مقدمة
هذه لحظاتٌ أدبيَّةٌ، قضيتُها أيام الشباب بين أدباء الغرب وقرَّاء الشرق، وكنتُ أجدُ فيها من رضى العقل ونعمة البال وراحة الضمير شيئًا كثيرًا، فقد كنتُ أحسُّ حين اقرأ هذه الآثار الأدبية، وحين أعرضها على قراء العربية أني أنهض بواجب خطير، هو تحقيق الصلة العقلية بين الشرق والغرب، وكنت أنتظر للنهوض بهذا الواجب الخطير نتائج ليست أقل منه خطرًا.
كنت أنتظر إذا قُرِئَتْ هذه الفصول، وفُهِمَتْ على وجهها أنْ تُقرِّب الآمادَ بين الشرق والغرب، وأنْ يكون ذلك وسيلة من الوسائل إلى تحقيق المودة والتعاون بين طائفتين من الشعوب، أفسدت أمرَهما الخصومات التي كان الشرق فيها مظلومًا، وكان الغرب فيها ظالمًا.
وكنت أقضي هذه اللحظات الأدبية الحلوة في تلك الأيام السياسية المرة، التي بلغ الصراع فيها أشده بيننا وبين الأوروبيين في أعقاب ثورتنا الوطنية الأخيرة، فكنت أستعين بحلاوة الأدب على مرارة السياسة، وكنت أسلك طريق التقريب بين العقول، على حين كانت السياسة تفرق بين العواطف والقلوب.
وكنت أقضي هذه اللحظات الأدبية الممتعة في تلك الأيام السياسية الممضَّة التي بلغتْ فيها الخصومة بين المصريين أنفسهم أقصاها، فتنكَّر بعضهم لبعض، وأضمر بعضهم لبعض كثيرًا من الحقد والبغض والعداء.
وكنت أعتقد — ولم أكن مخطئًا — أنَّ هذه اللحظات الأدبية ستنتج فصولًا، لا تمس السياسة من قريب ولا من بعيد، وسيقرأ المصريون مهما تكن أحزابهم، وسيلتقون في الرضا عنها أو السخط عليها، وسيتحدث بعضهم إلى بعض بتقريظها أو الغض منها، وستكون وسيلة من وسائل المودة بين قوم لا ينبغي أنْ يكون بينهم شيء آخر إلا المودة.
وكنت — ولا أزال — شديد الإيمان بأن الأدب الحيَّ لا يستطيع العزلة، وإنما هو مضطر إلى أنْ يتصل بالآداب الحية الأخرى، وسبيله إلى ذلك النقل والترجمة والتلخيص والتعريف بالأدباء من الأجانب.
وكنت أسلك إلى هذا الطريقَ التي سلكها العرب في عصورهم القديمة، وسلكها المصريون في تاريخهم الحديث، وكنت مطمئنًا إلى أنَّ سلوك هذه الطريق سيزيد أدبنا العربي قوة إلى قوة، ويمنحه حياة إلى حياة، وسيمنح لغتنا العربية حظًّا من المرونة، فيمكِّنها من أنْ تؤدِّيَ معانيَ وأغراضًا لم تتعوَّدْ أنْ تؤدِّيَها من قبلُ.
وكنت — ولا أزال — مؤمنًا بأن الأدب الحيَّ لا ينبغي أنْ يتهالك على الآداب الأجنبية، ينقل منها ويترجم عنها، ذلك أحرى أنْ يُفْنِيَهُ فيها ويُفقده هذه الحياة القوية التي تأتيه من شخصيته الخالدة وأصوله القديمة، فليس له بد من أنْ يوازن بين قوته التي تأتيه من نفسه، وهذه القوة الطارئة التي تأتيه من غيره، وكنت — من أجل ذلك — أنشر هذه الفصول في أيام الآحاد، وأنشر فصولًا عن الأدب العربي القديم في أيام الإربعاء، أوازن بذلك بين إحياء الأدب القديم وإغنائه بما أقدم إليه من مادة الأدب الأوروبي الحديث، ويخيل إليَّ أنَّ شيئًا من التوفيق قد كتب لي في هذه الخطوات، التي خطوتها في تلك الأعوام الحلوة المرة، التي أذكرها الآن في كثير من الحب والحنان، وفي كثير من الرضى والفخر؛ لأنها كانت أعوام النهضة المصرية الصحيحة؛ ولأنها كانت أعوام الحرية المصرية الصادقة التي لم تكن تحفل إلا بالحق والمنفعة العامة.
ويخيل إليَّ أنَّ الجيل الذي كتبت له هذه الفصول منذ أكثر من خمس عشرة سنة، قد انتفع بها واستفاد منها، سواء في ذلك من تلقاها راضيًا، ومن قرأها راغبًا عنها ساخطًا عليها، وهي — على كل حال — قد دفعت ذلك الشباب إلى الأدب الغربي، وإلى فن التمثيل منه خاصة، ولولا أحداث السياسة وخطوبها والنكبات التي ألمت بالعقل المصري حين طغى الطغاة وبغى البغاة، وصُدَّ المصريون عن حقهم في الحرية والدستور، لكان لتلك النهضة وما أنتجت من الآثار الأدبية نتائج أقوم من النتائج التي وصلنا إليها.
ومهما يكن من شيء، فقد أدت هذه الفصول حينئذ ما كان ينتظر منها، فنفعت جيلًا من القرَّاء المصريين والشرقيين بوجه عام، ثم انطوت عليها الصحف التي نُشِرت فيها، فنامت بين هذه الآثار التي تُكتب في كل يوم، وتُطوى عليها الصحف، وتطمئن في دور الكتب مصادر للتاريخ.
وقد مضى الآن دهر على هذه الفصول حتى نسيها الجيل الذي قرأها، ولم يعرفها الجيل الناشئ من الشباب، فلنوقظها من نومها، ونخرجها من دور الكتب، ولنقدمها إلى هذين الجيلين.
فأما أحدهما فيسقرؤها، فيذكر أيامًا حلوة وعهدًا سعيدًا، وأما الآخر فسيقرؤها، ومن يدري لعلها أنْ تُحْدِث في نفسه من الآثار أكثر مما أحدثت في نفس الجيل الماضي، فإذا هو مقبل على الأدب العربي يقويه وينميه، وينتج فيه أكثر مما أنتجنا وخيرًا مما أنتجنا.
وقد أقبل القيظ بما فيه من دعاء إلى الراحة، وترغيب في القراءة التي لا تشق على القارئ، وقد طالت الحرب وتعقدت خطوبها، وتتابعت أهوالها، واحتاج الناس من أجل هذا كله إلى ما يشغلون به أنفسهم عن هذه الآلام التي لا تنقضي، فأقل ما في هذه الفصول: أنها ستلهي القرَّاء عن أنفسهم ساعات من نهار أو ساعات من ليل.