يُخمَّن أنه يملأ حلوقهم بالمرارة.
قال ريحان بن صالح: العبد لا يختار ظروفه، إنها تُفرض عليه.
علَت وجهَه نظرةٌ متسائلة: لماذا لا يحاول التخلُّص منها؟
ضمَّ إليه من قادة الزنج ريحان بن صالح، في أول لقاءاتهما سأله علي بن محمد عن أخبار غلمان الشورجيين، وما يجري لكل غلام من الدقيق والسويق والتمر، أخبره ريحان بما يعرف.
قال علي بن محمد: احتلْ فيمَن قدرتَ عليه من الغلمان، فأقبِلْ بهم إليَّ.
أزمع أن يفعل كل شيء، ليحيط نفسه بجند وقادة وخواص. من المستحيل أن يحرك امرؤ ثورةً بمفرده، تنبَّه إلى ضرورة أن يجد أعوانًا يساندونه في ثورته، ينفِّذون أوامره.
وَعَد بن صالح أن يقوِّده على مَن يأتيه بهم، وأن يحسن إليه.
كانا يفرَّان من الأرصاد والأعين المُتنصِّتة، بالسير — متجاورَين — في الشوارع الخالية من المارَّة، وفي الخلاء، يغلب الهمس على أحاديثهما، ويُكثران من التلفُّت.
سيبدو الأمر سهلًا لو أن العبيد شعروا بأنهم ليسوا كذلك، وأن العبودية فُرضت عليهم، ومن حقِّهم أن يجاوزوا الأوضاع التي يعيشونها، كأنهم لا يدرون ماذا يصنعون بالحرية إن حصلوا عليها. لم ينضمُّوا إلى الثورة، لا لخوف، وإنما لغياب المعنى، لأنهم لا يعرفون ماذا بعد! هل يصبح العبد سيدًا، والسيد عبدًا؟ وكيف يعمل العبد فيما لا يعرف ألفه إلى يائه؟ وهل يخالف الشرع في طاعة وليِّ الأمر؟ الاستكانة تخذله، والطمأنينة إلى الأقوال والتصرفات يصدمها كل ما حوله، يحزنه أن السادة والعبيد استقروا على الرضا بالواقع، كلٌّ من وجهة نظره.
طرف الخيط ألقاه علي بن محمد على العبيد يوم عيد الفطر في السنة الخامسة والخمسين بعد المائتين؛ صعد منبر المسجد الجامع، وخطب في المُصلِّين، لجأ إلى كل ما أوتي من قدرة على الخطابة، يخفت صوته ويرفعه، يتأمل وقْع كلماته في أعين الناس، يلجأ إلى الحكمة والمَثَل والحكاية القديمة، يشرح الأحوال ويقارن، توقَّع أن ينضمَّ إليه الزنج بلا تردد، يجدون فيما يدعو إليه فرصةً لتبديل حياتهم.
وصل بينه وبين الناس شعور بالثقة، تعمِّقه القامة المستقيمة الفارعة، والعينان النفَّاذتان، والأنف المستقيم، واللحية التي اختلط فيها السواد والبياض.
لا أحد يجرؤ على النظر في عينيه، يقفون أمامه، يستمعون إلى أوامره، يرفعون الأسئلة، دون أن تجاوز نظراتهم موضعها في الأرض.
مضى في خطبه، لا يوقفه شيء. إن خطب، أو تحدَّث، لا يلجأ إلى الكلمات التي قالها من قبل، أو يضفِّرها في كلماتٍ أخرى، مما يجعل الآذان في حال التنبُّه وتوقُّع ما لم تكُن استمعَت إليه. يحسن السيطرة على سامعيه، وعلى الزحام، وتلاغُط الكلمات، يرفع طبقات صوته، يخفضها، يرفعها، يبدِّلها، تعينه المفردات التي يحسن اختيارها، يستعيد حديثًا عن الرسول: «مَن اعتزَّ بالعبيد أذلَّه الله.»
اعتاد الناس وقوفه فيهم، يخطبهم، يستنهض هممهم، يبشرهم بالخلاص مما يعانون.
تقاطر الزنج والعبيد للاستماع إليه، زاد التفافهم حوله، وجدوا في كلماته مَنفذًا للخلاص مما يحيط بهم من ضيق وشدة.
انتشرَت كلماته، وعلا شأنه، وقَوِيَت مكانته.
انضمَّ إلى الثورة، في الأيام التالية، سليمان بن جامع وشبل بن سالم؛ أحد غلمان الدبَّاسين والتمَّارين. زاد تقاطُر أعداد من الغلمان والشورجيين والجبَّاسين الزنج.
أفتى علي بن محمد بأن قتل أصحاب الأراضي أحلُّ من ماء المطر، حتى لو أحسنوا معاملة عبيدهم، ولو أنهم أدَّوا الزكاة وفروض الله الأخرى. من واجب جيوش الزنج، وحقِّها، أن تهزمهم وتقتلهم، وتنظِّف وجه الأرض من أقذارهم. وَعَد بإلغاء الصدقات والزكوات؛ لأن المال سيكثُر بما يجعل الناس في غير حاجة إليها، يصير الفقير غنيًّا، ويزداد الغني ثراءً.
عُرف عن مجادلاته أنها تنتهي بالإقناع والاقتناع؛ إقناعه مُحاوره لآرائه ووجهات نظره، وإقناع المُحاور بكل ما تحدَّث به علي بن محمد، مَن يعلن الاقتناع يأخذ عليه العهود والمواثيق، فيصبح واحدًا من أتباعه.
لم يضِق بتناهي صوت الرجل في اللمة المحيطة: نحن لا ينقصنا شيء.
قال علي بن محمد: بل ينقصنا العيش بكرامة.
– لم تكُن من العوام، وكان آخر حوادثك قبل أن يسجنك الأتراك، اقترابك من الخليفة المنتصر بالله.
أضاف في كلماتٍ متمهلة: ذلك الاقتراب هو السبب في سجنك.
ذاق السجن بعد أن قتل الأتراك الخليفة المنتصر بالله، دسُّوا له السُّم، وقضوا بالسجن والنفي لكل مَن حوله، نجا من المصير المجهول لمَّا تمرَّدَت فرقة الجنة الشاكرية ببغداد، شاركهم فيه العامة، اقتحموا السجون فأطلقوا سراح مَن فيها، منهم علي بن محمد، ترك بغداد إلى سامرا، ومنها إلى البحرين. بدأ من هناك إعداده للثورة.
اتجه ناحية الرجل بنظرة متسائلة: هل تملك حريتك؟ هل تشعر أنك تملكها؟
– أعرف أني أتنفس الحياة، وهذا يكفي!
قال شيخ يتوكأ على عصًا: إذا كنا قد أخفقنا في انتزاع حقوقنا بالقوة، فإن الحكمة تفرض علينا المهادنة.
– المهادنة أم الخضوع؟
– ما تراه خضوعًا قد لا أراه كذلك!
قال علي بن محمد: العبد يظلُّ هكذا ما لم يفطن إلى عبوديته!
ومسَّد قبضة سيفه بيده: لم يعد من المقبول تصوُّر أن الزنجي لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه!
أخذ على الخليفة أنه ترك الأمر لأعوانه، والأعوان لا يشغلهم سوى الثراء ومَلء البطون وإرضاء الشهوات.
أعلن أنه لن يطبق الشريعة ما لم يغِب التوزيع غير العادل للثروة، قام بثورته لإقامة العدل ورفْع الظلم، وقال إنه لا يدعو إلى كبيرة ولا منكر، إنما دعوته تنتصر للعبيد. لماذا هم السادة وأنتم العبيد؟ لماذا السادة والعبيد؟
وَعَدهم أن يصبحوا سادة أنفسهم، وأعطاهم حقَّ امتلاك الأموال والضِّياع، قال: إن الأغنياء يأكلون ويشربون ويقضون حاجاتهم مثلنا تمامًا، أليس هذا دليلًا على وحدة البشر؟ وقال: إني أومن بكم وبنفسي، وما نستطيع أن نصنعه! وقال: آن الأوان لتتحرروا من الفاقة والظلم، وإن اجتماعكم سيضمن لكم خيرات الأرض التي تعيشون فيها، وسيادة هؤلاء الجبابرة الذين يستغلونكم ويستعبدونكم، وقال: إن العبيد قد يختلفون في سِحَنهم ولون بشرتهم عن الوجهاء والسادة، لكنهم لا يَقلُّون في انتمائهم لخلق الله، الساعين إلى العمل، وإلى الحقِّ والخير، وقال: هذه الأراضي التي تشقَون في زراعتها هي أراضيكم، ويجب أن تعود إليكم، وقال: من حقِّ كل عبد أن يكون سيدًا للأرض التي يعيش فوقها، هي أرضه، وتعود إليه، وقال إنه لن يرضى عن نفسه ما لم يردع البغاة، وينفِّذ أحكام الشريعة، ويعامل كل مخطئ بما يمليه القانون.
يداخله اليأس، أحيانًا، من أن يفعل شيئًا، نفض رأسه في استياء لقول التاجر معن بن الكوثرى: مَن وُلد عبدًا، ونشأ على العبودية، يرضى بالحياة كما وُلد!
هل استمرأ العبيد العبودية؟ هل اطمأنوا إلى الحياة التي يعيشونها؟ هل اعتادوا القناعة والذل وتنفيذ ما يُملَى من أوامر؟ هل العمل في المستنقَعات قَدَرُهم؟
حرص في أمره إلى أعوانه أن يترجموا خطبته إلى مَن لا يعرفون العربية، قال: من المهم أن يعرفوا ماذا أقول.
دعا للجوعى فيشعرون بالشبع، وللعطشى فيرتوون، وللمرضى فيبرءون، وللخائفين فيلوذون بالطمأنينة. وَعَد بأن يَزكُو الخراج، وتكثُر الأموال، وترخص الأسعار، ويتسع المعاش، يجعلهم سادةً يملكون السادة الذين صاروا رقيقًا.
– الجنود!
هل كانت الصيحة لخطر حقيقي، أو لإحداث الارتباك؟
اختلط المُصلُّون في تدافعهم نحو الأبواب، علا الصراخ والصياح والدعاء والابتهال.
قبض جنود الوالي على أعوان لعلي بن محمد، وعلى زوجته وابنه وابنته وجاريةٍ له.
لم يركن علي بن محمد إلى اليأس، لم يحاول حتى تدبُّر المصير الذي سيواجهه أقرب ناسه. عرف من أحوال البصرة ما لم يكُن يعرف، لولا دخوله إليها، واطِّلاعه على أحوالها، وتعرُّفه إلى خيرة أعوانه؛ علي بن محمد إبان المهلبي، ولد المهلب بن أبي صفرة، وأخيه محمد خليل، قرَّب إليه أعوانًا من أبناء الأُسر والعائلات المعروفة، بعضها ذو أصل فقير، وبعضها الآخر من طبقة السراة؛ يحيى بن محمد الأزرق، محمد بن سالم القصاب، سليمان بن جامع، سليمان بن موسى الشعرواني، أحمد بن مهدي الجبائي، محمد بن سمعان …
قال المهلبي: نحن نخرج لصالح الناس.
حدج المهلبي بنظرة متأملة، وهو يوسِّد صدره بعفوية: لا أنكر أن في داخل كلٍّ منا مَيلًا للمغامرة!
حرص أن يلتقي أتباعه في الخلاء، يبتعد عن القصور والبيوت والجوامع، يتقي الأعين الراصدة والآذان المتطفلة. حذَّر أتباعه من أن يفشوا أسرار فعلهم، أو يظهروا ما في البواطن. يظلُّ المخفي في ستره حتى يأذن الله بظهوره، وإن صمت عمَّا كتبه أعوانه على الجدران من كلمات تبشر بظهوره، وتدعو إلى نصرته والانضمام إلى عساكره.
عرفوا أن شرارة الثورة تنطلق بإشارة منه.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
عشتُ ما أرويه، فلا أحتاج إلى السِّيَر والتراجم والوثائق والأوراق من أيِّ نوع، لكنني عدتُ إلى ذلك كله، وغيره، حتى يتسع المشهد إلى مداه، لا أهمل حتى ما قد تحوطه الظلال، المواقف التي لم أكُن فيها، ولم أشاهدها بنفسي، رجعتُ إلى ما يعينني على استكمال نواقص الصورة.
لا رواية محدَّدة حول ما إذا كان علي بن محمد قد أعدَّ لفتنة البصرة، أم إن التطورات المتوالية وليدة ظروفها الذاتية، مما أتاح له أن يعود إلى البصرة لنشر دعوته. ما قرأتُه من آراء يعتمد الترجيح بالقول: حسب اجتهادي الشخصي، لعل، نمى إلى علمنا، قِيل، وغيرها من الكلمات التي تعني عدم التيقُّن من الحادثة وملابساتها، وجوانب الحقيقة والكذب فيها، وما ينتمي إلى الواقع، وما فرضه الخيال.
نُودِيَ في سرِّ علي بن محمد: يا علي، قُد العبيد إلى ما فيه خيرهم!
وجد في نفسه القدرة على قيادة الزنج.
ظهر الزنج — أول ما ظهروا — بفرات البصرة. درس أحوال منطقة جنوبي العراق، المساحة الهائلة من الأرض جنوبي العراق، ملأى بالآجام والمستنقَعات والأدغال وغابات النخيل، تخترقها آلاف القنوات. درس أحوالها وظروف أهلها وما يعانون. دعاهم للالتفاف حوله، يقودهم، ويملِّكهم العبيد والأموال، ولا يترك شيئًا من الإحسان إلا أتى به إليهم.
كان عهد مصعب بن الزبير في نهاياته. مع قلة أعداد الزنج، فقد مالوا إلى العبث والتخريب وإفساد المزروعات، والاستيلاء على المحاصيل. أفادت ظروف البيئة في المناوشة والكرِّ والفرِّ السريع.
شكا الناس أفعال الزنج إلى والي البصرة خالد بن عبد الله القسري، ركن الوالي إلى الأمراء والأعيان والوجهاء وعلماء الدين، ناصروه بالقول والفعل لإعادة سيطرة دولة الخلافة. أمر الوالي جنده، أعملوا الأذى في الزنج، ما بين الطرد والتهجير والقتل، حتى اختفَوا، وفرَّ علي بن محمد وعددٌ من رفاقه، عاد إلى بغداد، ظلَّ فيها مع جماعة من رفاقه، يدرسون، ويخططون.
بدأت ثورة علي بن محمد، وانتهَت، قبل أن توسِّع دائرة انتشارها بين الزنج في منطقة البطائح، المستنقَعات الممتدة بين واسط والبصرة، يجففون المستنقَعات الناتجة عن البثوق والفيضانات الحاصلة من نهرَي دجلة والفرات، يزيلون عن الأرض طبقات الملح.
لم تعكر مفاجأة الهزيمة صفاء ذهنه.
فشل المحاولة الأولى لا يعني النهاية، لا بدَّ أن تتلوها محاولة ثانية، وثالثة، يُعِدُّ جيوشه لضربات مؤلمة، لكنه يحرص على الطرقات المتوالية حتى يقتحم الباب في النهاية، معركة وراء معركة، ثم يأتي النصر.
ظلَّت الحروب دائرةً ما بين انتصار وهزيمة. ما تحتلُّه قوَّات الزنج في معركة، تستعيده قوَّات الخلافة في معركة تالية. تتبدل الأحوال بتوالي المعارك.
حين جاءت الأنباء بأن الأتراك قتلوا علي الله المهتدي، وأخرجوا المعتمد علي الله من حبسه بالحوسق، وبايعوه بالخلافة، عرف أن الأمور دانت للأتراك، وأن الخليفة واجهة يستطيعون إزالتها دون خشية عواقب.
أمر الخليفة سعيد بن الحاجب بقتال جيوش الزنج. سار إليهم في رجب من سنة ٢٥٧ﻫ، هزمهم أول الأمر، لكن الانتصار تحوَّل — بهجمات الزنج المرتدة — إلى هزائم، قُتل ابن الحاجب، تولَّى القيادة من بعده أمراء جيشه، لكن الزنج ألحقوا بهم خسائر فادحة.
سلم الخليفة القيادة إلى منصور بن جعفر الخياط، لكن الزنج هزموه أيضًا.
بدأ الهجوم على البصرة في يوم الجمعة السابع عشر من شوال عام سبعة وخمسين ومائتين.
عجَّل بالنهاية هزيمة جيش السلطان في الطريق البري، قُتل الكثيرون، أو أُغرقوا، وهلك الكثير من أفراد عائلة السلطان. أضاف علي إلى القتلى، قتل الأسرى، لم يمنح العفو إلا للقِلَّة، سرى الفزع في نفوس أهل البصرة، فلاذوا بالفرار.
بدَت الفرصة مواتيةً لفتح البصرة. طلب الزنج من علي بن محمد أن يدخلوها، لكنه آثَر الانتظار والراحة، فلا تتكرر الهزيمة. المدينة بلا أنصار حقيقيين، والانتظار هو ما ينبغي أن يحرصوا عليه.
اقتحم جنوده المُدن والقُرى، تسبقهم حكاياتهم، والمذابح التي قِيل إنهم ارتكبوها، ارتكبوا من المذابح والتدمير في أهل البصرة ما أحفظ عليه سكان مُدن العراق.
أجبر أهالي القُرى التي مرَّت بها جيوشه أن تقدِّم لها ما يلزمها من غذاء وملابس وأسلحة تصلح للقتال.
يقف الضابط، يحيط به جنده، في الميدان الرئيس بالمدينة أو القرية. يأمر السكان أن يُحضروا بأنفسهم ما لديهم من سلاح ونقود ومجوهرات وأطعمة وأشياء ثمينة، مَن يحاول إخفاء ما يمتلك، فإن عقابه يبلغ حدَّ الإعدام.
حصَّل من المال والسلاح ما ساعد جيوشه — صارت جيوشًا — على دخول المُدن الصغيرة والقُرى، قتلت ونهبت ودمرت وأسرت.
سهَّل لجيش الزنج تحقيق الانتصارات ما كان يغطي المنطقة من مستنقَعات وقنوات. طالت الحرب، اتسعَت معاركها، أفراد جيش الزنج يجيدون التنقُّل والكرَّ والضرب والفر، لا حيلة لجيش الخلافة، والفوز في المعارك كأنه المستحيل.
عُني بتوسيع رقعة الدولة، هي دولة الزنج، وهو المتولي أمرها، عليه أن يمدَّ حدودها إلى آفاق لا تراها الأعين، ويُخضِع لحُكمه مَن تصوَّروا أنفسهم في مبعدة عن مراسيمه وقوانينه وقراراته.
في ذي القعدة ٢٥٧ﻫ استطاع جيش الخليفة — بقيادة محمد المولد — أن يسترجع البصرة بسهولة، كما استرجع الأبلة، لكن يحيى بن محمد القاضي الزنجي الجديد، ما لبث أن هزم المولد، واضطرَّه إلى التراجع.
•••
قَدِم علي بن محمد البصرة سنة أربعٍ وخمسين بعد المائتين من الهجرة.
كان عامل السلطان في المدينة محمد بن رجاء بن أيوب الحضاري، وكانت الفتنة ما تزال قائمةً بين البلالية والسعدية. تطوَّر العداء إلى صدام دموي داخل المدينة.
ما حدث في رمضان مثَّل تحوُّلًا لم يكُن أعدَّ له نفسه، ولا تصوَّره. فتحت السجون — بأيدي طائفتَي البلالية والسعدية — معظم السجناء من أهله وأتباعه. قوَّى بهم نفسه، وتهيأ لواقع متغير. أقدم المسجونون على نَهْب بيت المال، ودُور بعض الأغنياء.
كانت الأمور قد هدأت في البصرة قبل مجيء ابن محمد.
قاطعه رجل في لمة أحاطت به: أين حركة الزنج الأولى؟ ماذا بقي منها؟
قال الزرَّاد صخرة بن عامر: لم يعد لها مبرِّر، بعد أن واجهتها الخلافة آنذاك بتحسين أحوال العيش.
أدرك أنه لا جدوى من مواصلة القتال.
حين رد، في أول هجوم له على البصرة، انسحب إلى سبخة في آخر أنهار المدينة. استعاد شمل جنوده، وحاول تنظيمهم، لكنه رفض أن يفتح البصرة. أدرك أن استيلاءه عليها ليس سهلًا، وأنه ليس فيها أعوان من الزنج أو من الفلاحين.
أزمع أن يكون ما جرى له في البصرة — حين أراد أن يبدأ دعوته في مسجدها الجامع — درسًا لا يتكرر. لم يهبه الناس إنصاتهم، أشفقوا من المصير الذي واجهه تمرد أسد الزنج «شيزرنجي» في عهد ولاية الحجاج بن يوسف، وما لقيه الزنج على أيدي جنود يحيى بن محمد، أخي السفاح، من القتل والتدمير واغتصاب النساء والتمثيل بالجثث، حتى بلغوا نهاية الضعف.
أولى هزائمه في البصرة بداية النهاية للانتصارات المتوالية. لم يعهد سوى الانتصارات، تتقدم جيوشه، تستولي على المُدن والقُرى، يستقبله الناس بالفرحة والبهجة والدعوات والزغاريد. لكن الأحوال تبدَّلَت إلى نقيضها؛ أخلى الزنج كل القُرى التي كانوا قد سيطروا عليها، مالوا إلى الفرار والاستسلام وإعلان الخضوع للخلافة.
خرج علي بن محمد إلى بغداد فرارًا من أمر الوالي بالقبض عليه، وإن قبض الجند على زوجه وابنه وابنته وجارية له.
البصرة هي أنسب المُدن لإحياء دعوته واستمرارها.
شغله ترقُّب الفرصة طيلة إقامته في بغداد، يرقب الأحوال في البصرة، يدعو لنفسه، يجمع الأعوان، يستميل الجماعات.
ساءه رفضُ يعقوب بن الليث عرضه بالتحالف ضدَّ جيوش الخلافة. وجد في هزيمة يعقوب من جيوش الموفَّق ما يدفعه إلى تقديم العرض. أذهله الردُّ القاسي: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
زاد من تعقيد الأحوال أمامه عدم تخلي الخلافة عن يعقوب. استمالته، وأرضته، وجدَّدَت ولايته على فارس.
قال يعقوب لرسول الخلافة: قل للخليفة إني عليل، فإن متُّ فقد استرحتُ منك، واسترحتَ مني، وإن عُوفيَت فليس بيني وبينك إلا السيف هذا، حتى آخذ بثأري، أو تكسرني وتفقرني، فأعود إلى الخبز والبصل.
ظلَّ يرقب الأحوال، وينتظر الانفراجة التي ينفُذ منها إلى قلب الأحداث. حرص أن يحيط نفسه بدائرة من الغموض والقداسة، فهو يعلم حقيقة ما في الضمائر وما تُخفي الصدور. وكان في سيرة أحواله يقرأ في كتاب على الجدار، ويسعى إلى العمل بما فيه، دون أن يرى كاتبه.
أمضى في بغداد عامًا، ثم أتَت الأنباء بعزل محمد بن رجاء من ولاية البصرة، وتجدُّد الفتن بين البلالية والسعدية، وفتح السجون، وخروج الكثير من أهل علي بن محمد وأعوانه، عاد إلى البصرة في رمضان سنة مائتين وخمسٍ وخمسين من الهجرة.
الانفراجة لم يدبِّر لها مخلوق. مات يعقوب، إثر عودة الرسول، في جند نيسابور.
أدرك علي بن محمد أن لحظة الانطلاق قد حانت. لم يبدأ رحلة الثورة إلا بعد أن أخضع كل شيء للدراسة الدقيقة. عرف الأخبار والمسالك والطرق ونقاط القوة والضعف.
أضاف إلى قوة نفسه جماعة من أخلص الأعوان، وأشدِّهم حماسةً للعمل بما يراه؛ علي بن إبان المهلبي، سليمان بن موسى الشعراوني، سليمان بن جامع، أحمد بن مهدي الجبالي، يحيى بن محمد الحرائي، محمد بن سمعان، وغيرهم. اتصل، في الوقت نفسه، بالزنج المشتغلين في كسح السباخ، يدرس أحوالهم، يقوِّي علاقته بهم. وسَّع مشغولياته بتحري أخبار البصرة، وتفاقم النزاعات والمعارك بين البلالية والسعدية. تزايد الزنج من حوله. امتد تأثير الدعوة مناطق في بغداد وسامراء والردم والبحرين. بلغ أتباعه خمسة عشر ألف زنجي.
عُني بأن يكون الوفاق صلة أعوانه، كل واحد بالآخرين. المساواة كاملة، لا تنظيم هرميًّا، والنصح، أو الأمر، مقبول من الأشدِّ إيمانًا، وحرصًا على الشهادة.
أمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة. حين اجتمع الناس خرج إليهم، اعتلى المنبر، وأمسك بالسيف الخشبي، حمد الله وأثنى عليه، ثم خطب في المُصلِّين. حركة الزنج ليست حربًا بين السُّود والبِيض، لكنها حرب طبقية بين العبيد والسادة، بين مَن يملكون كل شيء ومَن لا يملكون أيَّ شيء. في مقدمة ما تدعو إليه إلغاء الرقِّ من مجتمع المسلمين.
ثبَّت عينيه على نقطة يراها، ولا يراها الناس: أنا لم أثُر لعرض من أعراض الدنيا، وإنما غضبًا لله، ولما رأيت ما عليه الناس من الفساد.
وهز قبضة يده: أصابع اليد ليست متشابهة، لكنها تتشارك في الفعل، وحين تتكور فإنها تصبح قبضة.
استقرَّ في نفسه الشعور أنه يستطيع أن يتكلم دون أن يقاطعه أحد. الإصغاء ضرورة فلا يقطعون تسلسُل أفكاره، أو يشوشون على ما تهيأ لقوله.
خرج عن دعوته لاحترام الخليفة ودولة الخلافة، استبدل بما قاله دعوةً جديدةً ترفض الخلافة الوراثية لبني العباس، تقوم دولة الثورة، يتولى فيها إمارة المؤمنين. أدان الخليفة في بغداد، وولاته في الأقاليم، هم الذين شجعوا مُلَّاك الأراضي على أفعالهم الشريرة. العبيد بشر مسلمون، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. هدم المسلمون ما كان يعانيه البشر المسلمون من تفرقة في الجنس واللون.
لم يقتصر جند علي بن محمد على الزنج، اجتذب إليه أعدادًا هائلة من الأعراب، تحدوهم الرغبة في استلاب المدينة الزاخرة بالثروات.
بدَت الفرصة مواتيةً لبدء الثورة.
دار على جنوده، يتعرف على استعدادهم، يرشدهم إلى ما ينبغي فعلُه.
يطيل النظر والتأمل في الطرق والقُرى والسهول الواسعة المترامية من حوله، يختزن الرؤى والذكريات، يطمئنُّ إلى كل ما تقع عليه عيناه سيخضع لحكمه وإرادته.
أشدُّ ما كان يغيظه اختراق موكب الخليفة أسواق بغداد، يسبقه ويحيط به ويتبعه المئات من الجند والأمراء والأعيان والعلماء والوجهاء.
لماذا ينتصر الحظُّ للبعض، ويتخلى عن آخرين؟
يستولي عليه التصور أنه هو الذي يركب جواد الخليفة، من حوله الجند والخواص والعز والجاه.
هل هو الحسد؟ هل هي رغبة في الاستحواذ على ما يملكه الأرفع مكانة؟ لكن نفسه مشغولة بالزنج دائمًا، مهمومة بهم، لا صِلة لذلك بنظرته إلى غياب التساوي بين أبناء طبقته.
اطمأنَّ إلى أحقيَّته وأفضليَّته للحُكم؛ هو أحقُّ بالخلافة من المعتمد الذي صرفته عن أمور الحكم شواغل تافهة.
فوَّت على الناس ملاحظاتٍ تهامسوا بها، حين قال إن حياته بين الوجهاء أتاحت له أن يعرف ما قد يغيب عن الزنج من العز الذي أباحه الوجهاء لأنفسهم، ومنعوه عن الناس. يعرف حِيَلَهم، وكلماتهم المعسولة، وما وراء خُطَبهم المُنمَّقة، ووعودهم التي تذروها نسائم ضعيفة. أهمل حتى ما نقله الأرصاد أن علي بن محمد واحد من الأغنياء المتزاحمين على الجاه والسلطان، وأن نفسه تزيِّن له موضع القيادة في المسلمين.
وجد في رفض الخليفة دعوته إلى مجالس العلم والمناسبات الدينية وجلسات السمر وولائم الطعام، ما يشي بنظرة المعتمد إلى موضعه، هي مرَّات قليلة أَذِن له بإلقاء شِعر مديح في مجلسه. يعرف ما له من مكانة طيبة، لكنه ليس من خواص الخليفة، ولا أصفيائه.
إن لم يستطع نَيل المكانة العليا بانتسابه إلى طبقة الحكام، فإنه يستطيع أن يبلغ ذلك في ظلِّ السيوف والرماح والنبال، يتحقق له ما يريد بنباهته، وسواعد جنده. فشل، ذات يوم، بشِعرٍ له في امتداح حاشية الخليفة المنتصر، يحدوه الأمل أن يُلقي قصائده، بواسطتهم، في حضرة الخليفة.
كانت هزيمته قاسيةً في موقعة الردم بالبحرين، تفرَّق عنه أصحابه، فانتقل إلى البصرة، يتبعه قِلَّة من أتباعه، استضافه عرب بني ضبيعة، ولبَّى جماعة منهم دعوته للمشاركة في الثورة.
هل كان له دور في التدبير لما حدث في البصرة وتهيئة الظروف لعودته إليها، أو أن المصادفة هي التي أملَت ما حدث، فعاد إلى البصرة، ليبدأ رحلةً ثانية مهمَّة؟
بَدَا كل شيء — في زحام الفوضى السائدة والثورات والفتن — مهيَّئًا لمَن يحسن القيادة، والتدبير، وتصريف الأمور، واستمالة الناس.
نزل في قصر القرشي على نهر عمرو بن المنجم، وسط برغيل، بين مدينة الفتح وكوخ البصرة.
قدَّم نفسه وأتباعه بأنهم وكلاء عائلة من الأمراء في بيع أملاكهم من السباخ، وسعى إلى الزنج المشتغلين بالكسح، يجلس إليهم، يدرس أحوالهم، يمهِّد لصِلاتٍ بينهم وبينه.
تحدَّث، في مجالسه، عن الظروف القاسية التي يحياها الزنج. وعد بتحسين أحوالهم، اجتمع إليه منهم أعداد هائلة، زادت أعدادهم بما يشكِّل جيشًا، يخوض المعارك في بدايتها، يكتسب الأعوان والمؤيدين والمشاركين في تقدُّمه داخل البلاد.
انضمَّ إليه أعداد من مستضعَفي العرب والفرس والهنود والنبط، وجماعات من النوبة والقرماطيين والفراتيين، وطوائف من صغار التجار، والحرفيين، والعمال المسخَّرين في الصيد البحري، والبطالين في قُرى الريف.
لو أنه حُوصِر في البصرة، ومُنع عنه الطعام، فسيقتصر طعامه على نخيل التمر؛ أكثر من ثلاثمائة نوع من التمور يثمرها نخيل المدينة. ستفرد أيَّة أزمة قد يواجهها آلاف العبيد العاملين في أراضيها، هم أعوانه المحتملون، جنده الذين يقودهم إلى ثورته المرتقَبة. سخط الزنج يكفل التحرك، ووفرة التمر تتيح الصمود أمام الحصار الذي قد يفرضه، في البدايات، جند الخليفة.
في الإثنين، السادس والعشرين من رمضان، سنة خمسٍ وخمسين ومائتين من الهجرة، أعلن علي بن محمد قيام الثورة.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
القصر يمتلئ بالقاعات، والحجرات الواسعة، والأعمدة الجرانيتية الهائلة المُغطَّاة بالذهب، أو المُرصَّعة بالياقوت والزمرد واللؤلؤ، والأسقف المُعرَّجة، والأسوار العالية المُزيَّنة بالنقوش والمقرنصات والرخام، والقيشاني، والزجاج المُلوَّن المُعشَّق بالنحاس، والفسيفساء، والخطوط، والزخارف، والأشكال الهندسية، والأبواب، والمحاريب، والدعامات. كُسِيَت الجدران والأسقف برقائق الذهب، وطُعِّمَت بالعاج والجواهر الثمينة.
الأرائك محاطة بالمساند والوسائد، صُفَّت بطول الجدران، فيض من الأنوار يفترش القاعة الفسيحة، ومن السقف تتدلى المشكاة الهائلة المتداخلة الألوان، والثريات، والنجف، والشمعدانات في الجوانب والزوايا، وثمة السجاجيد، والبسط، والحشايا الوثيرة، والطنافس من الحرير والساتان، والكراسي، والزرابي، والستائر، والمرايا الهائلة، والخدم، والحشم، والعبيد.
يخضع لأوامر أهل القصور أعداد هائلة من الجند والموظفين والخدم. أحاط كلٌّ منهم قصوره وأراضيه بالجند وجماعات المجرمين، يخضعون لأوامره، يقتلون ويدمرون. تركَّزَت الثروات في أيديهم، واستولَوا على مساحات الأرض الشاسعة شرقي البصرة، واستغلوا آلاف العبيد في خدمتها.
رفع الأهالي العرائض إلى والي البصرة، ومقام الخليفة في بغداد، يشكُون توسُّع الوزراء والأمراء والكتَبَة في اغتصاب أراضٍ لا يملكونها، إلى أراضيهم. مساحات هائلة من المستنقَعات، أضافوها إلى ممتلكاتهم بواسطة جنودهم الشخصيين، لا صِلة لهم بجند الخليفة، يتلقَّون أوامر سادتهم، فينفِّذونها دون أن يلقوا اعتبارًا لخروج أفعالهم عن إرادة السلطنة.
كره الناس المعتمد، وأحبُّوا أخاه الموفَّق طلحة.
كتم الموفَّق رأيه؛ لم يكُن الأمر يحتمل الصراحة التي أَلِفَها حتى المعتمد نفسه. تعدَّدَت المعارك، فلم تحقِّق جيوش الخلافة النصر في معركة واحدة. لم يكُن اليأس ما داخله، لكن تحكم الترك والرقيق والخدم هو ما استقرَّ في يقينه.
عاب على المعتمد، في نفسه، ترك أمور الخلافة في أيدي الأتراك، يستبدُّون بمصائر الناس، ويعبثون بالخليفة في حضرته، يُخضِعونه لإرادتهم بالحصول على خاتمه في أوامر تستهدف مصالحهم الشخصية، لا شأن لهم بصالح الناس.
انتزعت الكلمات بجرأة محسوبة: كان الخليفة المهتدي يستطيع أن يقضي على التمرد في بداياته لو أنه تصرَّف وفق ظروف الخلافة، وليس بإملاءات الأتراك.
وضح الغضب في صوت الخليفة: كأنك لا تعرف باستلاب الأتراك أنفاسنا!
نفَذ الموفَّق إلى مقصده: علينا إذَن أن نحارب التمرد وإملاءات الأتراك!
تبدَّلت الأحوال منذ استعان الخليفة المأمون، للمرة الأولى، بالأتراك، واستخدمهم في دولته. لم يكُن لهم نفوذ ولا سطوة ولا تأثير، هبَّت ريح السموم في عهد الخليفة المتوكل، بدأ — لأكثر من مائة سنة — عصر نفوذ الأتراك، تقلَّد فيه الحكم ثلاثة عشر خليفة.
حاول الخليفة المهتدي بالله أن يجتثَّ الأعشاب الضارَّة، قضى الأتراك على المحاولة، باغتيال المهتدي مسمومًا.
هزم جنود علي بن إبان، جيوش منصور الخياط قائد العباسيين. عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفَّق طلحة على ديار مضر وقنسرين والعواصم، وفي أوائل ربيع الثاني، وجَّهه هو ومفلح — بعد أن خلع عليهما — إلى البصرة لحرب الزنج. تقاسم المعتمد وأخوه طلحة مُلك البلاد. للمعتمد تسمية أمير المؤمنين والخطبة والسكة، وللموفَّق طلحة ترتيب الوزراء والأمراء وقيادة العسكر، ومرابطة الثغور، والأمر والنهي وتصريف الأمور.
بَدَا المعتمد مشغولًا عن الخلافة، وعن الناس، وعن نفسه، باللهو واللذات. يقضي يومه في مجالس الشراب والمؤانسة والسمر والعزف والغناء، وسماع الألحان والكلمات، والتمايل مع دقات الدفوف والطبول، ومطاردة الغلمان والجواري.
امتزج تدافُع كلمات الموفَّق وتعبيرات يديه: هل الأتراك يريدون الخير لنا، فندعوهم إلى مشاركتنا القضاء على التمرد؟!
خشي الموفَّق أن يعيد ما صارح به المعتمد من قبل، فيغضبه. مشكلة الخلافة ليست في تعدُّد حركات التمرد، لكنها في سُلطة الأتراك داخل قصور الخليفة. تعاظمَت سطوة الترك، وهيمنتهم على أمور الخلافة. منذ قتل الأتراك الخليفة المتوكل، لم يعد للخليفة شأن، هو لعبة في أيدي الأتراك، إن شاءوا أبقَوه، وإن شاءوا خلعوه أو قتلوه، الخليفة لا يعي خطورة ما يترصده خلف الجدران، في البادية والخلاء والمُدن والقُرى والمساجد والمدارس والزراعات والمستنقَعات، وفي داخل قصوره. تفاقُم الأوضاع ألغى الأسئلة، لم يعد من المقبول مناقشة «لماذا؟» ولا «مَن المسئول؟» وكيف نعاقبه حين يحدث خطأ ما. إيقاف الخطر يسبق التأمل، وإلقاء الأسئلة، وتدبُّر قادم الخطوات.
التسمية للمعتمد منذ بُويع للحُكم في منتصف رجب سنة ٢٥٦ﻫ، لكن الموفَّق هو الذي يسيِّر الأمور، وهو الذي أعاد للخلافة قوتها وهيبتها.
حدجه المعتمد بنظرة معاتبة، ذكَّرَته بنظرة الأم الرومية: تركت لك إدارة الحرب، ودبرت من الجيوش ما لم يعرف لها العراق مثيلًا.
عقد الخليفة المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفَّق بن المتوكل بن الرشيد — هو أبو أحمد الموفَّق بن المتوكل بن الرشيد — يوم الإثنين، العشرين من ربيع الأول، سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، على ديار مضر وقنسرين والعواصم. وفي ربيع الثاني، خلع على الموفَّق ومفلح، ووجَّههما لحرب الزنج في البصرة، جيوش هائلة العدد والسلاح.
دعا الخليفة قوَّاده إلى تجهيز آلة الحرب، وتهيئة كل ما من شأنه يقضي على التمرد في مهده. وفَّر لجنوده كل ما يحتاجون إليه من السيوف والرماح والحراب والنبال والدبابيس والدروع الحديدية والخوذات الحديد والمؤن ووسائل الراحة، حتى الاحتياجات الجنسية أمر بجلب نساء العبيد لتلبيتها.
وهو يعدل عباءته الواسعة، ويثبِّت على رأسه عمامةً مزيَّنةً بشريط من القصب: لماذا إذَن هذا الخذلان؟ لماذا يفرُّ الجنود أمام قوَّات من العبيد يقودهم مغامر لا أصل له ولا وزن؟
وأخلى وجهه لأمارات غضب: هل ننتظر حتى يفعلوا فعل القرامطة فيقتحموا الكعبة؟!
وضع الموفَّق في صوته نبرة ضيق: تعرف أني اعتزلتُ الحرب.
– القائد الحقيقي لا يعتزل في أوقات الشدة، بل يقود جيشه إلى النصر.
واتجه إليه بإيماءة مستفهمة: ماذا تُسمِّي الفارس الذي يترجَّل عن جواده أثناء المعركة؟
اختلج ركن فم الموفَّق في ارتباك: أنا لم أنزل عن جوادي، إنما رفضتُ أن أركبه لأسباب أوضحتُها.
ما أزعج الخليفة أن المنضمِّين إلى علي بن محمد لم يقتصروا على السُّود، انضمَّ إلى حركته فقراء من قبائل العرب، والمزارعين، وأصحاب الحِرَف البِيض، الرافضين لقسوة أيامهم. لم يعد في استطاعة حامية أيَّة مدينة أن تدافع عنها، أو تردَّ قوَّات الزنج عن اقتحامها.
رفع الخليفة حاجبَين مقرونَين: ظني أنك لو عرضتَ عليه شراء عبيده، فسيقبل، ويعدل عن ثورته!
غلبه التحيُّر فيما ينبغي أن يفعله، تطلَّع إلى الأوضاع من حوله، راجع، وألقى أسئلة، لم يجد ردًّا يطمئنُّ إليه: عرضتُ عليه خمسة دنانير مقابل كل عبد، رفض الفكرة، وتحدَّث لرُسلنا عن أحواله المادية الميسورة، وأنه لم يعلن ثورته إلا دفاعًا عن الفلاحين، طالت أحاديثه عن الظلم والعدل والمساواة، بدَت الطريق مسدودةً أمام الرُّسل، فعادوا.
قال الخليفة: أعرف أن قصورنا لم تُغلَق في وجهه، كنا سننصت إليه لو أنه تكلم.
وضرب جانب الكرسي بقبضة يده: لو لم نَقضِ على هذا التمرد في أوله، فسيستولي الرجل على العراق كله!
وأشار بامتداد ذراعه إلى نقطة غير مرئية: لو أنه نجح في قيادة الزنج فلن يوقفه شيء!
كان الخليفة يأذن لي بالمشاركة، قلت: بلغني أن الرجل أخذ من موضع واحد خمسمائة غلام، وأخذ مائة وخمسين من موضع آخر، وخمسين من موضع ثالث، وثمانين من موضع رابع …
قاطعني بنبرة متلهفة: أخذهم جميعًا في يوم واحد.
أومأ الخليفة برأسه، يستحثُّني على المواصلة. ألفت الحديث — والقِلَّة من المقرَّبين — في حضرة الخليفة. لم يكُن لي صلة بالحكم ولا بأهله، اكتسبتُ مكانتي من العلم الذي اشتهرت به، والفتاوى التي أدعو الله أن يكون قد أفاد منها الكثيرون، والآراء التي شكلت حدودًا فاصلةً بين الصواب والخطأ. تحقَّقَت لي — فيما أظن — بين الجماعة مكانة، حمَتني من المؤاخذة والتهديد والابتزاز.
لم تكُن رواية التاريخ تشغلني، اكتفيتُ — لأعوام طويلة — بعملي كاتبًا في ديوان الخلافة، بعيدًا عن المصادر والمراجع والوثائق والسجلات. دفعني إلى الخروج من شرنقة العزوف ما قرأتُه من أفعال المؤرِّخين المُحدِثين. أضافوا إلى وقائع التاريخ ما يصعُب تصديقُه، اختصروا في الوقائع وحذفوا، ما وضع معظم الروايات في دائرة التشكُّك، تداخل الاختلاق بالروايات الموثوقة. أضاف إلى عزمي ما لاحظتُه في كتابات المؤرِّخين من ممالأة للحكام، فهم يدوِّنون ما يرغب الحكام بتدوينه، ويحذفون ما يريد الحاكم طمسه. عنيتُ بتنقية الحقائق من بين مئات الروايات والحكايات والوثائق والمذكِّرات والتراجم والسِّيَر الشخصية، ما يتوخى الموضوعية، وما يغلب عليه الخيال، وما يعاني الدسَّ والكذب والوقائع المختلَقة. حرصتُ على التدقيق والمراجعة، وإعادة ما يفتقد الدقة أو يعاني الركاكة اللغوية والأسلوبية.
