الإغراء بالرحيل
لست أدري أتعجبك هذه القصة! ولكني أعلم أنها قد أعجبتني، وربما كان لفظ الإعجاب دون ما أريد أنْ أقول، أعلم أني فتنت بها، فقرأتها مرتين، وقلما أقرأ القصة مرتين، أعجبتني هذه القصة، وأنا مع ذلك أشك في أنها ستعجبك، إني لم أعودك تحليل قصص تشبهها، وإنما عودتك ضربًا آخر من القصص، ليس بينه وبينها شبه قليل ولا كثير، ولم أتعمد ذلك تعمدًا، وإنما اضطررت إليه اضطرارًا، فلست أعرف فيما قرأت من القصص التمثيلية على كثرته قصة تشبهها أو تقاربها، وما كنت لأخترع هذه القصص اختراعًا، ولقد كنت أتشوق إلى هذا النحو من القصص التمثيلية، ولكني لا أجد إليه سبيلًا، حتى وصلت هذه القصة في آخر أعداد «الألستراسيون» فقرأتها، وقرأتها مرتاحًا إليها مشغوفًا بها، كما يرتاح الإنسان إلى شيء تمناه وظفر به بعد طول التمني وشدة الرجاء.
على أني بينما كنت أقرأ هذه القصة تذكرت قصة أخرى، حدثتك عنها في السنة الماضية، ولم أتذكرها إلا لأن هناك شيئًا حملني على أنْ أذكرها إلا لأن هناك شبهًا قليلًا بين القصتين، وتذكرت قصة «الحب» للكاتب الفرنسي «بول جيرالدي»، ولكني لم أكد أمعن في الموازنة بين القصتين، حتى وجدت الشبه قليلًا مسرفًا في الضآلة، ففي قصة «الحب» رقة، وفيها رفق، وفيها ثقة متصلة بين الزوجين، ولكن القصة التي نحن بإزائها اليوم ليست إلا رقة ورفقًا وثقة، لا يكاد بل لا يظهر فيها عنف ولا غلظة، ولا يكاد يبدو فيها الشك، في قصة «الحب» رقة ورفق، ولكن فيها عنفًا شديدًا، فيها جهاد بين العواطف، وفيها اصطدام بين الشهوات، وفيها حرب قوية عسيرة بين رجلين، أما هذه القصة التي نحن بإزائها فلا تكاد ترى فيها شيئًا من هذا، أو قل: إنك ترى فيها هذا كله ولكن من بُعْد، لا تراه بل تلمحه، لا تحسه بل تتخيله تخيلًا، ولعلك تفرضه فرضًا في بعض المواضع، أتشعر الآن بما تمتاز به هذه القصة؟ أتشعر الآن بالسبب الذي يحملني على أنْ أشك في أنَّ هذه سترضيك؟ أشك في ذلك؛ لأن هذه القصة عسيرة صعبة، فيها دقة ليست بعدها دقة، أو هي كلها دقة، فأنت في حاجة حين تقرؤها إلى أنْ تكون فارغ البال، شديد الالتفات إلى الدقائق، حريصًا على أنْ تقرأ بين السطور، وعلى أنْ تفهم من اللفظ أكثر من معناه أحيانًا، وأقل من معناه أحيانًا أخرى.
هذه القصة تمثل الظرف والتأنق في الفن وربما دل لفظ «الظرف» و«التأنق» على شيء أكثر مما أريد، فتصور رجلًا تحضر وأمعن في الحضارة حتى انتهى إلى أقصى ما يمكن أنْ ينتهي إليه من رقة ولين وظرف، كذلك الأمر في هذه القصة، نشعر بأن الفن قد رق فيها ولطف وأسرف في اللطف حتى انتهى إلى أقصى ما يمكن أنْ ينتهي إليه، فالرمز والإيماء فيها أكثر من التصريح، بل لا يكاد التصريح يوجد فيها، ومن هنا قال بعض النقاد: إنَّ هذه القصة لا تصلح للتمثيل، وإنما تصلح للقراءة، لا تصلح للتمثيل؛ لأنها أرق وأدق من أنْ تمثل، وهي أرق وأدق من أنْ تفطن لها جماهير النظارة، وأرى أنا أنها إذا كانت لا تصلح للتمثيل فهي لا تصلح لأن يقرأها الناس جميعًا، وإنما يتاح فهمها وذوقها بنوع خاص لطائفة من المترفين في الفن، ومن هنا تفهم أيضًا قول بعض النقاد: إنَّ الكاتب تجاوز في قصته هذه التمثيل إلى الشعر والموسيقى، فهو لا يتحدث إليه بلغة الملعب، وإنما يتحدث إليك بلغة الشعر والموسيقى، وبلغتهما حين يناغيان النفس ويهمان إلى الضمير، هي على هذا كله قد أعجبت الناس، فنالت فوزًا عظيمًا في باريس، وكاد يجمع النقاد على الثناء عليها، وليس هذا يدل على شيء أقل من رقي الأذواق ورقة العواطف في تلك المدينة، التي يزهو فيها هذا الفن الأدبيُّ على اختلاف ألوانه وضروبه.