تنحنحتُ لطرد ما أعانيه من ارتباك: أدان في كلماته أصحاب السُّلطة، قال: السادة يمتلكون السيوف والحراب وأدوات القتل. وقال: لماذا لا نمتلك ما يمتلكه السادة؟ وعلا صوتُه بلهجة متحمسة: الحرية هناك، في نهاية الأفق، ما علينا إلا التحرك ناحيتها.
غالب الخليفة ارتعاشة صوته: نحن نُولَد سادةً أو عبيدًا … هذه إرادة الله!
قال الوزير عمر التهامي في نبرة مؤمنة: نعم، هذه مشيئة الله، يجعل البعض سادة، والبعض الآخر مَسودين.
قال الموفَّق: الثوار ليسوا فقط من ذوي البشرة السوداء.
وشابت صوتَه رنةُ تحذير: بين الثوار سِحَن أبيض من اللبن!
استطرد الخليفة كالمتنبِّه: لماذا لا نحتوي قوَّاده وجنده، فنتركه وحيدًا، قائد نفسه.
كتم التردُّد في دخول مغامرة غير مأمونة العواقب، يعرف جيوشه، لكنه لا يعرف الجيوش التي ألفها علي بن محمد.
•••
تناوب الفريقان انتزاع المبادأة والأرض والانتصار.
دحرت جيوش الزنج القائد التركي جعلان إلى البصرة، ملكَت المدينة، وسائر ما يتصل بها من الأموال والقُرى والمضارب والديار، استولَت على الأبلة وعبادان والأهواز، تقدَّمَت إلى مُدن أخرى وصحارٍ وخلاءات. تأثرت بغداد لفقد المُدن، وأضيرت تجارتها بما لا يخفى.
حين بُويع المعتمد في منتصف رجب ٢٥٦ﻫ، ترك الأمر لأخيه أبي أحمد الموفَّق، صار هو المتصرف الحقيقي، وإن ترك للخليفة ألقابه ومظاهره.
أرسل الموفَّق جيشًا بقيادة سعيد بن صالح الملقَّب بالحاجب. أفلح — بمساعدة سكان الفُرات — في أن يحقِّق العديد من الانتصارات، لكن الزنج فاجئوه بهجوم مضاد، ليلي، فأحرقوا معسكره، وأعملوا في جنده مقتلةً عظيمة، ولم يكُن القائد منصور الخياط أحسن حالًا من الحاجب، حاول حصار الزنج، فكسروه، وأفلحوا في هزيمته.
سارت قوَّات الزنج — بقيادة علي بن إبان المهلبي — إلى البصرة، قطعت المواصلات المؤدِّية إليها، فعانت المدينة نقصًا واضحًا في المؤن والأقوات، بما مثَّل دافعًا لصاحب الزنج كي يقتحم المدينة.
بدأت عملية الاقتحام صباح الجمعة، السابع عشر من شوال، سنة سبعٍ وخمسين ومائتين للهجرة. وزَّع علي بن إبان المهلبي قوَّاته على ثلاث جهات، واصلت القتل والتدمير والإحراق والسلب والنهب إلى غروب السبت.
في صباح الإثنين عادوا إلى ما بدءوه، أهملوا وعد علي بن محمد لأهل المدينة بالأمان، قتلوا ما يربو على الثلاثمائة ألف، واسترقوا الآلاف من النساء والأطفال، وبِيعَت الهاشميات من علويات وعباسيات، وبِيعَ الرجالُ عبيدًا، كل زنجي حصل على عشرة أفراد.
لمَّا حلَّ المساء، كان كل شيء قد انتهى.
الناس على جانبَي الطريق التي سلكها جيش الزنج المنتصر، المحمَّل بالغنائم والأسلاب، يتخيلون أنهار الماء واللبن والعسل والخضرة والطعام الوفير.
أَلِف الناس، في شوارع البصرة، رؤية جماعات الأسرى وهم مطوَّقون بالأغلال والسلاسل، والأطواق الحديدية حول أعناقهم، تلاحقهم السياط ووخزات السيوف.
الآلاف من الناس يتابعون المشهد الحزين، يعلِّقون، يُبدون التأثر والشماتة. مئات الأسرى طُوِّقَت أعناقُهم بالأطواق الحديدية، واتصلَت سواعدُهم بالسلاسل التي جعلت منهم طوابير بطيئة متجاورة. يعمِّق من تأثيرات ما يحدث صهيل الجياد، وصليل السيوف، والغبار المتصاعد من وقع الأقدام، والأبواق التي يتصاعد صوتها في مقدمة الموكب، وفي نهايته.
همس الموفَّق بصوتٍ مشروخ: أهلك جنود علي بن محمد الكثير من أفراد عائلة الخليفة.
وغامت نظرته بسحابة أسًى: قُتلوا، أو أُغرقوا في البصرة!
أجاد الزنج استغلال الطبيعة القاسية، أجرَوا المياه على السباخ التي حاول أن يسلكها جند الموفَّق، فعادوا متقهقرين. حفروا الخنادق في مواضع متناثرة، فحالوا دون تقدُّم جيوش الموفَّق. أضاعوا على الجند الكثير من الوقت والجهد لردم الخنادق والأنهار والمواضع الضيقة، حتى تجد الجيوش طريقًا لها، نصبوا الكمائن بين أشجار النخيل المتكاثفة، وفي القنوات المغطَّاة بالحشائش، أفادوا من الأرصاد والجواسيس والطلائع في التعرُّف إلى تحركات جيوش العدو، وكانوا يرقبون أوقات هبوب الرياح، فيهاجمون السفن في دجلة، يأسرونها، ويتبعون مَن يُلقي بنفسه في الماء، لا ينصرفون عنه إلا بعد أن تبتلعه المياه حيًّا أو مقتولًا.
أعاد الموفَّق تنظيم قوَّاته، دفعها إلى معاودة الهجوم على جيوش الزنج، المعركة الفاصلة دارت عند نهر أبي الخصيب. وشَت البداية بنجاح لجيش الموفَّق، قبل أن تميل كفَّة الميزان لصالح جند الخليفة، تواءَم وصول علي بن إبان من الأهواز على رأس المئات من الجنود، ومقتل مفلح أكبر أعوان الموفَّق. اهتزَّت البنية، وداخَلَتها الشقوق، توالَت كمائن الزنج، واعتمادهم كل وسائل التدمير، حتى الخيام صارت طعمةً للنيران، فلاذ الجند بحياتهم، تفرقوا عن الموفَّق، حتى خاصة أعوانه تخلَّوا عنه. انهارت جيوش الخليفة تمامًا في أواخر ٢٥٨ﻫ.
نُودي باسم أمير المؤمنين علي بن محمد في البصرة، وارتفعت له الأصوات بالدعاء والهتاف.
•••
سحب الموفَّق جيشه ليعيد تنظيمه. لم يعد لقوات الخلافة وجود في ساحة المعارك، انطلق جند الزنج في المناطق المجاورة، دخلوا الأهواز في السادس من رجب، سنة ٢٥٩ﻫ.
قال أبو أحمد الموفَّق: أعيد حساباتي كثيرًا لضيق المواضع التي نحارب فيها، وصعوبتها، وكثرة الخنادق والأنهار في المنطقة.
ثم وهو يحاول نفض شعوره بالعجز: لو أن الأرض يابسة كنتُ أنهيتُ هذه الحرب السخيفة في ساعات!
استيلاء الزنج على البصرة يعني النفاذ إلى الميناء النهري الوحيد للعراق كله، تهديد التجارة الصادرة والواردة هي مفتاح أرض السواد، خطر العبيد السُّود لن يقتصر عليها، لكنه يهدِّد كل المناطق المجاورة.
لم يخامره اليأس، واجه الخسارة في الكثير من المعارك، هزم، وتنازل، ومضى بما أُملي عليه، لكن النصر ظلَّ هدفًا دائمًا. حتى هزيمة جيوش يعقوب بن الليث لجيوش الخلافة، ما لبثت — بإصراره وحسن قيادته — أن تحولَت إلى نصر، وفرَّ يعقوب بفلول زنجه إلى خوزستان.
اطمأنَّ إلى المئات من الزنج والعبيد، يتجهون بولائهم إلى علي بن محمد، لكنهم لا يسقطون عنه الولاء.
قال المعتمد في لهجة متخابثة: إذا فقدَت الرعية قوَّتها، قد لا يحتاج الحاكم إلى القوة لإخضاعها!
تحسَّس الموفَّق وجه أخيه بنظرة مشفقة: لكن الجيش يتكون من هؤلاء الرعية.
– مَن يلتحق بالجيش، لا بدَّ أن يدين لي وحدي بالولاء!
ضيَّع الكثير من الجهد والوقت لردم الخنادق والأنهار، والمواضع الضيقة، فيسلك فيها الجند والخيل.
عانت جيوش الخليفة مما لجأ إليه الزنج من غمر السباخ الذي يسير فوقه الجنود، فيلحقهم التعب، ويتوقفون.
قال الخليفة: لعلَّ علي بن محمد نسي أن أهل العراق لم يهتدوا بالأنبياء الذين أُرسلوا إليهم!
وعاود ضرب جانب الكرسي بقبضة يده: إنهم لا يسلِّمون قيادهم إلا لمَن يبادرهم الشدة!
•••
استجابت إلى الطرقات على باب البيت، تبعتها نداءات باسمها مسبوقة بالقول بنت السيد الكندي. لم يكُن يجرؤ — حتى بينه وبين نفسه — على النطق باسمها.
أهملَت تحذير أبيها، فلا تفتح باب القصر. تغادر جوهرة إلى بيتها القريب بعد أن تغلق كل نوافذ البيت، الحارس العجوز يأوي إلى حجرته خلف البيت، تغلق هي النوافذ في وجه أسراب البعوض القادمة من المستنقَعات، وإن تتسلَّل حتى من أخصَّة النوافذ، تلدغها، فتؤلمها. يحلُّ المساء، فتهجم أسراب البعوض، تطنُّ وتلدغ، تخترق حتى الثياب فتنفُذ إلى البشرة تحتها. كان الخدم — قبل أن يرحل الجميع — يشعلون النيران في الحطب، وفي الخلاء المحيط بالبيت، يحاولون طرد أسراب البعوض القادمة من المستنقَعات. تأثيرات الدخان تؤذي العين، لكن خطرها أقلُّ من لدغات البعوض.
الطرق ممتلئة بالعبيد والمشرَّدين الذين أتَوا من القُرى البعيدة، إذا أردت شيئًا، فالجئي إلى الخدم، الزمي البيت حتى تنجليَ الغُمَّة.
صحب أبوها أمها، وكل الخدم والعبيد، عدا جوهرة التي تتعهد تنشئتها منذ الطفولة. مع أن المرأة تنتسب إلى العبيد، فإن أباها لم يعاملها باعتبارها كذلك، وحين تعلقت بها فوز صارت من أهل البيت. لم تعد تنام في مكان العبيد أو الخدم، موضع نومها في حجرة لاصقة لحجرة فوز، تلبي النداء حال سماعه، تظلُّ بالقرب من الفتاة التي أخذت في نفسها موضع الابنة.
حلَّ في البيت هدوء لم تعهده من قبل، يعمِّقه خرير انبثاق الماء من نافورة الفسقية الرخامية، وسط الحديقة.
أدركَت أنها رأته من قبل: أين؟ متى؟ لا تذكر تمامًا. لم يكُن من المتردِّدين على البيت، لكن ملامحه بدَت مألوفةً لعينيها، كأنها اعتادت رؤيته. غابت الصلة بين حياتها داخل البيت، ووقفته على باب الدكان.
هو صاحب إسطبل الخيل قبالة البيت. طالما رأته، قبل الثورة، يتحدث إلى الخدم، على باب البيت، تراه من وراء الثقوب المُطِلَّة على الباب، دون أن يراها.
شيءٌ ما في عينيه، أخافها.
رفضَت أن ترافق أهلها رحيلهم خارج البيت، لا شأن لها بأي شيء. سمعَت قصائد لقائد الثورة، وسمعَت عنه. لم تساورها مخاوف من حدوث ما يعكر صفو الأمان الذي تعيشه القرية. تثق أن ما يحدث لن يمتدَّ إلى الآمنين في بيوتهم. اطمأنَّت، وظلَّت في البيت.
عابَت على الخلفاء أنهم هم الذين أتاحوا للأتراك تسلُّطَهم، وتدخُّلَهم في أمور الدولة، يقضون بما يرون، ومشيئتهم نافذة.
نقل الخدم ما في البيت من الأمتعة ذات القيمة على عربة يجرُّها جوادان، ويحيط بها حراس.
ظلَّت واقفة — إلى جوارها الخادمة جوهرة — على باب البيت، حتى تحولَت العربة إلى نقطة سوداء، متحركة، في نهاية الأفق. ذوَت حتى تلاشَت.
ركن المعلِّم سعد الكندي إلى حرصها على نفسها، أكثر من اعتماده على الخدم والحراس.
هي ابنته الوحيدة. اقتصر على زوجة واحدة، أنجبت له فوز، إذا لم يكُن قد أنجب ذكورًا يقفون إلى جانبه، ويدافعون عن الأُسرة، ويَصِلُون حياتهم بحياته، فإنه حرص أن تكون مغايرةً لكل الفتيات. بدَت صِلَته الوحيدة بمعنى الحياة، بتجارته وحياة الأُسرة وأُفق المستقبل.
أعطاها اهتمامه ورعايته، كأنها البنين والبنات. أخلص لتربيتها بما لَفَت حتى أمها، تساوى شعورها بالإشفاق على فوز وعليه. تعلَّمَت فوز كل ما ينبغي أن تتعلمه فتيات الأُسر الطيبة؛ أجادَت الطبخ، جلسَت إلى المدرِّسين، أتقنَت القراءة والكتابة وعلوم الحساب والعديد من اللغات، ودرسَت التاريخ والجغرافيا، وتعلَّمَت الموسيقى، والعزف على الآلات، حفظَت الكثير من الحكايات والأقوال والأمثال والألغاز. أُذِن لها بمحادثة الرجال في الشِّعر والأدب، من وراء ستار.
حاولَت التقليل من سأم الحياة في الحريم، في مدينة قصيَّة، تعدَّدَت رحلاتها بين السعدية ومُدن وقُرًى تضمُّ الأعمام والأخوال، مجرَّد تغيُّر المكان يطرد عنها الشعور بالملل. تجد في بيت أبيها ببغداد مكتبةً أكبر من التي تعود إليها في بيت السعدية، لكنها تجد نفسها في البيت الذي يحيط الخلاء بمعظم جوانبه. تترامى رائحة المستنقَعات، وبياض السبخات المالحة البعيدة يضوي بالألق. ربما ركبَت الجواد، وانطلقَت إلى الخلاء المحيط، والخدم والعبيد على مقربة، تصيد الأرانب البرية والغزلان.
أغلق دريد الطيواني الباب خلفه، تطلَّع إليها، وتلفَّت حوله، بعينين يتمازج فيهما الشهوة واللهفة والتذلُّل.
القاعة عالية السقف، خالية الجدران، إلا من نوافذ في الجانب المُطِلِّ على الواجهة، أقرب إلى المشربية، تأذن ثقوبها بتسلُّل أشعَّة الشمس، وإن ظلَّت الشمعدانات المتدلية من السقف مُضاءةً أوقات النهار، وثمة جرار وصناديق فارغة تناثرت في القاعة، ما يشي بفوضى رحيل أهلها.
تملَّكت جسدها — وهو يتقدم منها — ارتعاشة، فلا تستطيع الكلام، أو التصرف على أيِّ نحو.
رفعَت يديها كأنها تدفع خطرًا: ماذا تريد؟
ورمَقَته بنظرة متفحِّصة، تتبيَّن نيَّته: لا أحد في القصر.
قال الطيوانى: أريدكِ أنتِ!
أغلق دكانه، وانضمَّ إلى قوَّات الزنج. ساعده سواد بشرته على الانخراط فيها، كثيرون انضمُّوا إلى الثورة، لا لأنهم آمنوا بما تدعو إليه، وإنما لأنهم وجدوا فيها ما يتيح لهم الحصول على مكاسب مستعصية.
عاد إلى الدكان بعد أن دانت الأمور للزنج، هم الذين يحكمون، ويقرِّرون، ويُصدرون الأوامر، ويهبون المِنَح لمُناصريهم، ويفرضون العقوبات على مَن يواجههم بالعداء.
– طول عمري أعطيكِ ما تريدين، ولا أحصل على ما أريده.
وهي تمدُّ راحتَي يديها: خُذ كل ما تطلبه من نقود.
– ما أريده أثمن من النقود.
وتحشرج صوته: أريدكِ أنتِ!
أثارت الفرصة المواتية نفسه، حرَّكت في داخله رغباتٍ لم تكُن تشغله، ولا تصوَّر أنه يملك تحقيقها.
بَدَت، في اقترابه منها، جميلةً كما لم يشاهد في حياته، تبيَّن حتى الغمازتين في خديها، أضافتَا إلى وجهها مَلاحة.
رمقها بنظرةٍ مباشرة: أعرف أنكِ بمفردكِ في البيت.
وأشار ناحية الباب: خادمتك … آخر مَن بقي إلى جانبك … رأيتُها تتجه خارج القرية.
أحرامٌ على مثلي أن يهفوَ إلى مَن يحب؟
أنتِ دائمًا بعيدة، أراكِ ولا ترينني، لا تشعرين بي، لا تشعرين بدنياي التي لا يوجَد فيها سواكِ. أُجري بيني وبينك، في خيالي، حوارات، أتكلم وتنصتين، تُبدين التفهُّم والعطف والمشاركة، أتصوَّر أنكِ تبادلينني مشاعري، أنك تحبينني. أتبعكِ، بإشارة منك، إلى الحجرة التي أشبِّهها بالجنة، وإن كنتُ لا أعرف وصف الجنة.
حدس، للمرة الأولى، أن الثمرة التي تمنَّاها، تدلَّت من الشجرة، ودنَت من يده، عليه أن ينفض الارتباك، ويلتقطها.
– الناس رحلوا … البيت بعيد عن العمران، إذا استغثت فسيبتلع المكان استغاثتك.
البيت وسط الخلاء، الشوارع الواصلة بينه وبين ما حوله أقرب إلى المدقَّات، اختلط فيها الحصى والرمل والتراب، يصعُب على النظرات الفضولية، أو المتلصِّصة، أن تشاهد ما فيه، لبُعد المسافة بين مواضع الإطلالات، والأماكن التي تتيح المشاهدة من خارج البيت. تتنقل بين الحجرات والسطح والحديقة، دون أن تلحظ ذلك الذي يحرص — من داخل دكانه المعتم — على مراقبتها، يتابع صعودها إلى سطح البيت، تنقُّلها بين الحجرات، كل النوافذ مفتوحة، لا تلحظ ذلك الغريب في موقعه البعيد، القريب، تشغله المتابعة والمراقبة. الرجل، في مدى الرؤية، مقطوعة، والأصوات المقتحمة، المفاجئة، تدفع بتلقائية إلى إغلاق الشبابيك، ولزوم النساء داخل البيت.
حين طلبت أمها أن ترتفع أسوار البيت، رفض أبوها مناقشة الفكرة. قد تصحُّ الأسوار لبيوت المدينة المزدحمة، وقريتنا لا تحتاج إلى تلك الأسوار.
لم يكُن الشبق وحده هو ما تجده في عينيه، كانت العينان تطلقان نارًا تشعر في اقترابه بلهيبها.
بَدَا كالموت الذي لا تستطيع مغالبته، كأنها تقف في بقعة الدم، وسيف المشاعلي في يده يرفعه للإطاحة برأسها.
اقترب منها.
أزاح بقدميه ما تناثر على الأرض من أوعية وجرار، واصل اقترابه حتى لامسَت أنفاسه وجهَها. أشاحت وجهها بعنف، تحاول أن تتملَّص منه، حطَّ يده فوق كتفيها، طوَّق بيده الأخرى فمها فأسكتها، أدار كتفيها وجسدها ناحيته، مال عليها بشفتَين تفتِّشان عن موضع تصل إليه القُبلات. حاولَت أن تدفعه، فلم تستطع، ألجمها الفزع، لم تقوَ على الدفاع عن نفسها، تعثَّرت في قِطَع الأثاث. قبل أن تلمَّ نفسها، ألقى بجسده فوقها، قيَّد صدرها بذراعيه، فلا تستطيع الحركة. ضمَّها إليه بآخر ما عنده، لم ينهض عنها إلا بعد أن ارتوى.
وهو يعيد ارتداء ثيابه: حلم عمري أن أضاجعك.
ورسم على شفتيه بسمةً باردة: ستدخلين الجنة لأنكِ حقَّقتِ حلم بائس مثلي!
انتفض جسدُها بالنشيج، أحسَّت أنها مخنوقة بالصراخ، تريد أن تصرخ، فلا تسكت حتى يأتيَ مَن يغيثها، تمنَّت لو أنه — بعد أن قام عنها — قتلها.
أشاح ببصره في استياء: أنا عبد وأنتِ امرأة، والمرأة ليست أفضل من العبد!
أمضَت الليل تراقب الخدم وهم يملئون الصناديق بالنقود والثياب والأشياء الثمينة، المصنوعة من الذهب والفضة، المزيَّنة بالجواهر والأحجار الكريمة.
أهمُّ ما حرص أبوها على نقله خزانة هائلة، ملأى بالكتب والمخطوطات، أشرف بنفسه على نقل الخدم لها.
اكتفَت بالمشاهدة دون أن تتدخل بملاحظة أو سؤال.
انشغل الناس بلمِّ أشيائهم الضرورية، دسُّوها في صناديق، أو في لفات، وضعوها فوق الجِمال، أو الحمير، أو الخيل، أو العربات، وانطلقوا بعيدًا.
أخلى السُّراة قصورهم وبيوتهم مما بها من الثروات والأشياء الثمينة، وكل ما يستطيعون حمله، تتسارع أيديهم بلهفة التوقُّع.
أعدُّوا أنفسهم للهجوم المتوقَّع، حصَّنوا أنفسهم داخل الغُرف، وأغلقوا الأبواب والنوافذ.
أهمل سعد الكندي فكرة السفر حين عرف قائد الثورة، تذكَّر أن علي بن محمد لجأ إليه قبل ثلاث سنوات، حصل على قرض لاستكمال بيتٍ له في البصرة، لمَّا أراد أن يسدِّد ما اقترضه — فهو ميسور — طلب الكندي أن يكون ذلك على أقساط، فلا يُرهق نفسه.
لكن الأحداث توالَت بما غاب عن التصوُّر، اتسعَت دوائر العنف والتدمير والقتل والنهب والسلب، سقطت رءوس كان أصحابها على ثقة من أنها ستظلُّ فوق أجسادهم، صار الموت في كل مكان، في داخل البيوت، وفي الشوارع والأسواق والخلاء، حتى الشيخ النعيمي، إمام الجامع الكبير بالبصرة، اقتحم عليه خلوته الليلية مَن أطاح برأسه.
تابعَت أهل السعدية، وهم يغادرون المدينة — فُرادى وجماعاتٍ — يتدافعون، يكتفون بما عليهم من ثياب، أو يحملون ما يستطيعون حمله، أو يمتطون الدواب، أو يملئون العربات التي تجرُّها الجياد، ينطلقون بها في اتجاه المُدن البعيدة عن مواضع جيوش الزنج.
قال سعد الكندي: سنرحل إلى بغداد … حتى الخدم سيأتون معنا.
أدرك أنه لا سبيل لنجاة أُسرته سوى الرحيل عن السعدية، هذه أول مرة يفارق بيته وممتلكاته وأراضيه، لم يكُن في باله تصاعُد الأحداث، فيحاول الفرار بأُسرته. العراق فسيح، جيوش الزنج لم تصل إلى مُنتهاه، له في بغداد بيت وأقارب وأصدقاء، ينزل في ضيافتهم حتى تنجليَ الغُمَّة.
اقتصرَت تجارته لأعوام على بيع الحرير، امتدَّت تجارته إلى بلاد الهند والسند وما وراء البحار. عُني باستيراد الحُليِّ الذهبية والأحجار الكريمة والعاج وريش النعام، اتسعَت ثروته، وزاد نفوذه بين جماعة التجار، هو حاضر دائمًا عند الحاجة إليه، يبذل عونه في أوقات الأزمات. ربما دفع الضرائب والمكوس نيابةً عن تجار يعانون ضائقة، أو يسدِّد قيمة بضائع تصل ميناء البصرة بأسماء آخرين، يعتصم بالصبر حتى يدبِّر التجار أنفسهم، ويحصلوا على بضاعتهم المُودَعة في وكالاته دون أن يطالبهم بغير ما دفعه.
صار شيخًا لطائفة التجار، له فيهم كلمة نافذة، يقضي فيما قد ينشأ بينهم من خلافات، يفصل في المنازعات بين تجار الجملة وباعة التجزئة والقعيدين، يشهد على المعاملات والصفقات وعقود الشراكة، يقف أمام القاضي للشهادة في الدعاوى التي يعلم خفاياها.
قَصَر حياته على التجارة، من غير سعي لسُلطة، يصادق الحكام، يفيد مما يملكون من سُلطة، ويفيدون مما يملك من أموال، لكلٍّ حدُّه الذي لا يجاوزه. أحجم عن أفعال التجار ومُلَّاك الأراضي والمستنقَعات، لم يحاول الاستمالة، ولا الحصول — بالبرطيل — على ما ليس من حقِّه.
نال الحظوة عند مقام الخليفة، وفي أعين الوزراء والكَتَبة والوجهاء والعلماء.
شيَّد هذا البيت، المُطِلَّ — في معظم جوانبه على الخلاء — كي يفرغ إلى كتبه وأوراقه. زوَّده بالأمتعة والنفائس التي لا تحويها إلا قصورُ الخلفاء والملوك والسلاطين، الفُرُش والمكتبات وقناديل النحاس المكفَّت والزجاج المذهَّب، المسجد الصغير يقتصر أداء الصلوات فيه على المقيمين في البيت، إسطبل الخيل، مخزن حفظ المؤن، الحمَّام الخاص، الطاحون، الفرنت، الحديقة الواسعة، النافورات. صار له خدم وأتباع وعبيد.
قالت فوز مهوِّنة: هذه ليست أول مرة تتركني بمفردي!
كان يسافر إلى بغداد في رحلات للتجارة، يقضي أيامًا تطول أو تقصُر، يأخذ معه كل الخدم، لا يؤانسها في البيت إلا جوهرة، والحارس العجوز جعفر.
سرى خوفٌ في صوت الكندي: الأمر يختلف هذه المرة، إنه يطلب رءوسنا.
– وَهْم!
– لم أعلِّمْكِ أن تسخِّفي ما أقول.
وهي تطوح بيديها: أقصد الوهم الذي نعيشه منذ بدأت الثورة.
وهشَّت بعوضة تطنُّ في أذنها: لم يخرجوا للثأر ولا للقتل، خرجوا لطلب العدل.
وشى صوت الأب برنة غضب: ذلك الذي تدافعين عنه ستكون نهاية حياتنا على يديه!
– الرجل لا يملك إلا الكلمات الطيبة!
قال في غضبه: كلماته الطيبة يستثير بها الزنج، يحرِّضهم على قتلنا!
أعادَت خُصلة الشَّعر المتهدِّلة بهبَّة هواء مفاجئة: أعرف أنه لا يهاجم القُرى التي لا تتعمَّد إيذاءه!
– مجرَّد تطمينات كاذبة!
ثم وهو يهزُّ طرف لحيته بيده: وقِيلَ إنه يقتل كل مَن يصل إليه!
وعلا صوتُه: أخشى زنوجه رغم أني أساعده!
مع أنه تعرَّف إلى علي بن محمد، منذ سنوات، وقامَا بمعاملات، فإنه لا يعرف — بتناقض الروايات — حتى القبيلة التي ينتمي إليها، أو الأتباع الذين يقودهم. ما تيقَّن منه أن الدعوة التي يحملها الرجل تنتصر للعبيد على السادة؛ أعلن في بدايات ثورته أنه لم يثُر لغرض من أغراض الدنيا، إنما غضبًا لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد.
وسأل دون أن ينتظر إجابة: هل كان صادقًا فيما قال؟ ألم يكُن كاذبًا؟
ثم وهو يغالب انفعاله: حتى ادِّعاؤه النسب العلوي يكذِّبه أصلُه الفارسي.
التمعَت عيناها بعتابٍ صامت: يا أبي، هو عربيُّ النسب، لغته العربية، وله شِعره وخُطَبه التي يتناقلها الناس.
اتجه الكندي إليها بنظرةٍ حزينة.
يخادع نفسه لو أنه تجاهل السبب الحقيقي لمتابعة ابنته أنباء معارك ابن محمد ضدَّ الخليفة والولاة ومُلَّاك الأراضي، حرصها أن تظلَّ — ولو بمفردها — داخل البيت، إهمالها ما يأتي به الرُّسل من أنباء المذابح والتدمير. ملأ حبُّ علي بن إبان المهلبي نفسها، ذلك هو الباعث لكل ما تعانيه، لكل أفكارها وأسئلتها وأقوالها وتصرفاتها وتمنِّي الانتصار — ربما — لجيش الزنج.
يعرف أنها تحبُّ المهلبي، من طبقة الموظفين، وإن كانت له عند صاحب الزنج منزلة طيبة، فهو لا يردُّ له طلبًا ولا مشورة. تتصور أنه سيحمي البيت من أيَّة محاولة للاعتداء عليه.
من قبيلة عُرفت بثرائها، عُرف عنه رفضُ التكلُّف، والمراسم المعقَّدة، والطقوس التي لا معنى لها. لم يميِّز نفسه عن بقية الناس بقَصر، ولا بيت فخم، ولا حياة مرفَّهة.
تعلَّم فنون الحرب والضرب والقتال والنزال والفرِّ والإقدام والإحجام والزحف والإدبار والغلبة والفرار، وتعلَّم السباحة والمصارعة وتسلُّق النخل وصيد الثعالب وركوب الجياد والمبارزة بالعصا والسيف والخنجر، وقَذْف السهام ولعب الكرة والصولجان. عُني بتربية الصقور والبُزاة والطيور المدرَّبة على الصيد، يصحبها إلى الخلاء، يقضي الأيام في صيد الأرانب البرية، يميل إلى مشاهدة صراع الدِّيَكَة، والاستماع إلى السِّيَر الشعبية وحكايات الرُّواة.
أظهر في المعارك قدرةً على القتال، ودهاءً في السياسة، وصبر على المكروه. يصرع مَن ينازله بضربةٍ واحدة، أداتُه قبضتُه، لا يلجأ إلى سلاح من أيِّ نوع، وإن كان يجيد اللعب بالسيف، ينيمه فوق رأسه، ويؤدِّي رقصًا عنيفًا. ربما حمل السيف، وبارز به عدوًّا مجهولًا في قُطر دائرة واسعة. يبرع في سلِّ السيف، توجيهه إلى حيث يريد قبل أن تصل يد العدو إلى موضع سيفه.
يتلاعب بالسيف، أو بالمِطواة، فلا يباريه أحد، يدعو إلى مبارزة، فلا يهزمه مَن يقبل التحدي.
حفلت حياتُه بالمعارك والبِراز، يستطيع المبارزة بسيف في طول الخنجر، يحسن التراجع وتفادي الضربات، حتى يطيح — بآخر قوته — بالسيف الذي يستهدفه، يتبعه بطعنة نافذة في القلب أو البطن. قد لا يستخدم السيف في نِزاله، يجد في ذراعه وجانب يده ما يؤدِّي عمل السيف تمامًا.
يعتزُّ بأنه خاض الكثير من المعارك، إعمال سيفه في الآخرين دون أن تخلِّف محاولاتهم للنَّيل منه خدشًا، أو ندبةً، خلَّفها نصل سيف، أو قذفة رمح، إجادته الكرَّ والفرَّ والمناورة والضرب في اللحظة المناسبة، واتقاء الضربة قبل أن تلامس الجسد.
لكثرة ما صرع من الرجال، افتقد مَن يجرؤ على منازلته، فرُّوا من أمامه، اختبروا قوَّتهم في النِّزال بعيدًا عن ضربات يده.
عُرف عنه إجادته الخُدَع الحربية، قاد قوَّات الزنج في انتصارات على قوَّات الخلافة، في الأهواز، وقطع مواصلات البصرة بدجلة. هيَّأ الظروف بنقص الميرة لإقدام علي بن محمد على مهاجمة البصرة.
رفضَت كل الرجال الذين تقدَّموا إليها، المهلبي وحده في ذهنها، لا تتصور نفسها زوجًا لغيره، حتى لو كان زوجًا لغيرها. لم يتقدَّم لأبيها، ولا عرض عليها الفكرة، لكنها اختارته — بينها وبين نفسها — دونًا عن بقية الرجال، اجتذبها عيناه النفَّاذتان، وأنفه المستقيم، وقامته الطويلة، واعتناؤه بزيِّه العسكري، والسيف المتدلي إلى جانبه.
لم يستهوِها فيه ملامح جمال، إنما اجتذبتها دلائل فتوَّته. كان قويًّا في بدنه وتصرفاته وأقواله وأوامره، كأنما خُلق ليكون سيدًا.
هل أحبَّته لأنه الشابُّ المصادفة في حياتها، أو لأنها وجدَت فيه ما يحرِّك قلبها بالحب؟
حين ناخ الجمل بهودجها، في الطريق بين بغداد والسعدية، لم يخطر ببالها أن الشابَّ هو الذي سيعود بها إلى القرية، وبيتها، ضمن قافلته.
لم تعرف سببًا لما حدث، اهتزَّ الهودج فتصوَّرَته يسقط. تناهى صوتُ الخادم في أسفل: الجمل ناخ، لم تستحثَّه كل المحاولات على القيام، لكزه الخادم بالعصا، ضربه، صرخ فيه، لكن الجمل ظلَّ في موضعه. تحسَّسَت وجهها وجسدها، خلا الوجه من أثر لجرح، وشعرَت بألم في ساقها اليمنى.
لم يعد سوى الانتظار حلًّا لما تعانيه.
الهودج مغلق الجوانب، الستائر في الداخل مُسدَلة، عدا كوَّتَين تسمحان برؤية الطريق. يقود الجمل خادم زنجي، ألحقه أبوها بخدمته من الصِّغر، ترى حركة الطريق من النافذة الضيقة إلى جوارها، لا تذكر أين كانت تشرد، بعيدًا عن المشاهد المتكررة، أو المشهد الواحد المتصل على جانبَي الطريق، مساحات من الرمال لا نهاية لها، تتخلَّلها تلال وصخور وبقايا أبنية وشجيرات متناثرة. الغبار الذي أثاره سقوط الجمل، لم يُتِح لها أن تدقِّق النظر من خلال الكوَّتَين الصغيرتَين، ما يتناثر على الجانبين من مشاهد تشي بالمكان.
لم يكُن فيما حولها ما يدلُّ على شيء، الخلاء يمتدُّ من كل الجوانب، تتخلَّله سلاسل صغيرة من الجبال، غاب حتى وقع أخفاف الجمال، وحوافر الجياد.
خافَت ألَّا يكون في الخلاء المحيط بها بشر، لم تصادف في طريقها مكانًا تأنس إليه، ولا تبيَّنَت إن كانت الأصوات المترامية نباح كلاب، أو عواء ذئاب، أو أصوات حيوانات أخرى. في بالها ما يرويه أبوها عن البدو الرُّحَّل، يجيدون التنقُّل بين الجبال والمسارب والشعاب والأودية والدروب غير المطروقة، يعترضون طرق القوافل، يغزون مضارب العشائر ومراعيَهم.
أحسَّت بالعجز والخوف، قبل أن يعلوَ الصوت، وصاحبه ينقر باب الهودج بإصبعه: مَن في الداخل؟
غرقَت نظراتُه في ملامحها، كأنها الحور في الدنيا؛ الشَّعر الذهبي تجمعه على هيئة كعكة فوق رأسها، البشرة البيضاء المشرَّبة بحُمرة، الأسنان كأنها تُصدر وميضًا. حتى الخوف في العينين اللوزتين الواسعتين زادهما جمالًا. ترتدي عباءةً سوداء، مضمومةً إلى وسطها بحزام مزدان بخيوط مذهَّبة.
وقف أمامها مشدوهًا، لا يتحرك، ولا ينطق، ولا يفكر في اللحظة التالية، لم يتصوَّر فتاةً بكل هذا الجمال، سيطر عليه جمالها، فاكتفى بالنظرة المحدِّقة الثابتة. أخذه التألُّق في عينيها، ملكَت عليه ذهنه ووجدانه.
تشابكَت النظرات، فأيقنَت هي أيضًا أنها لن تنسى ملامحه.
تظاهر بالتطلُّع إلى بعيد: هل جئتِ إلى هنا بجملٍ واحد؟
أشارت إلى السائق: هو دائمًا يحمل الهودج.
– لكن الطريق صعبة.
وأعاد تأمُّل ملامحها في تظاهر بالسؤال: هل مضى وقتٌ على ما حدث؟
وهي تخفض عينيها: المهمُّ أنك أنقذتنا!
أطال تأمُّلها، دون أن يجد الكلمات التي تعبِّر عمَّا في نفسه. لم تفلح العباءة السوداء المُسدَلة على جسدها في إخفاء تكوينات الجسد، تضيف إلى مَلاحة الوجه بما يهب جمالًا مؤثرًا.
الظروف الجميلة هي التي أتَت بي!
نظر بجانب عينه يتأمل وقْع الكلمات. بدَت ملامحها ساكنة، أقرب إلى الشرود، أو أنها تتجه إلى رؤًى تخصُّها.
عرض أن تعود إلى السعدية على جواده، ترسل — عند وصولها القرية — مَن يعود ليبلغه، ظلَّت على رفضها، ثم رضخَت للنظرات المشفقة، المتوسلة، أول ما تفعله — عند وصوله السعدية — أن تكلِّم أباها، يرسل مَن ينبئه بوصولها.
لولا خشيته من أن يسيء إلى سُمعتها، ربما كان صحبها إلى السعدية.
غلبها الحياء، فلم تستطع أن تتبيَّن ملامحه، تبادلَا الكلمات وهي تنظر إلى أرضية الهودج، واتَتها الفرصة وهو فوق الجواد، يعطيها جانب وجهه.
أشدُّ ما اجتذبها، من ثقب الخيمة، عينان بُنيَّتان، خضعَت لنظراتهما العميقة منذ رأته للمرة الأولى. لمَّا أعادت النظر، وجدت أنه أجمل مما خلفته رؤيته، حين سقطت بها العربة.
فضل الخيمة للقاء أبيها، تفصل بينها وبينه، يتمازج في نفسها الخوف واللهفة والنشوة، حجبت الخيمة صورته، لكنها تتعرف إلى صوته، وتستعيد ملامحه.
هل كانت تتصور أنه يأتي إلى السعدية، ليطمئنَّ — كما قال — إلى سلامة عودتها؟!
استعادَت نفسها من تأمُّل وقفته، وملامحه الهادئة، وتصرفاته، ونظرته النافذة، وصوته، وتحسُّسه العفوي للسيف المُدلَّى جانبه. حتى الوشم الصغير أسفل ذقنه؛ ماذا ينطوي عليه هذا الوجه الباسم؟ هل يقود الزنج لما فيه خيرهم بالفعل؟ هل هو الرجل الذي ستنصلح الأحوال على يديه؟!
هي على يقين أن علي بن محمد، ومَن معه، يدافعون عمَّا يتصورونه حقًّا لهم في الرغد والرفاهية.
قبل أن يمضيَ من الباب، توقفَت خطواته. اتجه المهلبي إلى سعد الكندي بنظرةٍ غير متأملة: هل تأذَن لي بأمنية؟
هزَّ رأسه يستحثُّه على الكلام.
إنْ جاءك نبأ موتي … ليتك تبلغ أحدًا من بغداد، كل ناسها يعرفون بيتي.
استطرد لانعكاس عدم الفهم في عينيه: لا أحبُّ أن يطول انتظار أُسرتي على الوهم، رعايتها واجب قبيلتي!
لا أبوها، ولا أمها، ولا هو نفسه يعرف خوفها عليه، يدخل المعارك فلا يعود.
رافقَته بعينيها عند انصرافه، سحب الجواد من جانب الباب، اطمأنَّ إلى جلسته فوق السرج، ثم لوَّح بيده، وانطلق.
أدركَت أنه قد خلَّف وراءه ذلك الرجل الذي أحبَّته، هو الآن رجل آخر، ينتمي إلى دنيا لا تعرفها.
ظلَّت تتبع أخباره، تلتقط ما يرويه أقاربها، وأصحاب أبيها، في جلسات القاعة المُطِلَّة على الحديقة.
تصيخ السمع لأبيها في رواياته عن المعارك التي يخوضها الزنج، تضع اهتمامها في أذنيها، حين يتحدث أبوها عن المهلبي، عن المعارك التي يقودها، الأفعال التي كأنها المعجزات والخوارق، تخلي النفْس لذكرى وامضةٍ وتصورات. ثمة ما يربطها إليه؛ دافع خفي لا تدري كُنهَه. لم يكُن يقود المعارك من مواضع خلفية، إنما هو يقود الصفوف، يحارب بنفسه، وإن رضخ لإصرار قوَّاده أن يحيط به جماعة من الجند، لا يأذَنون لطعنات السيوف، ولا للنبال، أو الرماح، أن تبلغ جسده.
قال خالها إسحاق: حصل الرجل على مكانة تفوق ما بلغه علي بن محمد.
قاطعه سعد الكندي: نحن في حالنا، لا شأن لنا بالأمر كله.
لم تعد تجد فيما حولها إلا المهلبي، صار كل ما في حياتها، تتمثل لها وقفته أمام النافذة الصغيرة، تتفحص ما بداخل العربة، تستعيد صوته العميق، وبشرته السمراء، وقامته المديدة، وكلماته وحركاته وتعبيرات وجهه ويديه، وتمسيده العفوي لشعر رأسه. تطمئنُّ على حياته، أنه يعيش، من ذكر اسمه في أحاديث أبيها وأصدقائه تتنصَّت من الحجرة الملاصقة، تطرد الخادم، وتغلق الحجرة عليها بحُجَّة أن تكون قريبةً من مجلس أبيها.
ظلَّ طيفه يلازمها، تصحو فتجده واقفًا أمامها، يضع راحة يده فوق الأخرى، وسيفه مُدلًّى جانبه، تعود في أوقات خلوِّها بنفسها إلى المهماز الذي تركه عند رحيله، تتأمله، تتبيَّن ملمس أصابعه حوله، تطوِّح بالمهماز في الفراغ، تحاكي استعماله له، ضرباته العفوية المتلاحقة على جانب ساقه اليمنى، في انشغاله بالكلام، كأنها إيقاع تعبيراته.
أدرك سعد الكندي أن التأثر بأقوال الرجل اجتذب ابنته، لا تملُّ السؤال، ومحاولاتها دائمة للفهم، واستجلاء ما تراه غامضًا، يكتفي بالإيماءات الصامتة، والكلمات القصيرة المدغمة.
– هذا الرجل ليس جديرًا بتعاطفك.
عرف الكندي وجهة اهتمامها بإلحاح أسئلتها عن المهلبي: هل هو بالفعل قائد في جيش صاحب الزنج؟ هل هو القائد المقرَّب إلى نفس الحاكم؟ هل هو أهمُّ قادة علي بن محمد؟
ونطق الحزن في صوته: أعرف عنه ما لا تعرفين!
ثم وهو يتحسَّس لحيته: أنتِ تتعاطفين مع رجل يطلب المساواة بيننا وبين مَن يكنسون الأوساخ!
واتجه إليها بنظرة مستاءة: لماذا تنكرين على المُلَّاك أن يدافعوا عن أراضيهم؟
أدارت وجهها عن استياء نظرته: ولماذا ننكر على الزنوج أن يتخلصوا من العبودية؟
وفي صوت هامس كأنها تخاطب نفسها: هل يرفضون رجلًا أعطاهم الأمل في دنيا عادلة؟
أردفَت في تأثر واضح: نذر الرجل نفسه في إعادة الأمل لآلاف البشر الذين فقدوه!
وخنق التأثر صوتها: من الخطأ تصوُّر أن العبد ينقذ نفسه بنفسه.
ثم وهي تهشُّ بعوضةً تطنُّ حول أذنها: هذه مسئولية مَن يمتلكون الوعي.
ظهرت الخيبة في وجهه: ما يدعو إليه الرجل ليس مجرَّد تحرير العبيد، هذه حركة ضدَّ مالكي الأراضي ومالكي العبيد.
مسحَت حبَّات عرق نبتَت في جبهتها: لو أنهم اكتفَوا بملكية الأرض ولم يحرصوا على تملُّك البشر، ما أعلن علي بن محمد دعوته.
تأمل ملامحها بنظرة متفحصة: كأنكِ تنتمين إليه!
لم تكُن من العبيد، ولا عاشت بينهم، لكنها اقتنعَت بما يدعون إليه. كانت في نفسها مُعجَبةً بدعوة الرجل، ما رواه الناس عنه، ووشَّوه بالألوان والظلال والإيحاءات، حرصَت ألَّا يبين ذلك في كلماتها وتصرفاتها.
رحل الجميع.
سبقَت العربة الخشبية والجوادان عشرة جمال، تحمل ما حرص الأب على نقله من الكتب والثياب والمتعلقات الشخصية. مضَت القافلة بما تضمُّه من الجمال والجياد والعبيد والحراس القليلين، يتخلَّلها الكلاب.
ظلَّت وحيدةً داخل البيت، تؤنسها جوهرة غالبية اليوم، والحارس العجوز في حجرته خلف البيت.
قال دريد وهو يتجه ناحية الباب: دخلت البيت وأتركه دون أن يراني أحد.
استطرد من بين أسنانه: حتى الحارس الشيخ أغلقت عليه باب حجرته!
ووضع إصبعه على شفتيه: إذا رويتِ ما حدث فأنتِ تنزعين السدادة من الزجاجة المغلقة!
ومرَّر يده على عنقه دلالة الموت: ربما خنقتكِ بخصلات شعرك الجميل!
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
ثمة الكثير مما يجب أن أرويَه، لكن الكلمات والتعبيرات تعوزني، يصعُب أن أكتب ما أريد البوح به، ما ينقل المعنى المناسب. خالطتُ واستمعتُ إلى مَن يصدقون التعبير عن واقع الحال، ومَن يبتعدون عن المعنى.
هل ظلم صاحب الزنج في كتابات مؤرِّخي العباسيين؟ هل نسبوا إليه ما لم يفعله، أو يأمر بفعله؟
قال أبو الغيض المزملاتي في عبادان: ما أجمل أن تصبح سيدًا على مَن كنتَ عبدًا له!
قال الحراث سعيد بن عامر: لا تسرف في التمني!
– ألم يقُل علي بن محمد إنه يريد أن يرفع أقدارنا، ويُملِّكنا العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ منَّا — بنَصِّ كلماته — أعلى الآمال؟
– هل كنتَ تتوقع أن يَعِدَك بما أنتَ عليه؟!
والتمعَت في عينيه نظرة متشككة: حتى العبودية لم يَعِد بإلغائها، معنى كلامه أنه يريد تعديلاتٍ في أوضاع العبودية، دون أن يلغيَها!
وحوَّمَت نظراته في الفراغ: ما يريده الرجل أموال السلطان، لم يتحدث أحد عن تعرُّضه لأموال الناس، أو أنه يؤذي البشر العاديين.
في الوقائع المنسجمة، والمختلفة، ما لا أوافق عليه أو أرفضه، لكنني أسجل ما أراه بنفسي، أو أنقله عن شاهدٍ صادق الرواية، حتى المواقف التي أُوذيتُ فيها، أسقطتُها من ذاكرتي، كأنها لم تكُن.
يدفعني إلى التقليب في الروايات — هذه المرة — والتثبُّت من صحَّتها، أو إهمالها، ما ألاحظه من إسراف الناس في الحديث عن ذلك الذي أصعدَته الأحداث، فصار حديث المجالس في الأسواق والبيوت والخلوات. حتى مجالس الخليفة تكاد تقتصر على سيرة ابن محمد، منذ نشأته في البصرة، حتى اقتراب جيوشه من بغداد، أقرأ كل ما يقع تحت يدي من الكتب والمخطوطات والرقاع، القلم في يدي أدوِّن به الملاحظات، أنقل أرقام التواريخ وأسماء الشخصيات والأماكن.
ما إن بدأتُ في الرجوع إلى الوثائق والمصادر التي تتناول ترجمة حياته حتى استلَبَتني تمامًا.
نسب الرجل تحيط به الشكوك، ليس ثمة رواية تملك من الوقائع ما يؤكدها، هو تلاغط روايات وحكايات وهمسات، تتعدد الأماكن التي ينطلق منها نسب الرجل.
ولد في قرية «وزرنين» من أعمال خراسان، وبها كانت نشأته.
اسمه الذي قدَّم به نفسه في البداية: علي بن محمد بن عبد الرحيم، من قبيلة عبد القيس. أمُّه قرة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من أهل الكوفة، وهي أسدية من أسد بن خزيمة. في تسمية أخرى، هو علي بن محمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقِيلَ إن كل ما نُسب إليه، أو نسبه إلى نفسه، غير صحيح، وإنه من عبد القيس.
أهملتُ الرواية، كما أهملتُ رواياتٍ أخرى غيرها، عدا ما قارب الصحَّة.
تعدَّدَت الروايات وتباينَت؛ كان يُلقَّب ﺑ «البرقعي»، انتقل في بدايات حياته إلى البحرين، على الساحل الغربي للخليج العربي، ثم توجَّه إلى «هجر».
عرفتُ من معارف يعرفون قصة حياته أنه — قبل أن يجعل من نفسه صاحبًا للزنج — كان من أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق. خرجوا معه من البصرة إلى الأهواز، استولَوا على المدينة، وما حولها من بلدان فارس وكرمان، في عهد عبد الله بن الزبير، كفَّروا الكثير من الناس العظام، ومن المبادئ عليًّا وعثمان وعائشة وعبد الله بن العباس، وعدم جواز التقية، وتكفير مرتكب الكبيرة.
معرفتي بعلم الأنساب قليلة، الروايات تتباين حول ما إذا كان علي بن محمد من أبناء العراق، أم إن أصوله في قبيلة من قبائل نجد والحجاز، أم إنه بلا قبيلة! وهل نَسَبُه في عبد القيس، أو أن نسبه — كما ألحت روايات — يمتدُّ إلى زيد بن علي بن الحسين، فهو ينتسب إلى آل علي، أم إنه ينتمي إلى عبيد إفريقية الذين استُجلبوا من أرض الزنج؟ مساحات لا نهاية لآفاقها في ساحل إفريقية الشمالي!
العديد من الاجتهادات لم تتوصل إلى حقيقة مؤكدة فيما يتصل بنسبه، وإن أجمعَت على عروبة نسبه. قِيلَ إنه مجهول النسب، وقِيلَ إنه فارسي، وُلد في قرية «وزرنين» من أعمال طهران، ثمة روايات رجَّحَت فارسيته، وقِيلَ: بل إنه ليس عربيًّا أو فارسيًّا، إنما هو زنجي، وكانت قيادته للحركة قيادةً لأبناء جنسه. وقِيلَ إن شاغله أن ينتسب إلى قبيلة أو عائلة ذات مكانة، فيغالط ويكذب، ويدَّعي ما ليس صحيحًا.
هل هو سُنِّي المذهب؟ هل هو من الشيعة؟ هل هو نصير للعدالة بين البشر دون اعتبارات مَذهبيَّة؟
رُوي أنه ادَّعى النسب العَلوي ليصبغ دعوته بصبغة الدين، هي الأشدُّ تأثيرًا في قلوب الغلابة والمنكسرين، أيامهم مشدودة إلى أفق الخلاص برحمة الرحمن، وغوثه، ونُصفته، ومدده. ادَّعى نسبه بما يجرُّ دعاوى كثيرة، اختلقها خيال يجيد نسج الأكاذيب؟
إذا كان علويًّا، فلماذا لم يبشر بمذهب الشيعة كما يفعل العلويون؟
لم تتوصل الاجتهادات إلى حقيقة تطمئنُّ إليها، فيما يتصل بنسبه، فآثرت الصمت.
هل أنجب بنتًا ماتت في رضاعتها، ولم ينجب سواها؟
مَن يكذب في واقعة، يصحُّ كذبه في وقائع كثيرة. طرف الخيط لا ينتهي، الأرض المنحدرة، الزلقة، بلا نهاية، حتى الاصطدام، أو السقوط من حالق، أو الغرق.
ها هم الزنج يعودون بقيادة ذلك الذي لا أعرف — على نحوٍ صحيح — مَن هو، ولا أصله، ولا ماذا يُعِدُّ لقادم الأيام!
حين خرج — ذلك اليوم في عام خمسة وخمسين ومائتين — من بيته، كان قد أعدَّ في نفسه ما يجب فعلُه. أمر مَن كانوا بصحبته، فأسروا خمسين عبدًا يكسحون السباخ في أرض «العطار». وصلهم بالقيود، ومضى على رأس جنده، فأسر عبيدًا آخرين، وقيدهم، حتى اجتمع إليه الكثير من العبيد. ميَّز من بينهم وُجهاء وذوي نزعة قيادية، أوكل إليهم قيادة بني جلدتهم؛ صبيح الأعسر، وطريف، وراشد القرموطي، وراشد المغربي.
لا أحد — ولا هي — يعرف كيف أمسك علي بن محمد بمِقوَد الأمور، فانقادَت له طيِّعة، ليِّنة، يحركها على النحو الذي يشاء، يدفع بها إلى هاوية تغيب حتى عن عينيه.
ما عمَّق الغموض أن الرجل لزم الصمت، لم يوافق، ولم يرفض، ربما للإيحاء بأنه أهل لإحداث التغيير بما يُرضي اعتقاد الناس أن الأمر لرجل من آلِ علي.
هل قامت الحركة لتحسين أحوال العبيد، لتغييرها، أو لإصلاح نظام المجتمع؟ ولماذا لم يتعاون علي بن محمد مع أبي طاهر الجنابي القرمطي، قائد القرامطة الذين ظهروا حوالي تلك الفترة؟ هل حرص على استقلال ثورته؟ أو خشي من سوء السُّمعة الذي حاق بالقرامطة؟
ما أجمعَت عليه الروايات، أن علي بن محمد لاحظ، وأثاره، تجارة الرقيق الأسود في الدولة العباسية، الأراضي الواقعة شرقي البصرة، والمستنقَعات المترامية على جانبَي دجلة والفرات.
كان علي بن محمد شاعرًا، طموحًا، مدركًا لما يدور في قصور الخلافة من فساد، ولما يعانيه الفقراء من جوع.
أعلن ضيقه بما رآه من عمل الزنج في كسح السباخ؛ إزالة الطبقة الملحية التي تغطي المستنقَعات، تظهر التربة الخصبة الصالحة للزراعة، تنقل كومات السباخ إلى مواضع بعيدة، يفيد منها المزارعون في تخصيب زراعاتهم، بَدَت كسوح الزنج بالبصرة كالجبال، وعانى عشرات الألوف مشاق العمل في أنهار المدينة، صفوف طويلة من العبيد، رُبطوا في أعناقهم بأطواق حديدية، تَصِلُها سلاسل حديدية، يعانون حرارة الشمس اللاهبة، وسقوط الأمطار، وبرودة الجو، والإرهاق، والتعب، والتوقع، والخوف.
مشكلة الزنج أنهم بلا قائد يدلهم، ويسبقهم إلى الفعل، مكانته وحسبه ونسبه وعلمه وكفاءته العسكرية؛ ذلك كله يتيح له دور القائد. أزمع أن يفتح عيون الزنج على ما يعيشونه من ظروف قاسية. تحوَّل عن مدح البلاط ورجال الخليفة بشِعره. نزل إلى الأسواق وأماكن التجمعات. تحدَّث عن الأمراء الذين يحكمون من داخل القصور، ويقضون الأوقات في اللهو. تحدَّث عن العبيد الذين يكدحون اليوم بطوله، طعامهم لا يزيد عن حفنات في حجم قبضة اليد من الطحين والتمر والسويق، أو من الخبيزة والأعشاب البرية.
تردَّد على الأماكن التي يقطنها العبيد، وطغام الخلق، وعوام الناس. يطيل تأمُّل المقيمين في الأكواخ، يتساءل: هل يثورون؟ هل يستطيع إقناعهم بالثورة؟
عشرات الألوف من الزنج يعيشون في طمأنينة، غير مسكونين إلا بهَمِّ الوجبة التالية، لا يعنيهم أين يسكنون، ولا أين يبيتون لياليهم!
سمَّى نفسه صاحب الزنج إعلانًا لتعاطفه معهم.
طالَت أحاديثُه وخُطَبُه عن الاستغلال، والتفاوت، وعدم المساواة بين البشر، وعن عالَم بلا سادة وعبيد، وعن تركُّز الثورة في أيدي القِلَّة، بينما الغالبية لا يملكون أرضًا ولا مالًا.
قال: لم أخرج للثأر ولا للانتقام، فليس بيني وبين أحد خصومة، ولم أخرج لطلب المال، فعندي من الأموال ما يكفي عائلتي جميعًا، ما خرجتُ إلا لكي أعدل الميزان المائل، وأصحِّح الأمور، أعيدها إلى استقامتها. لماذا يضيع الزنج حياتهم، كي ينعم الأثرياء في بغداد وغيرها، بما لم يحصلوا عليه من كدِّ أيديهم؟
وهزَّ سيفه في الهواء: آن الأوان لتتحرروا من الفاقة والظلم، وإن اجتماعكم سيضمن لكم خيرات الأرض التي تعيشون فيها وسادة هؤلاء الجبابرة الذين يستغلونكم ويستعبدونكم.
هل كان خروجه على الخلافة لأنه أشفق على الزنج ما يعانون، أو لأنه تحرَّك بشهوة السُّلطة؟
ما بلغني أن علي بن محمد ينتمي — بالميلاد والنشأة — إلى السراة ذوي الحسب والنسب. لم يكُن بالغ الثراء، وإن كان له قصره وخدمه وحياته التي لا تعرف العوز.
اطمأنَّ إلى أنه لا يتطلَّع إلى ما في أيدي الآخرين، ما يمتلكه الآخرون، لكن السؤال الذي يشغله: لماذا يقصر عن الحياة في الهناء نفسه الذي يحيَون فيه؟
هو ينتمي إلى أصحاب الحكم والنفوذ والقوة، ما يتحرك في داخله يضعه بعيدًا عن ذلك كله. هو من طبقة السادة، لكنه ليس سيدًا حقيقيًّا، لا يمتلك القول الذي لا يرد.
جاءته الأخبار من قصر الخليفة بما آلَت إليه الأمور في داخل قصر الخلافة؛ يقيم في قاعات القصر وحجراته عددٌ من رجال الحاشية والضباط، يلجأ إلى مشورتهم في تدبير أمور الدولة، عرفوا الخفايا والأسرار، وما ينبغي اتخاذُه لمواجهة الدسائس والمؤامرات وحركات التمرد، يعملون لأنفسهم وليس للخليفة، لا يعنيهم من الأرض سوى أن تدرَّ عليهم الأموال، ما لم يحصلوا عليه بالغشِّ والتزوير والاحتيال، انتزعوه بالقوة والعنف.
انشغلوا بتدبير الخطط، وحياكة المؤامرات، ورسم مصائر الناس، يعمل في خدمتهم آلاف الجواري والغلمان والعبيد والخدم، يرتدون ثيابًا من الحرير والمخمل، يحيطون خصورهم بأحزمة مطعَّمة بالذهب والأحجار الكريمة، يستخفُّون بأداء العبادات، يستهينون بالصوم والصلاة، يميلون إلى اتباع الشهوات، لا يمتنعون عن محارمهم، أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم، ويختلط الرجال والنساء في مجالس الأنس والشراب، يرتدي كلٌّ منهما ثياب الآخر، يركضون بجيادهم في الطرقات، لا يعبئون بالمارَّة إن أُضيروا، أو قُتلوا.
أوغرَت الحياة الهانئة، التي يعيشها الخليفة ووزراؤه، صَدرَه ضدَّهم، وجد في حياة العز والرفاهية باعثًا على نقمته، واعتزامه السعي لإزالة حكم الخلافة، وفرض إمارة جديدة. بدَت الفرصة مواتيةً للتخلُّص من الحياة الأدنى.
تعاظمَت لديه الرغبة في أن يصبح واحدًا من هؤلاء الذين يعيشون الاستثناء، الحياة المرفَّهة، لا يكون مثلهم تمامًا، إنما يحيَا العز، ويوفر للناس ما يريدونه من طمأنينة.
في داخله، أنه أجدر بالحياة في قصر الخليفة، ما يمتلكه من المعرفة والوعي والنظرة الثاقبة إلى الأمور والشخصية المسيطرة، يهبه الحقَّ في أن يكون سيد البلاد، كل الأمور تزكي ارتقاءه إلى المكانة التي يريدها؛ انتسابه إلى الأشراف وتعلُّمه وإجادته الخطابة والشِّعر، هو لا يسعى إلى نزع اللقمة من أفواه الآخرين، وإن كان من حقِّه أن يمضغ اللقمة اللذيذة. لن تُتاح له الحياة التي يتمناها ما لم يُقدِم على انتزاعها، يحارب، وينتصر، يُخضِع البلاد لسطوته، يرأس الوزراء والأمراء والكَتَبة والقادة والعُلماء والوُجهاء، يأمر فتُنفَّذ أوامره، بلا مناقشة ولا تردُّد. هو أجدر بأن يعزل الخليفة، وينصب نفسه مكانه. صار انتزاع السلطان، الوثوب على كرسي الحكم، هدفه الذي يسعى إليه.
يتصاعد الهاتف بصور الحياة في بغداد؛ القصور والمدارس والجوامع والمآذن والقباب والجسور والدواوين وحلقات العلم ومجالس الغناء والسمر. لو أنه حصل على ما يسعى إليه، ربما سيطر على الحياة في عاصمة الخلافة، كل ما فيها يخضع لإرادته، قوله الفصل، لا رادَّ لما يراه.
هتف به الهاتف: يا علي، حان الوقت الذي تدافع فيه عن عباد الله من الزنج.
كلَّم القريبين من أصدقائه، كتم تمرُّده الشخصي وطموحه، ركز على حياة الناس، والتغيُّر الذي لا بدَّ أن يحدث فيها. قال: ما معنى أن يمتلك الأغنياء كل شيء، والعبيد أيضًا، ولا يمتلك العبيدُ حتى أنفسهم؟ إنهم ليسوا مُلَّاك الأراضي وحدها، لكنهم يمتلكون الأُجَرَاء أيضًا. إنهم عبيد، للتسمية معناها الذي يعرفه المُلَّاك والأُجَرَاء. وقال: من حقِّ العبيد أن يثوروا، أن يحاولوا تبديل أوضاعهم.
أمر الزنج والعبيد ألَّا يصنعوا بالوُجهاء شرًّا، ولا يصادروا أموالهم أو ممتلكاتهم … أرجعوا ذلك الأمر إلى ما يحمله لأبناء طبقته من المشاعر، فهو يحرص ألَّا يعانوا الإرهاق بأيدي جنده.
تنقَّل بين القُرى والمضارب، والخيام والمضارب، والخيام والخلاءات، تدفعه رغبة في الانتقام لا يدري أسبابها، هو واحد من الطبقة نفسها التي يتجه إليها بانتقامه. أعيَته الحيل التقاط طرف البداية. يمضي فيتبعه الناس. رفضه الناس، أو انصرفوا عنه، أو أظهروا اللامبالاة. بدَت كل المسالك مغلقةً أو مقطوعة، غلبه التحيُّر، لا يعرف الأفق الذي ينبغي أن يتجه إليه.
لم يأخذ الكثير من أصحاب الأراضي والمُلَّاك دعوته مأخذ الجِد، اعتبروا كلماته سعيًا لتهييج الناس، انفضَّ عنه الكثير من الزنج وعوام الناس، وجدوا في كلماته ما يثير الفتن، والمعارك التي لن ينتصر فيها، رُفعت العرائض إلى مقام الخليفة، تتهم علي بن محمد بأنه مُهيِّج للخواطر، وخطير.
ثمة مَن كانوا بعيدين عن الأحداث، لا يشغلهم تواليها، وما قد تتأثر به حياتهم من الفائدة أو الضرر. نفضوا أيديَهم مما جرى، فهو لا يخصُّهم، ولا شأن لهم به. إذا جنى الناس شيئًا فهو القتل الذي يحصدهم في معارك الحكام.
أزمع أن يستمهل حتى يتسنَّى له الأمر، ويطمئنَّ إلى السُّلطة إن تولَّاها.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
ردَّد الناس شعارات الثورة من مثل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ … «شرُّ الناس مَن أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده.» رفرفَت الأعلام والرايات بلونَيها الأخضر والأحمر إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ اختلطَت أصواتُ الجياد والحمير والبغال والجمال، صدحَت الموسيقى، نُثر الأرز والملح، علا صليلُ السيوف واحتكاك المزاريق والحراب والنبال والرماح والأقواس والسهام والخناجر والفئوس والهراوات والبلط والمناجل والمذرات والنشابات والمطارق والهراوات الحديدية والدروع وأغصان الشجر، ارتفعَت الرايات والبيارق والسناجق والأشاير والأعلام وصيحات الجنود وصهيل الجياد وإيقاع الطبول والأبواق.
لم يكُن يتخذ قرارًا إلا بعد جمع ومشورة خواصه المقرَّبين، يومئون بالموافقة على ما يقوله. يمتلك القدرة على إقناع الجماعات، وتحريكها إلى حيث يشاء، تمتثل لإرادته، وتلبِّي أوامره.
طالب الولاة أن يسوسوا الرعية بأرفق سياسة، يوفروا الطعام للجوعى، والكساء للعرايا، والدواء للمَرضَى، وراحة البال للناس جميعًا، وطالبهم أن يرعَوا العهود، ويحفظوا الحقوق. دعاهم إلى ردِّ المظالم، ونُصرة آلِ البيت، وإلى إعطاء المحرومين، وقسمة الفَيء بين أهله بالسواء.
تحدَّث عن بلد لا سادة فيه ولا عبيد، الكل سواسية، لهم الحقوق نفسها، وعليهم نفس الواجبات. لا منزلة للنسب ولا للحسب، إنما المنزلة بمراعاة الخالق في الناس.
أنكر ما نُسب إليه من مخاطبة الزنج: أريد أن أرفع أقداركم وأُملِّككم العبيد. نفى عن ثورته صورة الحرب من جنس ضدَّ جنس، أو أجناس أخرى، هي لا تقتصر على العبيد، الثورة قام بها العبيد الأفارقة في المستنقَعات الممتدة بين واسط والبصرة في منطقة البطيحة. انضمَّ إليها من غير السُّود أهل المُدن والقُرى، من الفلاحين البِيض وأرباب الحِرَف، وجدوا في التمرُّد تنفيسًا عن الظلم الذي يعانونه، حتى الأعراب الذين طالت معاداتهم للدولة، وجدوا في الحركة اجتثاثًا للمشكلة من جذورها. حدَّد هدف الثورة بإلغاء الرقِّ نهائيًّا من بلاد الإسلام.
تحدَّث عن تشييد الطرق، وتعمير الصحراء، وبناء المدارس والمستشفيات، والتغلُّب على المجاعات والأمراض، وإلى تطهير السُّبُل، وتأمينها من اللصوص وقُطَّاع الطرق. نبَّه على الولاة بإيصال الحقوق الواجبة إلى أربابها، جعل موظفًا لمراقبة الأوزان والأسعار.
رسم لوحةً لجنة الأرض، يعيش فيها المرء على قطف الغذاء من الأشجار المحمَّلة بالثمار، يحصل — دون صعوبة — على ما تشتاق إليه نفسُه، يرتوي من العيون بما في طهارة ماء زمزم، يلقى الظلَّ والعدل والمحبة والتعاطف والرعاية وأوقات السمر. دعا في الوقت نفسه إلى تحقير أمر الدنيا، والسعي نحو الجهاد، والصبر لنَيل أجر السماء، وجنات عدن التي وعدها الصابرون المجاهدون.
ينفِّذ القادة أوامره بأن تُوزَّع الغنائم على الجميع، لا تفرقة بين جندي وآخر، ولا بين ذي مكانة وضيعة وذي مكانة رفيعة، كل جندي يحصل على نصيبه كاملًا، لا يذهب إلى قصر الملك، ولا إلى بيت المال إلا ما يفيض عن حاجة الجنود.
حرَّم على جنده القتل الجماعي، وتعقُّب الجيش المُدبِر، وإحراق مصادر القُوت، وتسميم الآبار، وقتل الضعفاء من النساء والمُسنِّين. اشترط للموافقة على الإعدام وقائع إدانة صحيحة وشهودًا، جعل لتنفيذ الأحكام حفرةً رمليةً يُلقي فيها المُدان، تتقاذف عليه قِطَع الحجارة، حتى يتهشَّم الرأس بضربة مؤثرة، فيموت، تُردَم الحفرة فوقه بما حولها من رمال.
أفاض الرُّواة في الحديث عن الإلهام والرؤى الإلهيَّة ومخاطبة الخضر.
عظُم رجاءُ الناس فيه، وانفسحَت آمالهم، وتوقعوا على يديه الكثير. تلقَّفوا دعوته، استجابوا لتحريضه أن يبدلوا حياتهم. تضاعفَت أعدادهم من حوله، فبلغوا الآلاف.
كانت الشجرة التي وقف تحتها تُطلُّ على الخلاء إلى امتداد الأفق، غابت صورة المكان، فلا أحد يعرف من أين يقود جيوشه. من حوله قادة وجنود تبايَن لباسُهم، وحملوا السيوف، وتمنطقوا بالخناجر.
دفع الجند سليمان بن زيد حتى أوقفوه أمام صاحب الزنج. بَدَا خائفًا وذليلًا ولا يقوى على الحركة أو الكلام.
– هل حاولتَ أن تُغريَ جنودي بالرِّشا كي يتخلَّوا عني؟
همس الرجل في تذلُّله: أردتُ أن أعيدهم إلى الأرض.
– كانوا عبيدًا في أرضك، والآن هم جنود في جيشي، أنتَ تعرض خمسة دنانير على كل رجل ليعود إلى العبودية.
ازدرد ريقه: مَن يعمل في الأرض.
– ليس بالعبودية!
وأشار إلى شجرة قريبة: أوثِقوه!
تعالى صراخُ ابن زيد من قبل أن يدفع به الجند إلى الشجرة، يُوثِقونه بالحبال، يعرُّون أعلى جسده، يرقبون توالي ضربات السَّوط على ظهر الرجل، يشغلهم صراخه عن محاولة عدِّها.
نقل إليه الأرصاد ما كان يتعرض له الزنج من إغراءات للتخلي عن الثورة. حتى يقفز على كل الأخطار، السافرة والمستترة، جمع أعوانه ومواليه، وخطب فيهم. طلب أن يحيطوه بجماعة منهم ترقب سيرته، إذا رأت انحرافًا منه عن العهد، أو ميلًا إلى الإغراء، فتَكَت به.
الأمر ليس مجرَّد قرارات يتخذها بالقتال، أو بالتريث، إنه يتعلق بحياة الرجال الذين يخضعون لإمرته.
استغنى عن الملابس التي يرتديها الزنج، جعل لهم ملابس موحَّدة الطابع واللون، ومُعَدَّات قتال أُعِدَّت لمهامِّها.
أضاف إلى جيوشه فِرَقًا موسيقيةً صغيرة، تتقدم الصفوف، وتتخلَّلها، تضبط — بطبولها وآلاتها النحاسية — إيقاع خطوات الجند.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
لم تستقرَّ الروايات — بعد خراب البصرة — على نسب محدَّد لصاحب الزنج، تكاثرَت، واختلطَت، وتشابكَت. نُسب — بلا سببٍ معروف — إلى يحيى بن زيد بن علي، وقِيلَ إنه غيَّر اسمه من أحمد بن زيد إلى أحمد بن محمد بن زيد، ثم إلى يحيى بن زيد بن علي.
حين رحل إلى البحرين، قدَّم نفسه بأنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب.
أهملَت غالبية الروايات أنه من آلِ البيت.
لم يكُن علي بن محمد من ساكني الأكواخ، ولا عمل في حمل السباخ، هو من طبقة المُلَّاك، يقيم في قصر يحفل بالعز والرفاهية، ما رواه لي ثِقاةٌ أنه التقى — عند خروجه من قصره ذات صباح — خمسين عبدًا يكسحون السباخ في أرض مالك من السراة، اسمه العطار، لا أحد ذكر الباعث لما أقدم عليه علي بن محمد في اللحظة التالية. أمر أعوانه، فأسروا العبيد الخمسين، وقيدوهم بالحبال. بدَّل الرجل سَيره، اتجه إلى موضع آخر. ألقى أعوانُه القبضَ على خمسمائة غلام. واصل التجول في مناطق لم تطأها قدماه من قبل. ظلَّ يتصيَّد العبيد، حتى اجتمع إليه الكثير من غلمان الشورجيين، أوقفهم الجند صفوفًا متلاصقة.
قدَّم علي لهم نفسه بأنه صاحب الزنج، صاحبهم، وقال إن الحياة الكريمة تليق بهم، وإن من حقِّهم أن يمتلكوا الأموال والضِّياع، ولا يتحملوا ما لا طاقة لبشر على احتماله.
حدس صاحب الزنج أن العبيد سيعودون — بالخوف — إلى سادتهم، لحظة إطلاق سبيلهم. ظلَّ العبيد في أَسره، حتى أتى أعوانه بوكلاء العبيد. حرص أن تكون وقفتهم قبالة صفوف الزنج.
قال في نبرة متوعدة: أردتُ ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون هؤلاء الغلمان بتحميلهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم، فرأيتُ إطلاقكم.
حاول الوكلاء أن يصلحوا بينهم وبين علي بن محمد بالمال، ليطلق سراح عبيدهم، رفض، وأمر ببطحهم، ثم دعَا الغلمان إلى ضربهم بالعصي.
ربما من يومها صارت الحرب مُعلَنةً بين علي بن محمد ومُلَّاك الأراضي والعبيد. فرَّ المئات من العبيد، أُفقُهم التخلُّص مما يعانون.
دخل غالبية العبيد في جيش صاحب الزنج، دون أن يعوا جيدًا معنى الكلمات التي تتضمنها خُطَبُه، ولا المصير الذي يسوقهم إليه.
فرض على جميع الرجال منذ سنِّ الثامنة عشرة أن ينضمُّوا إلى جيشه. إذا لم يأتِ العبيد إلينا، فلنذهب نحن إليهم. قد تُباعد الظروف بينهم وبين الوصول إلى ساحات المعارك، على جيش الزنج أن يصل إلى حيث يعيشون، في المستنقَعات والصحاري والخلاء وبين الجبال، يُغِير الجند على المزروعات والأقبية والأماكن المغلقة والخلاء، يفتشون عن العبيد لضمِّهم إلى جيش الزنج.
لم يكُن الزنج يجدون وقتًا لتوديع الأهل، ولا تدبير أمور الأُسر، أو التوصية على الأبناء، يرتحلون تحت ظلال السيوف، ينضوون تحت قيادة علي بن محمد، في انطلاقها إلى مُدن وقُرى ومستنقَعات وخلوات. صار آلاف الجند تحت إمرته، من الأفضل لمَن جعل التسوُّل مهنةً يتكسَّب منها، أن ينضمَّ إلى جيش الزنج، أو يواجهون المطاردة والحبس، ويمنعون من تشويه صورة المدينة، زاد فأمر بجمع أصحاب العاهات من الشوارع والطرقات، وإلزامهم بالبقاء — تحت أمر الجيش — في أماكن مسوَّرة داخل الصحراء. مَن يحاول الفرار، يُسحب من عُنقه مقيَّدًا بالحديد حول كاحلَيه ورسغَيه، إن عاود فَعْلَته، فهو يصرُّ على خيانة جماعة الزنوج، ويُطاح بعُنقه.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
الجيوش مصطفَّة أمامه، لا بداية لها، كأنها قَدِمَت من وراء الأفق. أشعَّة الشمس تضوي بالألق فوق الدروع، السيوف المحدَّبة، المشرعة، نثارات الرغاوى البيضاء تعلو رءوس الجياد وهي تتحرك في أماكنها، اختلاط الصهيل والحمحمات والنداءات والأدعية الهامسة، ووميض السيوف، وحوافر الخيل.
اطمأنَّ إلى قدرة جنده على تحمُّل البرد القاسي، والقيظ، والعطش، والجوع.
قال إن الملائكة تقاتل معه. دعَا جنوده إلى القتال بيقين محاربة الملائكة إلى جانبهم، الآلاف من الملائكة يمتشقون السيوف والحراب، يشقُّون صفوف الأعداء.
رفع ذقنه في هيئة التحدي: إذا تحركَت الخيل فلا قيمة لمحارب إلا بالقضاء على خصومه.
وغلظ صوته: اكرهوا أعداءكم، لا تدخلوا معركةً إلا إذا كانت نفوسكم ممتلئةً بالكراهية، التعاطف الإنساني ضعف قد يُودي بحياة صاحبه.
أَلِف جندُه رؤيتَه في قلب المعارك، يأمر ويوجِّه ويشير، لا يطيل القيادة في موضع واحد، يختفي، تتلاشى صورتُه من موقع لتحُلَّ في موقع آخر، يملأ ساحات القتال باتساع مساحات الصحراء والمضارب والمُدن والقُرى، يقود — في الأوقات المناسبة — مَن يحتاجون إليه، يطمئنُّ إلى سير المعارك، حتى في الأطارف البعيدة.
الوحدة عنده أفضل من الصُّحبة والجماعة، حتى وزرائه وأمرائه وأقرب الأقربين، فرغ بنفسه للقُرب من رحمة الله تعالى.
لم يكُن يأذَن بالدخول عليه إلا للفقهاء والنُّسَّاك وأصحاب العلم والمعرفة أهل الفقه وأرباب الطرق، وإن صار لا يأمر بشيء إلا بعد أن يرجع إلى خاصة أعوانه، يتشاورون، يتحاورون، يشيرون بما ينبغي فعلُه.
وهو يطيل التفكير، ذات يوم، ومض البرق، وقرقع الرعد. جاءه صوتٌ وسط الرعود والبروق فيما يشبه الإلهام السماوي: اذهب إلى البصرة.
أضاف الصوت في لهجة آمِرَة: فلتكُن وجهتُك البصرة.
مدَّ عُنقه، وذوى عينيه، يفتش عن مصدر الصوت.
جاهد في مخالفة نفسه وهواه، عوَّد نفسه الجوع والسهر والوحدة والصمت، يقلِّل طعامه من أجل الصوم، ويقلِّل نومه من أجل الصلاة، ويختصر القول من أجل ذكر الله تعالى. أزمع أن يخضع لله، ويطيعه، ينقاد لما يأمره به. نفض يديه من كل ما يتعلق بالدنيا. كثُرت كلماتُه عن الأوقات والمناجاة والقُرب. صحَّ عزمُه فسهَّل عليه مخالفة الأهواء، صارت له ما نسبه أعوانُه إلى الرياضات والكرامات والأحوال والخوارق التي لا تُحصَى. اختصَّه الله بعلم الباطن، يعلم التأويلات الباطنية للقرآن والحديث، يمتلك ما ليس لأحد من الخطرات والمكاشفات والمعاينات.
لم يرَ سيد الخلق في صحوه ولا منامه، لكنه تلقَّى التربية من أحاديثه الشريفة وسيرته. تصاعدَت في نفسه رؤًى كالأحوال والمقامات الصوفية، هي كثيرة الورود، تلمع وتختفي، تغيب كأنها لم تكُن، لكنها تعود بما يرقى إلى المكاشفات. طوارق وهبات وطوالع وبوادر وبوارق، تهبه القدرة على مواجهة الصعاب، وتُهوِّن عليه مشقَّة الطريق. وكان يظهر ويختفي دون أن يقدر أحد على فهم تصرفاته، أو يحاول أن يفهمها.
كان الأعوان يعجزون أمام قدرته على استشراف الأمور، وعلى المناقشة، والقول بالرأي الصواب. فراسته لا تخطئ، يمتحن — بنظراتٍ متأملة — مواضع القوة والضعف في خصمه، يطلُّ من عينيه بريق، ينقل إلى الواقف أمامه، بقامته المديدة وجسده النحيل وعينيه النفَّاذتين، شعورًا بالإجلال والرهبة والخوف.
يجيد قراءة مَن ينكره في نفسه، يصارحه بما يخفيه، وأن ملامحه البادية تُظهره. وكان الأعوان على يقين من أنه يعلم ما بصدورهم، ينفُذ ببصره من خلال الأجساد، يعرف ما تخفيه النفوس، قد تصعق نظراته مَن يريد أن يحرقه.
أخرج الله كل ما في داخل نفسه من الظُّلمة، جعل في موضعه نورًا يبين في أقواله وتصرفاته. قِيلَ إن ما يَصدُر عنه — أحيانًا — من عباراتٍ مبهمة، أو مُجافية للسياق، إنما مردُّها إلى أحوالٍ تلفُّه، وتُملي عليه ما يقول. اعتاد قادتُه الإيماءات والإيحاءات والمعاني المُضمَرة، اعتادوا قيامه الليل، تضرُّعه في السَّحَر.
ربما أخذه الاستغراق، احتواه تمامًا. يسأله أتباعه فلا يجيب، يكلمونه فيظلُّ صامتًا، يشرد بالنظرات إلى ما يراه وحده ولا يراه أحد. إذا وقف ليخطب الناس، فإنه يملأ المكان بحضوره.
عُرف عنه أنه يخضع — في كل ما يقضي به أو يُقدِم عليه من أفعال — لهاتف يأتيه في المنام، يطيل الإصغاء لهواتف السماء، تهبُّ عليه أنوار اليقين، تسطع عليه أنوار التجلي الإلهي، تناقشه، تنصحه، تشير عليه، يتلقَّى الحقائق، والأسرار، والأوامر الربَّانية، والفتوحات، والمشاهدات، والأنفاس الصادقة.
القراءات والتسابيح والأدعية نور يشعُّ في داخله، يحلِّق بوجدانه في سموات لا يراها الناس، وإن تنقَّل — بالقدرة — بين طبقاتها.
اتجهَت نظرتُه إلى الخلاء: إذا لم يكُن للمخلوق طاعة في معصية الخالق، فإن الحاكم مخلوق، ومن واجب الجماعة أن ترفض طاعته، وتخرج عليه إنْ فرض عليها ما لا تَقبَل به أحكام السماء.
سُخِّرَت له الملائكة والجان والنباتات والجبال وأشعَّة الشمس والرياح وبخار السحب والجبال والأودية والحيوان والطير والفراشات.
هدأت البروق والرعود في نفسه، وسكنَت، خلَّفَت أنوارًا ساطعة، لم يعهدها من قبل، ملأت نفسه، وملأت المكان من حوله.
بدَت صورة المستقبل أمامه واضحة، يراها بذهنه، وإن لم تظهر أمام الأعين، يتحدث عن ناسها، وأحداثها، وما تحمله من توقعات. استشرفَت عيناه ما وراء الأفق، وتسمَّعت أذناه الأوامر والنواهي، وما يجب عليه فعلُه، يطمئنُّ إلى النور في قلبه، يُطلِعه على أمور آخرته، يرى ما لا يراه الناس.
تعدَّدَت رؤاه في المنام — في رواياته لأتباعه — يقف بين يدَي الله.
أتاحَت له الإرادة الإلهية معرفة أسرار السموات، تعتريه حالات الوجد، يشعر بها هو وحده، تستغرقه، يرى فيها ما لا يراه أحدٌ من الرؤى والأحلام، يتلقَّى الرؤى السماوية، تُملي عليه قراراتِه قُوًى إلهية.
يشير فيما لا يتبيَّنه أحد، وإن يدرك أعوانه أنه يستقبل الإلهامات والواردات. يحتفظ في نفسه بما لا يملكه أحدٌ من المقامات والمنازل والأسرار ومدارج العرفان. يعرف ما لا حصر له من أسرار جلال الله، القوة والحكمة والهيبة، يفيد من ذلك كله في قيادة جنده، ورعاية مَن يشملهم حُكمُه.
روى أعوانُه ما امتحنوه من قُواه الخارقة للطبيعة، لا تتصل بصفاته الجسدية، ولكنْ بقدرته على فهم أحوال الناس، وما تنطوي عليه نفوسُهم، وما قد يدبِّرون من أفعال.
له هيبة، وقدرة هائلة على النفاذ للنفوس، يضيف إليها قامته الطويلة، وصوته القوي، تجتذب مَن يراه، وتُخضِعه. قال الرُّواة إن جسده ردَّ آلاف النبال والسهام والسيوف، دون أن تصيبه. وقِيلَ إن الملائكة تحارب دفاعًا عنه، أضافوا إلى ما هو حقيقي عشرات الوقائع التي لا تُصدَّق، ما اخترعه الخيال، وأملَته الرغبة في التلفيق، واستحداث ما لم يحدث.
نُسبت إليه إشراقات نفسية، وفيوضات روحية، والخبرة بأحوال النجوم والتنجيم، والتنبؤ بما يُضمِره الغيب، ومعرفة المخبوء والمستور والمستقبل. وعلى التحول من حالة إلى أخرى، رُوي أنه حرَّك جبالًا، كي تجد جيوشُه طريقًا سهلةً للتقدم.
قِيلَ إنه لم يكُن يُقدِم على أمرٍ ما، إلا إذا اختلى بنفسه، يناقش مَن يراهم بمفرده، لا يظهرون أمام الأعين المتسلِّلة إلا كالهواء المحيط بنا، يُلقي الأسئلة، ويسأل التدبير، لا يغادر موضعه قبل أن يطمئنَّ إلى الرأي الصواب. يغمض العينين، ويشرد في فضاء الظُّلمة، يعرف أعوانُه أنه يخالط أنبياء الله وأولياءه، يخاطبهم ويخاطبونه، يعمِّق الأعوانُ سكون القاعة بالصمت، لا تصدر نأمة ولا إشارة، حتى يظلَّ الإمام في الرحاب الإلهية.
لم يعد يبدأ خطبته بالعبارات التي اعتادها الناس، فهو يلجأ في بداية كل خطبة إلى كلماتٍ غامضة، يجتهد الأعوان في محاولات تفسيرها، تمتدُّ التفسيرات ما بين الإشارة إلى قسوة حياتهم، والسَّير فوق الصراط إلى جنات النعيم.
رفض أن تُنسب إليه القدرة على التنبؤ، إنما هي محاولات لتوقُّع ما يغلفه ضباب الأفق.
يعرف موضع ورقة عمر المرء في غصن الشجرة، يلامسه بإصبعَيه، يعلو صوتُه بالدعوات كي يطول العمر، فلا يخشى دخول المعارك. حتى الشهادة — إن لحقَته — تُغنِيه عن الصراط والحساب وأهوال الجحيم ومشاق الطريق إلى الجنة.
أجاد وصف الجنة، يرونها وهم أحياء، الأنغام العلوية، الظلال الوارفة، الأضواء التي لا تغيب، شراب الخلود، أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، أشجار الحور والأبكار والجواري الكواعب والغيد الحسان والولدان، وأشجار التين والزيتون والتفاح والكمثرى والرمان. يمدُّ الرجل يده، تسقط الثمرة فيها، دون أن تلامس الشجرة. الكافور الأبيض، المسك الأذفر، الأبواب المصنوعة من الذهب الأحمر … ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعَت، ولا خطر على قلب بشر.
تحدَّث عن الماء السلسبيل، والشباب الدائم الذي لا يعرف المرض ولا الشيخوخة ولا الموت، ولا تلامسه الشرور، ولا تؤرِّقه الهموم أو المشكلات، يأكلون فلا يغوطون ولا يبولون، إنما يُخرجون ما في أجسادهم من البشرة في رائحة المسك.
كان يقول لأعوانه: أنتم تذهبون إلى الكعبة، والكعبة تأتي إلينا. وقال لهم ذات يوم: لقد عُرِضَت عليَّ النبوة، خفتُ ألَّا أقوم بأعبائها، فلم أقبلها.
•••
عاد سعد الكندي إلى البيت، سبقه ولحقه العشرات من أبناء السعدية، عرفوا أن الطرق، والمدينة نفسها، صارت آمنة، مدَّ المعارك اقترب من بغداد قدْر ابتعاده عن السعدية وما حولها.
لاحظ صاحب الزنج أن أهل المدينة لم يواجهوه بالعداء، ولا أعلنوا تصدِّيَهم لجيوشه، عبَرَتها الجيوش دون أن تدخلها، كان إذا استولى على قرية، قتل الأسرى، وحمل رءوسهم على البغال. مذهب الأزارقة — الذي يؤمن به — يدعو إلى قتل الأسرى باعتبارهم كفَّارًا، أمَّا النساء والأطفال فقد احتفظ بهم كرهائن. منع جيوشه من أن تهاجم القُرى التي لا يثبت عداؤها.
عرف جند الخليفة أن سعد الكندي على صلة طيبة وصداقة بالمهلبي. حرص الجند — في اندفاعهم نحو المعارك — على تفادي النزول في السعدية، ومواصلة الانطلاق على الجانب الآخر.
قلَّت أسفار سعد الكندي من السعدية إلى بغداد والمُدن الأخرى، لكنه ظلَّ يتتبع الأخبار.
أبلغه رُسل المهلبي أن صاحب الزنج ما كان يدفع جنوده إلى الهجوم على القُرى، لو أنه امتلك السلاح. أراد المال والسلاح ليواصل حربه، أضاف إلى السيوف الثلاثة، التي لم يكُن لديه غيرها، كمياتٍ هائلةً من السيوف والآلات والتراس. منح قوَّاده ثلاثة برازين، وأهداه المعلِّم مرداس جوادًا، كي يدفع أذى جنده. رحل الأب من البيت دون أن يترك في يد الفتاة إلا إنفاق خمسة عشر يومًا من المال والمؤن. حصل الزنج من القُرى على مائتين وخمسين ألف دينار وألف درهم، هيأت لحربهم أن تستمر.
ظلَّت الفتاة في مأمن حتى عادت الأُسرة.
حرص الأب أن يُخفيَ كل شيء من المحنة القاسية التي تحياها أُسرتُه. فطن إلى أن أهل السعدية لم يجاوزوا بالسرِّ حدود مدينتهم، ظلَّ السرُّ في نفوس الناس، لا يذكرونه بعيدًا عن المدينة، مهما ألحت الأسئلة، وتوثَّقَت الصلة بالسائل.
قال في همس متوتر: خطئي أني تركتُكِ وحدك.
ظلَّ الأمل يناوشه في أن تعيد الالتفات إلى ما حولها، تجد في خطر العيش بمفردها داخل البيت دافعًا للرحيل. لم يفارق تَوْقَه بعد أن مالت القافلة في انحناءة الطريق إلى الخلاء، يستعيد أمله في تعدُّد رحلات الخدم ما بين السعدية وبغداد، ثم يخبو الأمل — في كل مرة — بتبيُّن أن الصوت ليس صوتها.
– كان معي الحارس وجوهرة.
همَّ بالقول: كيف إذَن دخل الرجل البيت؟
خشي زيادة إيلامها، فسكت. طمر الحادثة، فلا يترامى صوتٌ ولا رائحة، أذهلَته معرفة الناس ما حدث؛ لا يتصور أن دريد يُدين نفسه بلسانه، هل أنصت الحارس توبيخه لجوهرة، فنقل ما التقطته أذناه؟
أغلقَت فوز عليها باب جناحها، لم تعد تظهر لأحد، ولا تأذَن لغير جوهرة بالدخول عليها وتقديم الطعام لها، رفضَت حتى أن يتردَّد عليها أبوها وأمُّها وإخوتها، تصرخ بالرفض إن طرقوا الباب، يعلو صراخها كأنه التهيؤ للموت، إذا حاولوا معالجة الباب، تركوا للأيام أن تعيد ترتيب الأمور.
يداخلها شعور بالذنب، تدرك أسبابه، وإن كانت لا تملك مقاومته، يتصاعد فيتحرك الغثيان، تشعر بالقيء في حنجرتها.
عانت نوباتٍ من النشيج العنيف، يهتزُّ لها جسدُها، ويتكوم الزَّبد على جانبي فمها، وتحدِّق عيناها فيما لا يُرى، ترشُّ عليها جوهرة الماء وتعاني الارتباك، تعرف أن الحالة ستزداد سوءًا إنْ أذِنَت حتى لأبيها بالدخول لإسعافها.
لم يغلق الطيواني دكانه، ولا حاول ترك القرية.
أدرك أنها — خشية الفضيحة — لن تقوى على البوح. لن ترويَ ما حدث في ذلك اليوم، ما لم يرَه أحدٌ ستحرص أن يظلَّ داخل جدران البيت، تدرك النتائج التي ستعود عليها دون أن تظفر بشيء، ما حدث قد حدث، لا سبيل إلى استعادة ما فقدَته، ربما أفقدَت الصدمة أباها حياته، حتى الخدم حرص أبوها ألَّا يعرفوا ما حدث.
نصح الناس المعلِّم سعد الكندي أن يلجأ إلى علي بن محمد، حدثوه عن حزمه وتسامحه وقضائه بالعدل، رفض أن يأذَن بالإغارة على قرية، لأن رجلًا من أهلها قتل رجلًا من أصحابه، أراد — قبل الإقدام على عقاب القرية — أن يتبيَّن ما إذا كان صاحبه قد قُتل بيد رجل من القرية بالفعل، عرض أهل قرية أن يأخذ ما لديهم من أموال لينصرف عنهم، رفض أموالهم، ولم يواجههم بالأذى، وجزاهم خيرًا.
تردَّد الكندي في أن يمضيَ إلى صاحب الزنج، يعرض عليه ما واجهَته ابنته، خشيَ الفضيحة إن طلب القِصاص. يَكِل الصاحب للمهلبي أمره، يقتحم على الرجل دكانه، يُخضِعه للتعذيب حتى يشفيَ ما بنفسه من ألم، لا يتركه إلا بعد يزهق أنفاسه تمامًا. ما يُحدث المساءلة والحساب والعقاب، سيراه الناس، يعرفون البواعث، فتنقلها الألسنة.
قبل أن تستقرَّ قناعته، بلغه مقتل الرجل في الشارع العام.
كان قد أعدَّ نفسه للفرار إلى مدينته البعيدة، قبل أن ينكشف ما جرى، يعود أبوها من بغداد، يثأر لما حدث.
كان ما حدث قد بلغ مسامع الناس، استهولوه واستعظموه، لا يذكر دريد متى، ولا كيف زلَّ لسانُه برواية ما حدث، تناقلَته الألسن، فصار السرُّ مشاعًا. فكر في أن يعود إلى قريته القريبة من بغداد، طرد الفكرة بالخوف من أن يصل إليه ثأر سعد الكندي، لم يعد أمامه إلا الاختفاء في كهف، أو مغارة داخل الجبال، هل يواجه مصيرًا قاسيًا لأن اللحظة الطارئة، الذاهبة، أذهلَته، فلم يتدبَّر نتائج ما فعل؟!
أفلح سعد الكندي — بالخدمات التي قدَّمها لأهل القرية — أن يستميل عواطفهم، وحين لامسَت الثورة أطراف مدينتهم أنقذ الناس من دفع الإتاوات لجند الزنج، ومن عمليات الإغارة والسلب والنهب.
حرصَت جيوش الزنج أن تظلَّ قريته في منأًى عن هجماتها، قدَّروا حب الناس، ومكانة الرجل عند علي بن إبان المهلبي.
نادى عليه شابٌّ في أواخر العشرينيات وهو يميل من الدكان إلى شارع جانبي.
قذف الشابُّ — في التفاتته — خنجرًا استقرَّ في صدره، تهاوى على الأرض، قبل أن يفطن المارَّة والواقفون إلى ما حدث.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
البصرة مدينة زراعية، تأسَّسَت في السنة الرابعة عشرة الهجرية. لما أرسل الخليفة عمر بن الخطاب عتبة بن غزلان على رأس قوة، اتخذَت معسكرًا لها في «الخريبة»، غربي «الإبلة». كان قوام المعسكر أدوات البناء المؤقت، مثل القصب والخيام، أضاف إليها عتبة مسجدًا جامعًا، ودارًا للإمارة، وثبتًا للخُطَط والشوارع والدروب. صار الموضع من يومها مدينة البصرة.
حرص مَن وضع حجرها الأول أن تنشأ بعيدًا عن ساحل البحر، حتى لا تواجه خطر العدوان، يحدُّها من الغرب نهر الفرات، ومن الشرق نهر جيحون والسند، ومن الجنوب البحر الهندي، ومن الشمال بلاد أرمينية. تُطلُّ على نهر شطِّ العرب، ما يُسمَّى بدجلة العوراء، يتألف عند القرنة من التقاء دجلة والفرات، بين منبعهما مسافة فرسخ، تتفرع من النهر قناتان كبيرتان، شُقَّتا ناحية القِبلة مسافة أربعة فراسخ، إلى جانب قناة الحويزة، بين واسط والبصرة وخوزستان، بين البطائح، وثمة روافد كثيرة، تصل إلى مائة وعشرين ألف رافد.
كانت المستنقَعات أرضًا منخفضة، تراجعَت عنها المياه بعد بناء البصرة، وشُقَّت الأنهار. غلب الماء على المناطق المنخفضة، امتلأت بالمستنقَعات والقنوات والبرَدَى.
توسَّعَت البصرة، بتوالي الأعوام، إلى الأهواز وأصفهان، وزادَت أعداد جيوش المسلمين التي جعلَت من البصرة قاعدةً لها. قَدِمَت أُسر العسكر، أضافوا إلى سكانها من العرب والأعاجم، صارت ثاني المُدن الكبرى في العراق.
لها دورها المهمُّ في حياة العرب السياسية والفكرية، منذ تأسيسها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
يعيش سكانها على الزراعة، ويشتغلون بالتجارة أيضًا، وكانت أعداد الزنج الذين يعملون في كسح السباخ والعمل في الأراضي هائلة، الفوضى منتشرة في المدينة المزدحمة، أضاف إلى هشاشة الأوضاع، نزاعٌ مستمرٌّ بين حزبَي البلالية والسعدية، بدأ في خلافة المعتز، وظلَّ قائمًا. قِيلَ إنهما كانتا فرقتَين من فِرَق الأتراك، كانت كلٌّ من البلالية والسعدية تسكن حيًّا مختلفًا في المدينة.
كانت المعارك بين البلالية والسعدية على أشُدِّها، تمنَّى مناصرة أحد الفرقتَين فيما يُعِدُّ له، زاد من تصميمه فساد إمارة عامل السلطان محمد بن رجاء بن أيوب الحضاري، لامسَت المعارك قَصره، واقتحمَته، لاذ بالفرار من باب خلفي، امتدَّت الفوضى إلى أرجاء المدينة، اقتحم المتقاتلون السجن، أطلقوا سراح السجناء، استولَوا على ما في بيت المال، نهبوا بيوت السراة.
درس محمد بن علي أحوال البصرة جيدًا، عرف مواطن الضعف والقوة، كيف يحيا الناس؟ وهل هم على موالاة للسلطان، أو يُضمِرون له التمرُّد؟ وما طبيعة العلاقات بين مَن يملكون المال، ومَن يبيعون عافيتهم؟
بدَت في عين محمد بن علي أنسب المواضع لبدء نشر دعوته، المعارك التي لا تنتهي بين فِرَق البلالية والسعدية تربة طيبة لبَذر حركة، تنطلق إلى بقية مُدن العراق، يستطيع أن يجد الكثير من الأعوان إذا استغلَّ الظروف السائدة جيدًا، تصوَّر آلاف العبيد العاملين في الأراضي، الساخطين على أوضاعهم، أعوانًا محتمَلين لتطبيق ما يدعو إليه.
هؤلاء العبيد احترفوا الذل، ولن يضيرهم أن يكون هو سيدهم بدلًا من الخليفة المعتمد، هو الأجدر بأن يصبح السيد للأحرار والعبيد في بلد يحكمه، يثق أنه لا يقلُّ ذكاءً ولا عِلمًا ولا قدرةً على الرئاسة وتصريف الأمور. لماذا لا يحصل على الفرص التي حصل عليها الوزراء والأمراء؟ لماذا لا يحصل على مكانة الخليفة نفسه؟ إنهم يحكمون الناس ويظلمونهم، وهو يستطيع أن يحكم الناس وينشر العدل. حكم الخليفة بالجند والسلاح واستعباد الناس، هو سيصل إلى الحكم بالكلمة الطيبة والإقناع، واستمالة عقول الناس ومشاعرهم، وما يعتزم أن يواصله إن قُدِّر له حُكم البلاد.
مال إلى مجالسة العبيد وكاسحي السباخ، يأكل معهم من نفس طعامهم، يطمئنُّ على أحوالهم، يناقشهم في وجوب تغيير مألوف الحياة.
يعرف الزنج جغرافية المنطقة جيدًا، فيها إقامتهم وعملهم، يجيدون صُنع الكمائن والقنص، الكر والفر، الضربات الموجعة والاختفاء، يصعُب على الجيوش الهائلة، ذات المُعَدَّات، أن تنتقل في مناطق تتخلَّلها وتغطيها المساحات المائية، تخترقها عشرات الآلاف من القنوات.
مضى بعساكره وخيوله، يدمِّر ويحرق ويقتل ويسبي. كان جنود الخليفة يفوقون جنود صاحب الزنج عددًا، لكن المفاجأة أخذَتهم فلاذوا بالفرار، ترك جند الخليفة جرحاهم وقتلاهم، مَن عَجَز عن الفرار سلَّم نفسه، يمثُل أمام صاحب الزنج، أو أحد معاونيه، فيقضي بأمره. خلَّفوا ما كان بحوزتهم من عتاد وأسلحة، غنمها جند الصاحب، أضافوا بها إلى قوَّتهم.
عانت جيوش الموفَّق ضيق المواضع التي دخلَتها للقتال، وكثرة ما فيها من خنادق وأنهار، النخيل المتقارب لا يكاد يهب منفذًا في شطِّ العرب، يتوزعون بين الأشجار في جماعات صغيرة، يمهِّدون لمعاركهم بالكشَّافة والجواسيس والطلائع، يرصدون تحركات جند السلطان، يختبئون داخل القنوات المُغطَّاة بالحشائش، ينقَضُّون — في لحظة يحدِّدها علي بن محمد — على مؤخرات جيوش السلطان، ربما أفادوا من هبوب الرياح في دجلة، يصعُب على سفن السلطان التحرك، يحيط الزنج بالسفن، ويستولون عليها، يُلقي الجند بأنفسهم في الماء، يلاحقهم الزنج بالقتل والإغراق والأَسر.
هزم جيش الزنج جيش السلطان مراتٍ متتالية، نشوة النصر حملَت الكثير من الجنود على المبادرة باختطاف الثمار، أهملوا نصيحة علي بن محمد بالتروي، فتعرضوا للهزيمة. قُتل الكثير من جيش علي، حتى هو نفسه كاد يَلقَى الموت، لولا نفاذه بسيفه بين الجيوش المهاجمة، حتى خرج إلى الخلاء.
لمَّ علي بن محمد شمل جيوشه، وأعاد تنظيمها، أجاد الزنج نصب الكمائن، والتخفي، والكر والفر، والمواجهة، وانقضُّوا على مؤخرة جيش أهل البصرة. لم ينتظروا مدافعة جيش السلطان، دافعوا عن المدينة بكل ما حملَته أيديهم، حتى النساء شاركن بقذف الحجارة والماء المغلي وكُرات اللهب.
لاذ المئات من جند الخليفة بمياه البحر، سَبَحُوا إلى المراكب المتناثرة البعيدة، أو غرقوا. خلَّفوا وراءهم ما يحملون من أسلحة، تحولت المياه إلى الأحمر، فالبُني، فالأقرب إلى السواد.
امتدَّ نفوذ علي بن محمد من البصرة إلى الأهواز وعبدان والأبله وواسط؛ بداية الانتصارات الحقيقية.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
المختارة …
أراد علي بن محمد مدينةً جديدةً تخصُّه، عاصمةً له، تختلف حتى عن العاصمة بغداد. لها تخطيطاتها وميادينها وشوارعها وبناياتها وأسواقها وحدائقها، تحيط بها أسوار وأبراج ومزاغل وأبواب، حدَّد له الحكماء أفضل المواضع؛ بقعة جافة في آخر أنهار البصرة، صحراء خالية، لا بُنيان فيها، يلطف جوها في الصيف والشتاء، على الضفة الغربية لنهر أبي الخصيب، تحميها القنوات والمستنقَعات، يقصُر عن دخولها الأعداء، أو يدخلونها على محفَّات الموتى.
حرص — قبل أن يأمر ببنائها — أن يلتقي الرعاة في موضعها، سألهم عن طيب تربته، وجودة هوائه، وعذوبة مائه، وقُربه من المرعى والحطب والغذاء. حين استوثق من تلاقي تعدُّد الروايات، أمر بالبناء.
سمَّاها المختارة، أراد بها أن تكون مركزًا إداريًّا، تنطلق منه سلطاته، وتتسع، نقطة وثوب إلى المُدن الأخرى، حتى يئول إليه الحكم في كل مُدن العراق. أمر بإحاطتها بأسوار يصعُب النفاذُ منها إلا من أبواب محدَّدة، أحاطها بالأسوار والخنادق وأكواخ الزنج المشيَّدة من الطين وسعف النخيل، بنَى أول قَصر له، تبعها بقصور أخرى، يتنقل بينها، وبنَى قصورًا لكبار قادته، وجامعًا كبيرًا، ومساجد، بالإضافة إلى القلاع والدواوين والسجون ومحابس الأسرى، من حولها مساحات من الأراضي الزراعية، وبساتين النخيل، والأدغال، والقنوات. البيوت والقصور والمساجد والجوامع والفنادق والحمَّامات والحدائق والورش الصناعية ودار سكِّ النقود والمحالُّ والمخازن ومصانع الأسلحة وبناء السفن؛ يربط بين ذلك كله طرق منتظمة، قُربها من البحر والبادية، يسَّر لها الحصول على الميرة من الجانبَين.
طال حصار جيش القائد التركي للمختارة، ستة أشهر لم يتجاوز فعل الحصار إلى فعل التقدم داخل المدينة، والاستيلاء عليها.
فاجأه علي بن محمد بهجوم دفعه إلى العودة للبصرة، محمَّلًا بخسائر في السلاح والأرواح والأموال والسفن.
ذاع أمرُه، وقَوِيَت شوكتُه، لم يعد جند الخليفة يَقوَون على ردِّه.
حرص أن يستحلف الناس في البيعة، قَدِموا إليه من المُدن والقُرى والبادية، من أنفسهم، أو بتحريض من الزنج، يضيف إلى القَسَم بالله ورسوله إيمانًا بالطلاق والعتاق، مَن يحنث بيمينه، فإن امرأته حرامٌ عليه.
جعل مدينته الجديدة حصينة، تحميها الجداول والسدود، تحيط بها أسوار عالية وخنادق، وفوق الأسوار أبراج، عليها المنجنيق والعراوات وآلات الحصار، فيصعُب الهجومُ عليها واختراقها، قَصَر بناياتها على قصوره وقصور كبار دولته وقادة جنده، أضاف إليها ضروريات الحياة؛ جوامع وحدائق ودواوين وبيتًا للمال وسجونًا للخارجين على القانون، ومحابس للخارجين على القانون، ومحابس للأَسرى، وكانت في جملتها حسنة الإعداد والتنسيق بما يخالف حتى العاصمة بغداد. عُني بإصلاح الأراضي واستزراعها، وإقامة الجسور، وحفر التُّرع والخلجان، وتطهير القنوات، عمرت المدينة بالأسبلة والتكايا والخانقات وآبار المياه والمدارس والجوامع، اقتنى في حديقة قَصره الصغيرة أنواعًا نادرةً من الغزلان والأرانب الجبلية والببغاوات.
أقام الأسوار حول المختارة، فلا تستقبل إلا مَن يطمئنُّ الجند إلى ولائهم، مكَّن لنفسه في البصرة وما حولها.
انتظمَت الأمور، استوسقَت أحوال الناس، عمَّت العمارة جميع البلاد القصور والدُّور والأضرحة والكتاتيب والأسبلة والتكايا والزوايا والأسواق والساحات والشوارع التي تمتدُّ وتتقاطع، وتفضي إلى شوارع جانبية، والمشاهد التي لا حصر لها.
شرط أن يكون خدم القصور طوال القامة، تُطِلُّ العافية من أعينهم، ميَّزهم برداء موحَّد، مُوشًّى بالقصب والخيوط المذهبة.
بنَى المسجد الجامع ملاصقًا لدار الإمارة؛ ذلك ما أشار به صاحب الشُّرطة، يقطع المسافة بينهما سيرًا، وإن تقدَّمه وأحاط به الجنود والوزراء وكبار الموظفين. جعل موضعًا في مدخل دار الإمارة، يجلس فيه ساعة زمن كل يوم، يلتقي الناس، يتعرف إلى أحوالهم، يطالع بنفسه ما يرفعونه إليه من رقاع، يناقشهم فيما تضمَّنَته من شكاوى والتماسات ومقاصد.
أصدر السكة باسمه، ترك للفقهاء وضع أطوال الشوارع وأعراضها، حتى الأرض الخلاء التي تُقام عليها صلاة العِيدَين، ويخطب فيها أهل المدينة، عُني المهندسون بتخطيطها، والإشراف على التنفيذ، حتى انتهَت إلى الصورة المرجوَّة، اشتملَت مساحتها الواسعة على الزراعات والبساتين والأدغال والنخيل والقنوات، أنشأ الكثير من المساجد والزوايا والأربطة والحصون والأسوار والجسور والقناطر والموانئ والخانقاوات والكتاتيب والمكتبات والمدارس ودُور العِلم والوكالات والرباع والأسبلة والخانات والبيمارستانات والحوانيت والقيساريات والميضات ودُور الضيافة ما يقوم بأهل المدينة، فلا يحتاجون إلى سواه، وأنشأ الوحدات العمرانية المتصلة بزيادة عمران المدينة، كالمحلات والمربعات والحمَّامات، وزوَّد المدينة بالماء الصالح للشرب. ألحق بيوت خلاء بالأسواق، والبيوت كذلك، حتى لا تخرج النساء إلى الخلاء لقضاء حاجتهن، أوقف عليها الأوقاف الكثيرة، أقام من حولها الأسوار والخنادق، خصَّص للرجال في الحمامات العامة أوقاتًا محدَّدة، وللنساء أوقاتًا أخرى، وأنشأ حمَّاماتٍ خاصةً للرجال، وأخرى للنساء. أمر بعدم ارتفاع بيت على بيوت الجيران، وعدم فتح نوافذ تُطلُّ على حريمهم، وبناء الأفران والمعامل والوكالات في الصحراء والأماكن الخلوية، وضبط إخراج الميازيب والشرفات إلى الطريق.
أوقف الجوامع والمساجد والدُّور والدكاكين والخانات والمدارس والخانقات والأسواق والوكالات والقياس والرباع والربط والزوايا والحمَّامات والأسبلة ومراكض الخيل ومعاطن الإبل ومرابض الغنم. شمل الأمن والطمأنينة كل الرعية، نشطَت حركة القوافل بين المُدن، كثُرت البضائع على واجهات الدكاكين والوكالات، وفوق الأرفف، أُضيئَت القناديل على أبواب البيوت والدكاكين، وعلى نواصي الشوارع، تضوَّعَت روائح البخور المتضوِّعة.
أصدر عشرات الأوامر التي تُعنى بالتخفيف عن الناس، وإزالة الشدة التي لحقَت بهم قبل أن يستوليَ على مقاليد الأمور، أعطى الناس مؤخرات رواتبهم، وزاد من رواتب الجند، أطلق السجناء، وأعاد الأموال المصادَرة، والمنهوبة، والأراضي المغتصَبة.
حقن دماء المسلمين، وحفظ أموالهم، أظهر عدم تساهله مع جور العمال، اتسعَت مصادرة الأموال والممتلكات والأحكام التي تبدأ بالسجن، وتنتهي بالوقوف في بقعة الدم. أظهر عدله للناس، وأنصف المظلومين، وعمَّهم بفضله وخيره وإحسانه. أجرى من العدل ما اطمأنَّت إليه قلوبُ الناس.
أسواق المدينة حوَت دكاكين في أسفل، وبيوتًا للسُّكنى في أعلى. خلَت من البنايات الهائلة، تلاصقَت فيها الدكاكين، وامتدَّت أمامها الخيام تعرض كل ما يحتاجه الناس من وسائل المعيشة، يقصدها الناس، فيجدون الأماكن المناسبة لنزولهم، ونزول الخيل التي يركبونها. قَصَر ربط الدواب على مواضع محدَّدة تتصل بالخلاء، لا تنطلق في الشوارع إلا لمهمَّة يتولاها أصحابها، تلاصقَت دكاكين الخرازين والبزازين والصيارفة والعطارين والبقالين وأصحاب السقط، أمر بمصادرة فوائض بضائع التجار، وبنقل المحالِّ التي تصدُر عنها ضوضاء، أو روائح خطرة، من قلب المدينة إلى أطرافها، حظر رمْي كناسة البيوت والدكاكين، وطرْحها على جوانب الطرق، ومنع أحمال الحطب وأعدال القشِّ وروايا الماء وشرائح السرحيين والرماد وأحمال الحلفاء والشوك، فلا تمزق ثياب الناس في الطرقات. شدَّد على السكان كنْس الشوارع والطرقات، وإضاءة نواصيها، ورشَّها بالماء. منع الرجال من الجلوس في طريق النساء، وحظر على الناس ملاحقة الجنازات، والنياحة، في الطريق إلى المقابر.
إذا جاء الليل، أُضيئَت جميع الشوارع والدروب والعطوف والأزقة والباحات الواسعة، وعلَت الأنوار مآذن المساجد وقبابها ومناراتها وأسطح الدُّور والمدارس والحمَّامات والقيساريات والأبراج، وتدلَّت القناديل والفوانيس والشموع أمام أبواب البيوت، والدكاكين، وتحت القيساريات.
اندفع عمران المدينة، مثَّلَت عامل جذب للآلاف من أهل العراق.
جعل خواصه وقادة جنده ووزراءه محيطين به، لا تتداخل في بيوتهم بيوتٌ غريبة، سواء للوجهاء أو العامة، ضرورات الأمن سياج يحيط بالمنطقة جميعًا، فلا تتسلَّل عين راصدة، أو قَدَم تسعى للشر.
طالب أتباعه أن يوسعوا على أنفسهم، لا يبخلوا بما أفاء الله عليهم من النعم.
رُوي أنه عَهِد إلى مخلوقات العوالم المجهولة بحماية المختارة، لا أحد يعرف إن انتسبوا إلى أرواح القتلى في المعارك الفائتة، أو أنهم من الملائكة، أو من الجان، أو أجناس أخرى يعرف الله والخليفة نوعها.
اشترط على موظفيه أن يتفقهوا في الدين، ويتبحروا في شئونه. عُني باستمالة قلوب العلماء بالأعطية والمنح والخلع، وحرص أن يصحب العلماء ويصغيَ إليهم، ويستمع إلى نصائحهم وما يشيرون، ويحذر من أئمة السوء الذين يسعَون إلى الدنيا، ويحثُّون عليها.
إذا دهمَته مشكلة تحتاج إلى أمر حاسم، لم يحاول العمل فيه برأيه، إنما يرجع إلى ذوي المكانة العلمية والاجتماعية، لا يقضي في أمرٍ ما إلا بمشورة، ولا يترك ذوي الحاجة على الأبواب، أحاط قَصره بحديقة ظليلة، يتمشَّى فيها أوقاتًا من النهار، ويتبادل الأحاديث مع خواصه من علماء ومتفقهين.
شاع بين الناس خروجُ السلطان من قَصره متخفيًا، يمشي في الأسواق وأماكن تجمعات الخلق، يختلط بالناس، يتعرف إلى أحوالهم وما يعانون. رُوي أنه كان يلثم نفسه، وينزل الأسواق، لا يعلن عن ذاته وشخصه. وكان ينزل إلى الطرقات متخفيًا في ظُلمة الليل، بلا أهل ولا خواص ولا حراس، ينصت إلى الأحاديث العالية والهامسة، يتأمل التعبيرات والكلمات، يتعرف إلى موضعه في نفوس الناس، وما إذا كان يحكم بالعدل أم إنه — دون أن يلحظ — يخون الأمانة. قد يسير وعليه ثوبٌ قديم، يظنُّه الناس من الزهاد والنساك، فيتحدثون بما قد يمسُّ الخليفة نفسه.
أَلِف ناس الأسواق تناثُر الأسمطة في كل الجهات، يُقبِل عليها مَن يعاني، أو مَن كان على سفر.
المختارة وليدة مطلب شخصي، حرص أن ينزل — كل فترة قصيرة وأخرى — إليها، متفقدًا شوارعها وأخطاطها وساحاتها وبناياتها، يسأل، يُبدي الرأي، يأمر بما ينبغي فعلُه. وكان يتصفح أفعال وزرائه وتدبيرهم الأمور، يُقرُّ منها ما وافق الصواب، ويرفض ما جانبه، هو المسئول عن أحوال البلاد والعباد، لا يسمح بالتقاعس، ولا وقوع أخطاء، نحن ندفع أرواحنا ثمنًا لما نفعل، يجب أن نضمن لما نفعل أقصى حدود الأمان، واعتاد الناس صعوده على منبر المسجد الجامع، يُلقي خُطَبًا يشرح فيها سياسته وما يسعى إليه.
أمر قادته، فبنَوا مُدنًا أخرى مثل «المنيعة» و«المنصورة»، ومُدنًا صغيرةً أخرى، في كلٍّ منها قائد يطمئنُّ إليه، أحاطها بالجند وأدوات الحرب والسفن التي تجوب الأنهار والقنوات.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
لا أحد قطع بما نُسب إلى علي بن محمد، هل قال ما قال؟ أم إن الأقوال نُسبت إليه لتشويه صورته، والتقليل من شأنه؟
لاحظ في نفسه استغراقًا في الشرود، ينسيه التسبيحات، وعدد الركعات والسجدات، يعود إلى التكبير لتلافي الخطأ.
تختلط أمامه الرؤى الغامضة، يرى ما يتحدث عن قسماته وتفصيلاته ومعانيه المحدَّدة، ما يبدو كالأشباح والأطياف وتداخُل الظلال، حتى التكوينات على الجدران من حوله، تتحرك بالمعاني التي تريدها، يرافقها تلاحق النصائح والوصايا والتحذيرات، يعمل بما يراه وينصت إليه، يخاطب به أتباعه ومريديه، قُوى خفيَّة — لا يعرف مصدرها — سيطرَت على مشاعره وتصرفاته، استطاع — بما أوتي من قدرات خارقة — أن يُخضِع القُوى الخفيَّة لسيطرته، يخاطبها، ويأمرها.
اعتاد قضاء الأشهر دون طعام أو شراب، يكتفي بجرعات قليلة، تلتقطها راحة يده من وعاءٍ بجانبه.
بدأ في التحدث إلى أصحابه بألوان من الغيب والرؤى التي لا يرى سواها، الهاتف الذي لا يسمعه غيره، الملامح الوامضة لشخصياتٍ تحدِّثه نفسه بأنها تنتمي إلى أول ظهور الإسلام من الصحابة الأطهار، وإلى كائنات تصرفاتها مدفوعة بقدرة الله تعالى. ظهرَت له آيات تُقرُّ له بالإمامة، حفظ سُوَرًا من القرآن أُلقِيَت في روعه فجأة، ولم يكُن يحفظها من قبل، وكُتب له على الحائط كتابٌ كان يقرأ فيه، يراه هو ولا يراه أحد من أصحابه.
أفلح في كتم شهواته، فيظل الذهن على صفائه وحسن تقديره للأمور، وتدبُّره العواقب، وإن سقط عنه التكليف، فهو يترك الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ويرتكب ما يُعَدُّ من الكبائر، دون حرج، ولا خوف، ولا يأس من رحمة الله.
قِيلَ إن النبوة عُرضت عليه، فأباها، واكتفى بالإمامة: أعباء النبوة أثقل من أن أنهض بها!
حرص أن يحيط نفسه بهالةٍ من الغموض، يغلف أفكاره وتصرفاته وما يقول بثوب ديني، يجيد نسجه في أذهان أتباعه، فيدينون له.
حصَّن نفسه بجدار من العزلة والصمت، هو الإمام، أمير المؤمنين، يجيد التقاط العلامات والإشارات الدالة، يطَّلع على الأسرار العليا، وتأويل الباطن، ومعصوم من الخطأ، يحيطه غموض في أحوال الظاهر والباطن، والجلاء والخفاء. رُوي أنه يجيد مخاطبة أهل العوالم الثلاثة؛ الإنس والجان والملائكة، كلٌّ بلغته، وما يأخذ به ويعطي، يفكُّ الطلاسم والمشاهرات، يُبطل أفعال السحر، يعلِّم ذلك لأتباعه، فيلتزمون به في حياتهم، ويتوقعون نتائجه السارة في الحياة الآخرة؛ أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، والحور العين، والألحان السماوية، والرقصات التي تسلب المرء نفسه، لا يصحُّ معارضته أو سؤاله، مَن يبادر بذلك، فإن مآله منازل الجحيم.
يواجه أعوانه بأنه يعلم حقيقة ما في نفوسهم، ما قد يرفضون البوح به، وما يضمرون، وأنه على علم بما يفعله كلٌّ منهم، حتى لو حرص على إخفائه، نقل أعوانه عنه أنه سأل ربَّه آية، تمامًا مثلما فعل النبي إبراهيم، رأى كتابًا يُكتب له وهو ينظر إليه على جدار، لا يرى اليد التي تمسك القلم، ولا القلم الذي يخطُّ الكلمات.
يطيل العزلة متعبدًا، متأملًا، متهدجًا، مستنيرًا بنور الله. إذا اتجه بالكلام إلى ما لا يرونه، عرفوا أنه يستغرق في المجاهدات، ويخاطب القُوى النورانية، الملائكة والحور العين، وأنه يمتلك بصيرة اليقين، واستشراف الغيب.
تيقَّن أصحابُه أن له بصيرةً تخترق السُّحب، يطيل التحديق في كل ما حوله، هو على معرفة بمخلوقات العوالم التحتية، وبالأجسام الروحية المُحلِّقة في السموات العُلا، يجيد مخاطبة الأنبياء والملائكة والجان والأولياء والموتى والغائبين والطير والحيوان والجماد، يأخذ منها ويعطي لها، نسبوا إليه الكثير من المكاشفات والتجليات والمشاهدات والمعجزات والخوارق.
إذا بَدَا عليه الشرود والغياب، فلأنه يجول في أرض يطؤها وحده، يشاهد ما اختصَّ وحده برؤيته، يحادث أهل العوالم الأخرى من الملائكة والجان، تطول صلاتُه الوحيدة مائة سنة وأكثر، وإن لم يستغرق لحظاتٍ على جلسته فوق السجادة.
ينصت إلى الهاتف في داخله، يردِّد ما أنصت إليه، كأن الله — سبحانه — هو الذي ينطق بلسانه، فاض على نفسه ما لا يدركه أتباعه من التجليات والمشاهدات والتلويحات والتلميحات، بلغ مقامًا لا يتأثر باختلاف الأحوال، قصده — لما رُوي من مكاشفاته — علماء وصلحاء وأرباب سجاجيد، خضع لإرادته الجميع على اختلاف مكانتهم، أيقنوا أن طاعته في الدنيا رصيدٌ ينفقونه في الآخرة.
يجيد التقاط العلامات والإشارات الدالة، يقرأ بواطن أتباعه، يبلغهم بما رأوه، يرتبكون لتصوُّرهم أنهم أحكموا إغلاق نفوسهم، على معرفة بمخلوقات العوالم التحتية، وبالملائكة المحلِّقين في السموات العُلا.
يترامى إلى الحضور في مجلسه ما يشبه الوسوسة، قال وزيره نور الدين الحجازي إنها أصوات الملائكة، تتلو القرآن جلبًا لليُمن والبركات، ذلك ما علَّمهم صاحب الزنج، وحثَّهم عليه.
له قدرة على التشكل في الهيئة التي يطلبها، القاعة الهائلة تمتلئ بجسده، يلامس الأسقف والجدران والأعمدة، يرفع الأعوان رءوسهم بعفوية، يرنون إلى هالة النور الهائلة، تجاوز الآفاق من النوافذ والشرفات، إلى حيث الناس في الأسواق والشوارع والمساجد والميادين والساحات والخلاء، وأماكن عملهم، ومواضع إقامتهم، ابتلع الصمت تهامس الأصوات والأعين المتلفتة في داخل القصور، ثم رضي وبذل لمَن اطمأنوا إلى عدالة حكمه، وحدق — بالتشفِّي — في الرءوس المتآمرة، المتطايرة، داخل بقعة الدم.
ملَكَ على الناس أسماعهم وآذانهم وقلوبهم وعقولهم، قِيلَ إنه يأمر الصحراء، فتسري فيها الخضرة، يأمر الجبال فتتحرك من مواضعها، يكشف المستور وما تُخفي الصدور، يقرأ بواطن أتباعه، يبلغهم بما رأوه، يرتبكون لتصوُّرهم أنهم أحكموا إغلاق نفوسهم، يلجأ إلى ما خصَّه به الله من قبول الشفاعة، فيحيل توقُّع العذاب إلى طمأنينة ويقين بعفو العليِّ القدير.
ذاع أمرُه، وأقبل الآلافُ من الزنج عليه، يعلنون ولاءهم، وينضمون إلى جيوشه، اعتقدوا فيه، وآمنوا بقدرته وخوارقه ومعجزاته التي لا تنتهي، أحسنوا الانقياد لأمره، استقاموا على طاعته.
استولى جنوده على أربع وعشرين سفينةً كانت في طريقها إلى البصرة، غنم ما لا حصر له من الأموال والسبايا والسلاح، تواصل هجوم الزنج، استولَوا على الأبلة وعبادان والأهواز، ارتكبوا في الأبلة من المذابح ما يصعُب وصفُه؛ رفعوا الأسلحة، هزوا بها قبضاتهم، وأطلقوا الصيحات.
استبدل الزنج بالفئوس والمناجل والمحاريث، ما صادفته أيديهم من السكاكين والسيوف والبلط والكواريك والفئوس والعصي.
استباحوا ثروات الناس وبيوتهم، لم يستوقفهم إن كانوا من السراة، أم إنهم يعيشون بالكاد، قذفوا السهام المشتعلة على الدُّور فأحرقوها، تسلقوا أسوار البيوت المغلقة، انهالوا بالبلط على الأبواب والنوافذ، توزعوا في القاعات والحجرات، صعدوا إلى الأسطح، هبطوا إلى الأقبية، قتلوا مَن صادفهم، سرقوا ونهبوا ودمروا، جرى أصحابُ الدُّور في الخلاء مجرَّدين، هجروا كل ما يمتلكونه من أموال وأمتعة.
أغرق المُدن والقُرى والصحاري والمضارب والخيام طوفانٌ من الخراب والتدمير.
تزايدَت أعداد الزنج في تقدمهم داخل المُدن، قتلوا مَن التقَوهم، لا يتوقفون في أحد، دمروا وحرقوا واستولَوا على ما في المخازن والإسطبلات، وعلى كل ما وصلت إليه أيديهم، لم يفرقوا بين ما يُغري بالسرقة، وما ليسوا بحاجة إليه. كانوا يحرقون أية قرية ترفض الانضمام إليهم، يقتلون مَن يحاول الفرار، يجبرون مَن يظهر خضوعه على الإذعان لمشيئتهم.
ضعفت المقاومة — بتوالي سقوط المُدن والقُرى والجسور — حتى تلاشَت تمامًا. بَدَا الأفق مستباحًا، لا توقعات بمقاومة من أي نوع.
نجت عبادان مما لحق بالأبلة، أعلن أهلُها رضوخَهم، واستسلامَهم بلا شَرط، دخلَتها جيوش الزنج، استولَت على ما كان بها من السلاح، وحرَّرت مَن كان بها من العبيد، وألحقتهم بصفوفها.
قبل نهاية السنة، كانت الأهواز قد سقطَت في أيدي الثوَّار، تلَتها عبدان وواسط ومُدن كثيرة، بَدَا سقوط بغداد وشيكًا.
صار سيدًا للعراق، لا توجَد القوة التي تعيقه أو تحاول مناوأته.
لم يُخفِ قائد الجند زهير بن نافع دهشته وخوفه، حين أشار إلى الأسرى من أحرار العرب، تحولوا — بأمر ضباطه — إلى عبيد، وتحولت ربَّات البيوت إلى سبايا، التمعَت عينا علي بن محمد بالغضب: ألم يكُن هذا هو ما يفعله هؤلاء الذين تشفق عليهم؟
يستغرق في عالمه الخاص، هو الذي يراه، ويُحسن التعرف إلى ملامحه.
يطيل العزلة متعبدًا، متأملًا، متهدجًا، مستنيرًا بنور الله. يستغرق في عالمه الخاص، هو الذي يراه، ويُحسن التعرف إلى ملامحه.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
التقينا — سعد الكندي وأنا — في دار عمر بن ربيعة ببغداد.
كثر تلميحُه إلى ما تردَّد في البوح به، ما عجز عن روايته، سر كبير ينغص عليه حياته. كان يأتمنني على ما يعانيه من أسرار، وكنت أخصُّه بأسراري. عرفتُ أنه يحتفظ في نفسه بما يصعُب أن يرويَه.
اتسعَت التخمينات، والاستنتاجات، والملاحظات، والأقوال التي تنقل ما رأت. نؤثر الصمت في المجالس، نخشى — إن أظهرنا المتابعة أو أومأنا بالموافقة — أن يشيَ بنا أعوانُ أمير المؤمنين، نصبح ضحيتَي تهمة لن يهبهما صاحب الزنج فرصة نفيها. لم نعد نأمن لأحد، ولا حتى لأنفسنا، ليست معاناةً شخصية، لكنها انعكاس لمعاناة الناس.
وهو ينكت الأرض بعصاه: إذا كان ما حدث قد عاد بالمكسب أو الخسارة على الطرفَين، فقد كانت خسارتي فادحةً رغم غياب كل صلة لي بما حدث.
حدجَته بنظرة مشفقة: أراك أسنُّ من أن تكون مقاتلًا!
– لا أقاتل إلا بالمال، إنه سلاحي الوحيد!
حاولتُ أن آخذ منه وأعطي، أحرِّضه على الفضفضة، والكشف عمَّا يعانيه، لكنه اكتفى بتلميحه دون أن يأذن لكلماته أن تجاوز المعنى الذي يريده. أخطر الأسرار هي التي تضغط على نفسك، فلا تقوى على إزاحتها.
هو لا يدري أن السؤال نفسه يشغلني: ماذا بعد؟
أعرف أن نفوس الناس تغيرت على صاحب الزنج منذ أطلق قيود حُكمه، فصار مطلقًا، لا مراجعة، ولا مساءلة أو مناقشة، ما يقضي به، أو ما يدفعه إليه أعوانه، هو الحقُّ الذي لا بدَّ أن ينفذ.
أودعتُ خزائني مئات الكتب والمخطوطات والرقاع، يعكس مجموعها صورة الحياة في دولة الخلافة منذ عهود الراشدين، إلى أيام المعتمد؛ كيف يُدار الحكم، وقبول الناس وتذمُّرهم، وحركات التأييد والرفض.
لما تصاعَدت الأحداث، وامتدَّت تأثيراتُها إلى مَن تصوَّروا أنفسهم في منجاة من نارها، شغلني التفكير في الموضع الذي أحفظ فيه كتبي ومخطوطاتي ودفاتري وأوراقي؛ خلاصة علوم الآخرين، واجتهاداتي الشخصية. أخشى أن تمتدَّ المعارك إلى حيث أقيم، وجدتُ في قصرٍ للخليفة يُطِلُّ على الصحراء، أنسبَ المواضع لحفظ ما أخشى على ضياعه.
أعرف أن سعد الكندي لم يعد يقتصر على بيع الحرير، استورد آلات غزل، ووفر الحرير الخام بما يقلِّل تكاليف الإنتاج، ويزيد فرص الربح، استورد التوابل والأحجار الكريمة وخشب الصندل ذا الروائح الطيبة من بلاد الهند، والمنسوجات القطنية من مصر.
كان أشد ما واجهه في مشيخة طائفة التجار، عندما أخفى الكثير من التجار بضائعهم، ليبيعها فيما بعدُ بأسعار مرتفعة، نقل الهمسة التي بلغَت أذنه بأن كل البضائع المخفيَّة ستُصادَر لصالح الفقراء والمُعْوِزين.
لجأ إلى الحذر، ومراعاة الظروف، والبعد عن الخصومة، والحرص أن يكون قريبًا من الجميع. وضع في تصوُّر كل مَن ألجأته الظروف إليه، أو تعامل معه، أنه هو الأقرب إلى نفسه، يفضِّله على مَن يعرفهم، سواء كانوا في الحكم أم من الناس العاديين.
أفاد من هداياه وصداقاته في التأثير على الوزراء والكَتَبة كي يراجعوا قراراتٍ اتخذوها بمنع اقتصار بيع الجملة على فئة من التجار — هو ينتمي إليها — ويفرض الضرائب الباهظة على التجار.
دفعه الإحساس بالواجب، وأداء ما ينبغي تجاه الطائفة التي يتولَّى مشيختها، إلى تقوية أهلها، جعل العلاقات الاجتماعية سبيلَه للاتصال بأصحاب السُّلطة، اعتاد الزلفى للخليفة وخواصه، وصل الأمراء والوزراء والكَتَبة بالهدايا والرشاوى، دعا أفراد الطائفة إلى الفعل نفسه. صارت المنافع المتبادلة سمةً للعلاقة بين التجار ورجال السلطان، حرَّض التجار أن تكون لهم مواقفهم المتضامنة القوية، وتفويت الفرص على محاولات أعوان السلطان للفوز بما لا يستحقون، يدافع التجار عن مصالحهم في غياب نفوذ السلطان والجهة التي تحميهم.
كان يقتني ثلاثة آلاف عبد، لم يقتصر عملُهم في أرضه على العبودية، لم تقتصر حياتهم على صورة العبيد كما في الأراضي والمستنقَعات الأخرى، يعتز بأنه لم يتردَّد على أسواق النخاسة، ولا تفحَّص الرقيق قبل أن يعرض السعر الأعلى، أتاح له عملُه أن يوصيَ باستجلاب عبيد لأراضيه، يأتون من أحراش زنجبار وتنجانيقا وأعالي نهر الروفيجي، المواصفات يحدِّدها، يقتصر عملهم على زراعة الأرض، لا يعهد إليهم — كما أَلِف مُلَّاك الأراضي — بأعمال تطهير الأنهار وكسح المصارف، يعرف أن العبد خُلق ليكون عبدًا، ما يملك فعلَه هو أن يُيسِّر للعبيد حياتهم، ما يريده — لكي يظلوا في رعايته — أن يعملوا، لا يستحثُّ العبيد على العمل، يفاجئهم بالوقوف بينهم وسط الخطوط، يعرف أن رؤيتهم له تدفعهم إلى العمل، دون أوامر أو عقاب، شيَّد لهم بيوتًا متلاصقة، بالطوب وليس بالطين، لم يلجأ إلى السَّوط ولا العقاب الجماعي، هو ليس مُربيًا للعبيد، حتى يوفر لهم الطعام والشراب ومكان الإقامة، هم عمال، من واجبهم أن يعملوا، ومن حقِّهم أن يتقاضَوا أجرًا.
ترك العشرات من العبيد أراضي المُلَّاك الآخرين، عرضوا عليه عافيتَهم، يعملون في أراضيه بما بلغهم عن رفضه إذلالَ الأُجَراء وأذيتَهم.
يأخذ على مُلَّاك الأراضي والمستنقَعات أنهم يستنزفون عبيدهم حتى الموت، يعرضونهم للبيع عند مقاربة الكِبَر، ويأمرون بإبعادهم في حال المرض. يرفض أن يكون ذلك تصرُّفَه، العبيد — بإنفاقه — يرعَون مَن يدركه المرض أو الشيخوخة، يظلُّ حيث هو حتى يأتيَ أجلُه.
أقطع الكثيرين إقطاعياتٍ في الأرض الملحيَّة، يستصلحونها، يُعِدُّونها للزراعة، لكل واحد مُلك ما عمَّر، العمال شُركاء لصاحب الأرض، يتقاسم معهم نتائجها.
لم يبقَ من العبيد في أرضه فيما بعدُ إلا العشرات، غالبيتهم من كبار السن، لم يتصورا لأنفسهم حياةً بعيدًا عن عائلته.
أوقف الأموال والعقارات للإنفاق منها على الفقراء والمنكسرين، وزَّع أنصبةً من أمواله الخاصة على المساجد، ودُور العِلم والفقراء.
لم يعد بيع بضائعه بمثل ما كان عليه، قام أعوان علي بن محمد بالنزول في الأسواق بالبيع والشراء، لم تكُن منافساتهم تتصف بالعدل، حرصوا على تحديد الأسعار لمصلحتهم، وليس لمصلحة التجار، ولا حتى لمصلحة المُشترين. تنافسوا مع طائفة التجار في مجالها، أصرُّوا على المشاركة، أو المتاجرة في الأسواق، بما لا يعرفونه، ويأمرون بحجب البضائع المماثلة، فيعاني التجار في الأسواق كسادها.
لجأ الكثير من التجار وأرباب الحرف إلى وقف أراضٍ وبنايات اتِّقاءَ خطر المصادرة، الشريعة تُحرِّم مصادرة الأملاك، فهو يحمي أراضيَه وبناياتِه من المصادرة.
تقيَّدت حرية الكندي في الحركة، لم يعد يستطيع بيع ما لديه من بضائع إلا عندما ينفد ما طرحه أعوان الحاكم من بضائع.
شغله حماية نفسه من اعتداءات موظفي أمير المؤمنين وأعوانه ووزرائه، يستنزفون أمواله بما يصعُب تعويضُه، يفرضون من الضرائب والمكوس ما لا يقوى على سداده، يزاحمونه في تجارته بالفرض والدَّس والحِيَل والابتزاز.
حرص أن يتيح لتجارته ما يضمن لها البقاء والاستمرار، لكي يظلَّ في منأًى من المصادرة والمزاحمة، لجأ إلى شراء أعوان للخليفة، لهم كلمتهم النافذة، وإرادتهم الغاضبة، أهداهم السِّلَع الثمينة المستوردة من بلاد بعيدة، تنازل لهم عن خير ما عنده من العبيد.
أهدى محتسب المدينة خمسين ثقلًا من الذهب، خصَّص له راتبًا يفوق ما يتقاضاه من عمله، وأدخل أعوانًا قريبين من السُّلطة في تجارته، قدَّم لهم الهدايا، أقرضهم المال، لبَّى احتياجاتهم.
لم يتورط في الصراع بين الفِرَق المتصارعة من أعوان أمير المؤمنين، ولا أيَّد في العلن فريقًا من الأعوان ضدَّ فريق.
في أثناء حصار «المختارة» عُني بجلب الميرة إليها، أهمل — لصِلَته القوية بالحكام في بغداد، وبولاة الأقاليم — توقُّع المساءلة والعقاب.
أشاع عن نفسه أخبارًا بالدخول في علاقات عمل مع أمير المؤمنين، يسوِّق له بضائع تخصُّه، وغلَّات أرضه، ويدير له أمواله، حَمَى أبناء طائفته من ظلم أعوان أمير المؤمنين، استنادًا إلى ما أذاعه عن شبكة العلاقات التي ربطته بالسلطان، والعديد من رجاله القريبين، صار كبار التجار أندادًا للوزراء ورجال الحكم.
أتَت الأنباء بتزايد الشرور التي يُنزلها الزنج بالأهالي؛ اغتصاب وقتل بالجملة وسرقات ونهب وتدمير.
انحرفوا عن مبادئهم الداعية إلى المخاطرة والمبادرة إلى النجدة والغوث، إلى منع الحقوق والسطو وقَطع الطرق والسرقة وفرض النفوذ على الضعفاء والقتل.
عبَّرت تصرفاتُهم عن طبقة غير التي كانوا ينتمون إليها، هم الأكثر ثراء، والأعلى مكانة، هم السادة الذين يُصدرون الأوامر، ويتوقعون التلبية.
همس سعد الكندي كمَن يحدِّث نفسه: كنت أظنُّ أني ابتعدتُ عن الحرب، لكن تأثيراتها دخلَت قلب بيتي!
وتحسَّس لحيته: ما يحيرني أن الرجل محسوبٌ على السراة … لماذا ينتصر للعبيد؟!
افترَّ فم ابن ربيعة عن بسمة هادئة: هو ينتصر لأحلامه الشخصية … يريد الحكم!
بحلَقَ الكندي: الخلافة!
قال ابن ربيعة: إنه يدفع بالعبيد إلى الموت لكي يتمكن من الحكم.
أدركتُ — بالنظر إلى وجه الكندي — مدى المعاناة التي يعيشها. تقلَّصت ملامحه بالأسى: يموتون من أجل أحلامه!
قلتُ مُهوِّنًا: لا أتصور أن آلاف الناس يتقاتلون، لمجرَّد أن الساعين إلى الحكم يدفعونهم إلى ذلك.
زادت ملامح الكندي من تقلُّصها: إذا أردتَ دفعي إلى الموت، فلا بدَّ أن تخبرني لماذا أموت؟!
قال ابن ربيعة: إذا وجد في الزنج قوةً تعينه، فلن تصعُب عليه الخلافة!
لزم الكثير من الأعيان والوجهاء وخاصةُ الناس، بيوتهم ومُدنهم، لا يغادرونها إلى موضع آخر، غلبهم الارتباك والعجز، بدَت كل الطرق محفوفةً بالخطر أو مسدودة، ما يبدو بعيدًا، ربما قَدِم من حيث لا يدري أحد.
راعَ الكندي أن علي بن محمد بَدَا من الزهاد، لما بلغ الملك صدَّ عن الزهد، وثبط عنه، وجاشَت شهواتُه في اتجاه السلطان.
– الرجل يجهل حقيقة ما تطلبه نفسه، إنه مثل الحصان الذي تُرك دون طعام!
وحدَّق في الوجوه المحيطة بنظرة تطلب التأييد: ما حدث لم يكُن سوى ثورة كاذبة، هدفها السلب والاستيلاء.
ثم وهو يضمُّ أطراف عباءته: لو أن الدولة تصدَّت للدعوة منذ بداياتها، لَقضَى عليها تمامًا.
طبيعيٌّ أن الثورة شغلَت التجار والوُجَهاء والأعيان، تُهدِّد أوضاعهم وتسلطهم، قد يؤدِّي التسليمُ لها إلى ذهاب مصالحهم، وإذابة ما بين طبقات الناس.
رسم ابن ربيعة ابتسامةً على شفتَيه، ليُخفِّف من حِدَّة الموقف: خرج الرجل على الخليفة سعيًا — كما قال — لمصلحة قومه!
حاول علي بن محمد — في بدايات خروجه — أن يتصل بابن ربيعة، ويطلب مناصرته. لم يرفض ابن ربيعة، ولم يُظهر تأييدَه.
تخلَّى ابن ربيعة عن الابتسامة المُغتصَبة: عندما تواجه السُّلطة بالعداء، فإنها تلجأ إلى الانتقام الذي يبلغ حدَّ التصفية الجسدية.
ضرب الكندي بقبضته على ركبته: ما فعله صاحب الزنج مع أعدائه أنه أَسَرهم، واسترق أعدادًا منهم.
وأنا أقاوم تألُّمي لما صار إليه: يطمئنُّ إلى الطريق المُمهَّدة أمامه.
أضفتُ مُنبِّهًا: هو لم يدخل البصرة إلا لأن السلطان ترك أمر الدفاع عنها للأهالي المتطوعين.
وحمَّل صوته نبرة إدانة: أتاح السلطان بصمته لحركة الزنج أن تفرض سيطرتها على المدينة.
شوَّح ابن ربيعة بيده: ليت السلطان لم يتدخل، أرسل قائده التركي لاسترداد البصرة، فتحولت الحركة إلى ثورة ضدَّ دولة الخلافة.
رفع الكندي وجهه من استغراقه بين راحتَيه: إني أُحمِّل حاشية السلطان مسئولية تضليله بفتاواهم، أُحمِّلهم مسئولية ما يحدث.
أظهرتُ الاستغراب: أعرف أنكَ على صلة طيبة ببغداد والمختارة!
– المُضطر يركب الصعب.
وثنَى ناحيتي ملامح متوترة: الرجل ينصت إلى نصيحتك … لماذا لا تنصحه؟
علا صوتي بلا تدبُّر: أنتَ أيضًا قريب من مجلسه.
استطردتُ في لهجة حانية: من واجبنا أن نبذل النصيحة، ومن حقِّ صاحب الزنج أن يقبلها أو يرفضها!
وظلَّت الكلمات على إيقاعها: هل القوة هي السبيل الوحيد لمقاومة الظلم؟
رفع الكندي حاجبَيه: الحقُّ المغتصَب لا يُستردُّ بالدعوات الطيبة!
وغالب ارتفاع صوته بالتأثر: الكثير من رجال القبائل يجيدون استعمال السلاح، لكن من حقِّهم أن يجدوا إجابةً عن السؤال: لماذا يحاربون؟
رُوي عن ارتكاب الجند الزنج ما لا يمكن تصوُّرُه، يخترعون للظنة وسائل التعذيب والقتل، يقتحمون البيوت والمحالَّ والخانات، يأخذون كل ما تصل إليه أيديهم، لا تمتدُّ بمقابل، ولا يتلفتون.
وضعتُ على شفتيَّ ابتسامةً متحفظة: لو أن العبيد عاشوا حياةً معقولة، ما كانوا في حاجة إلى تحريض!
وشى صوتُه بالأسى: بدأت حركة الزنج بتحرير العبيد، وانتهَت باسترقاق الأحرار!
ودار برأسه إلى الناحية المقابلة، ربما ليخفيَ داخله: أصعب شيء أن الحركة ألغَت عبودية، وجعلَت عبوديةً أخرى محلَّها!
وضغط على شفته، وأغمض عينيه، كأنه يغالب البكاء: ما نراه أن الذين طالت معاناتهم للظلم يسعدون بظلم غيرهم.
بَدَا على ابن ربيعة شرود، وهو يحكُّ ظهر يده: علي بن محمد لم يفشل وحده، فشل الزنج جميعًا.
وهزَّ رأسه بالدهشة: تبعوه في ثورة دون أن يسألوا ماذا بعد قيامها!
لزمتُ الصمت. الصمت أبلغ من اللغة السخيفة، أو التي بلا معنًى. وافقتُ الرجل — بيني وبين نفسي — على الكثير مما قاله، هو يتكلم عن تحرير العبيد، وأفعاله تقتل العبيد والسادة، لا يستثني إلا مَن يحتاج إلى معاونتهم، لفترات، ثم يتخلَّص منهم، يحزنني أن رُواة محمد بن علي جعلوه في البلاد، وجعلوا البلاد فيه، صار السلطان والبلاد كيانًا واحدًا، أضافوا إلى سيرته، وحذفوا منها، أذاعوا أخبارًا فاسدة، وأفكارًا كاذبة، ورواياتٍ باطلة، وأحاديثَ موضوعة، نسبوا إلى الرسول أحاديثَ مُختلَقة، تؤيد دعوة علي بن محمد، والثورة التي يقودها، اخترعوا حكاياتٍ من الخيال، تباينَت الروايات، فصار من الصعب أن أتعرف إلى وجه الحقيقة.
تنبَّهت إلى قول ابن ربيعة: إذا أردتَ دفعي إلى الموت، فلا بدَّ أن تخبرني لماذا أموت!
ووشى صوتُه بالتوتر: يخرج الإنسان إلى الحرب من أجل غاية، قضية، فلماذا يحارب العبيد؟
قلت: ليتحرَّروا من معاناتهم.
وقلَّبتُ يديَّ في حيرة: تحدَّث عن ثورته بأنها ضدُّ الطبقات المستغلة.
أعرف عنه أنه لا يعاقب عبيده، يحرص أن يكون في أعينهم رجلًا طيبًا، لا يلجأ في تعامله معهم إلى السَّوط، يجد في كلمات التشجيع والإطراء ما يُنسيهم التعب.
لم يمسك في يده سيفًا ولا رمحًا، ولا علَّق كرباجًا فوق شجرة، على رأس زراعاته، كما يفعل مُلَّاك الأراضي.
– العبيد في خدمتنا، مسئوليتنا أن نرعاهم، ولا نكتفي باستخدام السَّوط!
ما يعتزُّ به أنه يحصل من العبد على ما يريد دون أن يرفع سوطه، مجرَّد أن ينظر إليه، يفقده الرغبة في السؤال والاعتراض والرفض والتمرد، يعتبر العمل حياته التي لا يتصور تغييرها.
وأنا أصطنع نبرةً محايدة: قد يكون الإسراف في استخدام السَّوط خطأ، لكن عدم استخدامه خطأ كذلك!
أطرق صامتًا، ثم رفع رأسه فيما يشبه الشرود: الزنج هم الذين يعملون في الحقول.
ثم وهو يتحسَّس ذقنه: نحن في حاجة إلى عافيتهم.
وأمَّن بهزة من رأسه: يؤذينا أن نتركهم للموت!
والتمعَت عيناه ببريق حزن: لم تغير الثورة من أحوال العبيد شيئًا، ظلُّوا مقيَّدين بالأوضاع القاسية.
ووشى صوتُه بالتوتر: اكتفِ بالعقاب، لكنْ لا تقتل!
وبسط يديه في تساؤل: ما ذنب هؤلاء العبيد الذين سِيقُوا إلى الموت، فلم تتغير حياة مَن بقي منهم؟!
وانعكس الحزن في ابتسامة منهزمة: دفعوا حياتهم لكي يحصل سواهم على نعيم الدنيا!
قال ابن ربيعة: ما قد نظنُّه عدلًا يراه غيرنا أقسى الظلم!
مدفوعًا باطمئنانه إلى ابن ربيعة، عاب سعد الكندي فعل عكس ما كان؛ صار العبيد سادةً للأحرار، وصار الأحرار عبيدًا لمَن كانوا من العبيد. اغتصب مَن كانوا عبيدًا كل ما وصل إلى أيديهم من أملاك، وسَبَوا النساء، وفضُّوا البكارات، وأثاروا الرعب في قلوب الناس. وقف طالبو الصدقات على جوانب الطرق ومفارقها.
وهو يتململ في جلسته: مَن يسعى إلى تحرير العبيد، لا يحيل الأحرار إلى ما لم يكونوه!
وارتعشَت الكلمات على شفتَيه بالغضب: هذه حركة انتقامية، ألغَت العبودية، وأحلَّت محلَّها عبودية أخرى.
ورفع عينَين يُطِلُّ منهما الحزن: هل تحرَّر العبيد؟ هل تخلَّصوا من أوضاعهم؟!
– الناس لا يُقدِمون على أفعال الشرِّ إلا إذا قهرهم الجوع أو الظلم.
قال ابن ربيعة: فعل الرجل ما فعل لأنه كان يطمح إلى الرئاسة.
قلت: وعَدَ الناس بالنعيم.
رمقني الكندي بنظرة مغتاظة: هل يطلب مناصرتهم بوعد الجحيم؟!
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
ما جرى، استغرق لحظة اعتدال المهلبي فوق الجواد. لمَّا همَّ الزنجي بتصويب الحربة إلى صدر الرجل اللائذ بالجدار، ارتجفَت الحربة في يده، ثم قذف الرمح بآخر قوته في صدر الرجل، انبثق الدم، تطاير نثار الدم على جسده.
استعاد الملامح والكلمات.
وقف الجند على رأس الحقل، عَهِد علي بن محمد إلى المهلبي بلمِّ العبيد من المستنقَعات، توسَّم فيه صاحب الزنج الذكاء، وعرف عنه قراءة أسرار الصحراء؛ التلال والأودية والشعاب والكهوف والسُّبل والدروب والمسالك.
اختاره الإمام ليكون من بين قوَّاده. جمع المهلبي بالفعل آلاف العبيد والأُجَراء، كانوا يعملون حول البصرة في كسح السباخ، وإصلاح الأراضي، واستخراج الملح من المستنقَعات.
أمره أن يجذب من العبيد مَن يتوسَّم فيه القوة والاستجابة للدعوة الجديدة، من حقِّه إصدار الأوامر، ولو بالقتل، في شأن المتخاذلين عن خوض المعارك، والفارِّين.
الفرار من الحرب خيانة، والخيانة عقوبتها الموت، ليس للفارِّ الخائن أن يأمل في الرحمة أو العفو.
قال للزنجي: هل أنتَ بمفردكَ في هذه الناحية؟
وأشار بامتداد ذراعه إلى ما حوله: ألا يوجَد آخرون؟
رمقه بلال حاطب بنظرة مستريبة: هرب كل العبيد ما عداي … كوخ أسرتي في نهاية الحفل!
في نبرة حاسمة: دعْ ما في يدك وانضمَّ إلينا.
الدُّور من أكواخ الصفيح والخيش المسقوف بالقش، والأخصاص الصغيرة، والشَّعر والطين والقصب والعيدان، والعُشَش الضيقة، المتناثرة والمتلاصقة، من الغاب والبوص، سُدَّت أبوابُها وثغراتُها بالحصير، والستائر المُجدوَلة من قِطَع القماش المُلوَّن، أحاطت بها المستنقَعات، فالتوجه إليها، أو الخروج منها، يحتاج إلى الغوص في المياه الآسنة والأعشاب والطحالب، تبين عن مواضعها — في ظُلمة الليل — أضواء شاحبة من مصابيح الغاز.
لم يستطع مغالبة الخوف؛ خوف عاتٍ مسيطر تملَّكَه. قاوم ارتعاشة صوته وهو يجول في المكان بعينيه: قد تكون الظروف هنا قاسية، لكنني أعرف المكان جيدًا.
تناول قطعةً من الطين، فركها بإصبعَين، وقال: لماذا أترك أرضي؟
ونفض يده: كانت قطعة ملح قبل أن أفلحها!
قال المهلبي في نبرة هادئة، كمَن يقرر حقيقةً بديهية: من حقِّنا أن نحصل على الأرض التي نعمل فيها.
وتقلَّصَت راحتُه على مقبض السيف: لن نحصل على هذا الحقِّ ما لم نخرج لأجله!
أدرك بلال حاطب مقصده: أنا لا أجيد القتال!
تخلَّل المهلبي شعر رأسه بأصابعه: إن اعتدى عليك شخص، ماذا تفعل؟
ظلَّ بلال حاطب صامتًا وهو يحكُّ مواضع لدغات البعوض في وجهه، لا يذكر أنه رفع ذات يومٍ سلاحًا في وجه أحد، لا سيفًا، ولا فأسًا، ولا صوب رمحًا أو نبلة.
أشار المهلبي بيده إشارةً صامتة، لا تدلُّ على معنًى محدَّد: مَن يرفض الدفاع عن أرضه لا يستحقُّ أن يحيا فوقها!
افترَّ فم بلال عن أسنان متآكلة: هذه ليست أرضي … أنا عبد.
– انضمامك إلى جيش الزنج يجعل الأرض ملكًا لك.
ثم وهو يحيط قبضة السيف براحة يده: يجب ألَّا يكون الفقراء عبيدًا للأغنياء.
وأكسب صوته رنينًا مؤثرًا: نحن عبيد الله، ولسنا عبيد الأغنياء.
طالَب أعوانه أن يجتثُّوا شجرة الأثرياء من جذورها، لا يكتفون باستئصال الفروع، إن ظلَّت الشجرة في موضعها، فسيكون كل ما يحدث لها مجرَّد تقليم.
أعاد المهلبي السؤال: ماذا ستفعل؟
– أدافع عن نفسي.
– هذا ما عليكَ أن تفعله … دافع عن نفسك.
وأطلق أُفًّا طويلة، تعبيرًا عن ضيق صدره: لسنا قَتَلةً ولا معتدين، نحن ندافع عن أنفسنا.
لم يفكر في أن يستأذن لوداع زوجته وأطفاله، شعر أن وداعه لها، هذا الصباح، هو الوداع الأخير.
عرف في مجالس علي بن محمد حكايات الآلاف من الزنج، تركوا الأراضي والزراعات والمستنقَعات، مضَوا إلى الأماكن التي خصَّصَها صاحب الزنج لجنوده، ثبتت في ذهنه حكاية شبيب العبد في مستنقَعات زهير أبو بلال الملاصقة؛ بعد أن ولَدَت زوجتُه، أخذ الطفل، وعاد بدونه، عرفَت أنه خنقه ودفنه.
قالت زوجته من أعماق حسرتها: لماذا؟
تثاقلَت الكلمات بين شفتَيه: ساعدتُه على التخلُّص من العبودية.
– إنه ابني … ابننا … لماذا تقتله؟
– لم أُرِد له أن يعيش حياته عبدًا.
– لماذا أنجبناه؟
– خطأ، عالجتُه بتخليصه من مصيرٍ مؤلم!
قال شبيب لزوجته: هل تريدين المعارك؟
وهي تؤمِّن بهزة رأسها: هي البديل لموتنا البطيء!
مضى بلال حاطب مع الجند، خلف المهلبي، سحب نظراته من الخضرة الممتدة والتلال والوهاد والوديان. خشي أنه لن يعود إلى هذا المكان بعد أن يتركه.
لم يكُن بلال يمتلك الأرض، ولا يستأجرها، يشعر — بسنيِّ عمله الطويلة في زراعتها — أنها أرضه، ينتمي إليها، لا يغادرها إلى أرضٍ أخرى، يُقلِّب الثمرة في يده، هو الذي وضع البذرة، وتعهَّدها بالريِّ والعناية، حتى أعطَته ثمارها، يتصور الحياة في بغداد ومُدن العراق الأخرى، لكنه لم يرَها، ولا شغله السفر إليها.
هذا هو المكان الذي أمضى فيه عمره، من الصعب أن يتصور نفسه في مكانٍ آخر، لا يشغله الذهاب إلى الحرب، إنما يشغله الابتعاد عن المكان الذي يحبُّه، يقضي غالبية النهار في تقليب الأرض، والحرث، وبذر البذور، وفتح المسقى، وضبط جريان المياه، وإزالة الأعشاب الضارَّة، والحصاد، والقص، وتقليم الأشجار، وإزالة الأغصان والأوراق الجافة، وقطع الحطب، هو يعمل طيلة يومه في المستنقَعات، لكنه يعود آخر الليل، ما بين العمل والكوخ يعرف الملامح كما يعرف تعرجات الخطوط في راحة يده.
يخترق المزروعات، يلامسها بجسده، يتشمَّم رائحتها، يتابع ما يطرأ عليها من نمو وتهيُّؤ للحصاد، القبور المتناثرة تجاور الحقل، ربما مضى إليها، يقف أمامها لقراءة الفاتحة والدعوة بالمغفرة للراحلين.
هل تُتاح له العودة؟
قبل أن يقتاده الجنود من داخل الحقل، لم يكُن يعرف القتال، ولا وجَّه سلاحًا إلى أيِّ إنسان، قلَّب الرمح في يده، لا يدري كيف يجيد الإمساك به، النظرة الآمرة من عينَي المهلبي فوق جواده، أطلقَت الحربة من يده.
أقدم الزنج على نهب الأسواق والمَتاجر، حتى اضطرَّ الناس إلى إغلاق الأبواب وكل ما يتيح للجند ممارسة أفعالهم، مَن حاول التصدِّي لهم، أطارت السيوف عُنقَه، أو اخترقَت المُدى صدرَه، أو قُذف به من حالق، شاطروا التجار وأصحاب الحِرَف والوكالات مكاسبَهم، يدخل الجندي الدكان، يشير إلى البضائع على الأرفف وفي الأركان يأتي بها البائع، يحملها ويمضي دون أن يفكر في المقابل.
طرقوا الباب الخارجي لقصر التاجر عمر بن وهب، قبل أن يردَّ أحدٌ في الداخل، انتزعوا الأعمدة الرخامية، حطموا البوابة، اندفعوا إلى الداخل، أهملوا الاصطدام بسكان البيت، توزَّعوا في قاعات البيت وحجراته وسلالمه، بَدَا أنهم يعرفون المكان جيدًا، ربما دلَّهم على التفصيلات عبدٌ في داخل البيت.
مدَّ بلال حاطب ساقَيه أمامه، وتأمَّل الحذاء، بَدَا جيدًا، لم تلبسه قدمان، أخذه من داخل البيت، استبدله بحذاء كانت أصابعه تُطِلُّ منه، ما يعرفه، ما يثق فيه، أنه لم يسرق من قبل شيئًا، لم يفعل ما يستحقُّ المؤاخذة.
هبط الجند كالجراد على القُرى ومساحات الخضرة، ينتهكون الحرمات، يسرقون البيوت، ينهبون المتاع، أعملوا السيوف في وجه مَن واجه اندفاعهم، طاردوهم، تعقبوهم بالذبح، ألقَوا جُثَثهم في البحر، استلبوا كل ما وصلت إليه أيديهم؛ الماشية والأدوات المنزلية والحلي الثمينة والمشغولات الذهبية والفضية.
اختلط الصياح والصراخ والنشيج والأنين والبكاء والاختناق والدماء والأشلاء والرءوس المتطايرة والرعب.
أعملوا التدمير والنهب، ثم أضرموا النيران في البنايات، تحولت قُرًى بأكملها إلى دمار وركام وبقايا أطلال، تغيرت المعالم، فلا شوارع، ولا ميادين، ولا بنايات من أيِّ نوع، إنما هي خرائب اختلطَت، وامتدَّت، فلا تبين الصورة التي كانت عليها.
كانوا يحطمون أبواب البيوت، يندفعون إلى الداخل، يحطمون الخزائن، يفتحونها، يقلبون الطاولات والقدور الخزفية، يكسرون الأواني والأوعية، ينتزعون الثياب من الأدراج ويبعثرونها، يمزقون الستائر، يحطمون قِطَع الأثاث الثمينة، يُلقون بها من الأسطح والشرفات والنوافذ، يرتدون الثياب أو يمزقونها، يستولون على كل ما له قيمة، يشعلون النيران فيما تبقَّى من أبنية وأثاث، في مغادرتهم يَسبُون النساء والأطفال، يُلقون القبض على الرجال، حتى مَن لا يحاولون المقاومة يقتادونهم إلى الخلاء، يتركونهم جُثَثًا اجتُزَّت رءوسُها، خطفوا النساء والغلمان من الشوارع ومن داخل البيوت، فسقوا بهم دون خشية عقاب.
حاول مالك أبو حمزة، شيخ قبيلة النعماني، أن يقف في طريق الزنج المندفعين، لكن طعنة الرمح ألقَته أرضًا، داست الأقدام عليه في اندفاعها نحو القصر، أعملوا السلب والنهب والتدمير، أحرقوا ما لم يستطيعوا حَملَه، بقيَت من القصر أطلالٌ لا تنبئ بما كان عليه.
مال الزنج إلى قصر عامل البصرة، حسان أبو تغلب، قابلَتهم رماح الجند وسيوفهم، اقتحموا القصر، انتزعوا الأعمدة الرخامية، حطموا البوابة، تهاوى السُّلَّم تحت وطأة الهجوم، حطموا النوافذ والأبواب والأثاث، قتلوا أفراد الأُسرة في داخله، نهبوا كل ما وصلَت إليه أيديهم، عانت جُثَّة العامل تمزُّق الأوصال بجذبه من يدَيه وقدمَيه، أوقعوا الموت بكل مَن حدسوا أنه موظف عند الخليفة.
زادت — كما لم يحدث من قبل — عمليات الطعن، والذبح، والإغراق، والخنق، وحز الرءوس، وجدع الأنوف، واصطلام الآذان، وتقطيع الأيدي والأرجل، وسلخ الجلود التي تعيش أجسادها، والتمزيق، والدَّوس، والتحطيم. امتلأت الشوارع بالجثث المبقورة، وبالأشلاء والصرخات والأنين والروائح الكريهة والأشجار المتفحمة وكومات الطوب والحجارة والتراب، وتشاجر الكلاب فوق جثث القتلى.
علَت السيوف تتقاطر منها دماء القتلى، كثُرت عمليات بيع النساء، وعمليات الرهن والرجم لمَن اتُّهِمَت في شرفها، حتى لو وجدَت مَن يدافع عنها بأنها واجهَت اغتصابًا قاسيًا.
أُريقَت الدماء، أُزهِقَت الأرواح، تناثرَت الجثث، تطاير الدم على الأرض والجدران وأبواب البيوت، تصاعدَت النيران وأعمدة الدخان، دُمِّرَت البنايات، أُحرِقَت الناس والحيوان والأشياء، غطَّت السُّحبُ السوداءُ ما يمكن رؤيتُه، ابتلعَت مُدنًا وقرًى وحدائقَ وغابات، عانى الناس ما يصعُب تحمُّلُه.
بلغَت مقدمات الزنج «جرجرايا»، المواكب تخترق الشوارع، والأيدي ترفع العصي، تعلوها رءوس القتلى.
وصلَت الأنباء إلى بغداد بما يُحدِثه الزنج من أفعال القتل، والاعتداء على الأعراض والنهب، يواقعون النساء، يستحلُّون المحرمات لأنفسهم، ينزعون الجلد من الجسد الحي، والأظافر من منبتها، وتهشيم الرِّجلَين، والربط في عجلة تدور بالمرء بلا توقُّف، وغرز مسامير في الجسد، وتعليق المرء على حبل المشنقة بعد كل ما سبق، وربما حُرق بعد شنقه، وربما أحرقت فيه النيران وهو حي، فيُحرق بلا شنق، أَلِف الناسُ الرءوس المفصولة عن الأجساد، الأجساد المشنوقة المتدلية من فروع الأشجار سُلِخَت حيةً أو نهشَتها الطيور، الأيدي والأرجل المبتورة، البطون المبقورة على جوانب الطرق، وفي الخلاء.
توقَّع الناس قدوم الجراد، يأتي في لحظة لا يتوقعونها، يلتهم كل ما هو مُخضرٌّ وحَي، شحبَت في أفعالهم ما أَلِفَه الناس من تدخلات الأتراك، تعاظم النهب والسلب والتدمير والقتل، انقطع لجام الفعل، فلم يعد من السهل إيقافُه.
باع السراة أملاكهم، وفرُّوا بعيدًا عن المدينة، هجروا بيوتهم، يحملون ما استطاعوا حَملَه من الحلي والأشياء الغالية، تبيَّنوا فداحة الخطر، وأنهم أمام جيوش لا قِبَلَ لهم بمغالبتها، أو التصدِّي لها، لاذوا بمواضع بعيدة، طلبًا للأمان، خرجَت النسوة بثياب النوم، وحافيات، مَن عجزوا عن الفرار أوصدوا الأبواب، ولزموا البيوت، وحرصوا ألَّا يَصدُر منها ما يشي بالحياة، ولجأ الكثيرون إلى المساجد، تعلو أصواتُهم بالدعوات والابتهالات.
صارت السيطرة للفوضى، هي التي تسود، ما يراه الأفراد والجماعات يُنفَّذ كأنه القوانين المُلزِمة، كل مَن يسير في الطريق يتلفَّت حوله، خشية توسيط سيف، أو طعنة رمح، أو ضربة هراوة.
تلاحقَت استرحامات الأعيان والوُجَهاء وموظفي المملكة، يطلبون الأمان.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
استوقفَته امرأة وهو يركب جواده، ومن حوله أعوانُه، اصطدمَت بالجواد، ورفعَت صوتها بالتوسُّل.
ثنَى إليها علي بن محمد ملامح غاضبة: ما شأنك يا امرأة؟
– أنا امرأة من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب.
أبلغه الأرصاد أن الجند ينادون على المرأة من ولد الحسن والحسين والعباس ونسل هاشم وقريش وسائر العرب والعجم، ثمن الجارية درهمان أو ثلاثة، يشتري الزنجي ما قد يبلغ الثلاثين، يطؤهن، ويخدمن نساءه. صار أعِزَّةُ الناس أذِلَّة.
قالت المرأة: أستحلفك بالله أن تنقلني إلى غير مَن استرقني، أو تأمره بعتقي!
أردفَت وهي تشير إلى الوزير نور الدين الحجازي، الواقف جواره: قسوته يصعُب تحمُّلُها!
هو أقرب رجاله إليه، يُعنَى بإطلاعه على غوامض أسرار السَّلطنة، يستشيره في أموره، ويعمل بأغلب ما يشير به عليه، وأطلق يده في الكثير من الأمور، أَلِف، وأَلِفَت الحاشية، أن يجلس عند قدمَيه، يسجل كل ما يَصدُر عنه من كلمات؛ الأسئلة والأجوبة والملاحظات.
قال الحجازي في نبرة متذلِّلة: منذ انتصرَت الثورة أَلِف هؤلاء الناس ادِّعاء الظلم.
اتجه صاحب الزنج إلى المرأة بنظرة غاضبة: ما شأني؟!
وجذب مِقوَد جواده: هو مولاك، أولى بك من غيره.
مضى الموكب في طريقه؛ ألوف الفرسان يلبسون الدروع المُحلاة بالذهب والجواهر، تليهم كتائب الجند والوزراء والأمراء والكَتَبة والعلماء والشعراء.
بلغَت الثورة حدَّ نهاية الإنبات، وبدأ حدُّ جَنْي الثمار. ترك التصرف لقوَّاده بما تُمليه الظروف، موضعه في المختارة، يشرف، يوجِّه، يتابع، لن تستغرقه المعارك حتى آخر العمر. بذل ما يهبه الحقُّ في أن يلوذ بقصره، كَرِه مسئوليات الحكم، وجد الطمأنينة والراحة بعيدًا عن القضايا والمشكلات والمعارك.
تبدَّلت طبيعته، ما اعتاده في نفسه، وما اعتاده الناس منه، مال إلى التحلِّي بالهيبة، والإقلال من الكلام، لا يتكلم إلا لضرورة، ولا يعلو صوتُه عن الهمس، وترافق أقواله بسمة هادئة، ولا تستفزه الأسئلة التافهة والمطالب التي قد تكون شأن الوزراء والكَتَبة والموظفين وقادة الشُّرطة والجيش.
من الصعب أن يواجه توالي الأحداث وحيدًا، يتخذ القرار بمفرده، هو يترك لقوَّاده تنفيذ إرادته، يقودون الجنود الذين انتزعهم من بيوتهم، ومن أعمالهم في المستنقَعات، أو انضمُّوا إليه بإرادتهم سعيًا للتغيير.
شغلَته مخاطبة الهواتف عن أمور الحكم، ترك أمور الدنيا وتدبير معيشة الناس لأعوانه الذين أعطاهم الثقة.
لم يعد يجلس بنفسه على كرسي الحكم لسماع الشكايات، ترك الأمر لوزرائه، يستمعون إلى المظالم، ويفصلون بين المتقاضين، ويتخذون القرارات التي تأخذ قوتها من موافقة السلطان.
عَهِد إلى أعوانه بأعمال لم يتولَّوها من قبل، ولا عرفوا أصولها وقواعدها؛ الإمامة والتدريس والإفتاء والقضاء والحسبة والسكة والجباية والشُّرطة.
عمل أعوانُه على أن يعتبره الناسُ إمامًا أو نبيًّا، عُلِّقَت صوره في الميادين العامة، وعلى واجهات العمائر، يتراوح ما يرتديه بين الزيِّ العسكري والزيِّ المدني، وهو يمتطي الجواد، وهو يشهر السيف، وهو يخطب، وهو يجالس الناس.
أذاع الأعوانُ أن الله وَهَبه عِلم تغيير الوقائع، وتأويل المنامات، يتحدث عمَّا يكتمه مريدوه من أسرار دون أن تعبِّر كلماتهم، أو إيماءاتهم، عمَّا يشي بالمعنى، لا يكتفي برؤية ظاهر الناس والأشياء، لكنه يعرف ما قد يكتمه الصمت، وما تُخفي الصدور.
لجأ نور الدين الحجازي إلى الرُّواة، يحدِّثون الناس عن أفضال أمير المؤمنين ومناقبه، ضمَّن أحاديثهم في السِّيَر وقصص البطولات والأعاجيب والخوارق، ضفَّر الرُّواةُ مآثره وبطولاته في الأمثال والحكايات والسِّيَر والحواديت، ردَّدوها في الأسواق والخانات والخلاء، اخترع الرُّواة عن حياته مجموعةً من الآداب، نسقوا فيها الحكايات، ونَظَمُوا القصائد المطوَّلة. اختصَّه الله واصطفاه، جعله في المحلِّ الأعلى من عنايته ورعايته؛ يعصمه، سبحانه، فيما يأخذه من أوامر، عن المخالفة، ربما أغمض عينيه، وراح فيما يشبه الغيبوبة، يتعرف إلى أفراد من آلِ البيت، وصحابة وقادة وتابعين، يخاطبهم بكلمات متباطئة، هامسة، يتلقَّى نصائحهم، ويعمل بما يشيرون.
امتدَّت جولات الرُّواة في طول البلاد وعرضها، تتغنَّى بأفعال أمير المؤمنين، تتحدث عمَّا تحقَّق للناس على يدَيه من الخفض والسَّعة وسعادة المعاش والرفاهية، علَت دعواتُهم بأن يُطيل الله عمره، ويُعليَ شأنه، ويحميَه من مؤامرات خصومه.
شاع في حكايات الرُّواة أن علي بن محمد لا يتصرف من تلقاء نفسه، إنما يساعده في أفعاله مخلوقات لا يراها أحد، ولا يراها هو نفسه، هم يلاحقونه بالهمسات التي توضح وتشير بما ينبغي فعلُه.
رُوي أنه كان يتعرف إلى أحوال جنده في ثلاثين أو أربعين موضعًا في وقتٍ واحد، بينما هو في مجلس الحكم، يقضي، ويفصل، ويأمر بما فيه صالح المملكة، ربما اتصل بقادة الجند إلهامًا، أو عن طريق الرؤيا، أو بطريق التوجُّه.
أذاع أعوانُه أنه حفظ نفسه من التكلُّم بكلام الدنيا، وربط قلبه في الله بسائر أوقاته وخلواته، حين يأتي موعد الصلاة ولا ينهض لأدائها، يدرك أتباعُه أنه يصلي في الجزر المتسعة، أو تحت الأرض، أو عند العرش، أو جوار المسجد الحرام، وله صلاته — التي لا تُرى — مع الجن، يراهم ويرونه دون أن يفطن إلى ذلك أحد، ثم لم يعد يؤدِّي فريضة الصلاة، فقلبُه — في يقين أتباعه — قائم وراكع وساجد في كل الأوقات. وكانت روحه تصلي في الكعبة دومًا، وكان يمتلك قدرةً على التشكُّل، وتبديل صورته إلى حيوان أو طير أو نبات أو جماد، يراه الأتباع في جواد، أو حمامة، أو غصن شجرة، الشكل الذي يتحور فيه، يتقمَّصه، لا يعرف حتى المقربون أنه هو صاحب الزنج، ما لم يصارحهم بحقيقته.
صارت له في نفوس أصحابه مكانةٌ عليا، يثقون في قدرته على فعل ما لا يقوى على فعله الناس العاديون، ما يأمرهم به يتلقَّاه من قُوًى عليا لا يعرفونها، تستشرف النصر في نهاية الطريق قبل أن تأذن باختراقه.
روى أتباعُه أنه دخل معركةً حاصره فيها جند الخليفة، انهالوا عليه بضربات السيوف وطعنات الخناجر، لكنه ردَّ الضربات بأقسى منها، وخرج من المعركة دون أن يقطر منه الدم، أو يُصاب بأذًى.
انقلبَت الموازين، لا لصالح الزنج على الأثرياء، وإنما لصالح خواص أمير المؤمنين؛ وزرائه وقادة جنده وكَتَبته والمتصلين بهم من الأعوان والأتباع، جعلوا لأنفسهم كل شيء؛ المناصب والأراضي والزراعات والأموال، وكان جنوده يزاحمون الناس في أرزاقهم، يستأثرون برغد العيش.
قال زهير مكي النساخ بالبصرة: انتصر للزنج وهو موسر، تصوَّرْنا أنه سيرأف بهم.
قال سعد الكندي: هذه ثورة علي بن محمد، وليست ثورة الزنج.
قال أوفى الصامت: إنها حرب أجناس بين السودان والبيضان.
– خطأ يلغيه أن البِيض هم غالبية قوَّاد الزنج.
وكسا الغضبُ وجهَه: جعل قضية الزنج وسيلةً أفاد منها في تحقيق ما يريد بلوغه.
وغمغم من بين أسنانه: أقسى الأمور أن تسخِّر الجماعة لخدمة مطامع شخصية.
ساق الجند التاجر عبد العزيز قيس إلى حتفه، قال في لمَّة من الناس: علي بن محمد قائد نحترمه، لكنكم جعلتموه نبيًّا!
قال الصامت في لهجة مبالغة: معجزاته تفوق ما فعله الأنبياء!
تصرَّف الجند، في اللحظة التالية، بما يحفظ على أمير المؤمنين مكانته في نفوس الناس.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
تقدَّم الحاجب عبد الله بن عابد من مجلس أمير المؤمنين. انحنى، وقبَّل طرف ردائه.
لم يكُن — عندما يستدعيه الصاحب — يُخفي قلقه وخوفه، يخشى أن ينكشف أمره، وما يحيكه من تدبيرات، يلتقط الصاحب طرف الخيط، يكرُّه، ويحيط به عنقه، فيخنقه.
كان يدسُّ السُّمَّ في طعام مَن يريد قتله، يخبره بالطعام المخلوط، ويجبره على أكله، إذا اشتدَّت مقاومتُه قُيِّدَت يداه وراء ظهره، ودُسَّ الطعام المسموم في فمه.
وضع في يد الوزير صخر النجدي ورقةً باعترافات عن جرائم ارتكبها، طالبه أن يقرأها، أجبره على التهام فطيرة السُّمِّ حتى آخرها، تأمَّل في اللحظة التالية جحوظ عينيه، وحشرجة صوته، واصطباغ بشرته بالسواد، وارتعاش جسده، لم يُسقط نظرته عنه، إلا بعد أن تهاوى على الأرض ميتًا.
عاب على جنده أنهم انشغلوا عقب انتصارهم بحصد ما خلَّفه جنود الخليفة من عتاد وأسلحة، انطلقوا، يفرضون المكوس والإتاوات، ويصادرون الأراضي، مَن يعتذر عن عدم حمل صكِّ الملكية، يتخلَّى طواعيةً عن حقِّه فيما يدَّعي ملكيته، أو يواجه المحاكمة العاجلة التي قد تقضي بالإعدام.
اتهمه بأنه حرم الجنود من العاطفة الإنسانية التي تحسن الفهم واتخاذ المواقف، هم يقتلون ويدمرون كأنهم آلات بلا مشاعر ولا عقول.
طلب صخر النجدي من أمير المؤمنين — بسطوة الخوف — أن يعفيَه من المسئوليات التي عَهِد بها إليه.
رفض الإمام طلبه: ولماذا لا تعمل بشرع الله؟
أمره بأن يستمرَّ في أداء المهامِّ التي أوكلها إليه.
تزايدَت الرقاع إلى مقام أمير المؤمنين — بواسطة قادة ووزراء وكَتَبة — تعيب على الوزير نور الدين الحجازي ميله إلى الدسِّ والتآمُر، وأنه يختار معاونيه في دواوين الحكومة بنفسه، ويشرف بمفرده على الدواوين المركزية، ويعيِّن مَن يطمئنُّ إلى ولائهم لشخصه.
سعى الوزير الحجازي لإزاحة مُضمِري السوء ومُروِّجي الشائعات، فتخلو له الحياة داخل القصر، دسَّ في مجالس الخليفة مَن يهمسون في أذنه بالتشنيع على وزراء وأمراء وكَتَبة، يسعَون عليهم عنده، ويحاولون تغيير نفسه ناحيتهم. وضع السؤال أمام الإمام: مَن يُصدر القرار، ومَن يتابع التنفيذ؟
ما بين الرقاع والسعي إلى تكذيب ما فيها، افتقد الناس تدبير الإمام، فرض الحجازي سوء سياسته، لم يفلت حتى خواص الإمام والقريبين من مجلسه. ران على ما أَلِفه الناس من سياسة الخلافة تبديلٌ وتحريف، خرجَت عن معانٍ جليلة، استقرَّت من أزمان.
تكاثرت الملاحظات عن تعاظم نفوذه، وسطوته السياسية، ترقَّى في وظائف البلاط، حتى تحقَّقَت له مكانة تفوق ما لدى مَن سبقوه، مَن يفوقونه كفاءةً وخبرة، استوزره الإمام بمفرده، فوَّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإنفاذها على اجتهاده، فوَّض إليه شئون الرعيَّة جميعها، صارت مقاليد الأمور في يد نور الدين حجازي، يديرها، ملك الخزائن والأموال، من الصعب أن يوقَف عند حد، أو يُقضَى عليه.
شدَّد ضغطه لكي يحتفظ بالمكاسب التي حصل عليها، أجاد نصب الحبائل، أوقع فيها وزراء وأمراء وعلماء وعمال وولاة.
مالت طباعه عن قبول العدل، وجنح إلى المظالم والجور، وإلحاق الأذى بالعباد، ذاع عنه الميل إلى إزهاق الأرواح، والقتل بسبب وبغير سبب، والتشدُّد في العقوبة، والعقاب لمجرَّد إظهار القوة.
يفتك بكل مَن يخالفه الرأي، وبأقرب معاونيه، يلتذُّ بتأمل الأعين الخائفة والملامح المتقلصة والكلمات المتذللة، يأمر أتباعه بممارسة أشدِّ الأساليب وحشيةً داخل السجون، ثبت جسد الوالي عيسى الأسود مقيَّدًا على شجرة، وتولَّى جنديان ضربه بالسَّوط حتى مات.
خوَّل جنوده حقَّ توقيع عقوبة الإعدام على الثوار، سمَّاهم المتمردين والعُصاة والخارجين على القانون.
كان يدفع بجنوده إلى اختبارات قاسية، مَن يجتازها يضمُّه إلى صفوف جيشه، ومَن يتردَّد أو يُبدي خوفًا يعيده إلى حيث جاء، يخلط طعام جنوده بما يُذهب العقل، يضع في أيديهم السلاح، ويسلِّطهم على مَن يريد أذيته، يقتحمون، ويقتلون، ويذبحون، ويطلقون صرخات النشوة.
آلَم الحاجبَ تسخيفُ أمير المؤمنين له أمام الوزراء والقادة والوُجَهاء وعلماء الدين، حملها، أدرك أن ما حدث بتدبير من الحجازي.
جعل الخليفة عبد الله عابد في منصب الوزير، لم يعهد إليه بمهامَّ محدَّدةٍ ليُبديَ الرأي، ظلَّ المنصب — حتى تركه إلى السجن — غير محدَّد المعالم، ولا معروف الصلاحيات.
أول استعانة أمير المؤمنين بنور الدين الحجازي، حين عَهِد إليه برقابة الدواوين والإشراف عليها، ألحَّ في التقرُّب وإظهار الولاء، حتى قرَّبه أمير المؤمنين واستخصَّه، صار أكثر من كاتب في بلاط أمير المؤمنين، لم يعد الإمام يُصدر أمرًا قبل أن يرجع إليه، لا يستغني عنه في المشورة وتدبير الأمور.
أوكل إليه أمور التدبير والعزل والتعيين وفرض المكوس ومنح العطايا وإنفاذ الحلِّ والعقد، ثم جعل له تصريف الأمور، وسَلَّم إليه الدواوين، وقدَّمه على جميع موظفيه وأعوانه والمقرَّبين إلى بلاطه.
لم يعد أمير المؤمنين يخرج على رأس قواته إلا نادرًا، ولإثارة حماسة الجند، وليس لمشاركتهم المعارك، معظم وقته يمضيه في قراءة التاريخ والسِّيَر وعبر الأيام، وفي كتابة ملاحظاته على ما جرى، وعلى ما يتوسَّمه من توقعات، ومراجعة التقارير المهمة، قضاؤه فيها هو الذي يُبعد المؤامرات والتصرفات المعادية عن الدولة التي لم يستقم عُودها.
غلب نور الدين الحجازي على أمير المؤمنين غلبةً شديدة، فلا يُقدِم عليه أحد، عزله عن مستشاريه، وقطع عنه الأخبار، واستبدَّ بالأمر دونه، أبعد عنه حتى آلَ بيته، فهم لا يلتقون به إلا لدقائق، وفي وجود مَن دسَّهم عليه نور الدين الحجازي بدعوى حمايته، ساعده على تصرفاته ما بَدَا من ميل أمير المؤمنين إلى عكس ما كان يدعو إليه؛ السير في طريق غير التي أعلن أنه سيمضي فيها، أدرك بذكاء فطري أن الشعارات التي جعلها علي بن محمد واجهة لثورته، كانت لمجرَّد أن ينال تأييد الناس ومناصرتهم، ما يجاوز الهتافات، والعبارات المؤيدة للانخراط في جيش الزنج، عُرف عنه — من قبل أن تنضج فكرة الثورة — تعطُّشُه إلى السُّلطة والنفوذ والمرتبة العالية.
قال علي بن محمد: إذا لم يكُن في اختلافات وزرائي ما يمسُّ سلطاني، فلا بأس!
ورسم على شفتيه ابتسامةً متحفظة: هم في أمان ما لم تُخضِعهم إغراءاتُ الحكم!
هو إمام البلاد الذي يجب أن تُفوَّض إليه الأمور. ملأت صورة أمير المؤمنين — بأوامر من نور الدين الحجازي — واجهات البيوت والأعمدة والجدران والصفحات الأولى في الجرائد وأغلفة المجلات وشاشات التليفزيون، أُلِّفَت عنه الكتب والمقطوعات الموسيقية والأناشيد والأغنيات، وخُطب له في المساجد، أُقيمَت له التماثيل في الميادين.
كثُر صعوده على المنبر لخطبة الجمعة، يتحدث عن حكمة الله — في مُحكَم كتابه — في أن يكوِّن بعضُ الناس طبقاتٍ فوق البعض الآخر، من واجب الطبقة الأدنى أن تولي عظيم الاحترام للطبقة الأعلى، والأعلى للطبقة التي فوقها، وهكذا، إلى كرسي السلطان. الخطأ الذي يبلغ مرتبة الخطيئة، أن تجد الرعية في الجالس على الكرسي ما يعيب، دعا إلى التسليم التام بكل ما يصدُر عن أمير المؤمنين من أقوال وفتاوى وقوانين.
اعتاد الناس رؤيته إلى يمين أمير المؤمنين في جولاته داخل المختارة وخارجها، وفي الحفلات الرسمية، ومجالس العلم والسمر في داخل القصر. يرتدي عباءةً فضفاضة، مزينةً بخيوط الذهب، وعلى رأسه عمامة تناثر فيها فصوص الياقوت والزمرد.
عرف الناس أن نور الدين الحجازي هو الحاكم الفعلي للبلاد، في يده الحلُّ والعقد، يأمر وينهي، يحرِّك الأمور من وراء الأستار باسم أمير المؤمنين، يقضي، ويقرر، ويفصل، ويتولَّى متابعة التنفيذ، ربما أصدر من الأوامر ما يتضارب مع الأوامر التي يُصدِرها أمير المؤمنين، خلَت الحياة كلها له، يطلق يد أتباعه فيما يدبِّر ويقرِّر، هم أدوات التنفيذ، لنفسه هيبة تصغر لها هيبة الوزراء والولاة وكبار الأعوان.
عوَّد الوزراء والقوَّاد أن يقفوا بالإذعان بين يدَي أمير المؤمنين، لا يُصدِرون إشارة، ولا يُبدون ما قد يشغلهم من أسئلة أو آراء، مَن يخالف، يدفع رأسه ثمنًا لفَعْلته، يُطاح برأسه في بقعة الدم، ثم يُرسَل الرأس إلى قريته ليُعلَّق على شجرة في مدخلها.
غلب أمير المؤمنين على أمره، وزاد من مشاركته في سلطاته، عانى أمير المؤمنين قلة الحيلة في تصريف أمور ملكه.
دفع ولاة لقاء مناصبهم، بما زاد من حجب استغاثات الناس عن مجلسه، فرض على الولاة الرشا والبرطيل ليأمنوا العزل، شدَّد عليهم لمطالبة أصحاب الأراضي — سواء كانوا من موظفي الدولة، أم من التجار، أم من المزارعين — بإعطاء تفصيلات حساباتهم، مَن يخفق يأمر بمصادرة كل أملاكه.
زادت الضرائب والمكوس وتنوعَت، جعل ضرائب على بنايات السُّكنى والدكاكين والأراضي الزراعية، وضرائب على نقل البضائع من مدينة إلى أخرى، وعلى نسخ الكتب، والصناعات الصغيرة، فرض مكوسًا على الرُّواة والحكَّائين، وعلى المغادرين لأداء فريضة الحج، ما دام قد أُتيحَ لهم زيارة البيت الحرام، فذلك ليُسر في أحولهم المادية، يجب أن يتبرعوا بجانب منه لصالح الفقراء والمُعوِزين، خشي الناس من تقرير ضريبة على تردُّدات الأنفاس.
لم يحكمهم بالعدالة التي وعدهم أمير المؤمنين بها، وتمنَّوا الخلاص، أحكم سيطرته، فلا يستطيعون حتى تمنِّي الخلاص، أدواته في فرض السيطرة كرباجه وسيفه، وآلاف الجند الخاضعون لأوامره، قَطْع اليد عقوبة السرقة، بَتْر الأقدام عقوبة السعي في الشر، فَقْء العينين عقوبة النظر في الحرام، جَدْع الأنف عقوبة تشمُّم ما لا شأن لنا به، صَلْم الأذنين عقوبة التنصُّت على الآخرين.
أجبر الأزواج الواهني القدرة على السماح لزوجاتهم بمعاشرة الفحول من أتباعه، لاستيلاد مواطنين يتمتعون بالصحة والعافية، ويحسنون في قادم الأعوام حماية البلاد والذود عن حياضها.
الأعين والآذان مبثوثة في كل مكان، تلتقط الأخبار والهمسات والتعليقات، ترصد حتى الإيماءات والتعبيرات الصامتة.
أراد الشيخ حمزة بن رضوان أن يناقشه في خطبة له، سرَت حُمرة الغضب في وجه نور الدين الحجازي: أخشى أن لسانك ربما يجرُّ عليك المتاعب.
أشار إلى قائد الشُّرطة، وإلى الرجل، وإلى الفم نفسه.
انقضَّ الجند على الشيخ، سحبوه إلى خارج المسجد، أسندوه إلى شجرة ما بين المسجد والخلاء، انتزعوا لسانه من فمه، وألقَوه في الطريق، ثم عادوا إلى مواقعهم في داخل المسجد.
جاءها الغثيان — ذات صباح — وهي تتناول إفطارها.
رنَت إليها جوهرة بعينين مشفقتين، عرفَت أنه قد أتى ما لم تفطن إليه فوز، وكان يخشاه الأب، وتتوقعه هي.
لم تعد جوهرة تفارقها إلا لفترات قصيرة، متباعدة، تطمئنُّ فيها إلى أحوال بيتها وتعود، إن لم تكُن فوز في حاجة إليها، لاذت بحجرتها، تصلِّي، أو تتهدج بآيات من القرآن، أو بأدعية، ربما مضَت إلى بيتها القريب، تدبِّر أموره، وما تحتاج إليه أُسرتها.
لزمَت فوز البيت، تُفاجئها نوبات الغثيان، تُعالج جوهرة ما يطرأ على عافيتها من تعب بأعشاب وبذور.
غابت صورة بغداد، كما ألفت استعادتها: يمضي الجمل — يحمل الهودج — فوق التلال، وعبر الوديان والصحاري والمروج والسفوح والأعشاب البرية والزهور والحشائش، وثمة قوافل الجمال يتقدمها الحداة، ويتناثر في الزراعات القليلة رعاة يحرسون قطعانهم من الماشية، تدرك أنها اقتربَت من المدينة بالتجاويف الصخرية على جانبَي الطريق، تخترقها الجِمال قبل أن تُطِلَّ البيوت والمآذن والقُباب، بغداد مدينتها، وُلدَت في السعدية، وسافرت إلى بغداد مراتٍ قليلة، لكنها أحبَّت البنايات الهائلة والدُّور القديمة والحدائق وزحام المارَّة والمحفَّات والهوادج التي تهتز فوق الرمال، والفرسان يمتطون الخيل، والسيوف مُدلَّاة على الأجناب، والرُّعاة يسوقون أمامهم الأغنام والماشية، والأسواق، والدكاكين على الجانبين، والمصاطب، ورصَّات الأجولة والصناديق، واللافتات المعلَّقة فوق الأبواب، والقعود، والأشجار، وأريج البخور يلفُّ كل شيء.
أحسَّت بالتغيرات في جسدها.
عانت الفزع لمَّا بدأ بطنها في البروز، وتحرَّك الجنين داخل البطن.
هل يكون قد أودع أحشاءها طفلًا من جنسه؟ من لونه؟ هل تلد طفلًا زنجيًّا؟
في داخلها إحساس بالذنب لا تدري بواعثه، كأنها هي المسئولة عمَّا حدث، تغيب عن سعد الكندي، وتكتم آلام الحمل، حتى ردودها عن أسئلته المطمئنة تكسوها بالهدوء، فلا يفطن إلى ما تعانيه، لم تعد تجد فيما تلتقطه أذناها ما يثيرها، أو يُغضبها، أو حتى يدفعها لإلقاء الأسئلة، وكانت تجد كل شيء سخيفًا وبلا معنى، حتى الطعام والشراب فقدَت مذاقهما، هي تأكل وتشرب لأنهما يحفظان عليها حياتها، تُهِمُّها الحياة كي ترعى ذلك القادم بتأثيرات مخفية.
لم تعد هي فوز التي تسأل وتناقش، وتُبدي الرأي، وتختلف وترفض؛ تبدَّلت نظرتُها إلى نفسها، وإلى ما حولها، زايلها الإحساس بأنها لا تختلف عن أيِّ شاب، أيِّ رجل، حدث ما حدث، فتقوض كل شيء، حاصرتها مشاعر الغربة والشكِّ والتوجس والخوف، ما أتاحه لها أبوها، وأسخط عليه أعمامها وأخوالها وأقاربها، ضيعَته تلك اللحظة التي لم تخطر لها ببال، لم يجد فيها الرجل إلا الأنثى، فنال منها ما طلبَته ذكورته، لا قيمة لما تعلَّمَت، ولا فهمها المختلف، ولا مشاركتها من وراء الستر في مجالس أبيها، الجرح غائر في داخلها، لا تنساه، ولا تستطيع أن تعالجه، تلمح غياب نظرة الاعتزاز من عينَي أبيها، وثبات نظرة الإشفاق في عينَي جوهرة.
لو أن المهلبي عرف ما فعله دريد، ماذا كان يفعل؟ هل تتغير نظرته إليها، فيبتعد، أم يثور لأجلها، فيسعى للثأر؟
لكن الرجل كان قد مات، قتلَته طعنة خنجر، ظلَّ أبوها في حيرته وارتباكه حتى بلغه ما رفع السواد من أمام عينيه؛ الشابُّ مروِّض خيل، الطعنة نهاية خلاف بين دريد والشاب، لا معنى إذَن لاستعادة ما تحاول تَناسيَه.
تمنَّت لو أن ما حدث مُحي من ذاكرة الناس، كأنه لم يكُن في حياتهم، كأنه لم يكُن موجودًا، يغيب عنها الشعور بالذنب، ولَّدته ظروف قاسية، تزول فتنتهي.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
نقل له الأرصاد قول عبد الغفور حجر، مالك الأراضي المجاورة لأراضيه، إنه انسلخ عن طبقته، وخانها، حين سعى إلى قيادة الزنج ضدَّ مُلَّاك الأراضي، عمل على تقويض امتيازاتهم ومصالحهم، سعى إلى الموالي، وهم فَيء لسادتهم، يريد أن يشاركهم فيما يملكون.
قال علي بن محمد: بدأت الثورة سعيًا لتبدُّل الأحوال إلى الأفضل، هي الآن مصدر تعب لا ينتهي!
سار الرُّواة في المُدن والقُرى والساحات والخلاء، يحكون المعجزة التي أتاح ظهورها فعل شرير لخادم عند عبيد الله أبو الحسن، استولى الزنج على ما كان يمتلكه من أراضٍ وبنايات، لم يدرك أن الثورة قامت من أجل أمثاله، انقلب عليها بتأثير ما دفعه له سيده، تسلَّل إلى قصر صاحب الزنج في حماية الأمان الذي يعطيه الصاحب لكل العبيد، رفع خنجرًا ليطعن رأس السلطان، لكن يده تيبَّسَت، فلم يستطع تحريكها.
عفا أمير المؤمنين عن المجرم، لكن جنوده وأتباعه ومُريديه انهالوا على جسد الرجل بالقتل والتقطيع، حتى تحوَّل إلى أشلاء.
رُوي أن الرجل — قبل أن يُقدِم على فَعْلته — صعد إلى منصة في خلاء بالقرب من البصرة.
نقل له الأرصاد قول عبيد الله: علي بن محمد لن يحرِّرنا.
وأخذَته الحماسة: نحن مَن سنحرِّر أنفسنا!
والتمعَت عيناه ببريق حزين: هل بذلنا دماءنا ليَلَغ فيها سادة الحكم؟!
عاب عليه أنه يقول ما لا يفعل، ويَعِد بما لا ينوي تحقيقه، هي مجرَّد كلمات وشعارات تريد التحريض، ولا تقصد معنًى محدَّدًا.
تلفَّت بعفوية حوله: هل كان ضروريًّا أن تدمر حياتنا ليصبح علي بن محمد أميرًا للمؤمنين؟!
وهزَّ سبَّابته بالنفي: إلغاء العبودية ليس هدفًا للرجل، همُّه الانتقام من السادة أكثر من أن يجعل العبيد سادة!
وزفر في ضيق واضح: كيف يحرِّر العبيد، وأهم ما وعد به جنده أن يملكهم العبيد والأموال والمنازل.
أضاف في ضيقه: هذه ثورة للثأر وليس للإصلاح، استبدلَت بحكم الظلم ما هو أشدُّ ظلمًا، ألغَت عبوديةً لتحلَّ محلَّها عبودية أخرى!
وأغمض عينيه كأنه يجمع نفسه المبعثرة: بدأت الثورة بالدعوة إلى تحرير العبيد، وانتهَت باسترقاق الأحرار!
أهمل علي بن محمد التكتُّلات والعصبيات والفِرَق، ربما وجد في نشوئها فائدة، قادة الجند والوزراء والكَتَبة وعلماء الدين والوُجَهاء ورؤساء القبائل، ومَن يتطلعون إلى دَور يرقى بهم في المكانة والسُّلطة، لكن انتقال الصراعات الخفيَّة إلى معارك في الشوارع أزعجه، ترامَت الصرخات والصيحات إلى داخل القصر. أعاد التفكير في الأمر بكليته، قضى بالصواب، عزل، قتل، سجن، نفى إلى مُدن بعيدة، ثمة قدرة هائلة تملأ كيانه، بما لم يكُن في باله، تدفعه إلى أفعال كأنها تسوية الأرض لتسهل عليها خطوات الجند.
أمر بتصفية مَن يثيرون الفتن والمعارك، ومَن يعارضونهم أو يُخفون التآمُر، حتى لو قصر ذلك على أنفسهم، لو بذلوا التقية وكتموا ما رفضوه.
النظر إلى الأعين، وخروجه المرء على عادات الجماعة، وتباطؤه فيما يُعهَد إليه بأدائه، يكشف عمَّا يحاول إخفاءه.
أطارت ضربةٌ سيفَه في داخل معركة، استبدل بالسيف نظرةً صاعقةً إلى الرجل الذي شَهَر سيفه.
أطلق الرجل صرخةً هائلة، وسقط لتوه.
ليأمن شرَّ قبيلته وناسه، فقد أمر بحبس عياله وحواشيه وخدمه، حتى جيرانه طردهم من حيث يقيمون، فلا يشكلون خطرًا من أيِّ نوع.
مَن يخرج عن قوانين المختارة — حتى في التصرفات التي لا تستحقُّ عقابًا — فإن عليه أن يغادر المدينة حالًا، مَن لا يغادرها فإنه يواجه السجن.
اتخذ الكثير من المراسم، تنفيذًا لرؤى في منامه، أوكل إلى وُلاته وعماله قضايا الناس، عيَّن موظفين يراقبون العبيد، يدفعونهم إلى العمل، يعاقبونهم بالضرب إن تكاسلوا، أو تقاعسوا عن العمل.
تحدَّث عن السلاح في أيدي أفراد قبيلة ربيعة، بينما أيدي أفراد بقية القبائل تخلو من السلاح، زوَّد مقاتلي القبائل بالأسلحة، وقدَّم لهم المأوى، أَذِن لأبناء قبيلته أن يبيعوا ما يفيض عن الحاجة من السلاح والذخيرة والبارود، يبيعونها لقبائل تسكن مضارب بعيدة، سعى إلى إثارة الحروب بين القبائل، وإذكاء نيران الخلافات، فلا تهدأ، تكاثرت مفردات التآمُر، الوشاية، الملاحقة، القمع، السيف، الخنجر، السُّم، إهدار الدماء.
أوكل للمقرَّبين من مواليه وصحابته حَمْل الكثير من أعباء الحكم، عيَّنهم في مناصب الولاية والقيادة العسكرية وإدارة الدواوين، يقضون بالصواب، ويتابعون التنفيذ، لا قيمة لأمير المؤمنين بمفرده، لا بدَّ من رعيَّة يحكمها، وأعوان يشاورهم، ويستعين بهم في تدبير أمور السياسة.
ثمة مَن اختار الجلوس في دار العدل، ينظر في المظالم والنزاعات، ويُصدر المراسيم والقوانين والأحكام التي لا تقبل نقضًا، حتى ابن سعدان حاجب أمير المؤمنين، جاوز دوره في حماية باب الإمام، وتنظيم مقابلاته للخاصة والعامة من الناس، هو يجلس لسماع شكايات الناس ومظالمهم، ويقضي في الأمور.
استكان الأعوان إلى صراعات السُّلطة، فنسوا الثورة، اشتغلوا عن مصالح الناس، وما يحتاجون إليه، لم يعد إلا المصالح الشخصية والوقيعة والتآمُر، والصراعات التي لا تنتهي.
جرَت مناوشات ومعارك بين جند الأعوان المتصارعين، تعدَّدَت حالات الضرب والسلب والنهب، وتعرَّضَت المحالُّ في داخل الأسواق لدمار وإحراق، الضحية — في غالب الأحوال — مَن لا شأن لهم، والعوامُّ من الناس، لجأ الكثير من الأُسر والعائلات إلى المواضع البعيدة، والخلاء.
مال إلى الزهد والتقشُّف، واحتقار الدنيا، والرغبة عن أطماعها، حرص أن يخرج إلى الناس، وهو يلبس الخشن، ولا يأكل إلا ما يُسكت الجوع.
عُرف عنه حُسن اليقين وقوة المشاهدة، والإحاطة بأسرار الغيب، ودوام المشاهدة للأنوار الإلهية، وسماع تسليم الملائكة عليه، تزوره الملائكة، فيأنس بها، مارس ما لا حصر له من الخوارق والكرامات والطلسمات: إنما أنا مبعوث السماء لإنقاذ خلقه المظلومين من خلقه الظالمين. ثمة مَن رآه يطير في الهواء فلا يسقط، ويمشي على الماء فلا يغوص في الأعماق، ويلامس النار فلا يحترق، ورُوي أن أصابعه تتحول إلى ثعابين وحيَّات تلدغ من تلامسه، فتُميته.
نصح نور الدين الحجازي أن يطيل أمير المؤمنين احتجابه عن الناس، زيادة ظهور الإمام، وعدم احتجابه، يزيل الهيبة من نفوس الرعية، ويشجعهم عليه، التسربل بالغموض ضرورة كي يظلَّ أمير المؤمنين في هيبته الثابتة.
حرص — بتأثير من الحجازي وكبار قادته — أن يلزم قصره، لا يخرج إلى الناس، ولا يقابلهم، يعكف على القراءة والتأليف والتأمل، ويُصدر الأوامر إلى الوُلاة لتنفيذها، لا مُعقِّب لإرادته، شغل نفسه بالبحث عن العزلة، وقهر الأنانية، ومقاومة الشهوات، وتطهير الروح، وطلب الكمال لنفسه، يلتقط ما تنبئه به لحظات الإلهام، يُعِدُّ تصوراته، والطريق التي ينبغي على أتباعه السير فيها، أرجع الكَتَبةُ أفعالَه إلى القدرة الإلهية، ما كان له أن يُقدِم عليها وينفِّذها بقدرته الذاتية، هو من القِلَّة الذين خصَّ الله شفاعتهم بأن يمضوا من فوق الصراط إلى جنة الخلد.
حدَّد له الأعوان أوقات ظهوره للناس، ومواعيد صحوه ونومه وأكله، ونوعية الثياب التي يرتديها. تسطع أنواره لأعين أتباعه، مثل الشموس تعمي مَن يطيل التحديق فيها، أضفى أعوانُه على مواكبه مظاهر الأبهة؛ الرايات والأعلام والأشاير والبيارق، ودق الطبول والصنوج والصفافير، وحملة السيوف والمباخر والركائب المُطهَّمة.
اطمأنَّ الإمام إلى أن الحجازي يوفر له أوقات راحته، يغنيه عن التفاصيل التافهة، ويحمل عنه الكثير من أمور الحكم.
لاحظ الناس طول احتجاب أمير المؤمنين، وجدت الهمسات في ذلك باعثًا لأن يعبث حاشية الإمام بأرواح الناس وأموالهم، ويمنعوا الأصوات المُتشكِّية.
أهمل ما وضعه أرصادُه في أذنَيه من الهمسات، أنه لم يعد يلجأ إلى مكتبته الهائلة، أو يقرأ فيها حرفًا واحدًا، تأخذه مجالس الطرب والغناء والشراب والرقص والجواري والغلمان، يعفي جلساء المسامرة والطرب من فرائض وواجبات لا يسمح بتجاوزها أو مخالفتها من قِبَل سواه، أجحفوا في وظائفهم، فأضروا الناس، حمَّلوهم ما لا طاقة لهم به، قاسموا الناس في أموالهم، وجعلوا للصاحب نسبة الثلث في كل ما يدخل بيت المال.
لم يعد يقاتل على رأس جيوشه؛ يضع الخطط في داخل القصر، يعطي التوجيهات والأوامر، ويتابع تنفيذها.
أخذ على الناس كره قضاء الله، وميلهم إلى الجزع والهلع والتبرم والشكوى، أغضبه ما نقله الأرصاد من تهامس الأسواق أنه صار من طائفة أهل الدنيا، وصانعي الحواس، وناكري الحق، والمحتمين بالحشم والخدم والحجَّاب والحراس.
قال — في خطبة له بالجامع الكبير — إن الميل إلى الزهد لا يعني الإعراض عن الدنيا، هي خلق الله، من حقنا وواجبنا أن نستمتع بما تزخر به من خيرات وملذَّات، ربما امتلك المرء كنوز الدنيا، فلا تشغله — أو هذا ما ينبغي — عن زهد الرضا، والنظر بعينَي الامتثال لقضاء الله، المسلم الحقيقي يطمئنُّ إلى يقينه الديني، لا يغيره الفقر، ولا يبطره الثراء، وضع الناس في درجات ومقامات، يعلو بعضها البعض، أمر إلهي، لا حيلة للإنسان فيه، إنه مثل الرزق والصحة وطول العمر والموت، يخطئ المرء حين يأخذه الغضب، أو الرفض، أو حتى التساؤل. هو لم يفرح بالدنيا في إقبالها، لم تُلهِه عن سبيل عبوديته لله، لم تُغرِه زخارفها، ولا اجتذبَته شهواتها ولذائذها، لن يحزن عليها إذا أدبرَت، ما أفاء به الله عليه من الثراء لا يمتلك ذرةً من أنفاسه ولحظات حياته، الدنيا طوع إشارته، لكنها لا تذهله عن نفسه، أغناه الله، فلا يتطلع إلى شيء من رفاهية الدنيا، ولا يطلب شيئًا مما يتطلع إليه الناس، زهده زهد القناعة لا زهد الفاقة والعوز، ولا زهد المتصبرين، لا يحول بينه وبين أن يقود الزنج إلى ما فيه خيرهم وصلاح دنياهم.
يسَّرت له الأموال أن ينفق في سبيل الله، يقوِّي جيوشه، وينفق على إطعام جنده، ويُعنَى بأحوال الفقراء والمُعوِزين، القصور المرفهة لا تمنعه من الإحساس بساكني الأكواخ، وهبه الله حبَّ العبيد والفقراء، فهو يرضى بهم أتباعًا إن رضوا به إمامًا وقائدًا للجماعة، لا شأن للناس بثرائه، ولا بما يمتلك، ما يعنيهم أن يطلبوا منه حفظ الحدود، وإقرار الحقوق، والسعي إلى المساواة بين أبناء البلد الواحد.
برَّر إنفاقه الأموال على موظفيه بحرصه على كفايتهم، فلا يستغلون مناصبهم في التضييق على الناس واستلاب حقوقهم.
أخذًا بالأحوط، وحتى لا يحدث ما يصعِّب حدوثه، وافق نور الدين الحجازي على تحصين داخل الأسوار العملاقة ذات التعرجات الغريبة، بالأبراج والمدافع والمنازل والخنادق المحيطة، والتي تبلغ بمحاولة التسلُّل إلى داخل القصر حدَّ المستحيل.
صار للقصر أبواب مكشوفة، وأبواب سرية، تلتقي الطرق إليها في مواضع لا يعرفها سواه، يحرص أن يتفقد قصره بنفسه، يطمئنُّ إلى وقوف الجند والحجَّاب والخدم في المواضع التي حدَّدها لهم، لا يثق حتى في أقرب معاونيه.
لم يعد ينام في القصر حتى لا يتسلَّل — ربما من رجال الحاشية — مَن يحاول قتله، لا يعرف أحدٌ مبيته أو منامه، ولا إن كان لمنامه ليل أو نهار.
جعل الخادم إسماعيل القصابي مسئولًا عن تذوق أصناف الطعام، يسبقه إلى تذوقه، يعاني الأعراض إذا كان الطعام مسمومًا.
أَلِف موظفو أمير المؤمنين ووزراؤه وأمراؤه أن يضعوا الحراسات الكثيرة حول قصورهم، تسبقهم، وتحيط بهم، في الأماكن التي يتردَّدون عليها، يجعل الجند من أنفسهم حواجز، لا ينفذ منها إلا مَن ثبت ولاؤه، وحرص الجميع أن يرتدوا الدروع وقمصان الزرد تحت الثياب.
ظلَّ أمير المؤمنين مخبوءًا في قصره، لا يعرف الناس عن حياته داخل القصر: كيف يقضي أوقاته؟ مَن يستقبل؟ مَن هم جُلَساؤه؟ هل يُصدر أوامره من ذهنه وفمه، ويوقِّع عليها، أو أنه يكتفي بالتوقيع على ما يُرفع إليه؟
جعله الأعوان جعلوه واجهةً لأفعالهم، بَدَا — رغم كل ما أحاط به نفسه من هيبة ومظاهر قوة — كمَن لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
كان كل وزير أو كاتب أو أمير يتربَّص بالآخرين، يتحيَّن الفرص لأذيتهم، تواصل النزاع وتفاقم، بتوالي الدسائس والمكائد والمؤامرات، ربما أخذ النزاع صورة الحروب الداخلية بين الفِرَق المختلفة، كل فرقة تدين بولائها لهذا الوزير أو ذاك.
تناثرت الشائعات في الأسواق، أن الإمام لم يعد يملك من القوة ما يتيح له إيقاف صراعات الأعوان، وإعمال الكلمة الفيصل، هو يكتفي بمراقبة الصراعات والمعارك، يشدِّد على ضرورة ضبط الناس، لكن الأمور ظلَّت على حالها، يلحظ الأمراء انفلات الخيوط، فيعقدونها، أو يحيكون منه مؤامراتٍ جديدة، شُغل عن تفقُّد أحوال خواصه، فأسرفوا في الجور والبغي، أثاروا الناس بأفعالهم، ظهر منهم ما لا يخفَى من الحيف والجور وسوء السيرة، شاعت المخازي والفضائح، عُمِّقَت التخمينات بأنه مسلوب السُّلطة على الجنود، لا يقوى على ردِّ المظالم، ولا دفع الأذى عن الشاكين، يحيل الأمر إلى جهات الاختصاص، لا يشغله إن وجدَت طريقها إلى الحل، أم ظلَّت ساكنة.
اعتاد الوزراء والأمراء خروج الإمام دون رفقة من الجند أو الخدم، يمضي إلى قصر الوزير ثابت أبو الحسن، يقضيان الوقت في أحاديث لا تتصل بأمور الحكم، لا يقصران الجلسة عليهما، يشارك فيها مَن يقيم في بيت الوزير، يطمئنُّون إلى مكانة الوزير في نفس السلطان.
قال أوفى الحاطب: يزعم أنه يتلقَّى وحيًا من الله … ألم يحدِّثه الوحي عمَّا يفعله وزراؤه؟
قال سعد الكندي في لهجة قاطعة: ما يفعله وزراؤه مسئوليته.
ذاع في المجالس أن أمير المؤمنين انشغل بالحديث عن الرؤى والمعجزات والخوارق أكثر من انشغاله بقيادة جنده، وأنه تحوَّل إلى دمية عاجزة في أيدي أتباعه، قطعة صلصال يشكلونها على النحو الذي يشاءون، يتلقَّى الأوامر منهم، بدلًا من أن يُلقي إليهم أوامره، هم قوة غامضة، خفية، لا يظهرون، وإن كانوا وراء كل شيء؛ المراسيم والقوانين والعقوبات، توقيع الإمام هو الخطوة الأخيرة.
قِيلَ إن أمير المؤمنين لم يعد يغادر قصره، وإنه صار مجرَّد واجهة، يتخفَّى وراءها قادة ووزراء وكَتَبة، أمير المؤمنين يحكم حريمه وخدمه، وإن اطمأنَّ إلى أنه هو السيد الآمِر، هو الذي يدرس ويخطِّط ويدبِّر، ثم يقضي بالصواب.
أهمل استنصار العامة له، لدفع الظلم الذي يوقعه بهم وزراؤه، لم يعد موكبه يلزم المرور في طريق، وإذا ذهب من طريق عاد في سواه.
كان الرضا يلوح في عينيه لسجود البعض من أعوانه، حتى تلامس الجباه الأرض.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
أزمع نور الدين الحجازي أن يمضيَ إلى نهاية الطريق، يمتلك رؤيةً واضحةً لما يريد أن يبلغه، تدفعه قُوًى هائلةٌ لا تهدأ.
قِيلَ إنه لاحظ — لانشغال الإمام في حياته الخاصة؛ عزلة النفس، والإنصات إلى الهاتف، والانغماس في التهويمات والأحلام — تراخي قبضته عن أمور الحكم، وجد في ذلك ما يدفعه إلى أفعال، لم تكُن في خاطره، ولا أعدَّ لها نفسه.
لم يعد القتل بحكم، ولا يخضع لمحاسبة، هذا ما حدث، والتطلُّع إلى ما بعدُ أجدى من إلقاء الأسئلة، ومناقشة ما قد انتهى.
جعل له أمير المؤمنين منصبًا لم يحدِّد تسميته، أولى مهامِّه أن يرعى سلامته الشخصية. صارت له اليد العليا في إدارة أمور الدولة، هو الرجل الثاني في حكم الزنج، والرجل الأول بما تُمليه إرادته، يتصرف في الأمور دون أن يرجع إلى أمير المؤمنين، فسَّر تزكية الصاحب له، وتأكيد ثقته فيه، بأنه قد فوَّض له أمر الدولة، يسيِّرها على النحو الذي يراه.
قال لخواصه: أنا أنشر دعوة علي بن محمد لنفسي وليس له!
ثم وهو يضرب صدره بقبضته: أنا أحقُّ بالأمر منه!
لا أحد من الوزراء أو الأمراء أو الكَتَبة يقضي بغير ما يأمر به، أوامره فصل الخطاب في كل المشكلات.
حتى ريحان صالح — أول مَن انضمَّ إلى الثورة من الزنج — أفلح نور الدين الحجازي في إزاحته، خشي أن يفطن الخليفة إلى تدبيره إنْ أمر بقتله، قصر وجوده داخل المختارة.
أحاط نفسه بجوٍّ من الرهبة، تنبعث من عينيه نظرات تشي بالصرامة والعنف، أحاط خصره بحزام مُطعَّم بالذهب والأحجار الكريمة، يرتدي فوقه عباءةً من القطيفة السوداء، يتدلَّى من جنبها خنجر ومقبض ذهبي.
أهمل ما رُفع إلى أمير المؤمنين من رقاع، تتحدث عن نفور قلوب الخاصة والعامة من أفعاله.
قال أوفى الحاطب: إذا كان علي بن محمد قد خرج من أجل تحرير العبيد، فما يُبقيه في الحكم بعد أن تحرَّروا؟!
اختلطَت الرؤى في ذهن سعد الكندي، لم يعد قادرًا على التركيز في شيءٍ محدَّد، مدَّ سعد الكندي شفته السفلى دلالةَ عدم الفهم، وظلَّ صامتًا.
أطلق الحاطب ضحكةً قصيرة منفعلة: لكي يزيدهم تحرُّرًا!
استهواه سلطانه على الناس، بيده المنح والعفو، فرض على الناس طاعته والامتثال لأوامره. لم يعد يعمل حسابًا لقيمة، ولا لشخص، حتى الخليفة نفسه.
أوكل لنفسه عمل القاضي، ينظر في كل القضايا التي تُعرض عليه، لا يُكثر من الأسئلة، ويكتفي بما يُرفع إليه من تبليغات، تتوالى الأحكام بسرعة توالي وقوف المتقاضين أمامه، أثقل الناس بالمغارم والجبايات والمكوس والضرائب والإتاوات، ضعفَت النفوس، قنطَت القلوب، فشَت المعاصي والتصرفات الشريرة والآثام بين الحكام وموظفيهم.
حذَّر من حركات التمرد والعصيان والثورة والخروج، هدَّد بسَحْق نذر القلاقل والفتن. لم يعد الناس ينزلون — في جميع أمورهم — إلا عند أمر الإمام، هو الأبعد نظرًا، والأشدُّ حرصًا.
حين أبلغه أرصادُه أن قائد الجند، ابن عمر حرقوص، يُعِدُّ لحركة تمرد، انطلاقها من قريته، أمر جنوده، فأضرموا في القرية النار، أُحرِقَت كلها، وهُدمَت، صارت قاعًا صفصفًا، قُتل كل مَن فيها، أو سُبوا، ثم أُعدِموا بعد أن أدلَوا بما لديهم من اعترافات.
زاد التمرد في مدينة الزبير، هدَّد المتمردين بأن يبني حول مدينتهم سُورًا أشبهَ بسُور الصين العظيم، بناه الإسكندر ذو القرنين، لن يكتفيَ بمنعهم من الخروج إلى المُدن الأخرى وباقي الدنيا، وإنما سيحرمهم مما يحفظ عليهم الحياة حتى يتركوا الدنيا غير مأسوفٍ عليهم، ثم أطلق أيدي الجند في نهب المدينة، استباحوها مدَّة سبعة أيام.
أمر أن تدفع الأُسر التي مات عائلها في المعارك، ما كان عليه من مكوس وضرائب، إذا لم تتوفر الأموال فإن المصادرة تبدو حلًّا مناسبًا. حرَّم على أهل الميت مواراة جثمانه التراب قبل أن يدفعوا ما سمَّاه ضريبة الوفاة. لم يكُن يتردَّد في الأمر بإزالة مضارب قبيلة بكاملها، إن أبدَت تردُّدًا في مساندة الثورة، أو إن تستَّرت على أعداء لها.
شدَّد على القُرَّاء، يقصرون التلاوة في صلاة الجمعة على سورة الكهف، تذيب — بقدراتها السحرية — كل ما في نفوسهم من ميل إلى العدوانية والشر.
أفاض في التحدث عن صراع — تلاه إزاحة عن الوزارة — حول جارية اقتُنيَت لقصر أمير المؤمنين، أراد كلٌّ من الوزير جعفر أبو أحمد والكاتب قابوس بن يعقوب أن ينسبها إلى حريمه.
اتهم الكاتب يوسف عبد الوارث بأنه أقدم على المنكرات تحكيمًا للشهوة، وانقيادًا للهوى، أخرجه الهوى من الحقِّ إلى الباطل، وتدلَّس عليه المُحقُّ من المُبطل، وزيَّف على الناس أمور دينهم ودنياهم.
تخلَّى عبد الوارث عن حياة الزنج بالميل إلى الطعام الطيب، وارتداء اللبس المُرفَّه، والجلوس إلى السراة والأعيان في مجالس العلم والمسامرة والغناء. الأعمدة الرخامية البيضاء الضخمة، تحيط بصحن قصره الواسع، أراده مشابهًا لقصور أمير المؤمنين، أقام فيه الكثير من البوابات والأبراج والقلاع والأسوار والتحصينات والأعمدة والأقواس، أشعَّة الشمس تنفُذ من ثقوب المشربيات، ومن النوافذ الزجاجية الملوَّنة، تصنع ظلالًا ومُربَّعاتٍ ومُثلَّثاتٍ ودوائرَ على أرضية القاعة الهائلة، وتتناثر في الحديقة الواسعة نافورات منبثقة من أفواه التماثيل على هيئة الأُسود، في قلب الأحواض الرخامية، وثمة الأثاث المكسو بالحرير والمُخمَل، والأرض التي تفترشها الأبسطة الفاخرة، وأسفل الجدران مجموعات من الطنافس، والوسائد الصغيرة، والخدم الذين يرتدون الثياب الحريرية الزاهية، ويتخذون ستور الحرير، ونضائد الديباج.
صار القصر مُلتقى الشعراء والمُغنِّين والعرَّافين، يقصُّون على يوسف عبد الوارث ما يسلِّي الخاطر، ويُجلي الأحزان. علَت الهمسات بأن رجال الإمام صرفوا همَّهم إلى النساء واللهو ولعب القمار واستلاب حقوق الناس بغير ما يُرضي الله. رفعت الرقاع بأن يوسف عبد الوارث لا يُفيق — أو يكاد — من الشراب، انصرف إلى الموسيقى والغناء واللهو وقضاء معظم الوقت في جناح الحريم، أدمن تعاطي الحشيش، تنتابه لحظات التلهُّف إليه، ينفض قيود الوظيفة.
تحدَّث نور الدين الحجازي عن أفعاله، بلغ من المكانة والقوة ما صعَّب مواجهته، صار اجتثاثه تصرفًا مطلوبًا.
مسَّد أمير المؤمنين لحيته القصيرة: ليس هناك ضرر من الرجل على الثورة.
فضحَت عينا الحجازي توتره: لماذا لا نأخذ بالأحوط؟
أضاف في نبرة تحريضية: أستأذنك في قتله!
طاف به الجند في موكب تجريس، طاف الشوارع، ثم سلخه المشاعلي حيًّا، وحشَا جلده بالتبن، وبعث رأسه إلى مقام الخليفة.
تملَّكَت الحجازي غريزة القتل، هي التي تدفعه وتقوده، تُحرِّك ذهنه ويده، كبُر عليه أن يقتل خواص الأمير ووزراءه وكَتَبته في بقعة الدم، جعل القهوة المسمومة وسيلته لتصفية مَن يريد إنهاء حياتهم.
امتدَّت الأحاديث عن قتل الأغنياء وسلب أموالهم. تعدَّدَت عمليات اغتيال الرُّواة وفقهاء الخليفة. وصموا المُعادين لحركة الزنج بالمروق والكفر والفساد، سقط الشيخ سالم عبد القوي بضربة خنجر، كان قد ندَّد بما يفعله البطانة والحاشية في حياة الناس، ظهر له من بين المُصلِّين مَن عاجلَه بالقتل، خلا الجامع في لحظات، دون أن يعلوَ صوتٌ بسؤال أو تعقيب.
ثبَّت الجنودُ الحديدَ حول عُنق الشيخ العقيلي وكاحلَيه، وشدُّوا يديه إلى ظهره، مضَوا به مُقيَّدًا ناحية الوادي، لاحظ الأرصادُ أنه تجرأ على ما لا ينبغي ملامستُه.
وقف الناس على جانبَي الطريق، يلاحقونه بقبضات الأيدي والركلات، ينتفون له شعر لحيته، يحاولون بأصابعهم سَمْل عينيه، يقذفونه بما تصل إليه أيديهم.
قال نور الدين الحجازي: إذا فقأتُ عينيكَ فلن أُتيح لكَ رؤية الموت!
وثنَى ملامحَ صارمةً إلى الجند من حوله: اتركوا عينيه واعملوا في باقي جسده!
حمل الجندُ جسَدَه بعد توسيطه، قطَّعوه إلى أجزاء أُلقيَت في مياه البحر طعامًا للأسماك.
أمر بمعاقبة جزَّار، باع لحمًا متعفنًا بقطع أذنَيه وأنفه، وشيِّها أمام عينيه، ودسِّها في فمه. نفذَت إلى أنفه رائحةُ جلده المحترق، أَلِف الناسُ ترامي رائحة احتراق اللحم البشري.
كان يحرص على متابعة الأحكام منذ إلقاء القبض على مرتكبي الجرائم حتى تنفيذ العقوبة، قبل أن يمثُل المُتهم بين يديه، يتولَّى الأعوانُ إرهاقَه، فلا يكتم الاعتراف، يتمُّ التنفيذُ — بالجلد أو بالتوسيط أو بوسائل أخرى داخل الأقبية — في الموضع نفسه، مَن يخرج عن أمير المؤمنين، لا يُعاقَب وحده، فالعقاب يمتدُّ إلى زوجه وأبنائه والمقيمين في بيته.
اضطرب الأمن، وغاب القانون، ساد الجور، زاد ظلم الحقوق وسفك الدماء وإزهاق النفوس، تكرَّرَت أفعال الشرِّ من الوُلاة والموظفين، وفقد صاحب الزنج كل ما كان يحمله له الناس في نفوسهم من تصديق وموالاة؛ هل هذا هو الرجل الذي تصوَّرنا أن العدالة ستأتي على يديه؟!
تعدَّدَت أحكام الضرب بالسَّوط، والرَّجم بالحجارة، والتوسيط بالسيف، والحرق بالنار، وتعدَّدَت حالات الضرب والخنق والشنق والإغراق وقطع الرءوس والأيدي، ورجم الجنازة. السيوف تقطع الأعناق، وتدحرج الرءوس، وتبتر الأطراف، والرماح تخترق الأجساد. امتلأت السِّلال بالرءوس المقطوعة. طفَت الجثث فوق مياه النهر المصبوغة بالأحمر، أُوثِقَت الأجساد بجذوع الأشجار، شوَّهَت النيرانُ ملامحها، أو نهشها الطير، انتشرَت رائحة الموت في كل مكان، وانتشر الذُّعر والرُّعب والهلع والخوف.
تكاثرت حالات قفز الزنج — انضمَّ إليهم أعداد هائلة من الطغام والأوباش والغوغاء — إلى داخل القصور بواسطة سلالم وكلاليب، ربما نَفَذوا من ثقوبٍ صنعتها المعاول في الجدران، يستبيحون ما في القصور من بشر وحيوان ومتاع وأموال، يغتصبون، يحرقون، يدمرون، شقُّوا بطون الحوامل، وألقَوا بالأجنة إلى الكلاب.
اقتحموا قاعة قصر خلف بن حمدان، قال لهم بلهجة التذلُّل: خذوا ما أمتلكه واحفظوا حياتي!
امتدَّت يده بعفوية إلى مقبض السيف، فاجأَته ضربة الرمح، فتكوَّم فيه كأنه تخوزق.
عبَّروا عمَّا في نفوسهم بالتغوط في الزوايا، والتبول على الجدران، قذفوا في قاعات الدور قِطَع الأحجار والزيت المغلي وكُرات النار، دمروا الجوامع والقصور والبيوت، حتى الأكواخ الخشبية الصغيرة، أشعلوا فيها النيران.
آلاف الناس دُفنوا — أحياءً وموتى — في حُفر عميقة رُدمَت بالرمال، وظلُّوا معلَّقين على فروع الأشجار والنخل، يخزُّون حتى يتقاطر الدم من أجسادهم، تهبط الكواسر على الرائحة، تُعرِّي العظام، تنهش اللحم العاري، فتثقل أجسامها، وتفقد القدرة على الطيران.
ألقى الجندُ العشراتِ في النهر مثقلين بالحجارة، فلا يستطيعون الطفو، ربما قيَّدوهم إلى أعمدة الطريق، وأحرقوهم أحياء، وقِيلَ إن الجند صنعوا من الجماجم أوعيةً يشربون منها.
تمطَّى الخوف، كل مَن تُسوِّل له نفسُه أن يفعل شيئًا، فعَلَه ثم اختفى.
خلَت الشوارع من الناس، تركوا كل ما يملكون، هربوا بالثياب التي يرتدونها، طلبوا الأمان في أماكن بعيدة، وإن تناثرت الأجساد التي تطايرت رءوسها، أو أطرافها، الأيدي المبتورة، والسيقان المقطوعة، والأعين المفقوءة، والملامح المشوهة، وثمة نسور تحوم فوق المكان، تهوي على أشلاء الجثث المتعفنة، والمتحلِّلة المختلطة، والحصى والرمال والتراب، تلتقط مناقيرُها ما تستطيع اقتطاعه.
الصرامة واجبة لاستتباب أمور الحكم، عَهِد إلى عابد الزبيدي بأمر السجن، اختاره لأنه أميَل إلى القسوة والعنف، رفع الرجل يديه مستسلمًا، فأطار الزبيدي يديه، ثم لحق بهما عُنقه. الأبالسة يسوقون الخاطئين إلى الجنة، والزبيدي أولى أن يكون إبليس سجن المدينة.
ترك لنفسه تحديد العقوبة على مُرتكِب الذنب، يجلد بالسَّوط، أو يَسمُل عينيه، أو يجدع أنفه، أو يُطيح المشاعلي بعنقه، يأمر بأن تُضرب بالكرابيج المعقودة، حتى الأجساد التي ماتت مصلوبة.
جعل من قبوٍ في سجن المدينة زنزانة، ينسى فيها السجناءُ حياتهم في الخارج، وينساهم الناس، حتى يَحَمَّ القضاء.
عُرف عنه حبُّ التسلِّي بتعذيب السجناء، يعلِّق المحكوم عليهم من أقدامهم، يأمر المشاعلي فيسلخ جلده حيًّا، يجبر مَن ينوي قتلهم أن يحفروا قبورهم بأيديهم، يدفعهم الجند إلى الحفرة، ثم يهيلون التراب، قد يقتلون السجين، ينتزعون القلوب والأكباد بالمُدى والسيوف، ويربطون الجثة بحجر ثقيل، يُلقون بها في النهر، تأتي عليه الأسماك تمامًا، كأنه لم يكُن.
يحرص ألَّا ينال الموتَ مَن يخضع للتعذيب، يتركه حتى تبرأ جراحُه، أو يستردَّ أنفاسه، يعيده إلى ساحة التعذيب، يتفنَّن في أوامر التعذيب بما يفاجئ الجنود الذين يُنفِّذون أوامره.
قد يأمر بما يتفتَّق عنه ذهنُه، ما يرسمه خياله، يحول بين جنوده، أو عماله، وبين التنفيذ. يترك الأمر لمَن تسلَّط عليهم غضبُه، يُعذِّب كلٌّ منهم صاحبَه، أو يقتله، يحدِّد له طريقة القتل أو التعذيب، ما أجمل أن تفقأ العين بإصبع صديق، تجري سكين الأب على عُنق ابنه، تُوضَع الأطراف في الماء المغلي، وكانت أسنانه تَصِرُّ لحظة ترامي تكسير العظام، كأنه يُمضَغ، أو يُقرقَش.
طالب قائدَ الشُّرطة أن يأتيَ له بالليث ابن يعقوب صحيحَ البدن، نقل له أعوانُه ما قاله الليث من عبارات التذمُّر، سأله عمَّا قال، أنهى إجابته قبل أن يستكملها، أمر أن يمضوا به، فيُخضِعوا لسانه لسيف المشاعلي.
قضى بأن يُسلَخ الكاتب أحمد جمال الدين، كما تُسلَخ الشَّاه. اتهمه بأنه أظهر ما لا يُغتفَر من الفسق والفساد، وصرف بيت المال لأقاربه وأعوانه. كان قد عَهِد إليه بحفظ الأموال التي تركها أصحابُها في فرارهم، لا يُودِعها بيت المال إلا بعد أن تتلاشى التبليغات عنها، هدَّد المشاعلي بالمصير نفسه لو أن جمال الدين فارق الحياة في أثناء سلخه، يُصلَب تحت الشمس الحارقة، حتى يُفضيَ به النزفُ إلى الموت.
حين خامره التوجُّس من تردُّد وُجَهاء وعلماء على بيت الوزير عبد القيوم الركابي، المُطِلِّ على البادية، دعاه إلى قضاء وقت لطيف على ظهر مركب في الخليج، ثم ألقى خدمه بالوزير في البحر، لم يعودوا إلا بعد أن أيقنوا بغرقه.
أودع الوالي إسحاق الهنائي زنزانةً ضيقة ورطبة ومُظلمة، كُبِّلَت يداه وساقاه بالأغلال، جرَّدَه من وظائفه، أسر أهله، وضمَّ قصوره وأراضيَه لممتلكاته الشخصية، ووزَّع عبيده وخدمه على قصور المختارة، اتهم الوالي بأنه حرَّك نزعة الخروج على السلطان في نفس الزنج، بذل لهم من الكلمات ما اندفعوا بتأثيره إلى التمرد، عاب انقيادهم لمَن يحكم، وتفريطهم فيما ينبغي أن يتمسكوا به.
حكم عليه بالموت، وإن خيَّره بين الموت بالسيف، أو بالطعام المسموم، أو بالخنق. امتنع الوالي عن الجواب، فأمر بفصل رأسه عن جسده، والتجول برأسه في الشوارع محمولًا من فَروته، ثم السَّير به على رأس رمح، عِبرةً للناس.
أخذ عليه الناسُ أنه انقلب على الآراء التي دعا إليها، وعلى الزنج الذين قال إنه خرج لنُصرتهم، حتى إذا استقرَّ له الأمر، وتهيأت النفوس لانطباق الفعل على القول، بدَا الحال على غير التمنِّي.
تهامس الناس في الأسواق، وفي المساجد والبيوت والخلاء، عن المشاعلي الذي يجيد التوسيط بضربة واحدة من السيف، ينشطر الجسد إلى نصفين تمامًا، ثم يحزُّ المشاعلي الرأس، يرفعه الجند على عامود، والدم يقطر منه، يمضوا وهم يهزُّونه.
تهامسوا عن وسائل التعذيب التي تفنَّن أعوان علي بن محمد في استعمالها، تتداخل عمليات الضرب بالسياط، وسَمْل الأعين، وصَلْم الآذان، وانتزاع الأظافر من اليدين والقدمين، واحتضان الحذاء الحديدي للقدمين وتحطيمهما، وكيِّ الأجساد بالنار، وربط الجسد في الآلة، وشدِّه حتى التفسُّخ، يُحدِث اختلاطها ما يشبه النغمات القاسية التي تنتهي بالموت.
أَلِف الناس تدلِّي الأجساد المشنوقة من الأعمدة العالية على جانبَي الطرق الفسيحة، تظلُّ حتى يدركها العفن، أو تأكلها الكواسر، أو تُستبدَل ليُشنَق على الأعمدة آخرون. هشَّمَت حوافر الجياد الرءوس، ومزَّقَت الأجساد.
أفسد جنودُه البلاد، أطلقوا أعنَّة الشهوات، لا يعنيهم سوى أن يملئوا بطونهم من الطعام والشراب، ويتعاطوا الباطل، ويعملوا على القتل والنهب والسلب والتدمير، هدموا المُدن والديار، اخترقوا القُرى، صعدوا التلال والجبال، هبطوا إلى السفوح والزراعات، عبثوا بالحرم، دمروا المحاصيل، نهبوا الأموال، أحرقوا الدُّور والمزروعات، خلَّفوا وراءهم مُدنًا وقُرًى غابت الحياة عن بناياتها المُهدَّمة المهجورة، وزراعاتها، والأثاث المُحطَّم المُلقَى في كومات، وسط الطرق، وعلى جوانبها.
عملوا فتكًا وذبحًا في الآلاف من السكان، قطعوا الأيدي، اصطلموا الآذان، كسروا عظام السيقان، قطعوا حتى الأصابع لانتزاع ما بها من خواتم، قتلوا كل مَن اعترض طريقهم أو شكُّوا في ولائه، قتلوا — في أحيان كثيرة — كل مَن وجدوه في الطريق والدُّور والمساجد والخلاء، لم يَسلَم من أذاهم البشر ولا الحيوان، أعملوا الخنق في الناس، أحرقوهم بالنار، أغرقوهم في النهر، دفعوا بهم إلى بقعة الدم، بقروا الأجنة في بطون الأمهات، ألقَوا بالأحياء في الحفر العميقة، وهالوا التراب عليهم، سلخوا جلود الأسرى أحياء، صبوا الرصاص المصهور في أحشائهم.
استثقل الطاعات، واستحلَّ الآثام، تعدَّى شرائع الله، وابتغى هواه، وأفسد في الأرض، قتل، وسبَى، وأباد، وأباح الفروج والدماء والأموال، حركة من إصبعه تكفي لفصل الرأس عن الجسد، الإجلاس فوق الخازوق، عصر الرأس، إدخال البوص بين الظُّفر واللحم، والتعليق، تلقِّي الضربات بالكسَّارات والمقارع، لا تكفُّ حتى تسكن الأنفاس تمامًا، كان يتلذذ بقطع الأطراف؛ الألسن، الأنوف، الآذان، الأيدي، الأقدام، يلكز الرجل بطرف السيف، يتأمل تشوُّهه.
ربط الجند الجياد في أعمدة الجوامع، أوثقوا المحبوسين بالحبال، وبالجنازير الفولاذية، إلى مزاود الخيل، أوكل إلى ابن تغلب الحداد في سوق البصرة صُنع أطواق الحديد، تُوضَع في أعناق مَن يقذف به الجند حيًّا إلى أعماق البحر.
لم يكُن يطلب عقد محاكمة، ولا يعلن أسباب الاتهام، تتغير نفسه، فيأمر بما يُمليه أعوانه دون إبطاء. عثرت أقدام الناس في الطرقات في الرءوس المتطايرة، والأذرع المهشَّمة، والبطون المبقورة، والسيقان المنفصلة عن الأجساد.
تواترت أنباء عن خُطَب الشيخ عبد المغيث عثمان في صلاة الجمعة، يُدين بها تصرفات خواص الإمام، ويلاحظ على الإمام نفسه تصرفاتٍ شنيعة، أمر نور الدين الحجازي بنشر جسده بالمنشار من جانب العُنق في كتفه حتى الدُّبر.
تمكَّن الخوف من قلوب الناس، أشرفَت نفوسهم على اليأس مما يعيشون، تطلعوا إلى رحمة الله.
•••
وزَّع الآلاف من الآذان التي تُحسن الإنصات، تخترق الأبواب المغلقة، والأسوار العالية، والجدران السميكة.
بثَّ الأرصاد في المُدن والقُرى والخلاء وتحت التلال، يأتون له بالأحوال والأخبار، أوامره ألَّا يفلت من رقابتهم شيء، ولا يأذنون بنشر شائعة، أو انتقال همسة من فم حاقدٍ إلى آذان تُرهف السمع، يطوفون في عمق الليل بالشوارع والميادين والخلاء والساحات والبيوت المفتوحة الأبواب والمظلمة، ينصتون، ينقلون الهمسة أو العبارة التي قد تعني شيئًا.
إذا انتاب الرجل تلعثُم، أو رابَه قولُه، أمر بقتله، وكان يدعو الرجل إلى مجلسه، يسامره ويضاحكه حتى يتقدم الليل، يودِّعه إلى لقاء في الغد. ما يكاد الرجل يمضي خطواتٍ إلى خارج القصر، حتى يخرج له الحرَّاس من وراء الأعمدة والأركان المظلمة، يطعنونه بما في أيديهم من رماح وخناجر وسكاكين، حتى تزهق روحه، لم يفلت من أذاه أهل الورع والدين. قضى بأن يُوضَع الشيخ زهير عبد الشكور، قاضي الحسبة، في حجرة مغلقة، لا يدخل إليه فيها طعام ولا شراب، يعاني لانعدامهما حتى يأتيَ الموت.
حصَّن نفسه بحُجَج وتبريرات، فلا ينفُذ إليها تأنيب ضمير.
صار خواصه أهل السُّلطة والحلِّ والعقد من الوزراء والأمراء والكَتَبة والوُجَهاء والأعيان، أوكلوا لأنفسهم شأن البلاد والعباد، هم الحكام الحقيقيون، وأصحاب الأمر والنهي، يتولَّون السُّلطة الفعلية نيابةً عن صاحب الزنج، جمعوا في أيديهم كل الأمور، قولهم الفصل، لا رادَّ لكلمتهم، ولا مُعقِّب على قرار يتخذونه، على السلطان أن يوقِّع المراسيم التي يتخذونها.
ترك لمعاونيه وقوَّاده تقسيم الغنائم على المحاربين، يجنِّبون نصيب السلطان، ويوزِّعون الباقي وفق قواعد يحدِّدونها.
أوكل إلى الوُلاة أن ينفقوا على أقاليمهم من الجزية والخراج والمكوس، أوكل إليهم أمور التدبير والعزل والتعيين وفرض المكوس ومنح العطايا وإنفاذ الحلِّ والعقد.
جعل الهدايا والرشاوى وسيلة الوُجَهاء والأعيان والكَتَبة للقرب منه، يرفعونها إلى مقامه، وإلى المحيطين به من الموالي والخدم، حتى الحصول على وظيفة قصره على باب قصره، ينتظرون الإذن بالمثول، يحملون البرطيل، تلحقهم أوامره بحصولهم على ما يأملون. جنَى من أموال بيع المناصب ما يصعُب حصرُه.
حظر على الناس أن يتحدثوا في الأسواق في أمور الدولة وأخبار الحاكم، بثَّ العيون والأرصاد والجواسيس في المُدن والقُرى والمضارب والخيام، يتنكرون في هيئة تجار ومسافرين ومتصوفة وجُلَساء سمر وباعة جائلين، يسجِّلون ما يرونه أو يسمعونه، يرفعون أوراقهم إلى مقام الخليفة، مئات من الجواسيس والعسس والأرصاد، تناثروا في أروقة البلاط، وفي الوزارات والمكاتب، توزَّعوا في المُدن والقُرى والساحات والخلاء والأسواق، ينقلون كل نأمة وحركة، عَهِد إلى موظفين بالسَّير في الشوارع الضيقة، ودخول المقاهي والأماكن الشاحبة الضوء، التعرف على ما يجري، إصاخة السمع لما يدور من مناقشات عالية النبرة وهامسة، التشكُّك في التصرفات، لا يُقدِم الموظفون على فعل من أيِّ نوع، يضعون علامةً في موضع ظاهر من المكان، يأتي الجنود فيداهمونه، يصحبون أهله إلى حيث يخضعونهم للمساءلة والتحقيق. دسَّ العيون حتى في قاعات البيوت، يدَّعي الرجل حُجَّةً لدخول البيت، وإصاخة السمع لما يدور في الحجرات المغلقة، والتعرف إلى ما يجري في الأماكن المفتوحة. ألزم موظفي الدولة والناس العاديين أن يرفعوا الرقاع بما تشاهده أعينهم ويصل إلى أسماعهم من كلام الناس في الأسواق والجوامع والمدارس والجلسات الخاصة، يذكروا حتى ما لا يبين معناه جيدًا، حتى الملامح وتعبيرات الأيدي وإيماءات الأعين والرءوس. احترز دومًا، حبس على الشُّبهة والظِّنَّة، وأخذ على التهمة.
بثَّ أعوانُه الكثيرين في مُدن الخلافة، يتلقَّون أوامره، يُعِدُّون لما فيه صالح أمير المؤمنين، وخير البلاد.
عزل مَن شكَّ في ولائهم له، أو تعاظم شأنهم، من الوُلاة. أقام وُلاةً جُددًا من أعوانه والموالين له. حرص أن يتولَّى بعض مواليه وظائفَ مُهمَّةً في داخل البلاط، ليكونوا عيونًا على الأحوال والأخبار، ويُقوي بهم نفسه.
صار له أرصادُه في قصر أمير المؤمنين، ينقلون إليه ما يرون وما يسمعون من الكلمات ذات المعنى، يرفعونها إلى مقامه، يلتقطون حتى الأنفاس والتنهُّدات والهمسات، وما يحرص الخليفة على حَجْبه.
أعمَلَ القتل في خصومه من الوزراء والأمراء والكَتَبة، يعهد إلى الحرَّاس الشخصيين لخصومه، فيقتلونهم، مَن يشمُّ في أقواله أو تصرفاته رائحة التآمُر، يأمر فيدسُّ له السُّم في طعامه، يبدو ما حدث قضاءً وقدَرًا، لا تفزع النفوس إلى الثأر، ولا تتطلع إلى الانتقام.
الصوفي الجنيد البغدادي، شهد ثورة الزنج منذ دخولهم البصرة، ونشوب المعارك ضدَّهم، لجأ إليه علي بن محمد في معايشته لفكرة الثورة، طالبه بأن يدلَّه على طريق الغلبة، لا يتراجع حتى يبلغ الهدف، سِيقَ إلى بقعة الدم بأمر من نور الدين الحجازي، بعد أن أطاح المشاعلي رأسه، أمر الوزير أن يستبدل الجند دفنه بإلقائه في النار، تظل مُشتعلةً في الجسد الميت حتى يتحول إلى رماد، لا يبقى منه ما يشي بحياة سابقة، مضَت حياته بلا أثر. هذا ما يجب أن يحدث في موته.
اتخذ لنفسه جندًا لهم مهامُّ تختلف عمَّا يؤدِّيه جند الخلافة، ترك قيادتهم لجماعة من الضباط لا يفارقون أسلحتهم، يرافقونه أينما ذهب، أوعز لهم أن يُعمِلوا القتل والتنكيل في أتباع المهلبي، شغله اجتثاثهم فلا يبقَى مَن يسانده.
قال لقائد الجند: مَهمَّتُك أن تُطيح بالرءوس قبل أن تبدأ في التآمُر.
وتعمَّد تجويف صوته: السؤال والملاحظة بداية التفكير فيما يستدعي الاجتثاث.
ثم وهو يحوِّل وجهه عنه: هذه مَهمَّتُك.
عرف جيدًا ماذا يريد شبقه المُلِحُّ للسُّلطة، اطمأنَّ إلى خطواته، ووسائل بلوغ الهدف، استحوذ على كل شيء، سيطر على مقاليد الأمور، بسط سلطانه على الوزراء والأمراء والعلماء والناس العاديين، بدَا مثل الذي يقود عربةً تدهس بعجلاتها وسنابك الخيل مَن يعترض طريقها.
تعدَّدَت حالات التوسيط بالسيف، الإحراق بالنار، الخنق بالحبال، والصَّلب، والسَّلخ، وحشو الجسد تبنًا، والتعليق على الأشجار بما يُغري الكواسر.
أزال من نفسه العواطف الرِّخوة والضعف، صارت أوامره ونواهيه قدرًا لا يُرد.
تأكدت جوهرة من إشعال النار بين حجرين، تحت قِدْر الفخَّار، واصلَت مدَّ أصابعها في الماء، حتى اطمأنَّت إلى سخونته، رفعَت القِدْر، ومضَت به إلى داخل الحجرة المغلقة.
حين جاء المخاض، كان الوقت ظُهرًا، والحرارة قاسية، ورائحة الملح تتصاعد من المُستنقَعات، يعمِّق الصمت السادر نقيقُ ضفدعة يترامى من موضع قريب.
لم يكُن مع فوز في الحجرة سوى جوهرة، أبعد سعد الكندي كل مَن في البيت، حتى الخدم.
لزم السعدية، لا يكاد يغادر القصر إلا لأعمال مُهمَّة، ويعود في اليوم نفسه. مشاعره موزَّعة، يختلط فيها القلق والتوقُّع والشوق والخوف. ربما أخذَته الحيرة؛ هل يكلِّمها فيما حدث، أم يتناسى الأمر، كأنه لم يكُن.
انشغلَت جوهرة بغلي الماء، حضرت الكثير من الولادات، أعدَّت ما تحتاج إليه، حتى ينتهيَ الأمر.
نسيَت فوز في همِّها موعد الولادة، فاجأَتها الآلام التي لم تكُن تهيأَت لها، ولا تصوَّرَتها، ظلَّت على هدوئها، تقاوم آلام المخاض، تغالب اهتزاز جسدها بالتشنُّجات العنيفة، تبحث يداها عن شيء تُمسكان به، تضغط بأسنانها على شفتها السفلى، تغمض عينيها، لا تصرخ ولا تئن، وإن ذابت ملامح وجهها في الحُمرة، تعرف أن أباها يقف خارج الحجرة المغلقة.
تحدَّثَت جوهرة في تهوينٍ عن ولادة أبنائها الثلاثة، لم يكُن زوجها في البيت، ولا في السعدية. رفضت أن تلجأ إلى قابلة، أو تستغيث بنساء الجيران، تحمَّلَت آلام المخاض في مولد أبنائها الثلاثة.
توالَت دفقات الألم، عنيفة قاسية، أغرقتها المياه اللزجة، تختلط بالدم الذي كأنه يصفِّي جسدها، تعالَت دقات الطبول، واشتعلت النيران، ثمة ما يستلب روحها، يقبض بيدين متقلِّصتَين على عُنقها، يمنع الهواء عن رئتيها، تأوَّهَت، صرخَت، عضَّت ما بلغَته أسنانُها، تمنَّت الموت.
كانت قد لجأت إلى كل ما نصحَت به الخادمات لإسقاط الجنين، لانتزاعه من بطنها؛ الأعشاب، أعواد الملوخية، أعقاب الشمع، مشروب القرفة الساخن.
تشبَّث الجنين بالبقاء، لم تُفلح كل الوسائل في إسقاطه.
قالت وهي تربت جسده العاري لحظة مولده: هو لم ينزل إلى الدنيا إلا لحكمة!
ثم وهي تمدُّ المقصَّ إلى حبل الخلاص: إنه يشبهك!
رنا إلى الطفل في يد جوهرة، ربطَت الحبل السُّري باليد الأخرى جيدًا، رفعَت الطفل مقلوبًا حتى علا صراخُه، حمَّمَته جوهرة، جفَّفَته جيدًا، أحكمَت قماطه، تلَت عليه آيات، وقرأَت رُقًى، حصَّنَته ﺑ «قل هو الله أحد» والمعوذتين، وأدعية وأوراد أَلِفَت أداءها.
جذبَت الدِّثار من جانبها، لفَّت به الطفل، وضعَته بين ذراعَي الكندي الممدودتَين.
سرق الألمُ وعيها، لم تلحظ قطع حبل الخلاص، ولا شعرت بيد جوهرة، ولا استمعَت إلى كلماتها.
أعادت جوهرة القول: المولود يشبهك.
وشى صوتُها بالأسى وهي تشرد: يشبهني أنا؟!
– الخالق الناطق.
شوحَت بيدها: لا صلة له بما حدث.
أومأَت جوهرة، فدفع الكندي بالمولود في صدر فوز.
قالت جوهرة: خُذيه ليأكل.
تعرف أن صدرها يتحلَّب بما يطعم الرضيع، أنجبَت ثلاثة، ورعَت العشرات من مواليد نساء السعدية، يأذَن لها سعد الكندي بزيارة الأُسر التي تحتاجها، يهمل تغيُّبها في البيوت، ما دامَت خدمة الأُسر مَسعاها.
احتضنَت فوز الطفل، ضمَّته إلى صدرها، اختلطَت في داخلها مشاعر لم تتبيَّنها، وإن أحسَّت دفئًا لم تعهده من قبل.
عاودها الشعور القديم بالذنب، حين أطلَّ أبوها من الباب الموارَب، إذا كانت المعارك قد شغلَت الناس عن مصيبتها، فإن مراجعتهم بعد انتهاء المعارك لما عانوه، ستطيل التوقف عند اليوم الذي افترسها فيه دريد، سيعرفون القصة من أَلِفِها إلى يائها، لن يُجديَ تكتُّم أبيها ولا مكانتُه، تختلط الهواجس بصورة أبيها وابنها، فتصمت.
لو أن المهلبي تزوجها، وأنجبا الطفل، هل كانت المشاعر الحزينة تتبدَّل؟ يحلُّ الحبُّ وحده صافيًا مُقطرًا؟
تعرف أنه يفصل بينها وبينه الصحراء، والمعارك، والأخطار التي لا بدَّ أنه يعانيها.
استمعَت — من وراء الأستار في مجلس أبيها — قول عبادة المخزومي إن الزنج عرفوا في المهلبي معنى الثورة، وعرفوا في الحجازي كيف تُسرق الثورة.
ووشى صوتُه بنبرة إعجاب: الزنج مفتونون بشخصية المهلبي، يثقون في قيادته، هو يقودهم إلى الحرية التي بشَّرهم بها حينما لمَّهم من المُستنقَعات والحقول.
التفَّت صورته بضبابيةٍ كوَّنتها في الجلسة وراء الستارة، تتلقَّى دروس النحو والإملاء ومبادئ الدين من مُعلِّم لا تعرف ملامحه.
طالعَها المهلبي بغير ما تخيَّلَته، وبغير صورة أبيها، لأبيها قامةٌ أقرب إلى القصر، وجسدٌ ممتلئ، ووجهٌ مستدير، قمحيُّ البشرة، وثمة ندبة طويلة في خدِّه بتأثير حادثة قديمة.
ارتبكَت أمام القامة الفارعة الطويلة، والعينَين البُنِّيتَين الصافيتَين، والأنف المستقيم، والبسمة العالقة في الشفتَين.
قالت جوهرة: ألا تشعرين بألم في صدرك؟
هزَّت رأسها مؤمِّنة.
– إذَن … أرضعيه!
تلفَّتَت حولها كأنها تطمئنُّ إلى خلوِّ الحجرة، فكَّت ثلاثة أزرار علوية في ثوبها، دسَّت الثدي في فم الطفل، وأغمضَت عينيها.
قالت لأبيها في وقفته على باب الحجرة: هل سيكون بلا أب؟!
ربت سعد الكندي صدره بأطراف أصابعه: أنا أبوه!
رفعَت فوز المولود على ساعدَيها، قرَّبَته من عينَي الأب، مال على الطفل يُقبِّله، لم يحاول تبيُّن ما إذا كان قد أخذ من ابنته، أو منه، أو من شخصٍ آخر يرفض حتى تصوُّر ملامحه. تماوجَت في نفسه مشاعر متباينة، وإن وضح الإشفاق على ابنته. ما حدث الآن بدايةٌ لما يصعُب تصوُّرُه.
تمازج في عينيها القلق والخوف: هل تصبح أبًا لي وله؟!
– سترعاه جوهرة، لكنه مسئوليتي حتى أموت.
ورمق المرأة بنظرةٍ مُهدِّدة: إذا تكلَّمتِ عمَّا حدث فسيكون آخر سرٍّ تعرفينه!
أسقط فكرةً ومضَت في ذهنه؛ ينسب الوليد إلى واحد من العاملين في أرضه أو في تجارته. طرد الفكرة في اللحظة التالية، هل يضيف إلى مأساة ابنته أضعاف ما تعانيه؟!
أحكمَت جوهرة لفَّ المولود في القماط، مضَت به من باب خلفي إلى حيث تربِّيه في رعاية الأب وإنفاقه. تتناسى ما حدث من بداياته.
اعتادت التردُّد على بيت جوهرة، تُحرِّكها رغبةٌ برؤية طفلها، كان آخر وجود للطفل في البيت، في اللحظة التالية لولادته. لم يعد من سبيلٍ لكي تراه إلا أن تَمضيَ إلى بيت المرأة؛ تُجالس الطفل، تطمئنُّ عليه.
الباب الخلفي، الملاصق لحجرة الحارس العجوز، يُفضي إلى اتساع الخلاء من الناحية اليمنى، وإلى طريق غير مُمهَّدة من ناحية اليسار، تخترق — بخطوات مُهروِلة — طريقًا رملية، بين سيقان الأشجار والحشائش الكثيفة الممتدة حتى التلال، تميل إلى الشوارع الجانبية، أو بين الزراعات، على جانبيها أشجار متشابكة الأغصان والأوراق، تُضفي ظلالًا متماوجةً تكاد لا تستبين منها الرؤية، يسبقها ويحيط بها خادماتٌ إلى بيت المرأة في القرية المجاورة.
تُسدِل على جسدها ما يُخفيه تمامًا، تفعل الخادمات الشيء نفسه، يرافقهنَّ من بعيدٍ عبيدٌ وخدم.
تطأ — بخطوات متعثرة — ما تناثر على الأرض من أغصان متكسرة وأوراق جافة. ثلاث حجرات سقفها من جريد النخل، جدرانها من اللَّبِن.
قال سعد الكندي، ربما ليُخفِّف من ألمها: لن تظلَّ الأمور على حالها … مَن يتزوجك سيصبح أبًا للولد.
وهي تشير إلى نفسها: يتزوجني أنا؟!
– رعاية الأب تنتهي بالموت، تبقى رعاية الزوج.
تقلَّصَت ملامحها بالاستغراب: لي ولد … وقاربتُ الثلاثين!
في لهجة مُهوِّنة: تزوج الرسول من السيدة خديجة وهي في الأربعين.
شوحَت بيدها: أظنُّ أني سأقضي ما تبقَّى من عمري في خدمة طفلي.
– حين يكبر ويتزوج، مَن تخدمين؟
تقافز الخوف في صدرها، حين تحدَّث سعد الكندي عن نذر العاصفة في مدى الأفق، لن يكون أيُّ بيت في منجاة من الخطر، لا شأن لحاملي السلاح بأوامر عليا، ولا بمناطق آمنة، ولا مقرَّبين من نفس الإمام، أحكم نور الدين الحجازي قبضته على كل شيء، هو الذي يقضي، لا يشغله سؤال ولا مناقشة، ولا تبرير يرفضه من قبل أن ينطق به صاحبه، ارتكب من الأفعال الشريرة ما لا يحصيه عدٌّ ولا يشير إليه قول.
قال سعد الكندي في لهجة تسليم: إنهم كثيرون جدًّا، لا تحاولوا المقاومة.
قالت فوز مُهوِّنة: لكنهم يقتلون في كل الأحوال.
واغتصَبَت ابتسامةً لتُداريَ مشاعرها: ما يمنع التصوُّر أننا ندافع عن أنفسنا؟!
امتدَّت الأيدي إلى ما بداخل البيت من المغارف المعدنية والسواطير والسكاكين والمَطارق والمِقصَّات والماء المغلي، بدَوا كمَن يضع يده على عينيه يتَّقي الحتم.
رفضَت جوهرة أن تترك بيتها.
قال أكبر أبنائها: لم يعد لنا مقامٌ في السعدية.
أدارت وجهها، حدجَته بنظرةٍ مستاءة: الفوضى في كل مكان، ليست السعدية استثناءً.
وتهدَّج صوتُها بالانفعال: لن أترك السعدية، إذا كنتم خائفين فلن أرفض رحيلكم!
وأشارت إلى صدرها بأصابع مضمومة: أنا خائفة مثلكم، لكن الموت في كل مكان.
وأشارت بإصبعها إلى أسفل: أن أموت هنا، أفضل من الموت في أرضٍ بعيدة!
دفعَت الظروف أباها البائع في سوق الغِلال إلى ترك السعدية، طالت غيبتُه حتى عن زوجته وأبنائه الثلاثة، اشتدَّ عُود جوهرة، ألحقَتها أمُّها خادمةً عند أُسرة سعد الكندي، أبقى عليها عقب رحيل زوجته، صارت أمًّا ثانيةً للفتاة، لمَّا زوَّجَها الكندي إلى خادم عنده، وانتقلَت إلى بيت زوجها بالقرب من قصر الكندي، واصلَت تردُّدها على القصر، لقاء طعامها ومَلبسها ونقود قليلة، تُظهر التمنُّع قبل أن تقبلها، يقتصر عملها على رعاية فوز؛ تلبية احتياجاتها ومُجالستها ومُؤانستها.
قبل أن يحدث ما يحدث، كانت جوهرة تتيقَّن من إغلاق أبواب البيت ونوافذه جيدًا، قبل أن تَمضيَ إلى بيتها، تَمضيَ في صحبة أُسرتها وقتًا قصيرًا وتعود. لم يخطر في بالها أن «دريد» يتابع — من موضعه في الدكان — ما يجري في البيت المقابل، يتسلَّل في خلوِّ البيت إلا من فوز والحارس في حجرته الخلفية. يطرق بإلحاح الإقدام على المغامرة.
لم تعد حياة فوز كما كانت منذ اقتحم دريد البيت، لم تعد حتى تشعر بحضوره، لا تراه، لكنها تستعيد ما حدث منذ بداياته، يحاصرها بما يُشقيها، شغل الطفلُ وقتها بما انعكس في تصرفاتها، تصحبه جوهرة بين بيتها في القرية الصغيرة القريبة، وبيت أبيها في قلب السعدية، تجلس إليه، تلاعبه، تناغشه، تغني له، بدَّل حياتها تمامًا، ذوَت الكراهية في نفسها، شحبَت رغبتُها في الانتقام، حاولَت ألَّا تستعيد ما حدث، وحاول أبوها أن يساعدها في إسقاط الأمر كله، لا يذكر في أيَّة مناسبةٍ اسمَ دريد، ولا يشير إليه، إن حاولَا وَصْل المشكلة بما بعد، بداية ما حدث يوم ولادة الطفل، كأنما الأب الذي نسبه إلى اسمه هو أبوه، حتى الناس في السعدية بدَوا كأنهم أسقطوا ما حدث من ذاكرتهم، وطمسوا سيرته، لكن تأمُّلها القوي لملامح طفلها في تطورات نموِّه، يذكِّرها بما تريد أن تنساه، أو تتصور أنها نسيَته بالفعل.
ظلَّت جوهرة على اطمئنانها بأن الزنج تركوا بيت الكندي وما حوله، لكنهم حطُّوا على البيت في ليلة شتوية، حملَت الطفل، وفرَّت إلى حجرة في الطابق الأرضي، جعلَتها مخزنًا لأدوات زوجها في الحقل، وللأشياء القديمة.
حين ساد الصمت، قامت من موضعها. كان الخوف قد حطَّ عليها، فظلَّت بلا حركة، غلبها شرود في غير اتجاه، عانت في استعادة نفسها.
نظرَت من ثقب الباب المغلق.
خلَت القاعة من ثقب الباب المغلق، ليس ثمة إلا الجدران وبقايا الأشياء، أدركَت أنهم أخذوا ما يريدون ومضَوا.
واربَت الباب، ونظرَت في توجُّس، أبطأَت خطواتها في اتجاه السُّلَّم، تحسَّسَت الدرجات والطفل في حضنها، حتى صعدَت إلى الطابق الأول، لَحِق التدمير والسلب كل ما في البيت، تأكدَت من خلوِّ الساحة الخارجية تمامًا، ثم اندفعَت في لهفةٍ ناحية بيت الكندي.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
أمَّا ولاؤك لنا، فهو ما لا نستطيع إنكاره، وأمَّا إنكَ خير مَن يحُلُّ بعدنا إنْ غيَّبَتنا المكاره، فهي الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان.
أطال علي بن إبان المهلبي الصمت: هل استدعاه أمير المؤمنين في هذا الوقت المتقدم ليحدِّثه عن موضعه في نفسه؟ هل هذا كل ما في الأمر، أم إنه سيفاجئه بما لا يعرفه؟
مع أنه أجاد حصاره، فإن التنبؤ بأفعاله صعب للغاية، يفاجئ الجميع بما لا يبوح به، ولا يتوقعونه، يُرجعه إلى الرؤى والإلهامات.
عكسَت ملامحه قلقًا يحاول إخفاءه: شغلت هذه الليلة بما أردتُ أن أشرككَ فيه.
ودون أن يجاوز هدوءه: لمَّا عَهِدنا إليك بتولِّي بعض أمور الحكم، فلولائك الذي نعترف به، وإخلاصك الذي لا سبيل إلى إنكاره، صرتَ — كما تعرف — في المرتبة التالية للخليفة، يغيب الخليفة فتحُلُّ مكانه.
هو أكبر أمراء الإمام، صار مساويًا في المكانة لزنج اختارهم علي بن محمد قادةً في جيشه؛ نور الدين الحجازي، طريف، صبيح الأعصر، راشد المغربي، راشد القرماطي. حدس أن نور الدين الحجازي استعدى عليه الإمام، فتغيرَت نفسُه، واعتزم أذيته. لم يقنع الحجازي بدور التابع، إنما حرص على الندِّيَّة، وعلى أن يكون له حسابُه وخطرُه، ومشيئتُه التي لا تُرد، سُلطة أمير المؤمنين تضاءلَت إلى جانب السُّلطات التي اقتصرَت عليه، هو الذي يأمر، والباقون يُصغون لما يقوله، ويشغلهم تنفيذُه، يدين له الجند بالولاء والطاعة، لا يعصون أوامره، ويُنفِّذون ما يقضي به.
عرف من خواص أن الرقاع رفعَت إلى مقام أمير المؤمنين بأن المهلبي يسعى إلى حاله، يريد الأمر لنفسه، يصبح بديلًا للسلطان.
أدرك أن الفتنة دُسَّت عليه عند الإمام، يعرف مَن دبَّرها، وإن لم يعرف كيف جرى تدبيرُها، اختلطَت الخيوط وتشابكَت، وتشابهَت السِّحَن، فلا يعرف طبيعة ما جرى، ولا مَن الفاعل، ليحذِّر أمير المؤمنين بما قد يحميه هو نفسه، زاد من تعقيد الأمور أن الإمام لم يُشِر إلى واقعة يحاول وَصْلها بما قبل، ولا بما بعد.
هي وشاية عند أمير المؤمنين، كي تتغيَّر نفسُه عليه، يؤلم نور الدين الحجازي أن أمير المؤمنين خصَّه بثقته، جعله الوزير المقرَّب، ينقل أوامره، وينقل إليه ما قد يعجز الناس عن الوصول به إلى مجلسه. أزمع أن يظلَّ صامتًا، إن لم يُوجَد عنده ما يقوله.
وضع الإمام وجهه بين راحتَيه في استغراق: إن نجحَت محاولات إزهاق حياتي، فأنتَ الخليفة من بعدي، هذا ما اطمأنَّ إليه الوزراء والأمراء والقادة والعلماء والناس العاديون.
وأشار بإصبعه في وجهه: واطمأننتَ أنتَ إليه.
وظلَّ صوتُه على هدوئه: كيف أثق أن نفسك — وهي نفسٌ بشرية — لن تُزيِّن لك القفز إلى المكانة الأولى، فتصبح أنت الخليفة؟!
لم يكُن يأذَن لأيٍّ من وزرائه وحاشيته وموظفيه أن يعلوَ فوق الحدِّ الذي وضعه له، الاستثناء يولِّد القاعدة.
ظلَّ في عينيه ذلك التوجُّس القديم، وإن اختلفَت طبيعة النظرة، كان توجُّسه من الأعين التي تحاول اكتشاف النسيان والفَضْح، توجَّس زمن الإمارة من التآمُر والتدبيرات التي تستهدف حياته وحكمه. أعدَّ في قصره منافذَ للهرب، وكان يتأكد من ولاء حرَّاسه الشخصيين، يُغدِق عليهم من المال ما يحفِّزهم للدفاع عنه، يُضحُّون بأنفسهم لو اقتضى الأمر، يدركون أنه سينفق من ماله لإعالة أُسرهم.
أشار إليه، فجلس: شغلني الأمر بما أذهبَ عني النوم.
وبدَا تغيُّر في صوته: لذلك أمرتُ الجند باستدعائك.
رمقه بنظرةٍ خاليةٍ من التعبير، وإن التقط المهلبي ما تُضمِره من غضب.
أدرك نيَّة نور الدين الحجازي أن يتخلَّص منه، يأمر خدمه فيقتلونه، أو يدسُّ له عند السلطان، يوغر صدره، يُقنِعه بأن ثقته فيه كانت في غير موضعها، فتتغير نفسُه عليه، ربما أمر بقتله. حاول أن يراقبه بما يستحقُّه الأمر من الحيطة والحذر.
خرج على الخليفة للدفاع عن العبيد، ما يشغله الآن أن يحافظ على نفسه من الرجل الذي سار خلفه للدفاع عن العبيد.
رانَ على لهجته تذلُّل: ليس من مَواليك أحدٌ أشدَّ ولاءً مني!
أَذِن له أمير المؤمنين أن يدخل قصوره، يتجول فيها بحُرية، لا يستوقفه الحرَّاس، لا يواجهونه بالسؤال الذي يطلب كلمة السِّر، صار من أظهر خواص صاحب الزنج وحواشيه، ومن القلائل الذين يبكرون بالدخول عليه، ربما قبل خدمه.
قال أمير المؤمنين: أعرف أنكَ لا تمثِّل تهديدًا.
أَلِف الناس أوامره المُعلَنة، يُصدرها — بصوتٍ رائق النبرات — لوزرائه وأمرائه وقوَّاده، تنفُذ الأوامر فورًا، يُومئ الأعوان بالموافقة، لكن الزمان يُغيِّب الأوامر، لا يدري الناس أين ذهبَت، ولا لماذا تعذَّر تنفيذُها!
ثم وهو يحاول قراءة ردِّ الفعل في وجهه: هذا الآن … ماذا عن المستقبل؟
أخفق في أن يفرِّق بين مَن أحبُّوه بالفعل، ومَن أضمروا له الكراهية. عاب على الوزراء والكَتَبة أنهم يتملَّقونه في مجلسه، ويقلِّلون من قَدْره في غيبته في حضرة السلطان. عرف سعيهم إلى المعارضة، وتدبير المؤامرات، أكثر من مَنْحهم العطايا والهبات والميزات التي لا يشاركهم فيها أحد.
نور الدين الحجازي هو مَن أوغر صدر أمير المؤمنين عليه.
نقل أرصادُه انتقادَه حياة الكَتَبة والوزراء، وأساليبهم في الحكم. أعلن أنهم لا يعملون لصالح الثورة، لكنهم ينشرون الفوضى والفُرقة والاختلاف، يقفون بالذِّلة أمام الخليفة، ويطالعون الناس بالقسوة والعنف. قال: إن الصمت عن فعل شيء هو انتحار!
ظلَّ صامتًا، غلبه الارتباك، لا يعرف ماذا يجب عليه أن يفعله، ولا يجد ما يقوله دفاعًا عن نفسه، يعرف أن الإمام نطق بما أملاه نور الدين الحجازي، لا ينتظر دفاعًا ولا سؤالًا ولا مناقشة. النفس متغيرة، ما ينطق به هو القضاء الذي لا يُرد.
هل خاض المعارك من أجل فتاة السعدية؟
حين استردَّ نظراته من ملامحها، كانت صورتها قد تمكَّنَت من قلبه، التقط في داخلها جمالًا يفوق حتى جمالها الظاهري، ما لا شأن له بلون العينين، ولا حُمرة الفم، ولا دِقَّة الأنف، ولا نعومة الشعر.
شعر بأنفاسها وراء الخيمة، استعاد الملامح التي أذهلَته عن نفسه، تحدَّث إليها في جلساته المنفردة، وفي قيادته للمعارك، وفي مجالس الحكم، هو يحبُّ زوجه، يجد فيها الحبَّ والدفء والمؤانسة، لمَّا رأى مروة شَعَر بما يفوق الحب.
ظلَّ مأخوذًا بجمالها، يتمثل هيئتها واضحةً في مخيَّلته، تبدو جميلةً بما يعجز عنه أيُّ تصور، كأنها النعيم الذي يَعِد الله به عباده، كأنها من الحور العين.
لم يستنكر أن الكندي يصمت عمَّا يعرفه. لولا أنه يخشى تصوُّر الإملاء، لطلب يدها، هي المعنى لكل ما يعيشه.
قال الإمام: إذا انتظرتُ الدليل، فقد لا يُتاح لي اكتشافُ المؤامرة، لا دخان بلا نار.
واقتحمه بنظرةٍ متفحِّصة: من الصعب أن أطمئنَّ على نفسي مما يجيش بالخواطر، أو يشغل الضمائر.
وارتعش أنفه بالتوتر: لن ترضى أن نحيا في قلق وخشية من أقرب وزرائنا.
وأطرق، ثم رفع رأسه في هيئة الحيرة: القرار صعب؛ يغيب أحدنا فيحصل الثاني على الطمأنينة.
ثم وهو يُكسِب صوته نبرة وُد: لثقتي بأنكَ تُقدِّر ما يُقلقني، فإن قراري أن تُخلي موقعك، تختفي، وأَعِدُك بأن أكون مسئولًا عن الحياة الطيبة لأُسرتك!
والتفَتَ بإصبعه إلى قائد الجند من خلفه: جِدُوا له مِيتةً تليق بمكانته.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
أنا لا أعرف إلى مَن أتجه بهذه الكلمات … هل لوزراء الخلافة، أم للشراذم المتبقية من دولة الزنج، أم للناس العاديين الذين نجوا بحياتهم من تأثيرات الحرب؟
لا أتصور أني أكتب لغير قارئ، القارئ الذي أطلبه يجب أن يكون واعيًا بمعنى القراءة، فلا يفوته الهدف والمغزى.
ربما يقرأ هذه الكلمات ناسٌ يعيشون زمننا، وقد يقرأه ناسٌ من أزمنة قادمة. ما يُهِمُّني — في كل الأحوال — أن يقرأ الكلمات مَن يجدون فيها المَثَل والعِبرة.
هل قاد علي بن محمد ثورة الزنج، لكي يحقِّق حُلم السُّلطة؛ يجلس على كرسي السلطان، أو أنه كان معنيًّا بتطبيق ما دعَا إليه من إصلاح حال المجتمع، ونُصرة الفقراء على طبقة السادة؟
أعمَلَ الموفَّق الحيلة، نصب رءوس الأسرى على السفن، رآها جند علي بن محمد من وراء أسوار المختارة، رمى بعض الرءوس من وراء الأسوار، معها رقاع تدعو إلى تسليم الأنفس والسلاح.
حدث ما اعتبره سابقةً لم تحدث من قبل؛ خرج النسوة من البيوت والعُشش والأكواخ، يحملن سكاكين المطابخ، وكل ما يصلُح لردِّ الاعتداء، واجَهن به محاولات اقتحام القُرى والمضارب.
تصارع المُصلُّون، حتى أنزلوا من فوق المنبر إمامًا دعَا إلى استنصار السلطان لأنه إمام المسلمين، والإمامة تُوجِب نُصرته، قال الناس إنه لم يرعَ الإمامة التي نسبها إلى نفسه، ولا المُلك الذي تولَّاه.
كان الإمام قد خطب في الناس أنهم إذا دخلوا في بيعة السلطان، فلا بدَّ من الانقياد لطاعته، هم لم يُجبَروا على شيء، ما التزموا به عقدُ مراضاةٍ واختيار، لم يدخله إكراهٌ ولا إجهار.
وجعل من يده دائرةً حول فمه، وزعق: أُولو الأمر هم الأئمة المتأمِّرون علينا، فرض الله علينا طاعتهم.
ترامى صوتٌ من صفٍّ خلفي: مهما يطُل الزمن فإنه لا يجعل الظلم حقًّا لمَن يمارسه!
كثُرت الرقاع التي تعترض موكبه، تحمل شكايات الناس ومطالبهم، علَت الأصوات بالإدانة والاعتراض والاحتجاج، لم يعد الناس من بعدُ يطيعون لصاحب الزنج أمرًا، أدركوا ضعفه، وتحوُّله إلى أداة في أيدي أعوانه، ترك لهم نفسه ليحفظوا الحياة التي يعيشها، ويدافعوا عنها.
لاحظ انصراف من نجا بحياته من أهل البصرة، والتفافهم حول الموفَّق، هو الذي يمتلك القدرة على الفعل، يُطِلُّ من أعلى قصره في المختارة، يشاهد أعلى البنايات في مدينة الموفَّقية، شيَّدها الموفَّق ونسبها إليه، جعلها معسكرًا دائمًا ملاصقًا، يُعِدُّ فيه خُطط اقتحام المختارة، والاستيلاء عليها.
تمنَّى أن يجد الاعتراف بما قدَّم للناس في عيونهم، وفي التصرفات التي يشغلها المساندة، وردِّ الجميل.
خرج من أجلهم، فلماذا تخلَّوا عنه؟
تشكَّك الناس في نسبه، عابوا عليه ادِّعاء النبوة، والافتتان بالسُّلطة، كُتِبَت على الجدران شعاراتٌ تنال من دعوته، وتدين تصرفاته، تدعو إلى جهاد الظالمين والدفاع عن المستضعَفين.
إذا كان الخليفة المعتمد قد خذله، فحجر عليه، فإن العباس — ابن الموفَّق — قد انتصر في كل المعارك التي عَهِد إليه أبوه بقيادتها.
عهد الخليفة بقيادة الجيش إلى موسى بن مغا التركي، خرج من سامرا، يساعده عبد الرحمن بن مفلح الذي ذهب إلى الأهواز، وإسحاق بن كندي لقيادة جبهة البصرة، وإبراهيم بن سيما في بازاورد.
تحصَّن الزنج بالأجام ومناطق القصب والحلفاء، ثبتَت للهجمات المتوالية من جيش الخلافة، تقدَّمت ناحيتها من عدَّة جهات، قطعَت الميرة عن مواضع الزنج، ظلَّت الحرب دائرةً أشهرًا متواصلة، بدَا النصر لُغزًا، أو غائبًا، اعتزل موسى بن مغا القيادة، وحلَّ بدلًا منه مسرور اللبخي.
استعادت جيوش الخليفة الكثير من المعاقل والحصون، واستولَت على ما كانت قد فقدَته من أراضٍ، استردَّت واسط، اتجهَت بعدها إلى «المدينة المنيعة»، اقتحمَتها، وأنقذَت خمسة آلاف امرأة سباهُنَّ الزنج، ثم خاضَت قتالًا ضاريًا على أسوار «المدينة المنصورة» الخمسة، حتى دخلَتها، وأنقذَت عشرة آلاف امرأة من نساء البصرة.
لأن المختارة كانت تعتمد على احتياجاتها في كل شيء من المُدن القريبة، فقد أحكم جيش الخلافة حصارها. استُنفِدَت خزائن بيت المال، وخلَت المخازن من الطعام، وأقفرَت الحقول، وهجر معظم الناس بيوتهم، قُطعَت سُبل المواصلات، وسُدَّت كل الطرق المُفضية إلى المدينة، ومُنع دخول الجماعات والأفراد، عدَا قِلَّة من التجار والبدو، أَذِن لهم الموفَّق بإغاثة سكان المدينة فلا يقتلهم الحصار الخانق.
لم يتمكَّن سوى القِلَّة من أعوان علي بن محمد من كسر طوق الحصار، ضاق بالأمر مَن تبقَّى في المختارة، فرُّوا إليها من جيوش الموفَّق بعد الهزيمة في الأهواز، ثمة مَن عادوا إلى مُدنهم وقُراهم، أو سلَّموا أنفسهم بوعد العفو العام، والتحرير من العبودية. لم يعد قادته يُعنَون بأوامره، ولم يعد الجنود يخضعون لأوامر القادة، أخفق في أن يحرِّض جنوده، وينفرهم إلى القتال. ثار عليه الجنود، طالبوه بالأموال والأقوات، خرج الجنود حتى عن المعنى الذي شكَّل به جيوشًا، تحوَّلوا إلى جراد يلتهم كل ما يصادفه. لم يكُن ذلك ما شغله، ولا دبَّر له، صار الحُلم كابوسًا بتصرفات الأعوان والقادة والمقرَّبين، أعادوا كل شيء إلى بداياته، بينما العبيد بضاعة في تجارة الموت.
أدرك أن أعوانه تخلَّوا عنه، لاذوا بالبيوت والكهوف والمغارات، أو فرُّوا خارج العراق. انفضَّ عنه الجميع، حتى ناس المختارة ضاقوا به، وشغبوا عليه.
تداعت استحكامات المدينة تمامًا.
غمره إحساس بعدم جدوى أيِّ شيء: خذلني الذين خرجتُ من أجلهم!
واتت القاضي زيد مكي جرأة: لم يخذلوك!
استطرد متحصنًا بالضعف الذي تلبَّس صاحب الزنج: ناصروكَ لمَّا أعلنت خروجك من أجلهم، تبيَّنوا أنكَ خرجتَ من أجل الحكم، فتقاعسوا.
وعلا صوتُه في سُوق البصرة، بأن الشائعات والدسائس والمؤامرات قد وجَّهت الحاكم، قبل أن يصبح ألعوبةً في يد نور الدين الحجازي، يمتلك قدرةً عاليةً على الكيد والدسِّ والوقيعة.
وقال الشيخ عبد الحارث يلتعة: الناس لم يستيقظوا على حُبِّ خليفة بغداد، لكنهم أدركوا فساد حكم ابن محمد، أتى أعوانه من المظالم ما يدينه ويدينهم، ولا يجعله صالحًا للخلافة.
استعاد ما يتناقله الناس في الأسواق، من أنه سعى للخلافة في ذاتها، لا ليناصر العبيد ويدافع عن حقوقهم، إنما شغلته ذاته، وأفاد من فقر الزنج وسخطهم في تحقيق أحلامه، لم يأتِ عملًا يبرِّر تولِّيه الخلافة، روى مَن تقاعس عن نُصرته وهجره في منتصف الطريق، أن عينيه كانتا متجهتَين — في الأغلب — ناحية بغداد؛ هي مدينة الخلافة والحكم والأبهة، لكنه فشل في استغلال ثورة الزنج، حسب ما تمنَّى وخطَّط.
بدأت جيوشُه في التصدُّع والسقوط في معارك كثيرة، تحوَّل المدُّ إلى جزر، أخلى الجند قبضاتهم، تخلَّوا عن أسلحتهم، ولاذوا بالفرار، حتى الذين ظلُّوا على ولائهم له منذ بدايات الثورة، ارتدُّوا عن تأييدهم له.
حتى كبار قادته، استلبوا ما حصلوا عليه من أموال الناس، وتركوه يواجه مصيره وحده، ذهبَت أعداد منهم إلى الموفَّقية، استقبلهم الموفَّق، وعفا عنهم، وخلع عليهم، أركبهم سفينة، يراهم مَن تبقَّى من قُوَّاد صاحب الزنج، فيراجعون أنفسهم.
لم يعد يقف إلى جواره ويعاضده سوى القِلَّة من الأعوان والأتباع والناس الذين أبقَوا على الأمل، غاب النظام عن الحياة في داخل جيوشه.
جيوشه؟!
دبَّت الفوضى في صفوفها، تصرَّف كل جندي بما أملَته عليه نفسُه.
أهمل قول كاتب الدولة الوليد بن كعب كأنه لم يسمعه: حاربنا كي نحصل على حياة طيبة لا لنفقد حياتنا أصلًا!
حاول أن يعيد على الناس ما كان من خُطَبه القديمة، لكنه فشل في دخول قلوبهم، أحكموا رتاجها، وأصموا آذانهم عن سماع كلماته، شاعت أمارات عدم الرضا والتمرد، والتهيؤ لإحداث تعديلات.
أقلقه أن مكانته اهتزَّت حتى في أعين أتباعه، وتجرأ بعضهم عليه بالقول والإشارة.
فطن إلى أن مَن حوله من الرجال، وما بحوزته من السلاح، لن يُتيحا له الصمود أمام الهجمات المتتالية لجنود الموفَّق.
شعر أنه لم يعد لديه القدرة على أن يستكمل ما بدأ، أحاط به اليأس، وتناوشَته الأفكار القاسية، وبدَت الطريق أمامه محفوفةً بما يصعُب تصوُّرُه.
أعلن تراجعه عن كل ما صنعه وزراؤه وأمراؤه وكَتَبتُه من إساءات، دعَا الرُّواة في الأسواق إلى التمسُّك بعهد الولاء، روَّج الرُّواة لمقولة إن الشرع يرفض الخروج على الحاكم، حتى لو كان ظالمًا.
ومضَت في ذهنه رغبة، ما لبثَت أن تلاشت، في رؤية زوجته وأبنائه، في الجلوس لحظاتٍ داخل بيته، سماع أصواتهم، الردِّ على ما يوجِّهونه إليه من أسئلة.
مضَت الأيام والأسابيع والشهور، دون أن يُتاح له رؤية أُسرته، تأخذه المعارك، ينفِّذ الأوامر دون أن يسأل أو يناقش، يعرف أن ما يفعله هو لصالح الزنج، يتملَّكه ما هو أقسى من الغضب، وهو يقتل ويدمر كأنه ينفض القهر والحقد، وينتقم لنفسه.
أظلمَت الدنيا في وجهه، وانسدَّت المسالك دونه، اختلط الأمر، فصعُب عليه تدبُّرُ الخطوة التالية.
هو الآن وحيد، متعب، قتل وعزل أقرب الأعوان، انفضَّ عنه الآخرون، مَن استطاع فرَّ بنفسه إلى مناطق لا يصل إليها انتقام جند الإمام، يذوب في جموع الناس، يعود إلى نقطة البداية، يستردُّ حياته، كأنه لم يتورط في معاداة أمير المؤمنين، ولا خاض المعارك ضدَّ السراة.
آلمَه تخلِّي مَن غمرتهم عطاياه من القُوَّاد والأعيان والوزراء والوُلاة، تركوه محبوسًا في قصره، تعرَّف جند الخليفة إلى جثة نور الدين الحجازي، طافيةً منتفخةً فوق النهر.
أمر علي بن محمد خواصه أن يرافقوه في النزول إلى الناس، يجلس إليهم كأنه واحد منهم، يأخذ ويعطي، يسألهم ويردُّ على أسئلتهم، جذور الثورة يصعُب أن تظلَّ مشتعلةً إلا بين الناس العاديين، يعنيهم تبدُّل الأحوال وسيرها في طرق معبَّدة ومُضيئة، همُّه أن يُقنع الناس بحرصه على حفظ اليمين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، يُذكِّرهم بصون محارم الله — سبحانه — عن الانتهاك، وحفظ حقوق عباده، يُعنَى بالالتماسات والعرائض وطلبات الحوائج ومذكِّرات الالتماس، يومض في ذاكرته دخوله إلى بعض المُدن، أفرد له أعيانها الأبسطة الفاخرة فوق الطرقات، علَّقوا الزينات والأعلام والأضواء، مدُّوا الأسمطة لكل أبناء القبائل وأهل المُدن، بما يُغريهم بالاحتشاد على جانبَي الموكب.
كلما قارب مدينة، طالعَته الأعين المبثوثة في مداخل الساحات والشوارع والميادين، وفوق المآذن والأسطح، ومن وراء النوافذ المفتوحة والمواربة، النظرات طافحة بالتشفِّي والغضب والسخرية واللامبالاة.
تتلاشى التعبيرات التي أعدَّها لتوضيح موقفه، وللدفاع عن نفسه، الخطب البليغة لن تُذهِب الجوع عن عبيد المُستنقَعات، سيظلُّون أسرى أرض السواد.
ما يكاد يتجه إلى مدينة ثانية، حتى يطالعه ما شاهده في المُدن التي سبقَتها.
فاجأه مَن لم يرَهم يقذفون الحجارة والطوب على موكبه. اتجهَت سهام جنوده ورماحهم صوب النوافذ المفتوحة والأسطح، لكن انهمار الحجارة والطوب بدَا حجارةً من سِجِّيل، لم يستطيعوا اتِّقاءها. استخدم الناس كل ما وصلَت إليه أيديهم، وما أفلحوا في صُنعه؛ السيوف والخناجر والبلط.
أضاف إلى ألمه أن العشرات من أهل المختارة، هؤلاء الذين قَدِم بهم إلى عاصمة دولته، ومَن كانوا يتطلعون من بعيدٍ إلى أسوارها، وأتاح لهم ما لم يتطلعوا إليه من الحياة الهانئة، اعترضوا طريقه، ورجموه بالحجارة، وألقَوا عليه الأوساخ، أهمل تصوُّر ردِّ الفعل تمامًا، أسقط التفكير في ردود الأفعال؛ المعارضة والرفض والحساب والانتقام.
ما رتَّب له وأعدَّه، معظم حياته، يشهد انهياره في أيام كالكابوس، لم يتصور العيش بدون موظفين ولا كَتَبة ولا حاشية، بدون هيبة لها صداها في أعين الناس، استقرَّ شعور في داخله كاليقين، بأن النصر ضوء في نهاية المغارة؛ ذلك الشعور تخلَّى عنه في أيامه الأخيرة، حلَّت بدلًا منه مخاوف وهواجس لا تنتهي.
اختلطَت في ذهنه، وتشابكَت، صور معارك ومذابح وعمليات إعدام، وحاجب يهتف: جلالة السلطان! وناسٌ تُلاصِق جباهُهم الأرض، وأصوات أبواق، وصهيل جياد، وصليل سيوف، وصراخ، ونشيج، ورماح متطايرة، وسيوف مغموسة في الدم، وأشلاء، وأعين مفقوءة، وأطراف مبتورة، وأنوف مقطوعة.
ضاقت عليه الأرض بما رحبَت، بدَت كل الطرق مسدودةً أو متداخلة، فلا يدري إلى أين تنتهي. تفرَّق عنه أعوانه، إلا من القِلَّة التي ظلَّت على ولائها، حاصره الشعور بالعزلة والوحدة.
تصوَّر أعداءه في كل مكان؛ في المُدن والقُرى والخلاء، اعتاد الارتياب في التصرفات مهما تتسم بالبراءة، اشتدَّت عليه الدسائس والمؤامرات، فلم تعد لديه طاقة.
تهيَّأَت المختارة للسقوط في أيدي جنود الخليفة، من قبل أن تبدأ جيوش الموفَّق في الاقتراب، ما جرى في داخل المدينة جعل الثورة على صاحب الزنج أملًا وسعيًا لمَن ناصروه في البداية.
عرف أن أبا السعود العماني، قائد جنده، انضمَّ إلى جيش الخليفة، فطن إلى ما يُضمِره المستقبل، ما يغيب في الأفق، وإن ادَّعى لجنده عكس ما في نفسه، قال إنه أيَّد علي بن محمد في خروجه على السلطان، كي يحصل العبيد على حقوقهم، لكن الرجل حول انتصاراتهم إلى مكاسب شخصية.
أحزنه انفضاض أتباعه عنه، فرارهم إلى مُدنهم وقُراهم، أثقله الهم، وإن لم يبُح بما في نفسه، حاول التماسك والملامح الجادة الصارمة، والانتساب إلى الوحي الإلهي، وإصدار الأوامر، ظلَّ إحساسُه قائمًا بأن الجميع خانوه، انفضُّوا من حوله؛ الحاشية والوزراء والأمراء والقادة والوُجَهاء والأعيان وقادة جيوش الزنج والناس الذين ثار لنُصرتهم.
لم تعد الدنيا هي الدنيا، ولا الناس هم الناس. تبدَّل كل شيء بما لم يعهده حتى في أوقات تطلُّعه إلى الخلافة.
تناقل الناس أنه تولَّى السَّلطنة بلا بَيعة ولا استخلاف، وأن الفساد دبَّ في الحكم، والاضمحلال يقرِّب النهاية.
حذَّر الشيخُ عامر عبد الوهاب في خطبة الجمعة بجامع المختارة الكبير من استمرار الفتنة، وتفاقُم العداوات، واتساع الفوضى، وقَطْع السُّبُل، وسَفْك الدماء. أضاف: إن حكم إمامة الزنج قد شاخ قبل الأوان، وإن الناس يرون نهايته رؤيةَ العين.
لم تعد له حيلة، الحصار الذي يعانيه في نفسه، ومن الأوضاع حوله، أصابه بذهول، فهو يوجِّه إلى مَن بقي من قُوَّاده وأتباعه نظراتٍ غير واعية ومتشكِّكة، عاب عليهم أنهم يعلنون الطاعة، ويُخفون غيرها، يُظهرون الولاء والاحترام، ويُعِدُّون لما يهدِّد الإمارة في صميمها.
أغوى الموفَّقُ بأمواله أعدادًا من جنده، هل يُفلح في استمالة أعداد أخرى؟ هل يبيعه جنوده؟ يبلغون عن مكانه؟ يقتلونه؟
هل يطمئنُّ إلى مَن حوله؟
بادر القائد الوليد بن كعب بالسؤال: مَن أنت؟
كتم مشاعره الغاضبة، أومأ لقائده الذي أطلق الخليفة سراحه كي يستكمل ما ينقله له. عرف الموفَّق أن صاحب الزنج صار عاجزًا عن قيادة أعوانه والسيطرة عليهم، تعرَّف — في هزائم المعارك الأولى ضدَّ جيش الزنج — إلى ما كان ينبغي أن يتعرف إليه من أحوال علي بن محمد، وما يُملي عليه تفكيرُه وتصرفاتُه.
هذه لحظة طال تأخُّرها، عليه أن يُمسك بها، لم يكُن يُقدِم على تصرُّف إلا إذا قدَّر الاحتمالات جيدًا: لا تكتفِ بفرار أعدائك، ما داموا أحياءً لا تأمَنْ عودتهم.
وثبَّت نظرته في وجهه، كمَن يريد أن يقرأ ما غمض عنه فهمُه: إذا أردتَ أن تقضيَ على عدوِّك، فاقطع رأسه.
واختلجَت شفتاه: لا قيمة لجسدٍ بلا رأس!
ثم وهو يضغط على حروف الكلمات: لن أهبه الفرصة كي ينال عفوي.
وعد بالعفو عن كل مَن يُسلِّم نفسه دون قتال، أرسل إلى علي بن محمد مَن يبلغه وعد الموفَّق أن يُعامَل كقائد كبير؛ لا تعذيب، ولا تجريس، ولا انتزاع اعترافات — هذا ما يفعله أعوان الصاحب — يلقى الاحترام والتوقير في حراسة الجند حتى يصل إلى بقعة الدم، يعمل المشاعلي عمله، فيفصل الرأس عن العنق، يُوضَع الرأس في طبق من الفِضَّة، يُرفَع بالقرب من عينَي الخليفة، يتأمله، يقضي بدفنه، الجسد يُصلَب على جانب النهر، دولة الخلافة تطبق ما يغيب في فوضى حركة الصاحب.
أردف الموفَّق وعده بأقوال نشرها بين الناس أن علي بن محمد يُحدِث البِدَع، وينشر العقائد التي لا تتفق مع شريعة الإسلام.
لفَّه شعور بالدُّوار، ربما لكثرة ما فقده من الدم، نالت الطعنات مواضعَ كثيرةً في جسده، حاول أن يتمالك نفسه، يظلَّ مُمسكًا بسيفه، لا يُخلِّيه حتى يموت أو تزول الغُمَّة، تجمَّد تفكيرُه، فلا يشغله تصوُّرُ ماذا ستصير إليه النهاية؟ هل تقتله قذفة رمح، أو يُذبح ويُسلخ كما الشَّاة، أو يخضع لتعذيب حتى يُسلم أنفاسه، أو يُقتل ويُصلب على شاطئ النهر؟ هل يبلُغ الانتقامُ زوجه وأبناءه؟ هل يواجهون ما لا يقوى على تصوُّره؟
أدرك قدره.
إذا كان قد اختار البداية، فإن النهاية قد لا تكون من اختياره، هي — كما يرى — ليست كذلك، كل ما كان يحلم به يذوي، يتلاشى، كل ما رسمه الخيال امتصَّته الأحداث فبدَّلَته، حوَّلَته تمامًا، غابت الصور القديمة؛ المُلك والقصور والجيوش والضِّياع والخدم والعبيد والأعوان، ما يتمنَّاه أن يعود كل شيء إلى نقطة البداية، يعرف أن ما تجسَّد في أحلامه سيظلُّ حُلمًا.
هل يعيد الزمن دورته؛ يضعون آلَ بيته في السجن، كما حدث في البصرة في بدايات الثورة، سِجن ابنه الكبير [أين هو الآن؟] وزوجته وابنتَيه؟
في مغادرته الأخيرة لدار جعلها لأُسرته، بعيدًا عن المختارة، لاحظ الأسى في عينَي زوجته، زاد من تأثيره صفاء سوادهما.
قال لمجرَّد طمأنتها: أعِدُك بألَّا أتأخر.
رنَت إليه بنظرة دامعة: وعد أم أمنية؟
وهو يغالب ارتباكه: ماذا تقصدين؟
– مَن يدخل المعارك بإرادته، تُملي عليه المعارك إرادتها.
غاب الهاتف في داخله، يأمر وينهى، ويمنح، ويقضي في أمور الكافة.
هل انتهى الأمر؟ الرؤى النورانية والخلافة والتدبيرات والمعارك ومدينة الحُلم، انتهى ذلك كله إلى لا شيء؟
الفيوض أغاثته مما كان يتهدَّده، أرَته ما لم يكُن يراه ولا يراه الناس، قادته إلى حيث المكانة الأعلى … لماذا لا تُغيثه فيما يعانيه؟ هل كانت تصوُّراتٍ أملاها الخيال؟
مضى ناحية الجنود الواقفين في انتظاره.
حنث غالبية جنوده بأيمانهم، تخاذلوا عن نُصرته، قلَّت الجنود، وانحلَّت السَّلطنة، وتلاشت الأحوال، ونقصَت الأموال حتى لم يعد في بيت المال ما يدفعه، فأغلق أبوابه.
لماذا قام بثورته؟ لماذا انتصر؟ لماذا انهزم؟
دعوته إلى الثورة لم تكُن — كما واجهه الوُجَهاء والعوام — لصالحه الشخصي، وليس لصالح الزنج والعبيد، لم تكُن لانتزاع حكم الخلافة.
ثمة خطأ ما، شيء يصعُب فهمُه أو إدراكُه، لا يستطيع أن يأمر الناس فيستجيبوا، يقضي فيطيعون، لا يجاهرون بمساءلة ولا اعتراض، يقضي بما ترضاه نفسُه، فلا يمتنع عليه شيء، سُلطة تعلو فوق كل إنسان وكل شيء، لا يتصور أنه يعيش بدونها، أَلِف عبارات التوقير والاحترام والتذلُّل، لم يعد حتى الناس العاديون يرون فيه الرجل القوي الذي لا تُردُّ كلمته، لم يعد يثير في النفوس ما كانت تعانيه من الخوف، خذله في أثناء المعارك أمراؤه ووزراؤه وقادته، لم يحاولوا إنقاذه، عجزًا أو خوفًا.
ظلَّ صامتًا، لم يسأل، ولا ناقش الأمر، رسالة الموفَّق آخر ما تلقَّاه من جهة الخلافة، هو الآن بين احتمالَين؛ إما أن يواصل قيادة جيوشه، لا توقفه هزائم ولا انكسارات، أو أن يراجع الأمر من أوله.
أخذه كسوف الشمس على شاطئ البصرة، احتواه بالظُّلمة، تلفَّت حوله فلم يرَ شيئًا، لا يذكر إن كان قد صحَا من نفسه أم لكزَته زوجته، القصر المُحاط بالحرَّاس الشخصيين، يهَبُ الطمأنينة أكثر من العيش وسط الجنود، لكن شعورًا بالأسى، أو يشبهه، ظلَّ في نفسه، يسيطر عليه تمامًا، لم يُفلح في التخلُّص منه، كأن ما جرى قد عاشه بالفعل. عوَّدَته الرؤى فيوض النورانية وتوقعات الخير، أدرك أن ما يداريه عن نفسه آتٍ، وأن النهاية ماثلة في قلب الظُّلمة.
كل ما كان يرنو إليه يتساقط أمامه، يموت، لا شيء في ساحات المعارك إلا القتلى والأشلاء والجياد النافقة والدماء، لم يعد لديه ما يحارب من أجله، سكنَت مشاعرُه تمامًا، تبلَّدَت، لا خوف، ولا رغبة في النجاة، أو حتى المقاتلة.
إذا كان الموت هو الحتم، إذا لم يكُن من سبيلٍ للهرب، فإن مواجهة الموت يتساوى أمامها الشجاعة والخوف، لينفضَ الخوف من نفسه إذَن، وليحاول الشجاعة.
أحكم جندُ الخليفة حصاره، فلا يقوى على الفرار، أو قبول عرض الموفَّق بالأمان والعفو.
الموت حتم، لا عبرة بالوسيلة التي يأتي بها، لماذا لا يموت مِيتةَ فارس؟ لماذا تُوضَع في يديه وقدميه القيود؟ لماذا يُعامَل كعبد؟ لماذا لا يموت منتصبًا، كما مات عنترة فوق جواده؟ تولِّيه الخلافة يُملي الفعل الصواب، وما يترك في النفوس ذكرى طيبة، الشجاعة ضرورة في خوض المعارك، وهي ضرورة في مواجهة الموت.
ليكُن ما يكون.
فليقتله الخوف في داخله، لكن عينيه يجب أن تعكسا الهدوء والطمأنينة.
هذه هي النهاية، عليه أن يتقبل أحوالها.
كتب عبادة المخزومي في أوراقه
استمرَّت ثورة صاحب الزنج أربعة عشر عامًا وأربعة أشهر، ثم قضَت عليها الدولة العباسية.
تولَّى أبو أحمد الموفَّق أمر الجيش، هو بداية انحسار المدِّ الزنجي، قدوم القائد الأسود، لؤلؤ، على رأس قُوَّاته المؤلَّفة من جُندٍ سُود، نهاية ثورة سوداء، انتهَت رحلة الانتصارات المتوالية، جاءت الهزائم، وأسفر الأفق عن عودة إشراقة شمس الخلافة.
تكرَّرَت سيرة العباسيين بعد القضاء على الثورة، عادوا إلى اكتناز الأموال والسرقة والظلم.
تحدَّث الناس عن ثورة جديدة، حركة جديدة تلوح في الأفق؛ هل يفيد رجال الخليفة مما مضى، فلا تفاجئهم ثورةٌ أخرى؟
طالبوا أن يُعاد فتح ما طُوِي من صفحات؛ لماذا ظهر صاحب الزنج، ولماذا اختفى؟