•••
نحن في إقليم من أقاليم فرنسا في «الفوج»، يمثل لنا المسرح حجرة تكاد مستديرة ساذجة الأثاث، ولكن نوافذها كثيرة جدًّا، تكاد تشغل كل جدرانها، ومهما تنظر فلن تقع عينك وراء زجاج النوافذ إلا على غابة ضخمة بعيدة المدى يقصر دونها الطرف، أما الغرفة ففيها مكتب، وفيها البيانو، وفيها مائدة صغيرة، وقد نسقت الأزهار على البيانو والمائدة، أما المكتب فقد كثرت عليه الأوراق المختلفة، وفي ناحية من نواحي الحجرة موقد أمامه كراسي ثلاثة، وقد جلست إلى البيانو امرأة في الخامسة والعشرين من عمرها، هي «ماري لويز» بنت «لاندرو» صاحب هذا البيت وهذه الغابة وهذا المصنع الذي يلمح على بعد، وزوج «أوليڨييه» الذي شارك أباها في الإشراف على هذا المصنع وفي تدبير هذه الثروة الضخمة، جلست إلى البيانو وهي تلعب قطعة موسيقية معروفة، وتلعبها متأثرة تأثرًا شديدًا، ثم يضعف اللعب قليلًا قليلًا حتى كأن النغم يموت تحت أصابعها، وقد انقطعت عن اللعب وظلت في مكانها مفكرة كأنها في حلم، وإذا الساعة تدق السادسة، وإذا صفير يسمع على بعد من المصنع مؤذنًا بانصراف العمال، وهي في مكانها مفكرة مغرقة في التفكير، ثم يسمع صوت رجلين يتحدثان، ويرى هذان الرجلان يمران خارج الغرفة كأنهما مقبلان إليها، هذان الرجلان الشيخان هما «لاندرو» صاحب البيت، وصديق له من أصحاب المصانع الكبرى في شمال فرنسا، أقبلا ودخلا الحجرة، وصاحب البيت يظهر صديقه على كل شيء في البيت وفي المصنع وحول البيت والمصنع، وهو بهذا كله فخور معجب، يذكر الأشياء يضيفها إلى نفسه، فيقول: بيتي ومصنعي وحديقتي وغابتي، حتى يصل إلى ابنته فيقول: ابنتي، ويصفها وصف المعجب بها، يقدمها إلى صاحبه فينحني أمامها الشيخ انحناء الإجلال، أما هي فتلقى الرجلين لقاء لا يخلو من أدب، ولكن فيه فتورًا ظاهرًا، وتقبل أختها «جاكلين» فيقدمها أبوها إلى صاحبه على نحو ما قدم أختها، ثم ينصرف الرجلان إلى حيث يتناولان شيئًا من النبيذ قبل أنْ ينصرف الضيف، وتبقى الأختان، وقد فهمنا من حديث القوم أنَّ في البيت ضيفًا آخر شابًّا حسن الطلعة جميلًا غنيًّا، أبوه من كبار التجار في باريس، قد اتصلت المعاملة بينه وبين أصحاب هذا المصنع، وقد أرسل ابنه فيليب ليقيم أشهرًا عند هؤلاء الناس يختلف فيها إلى المصنع ليفهم عمله، وكذلك تعود هذا الرجل أنْ يرسل ابنه في جميع المصانع التي يعاملها، حتى إذا آلت إليه تجارة أبيه كان متقنًا لعمله حسن الفهم لمعامليه.
ولا تكاد الأختان تتحدثان حتى تشعر بأن بينهما فرقًا عظيمًا جدًّا، أما الكبرى فضيقة الصدر بكل شيء، ضيقة الصدر بما ترى، ضيقة الصدر بما تسمع، ضيقة الصدر بما يحس، لا تكاد تسمعها حتى تفهم أنها سجينة تريد أنْ تخلص من سجنها، وقد يئست من الخلاص فهي مستسلمة للحياة في سأم وضجر، وهي لا تذكر أباها دون أنْ يظهر عليها هذا السأم، أليس أبوها قد ذكرها لصاحبه منذ حين بنفس الطريقة التي ذكر بها البيت والمصنع والحديقة، ثم هي تنظر من النافذة فلا ترى إلا شجرًا، فإذا أبعدت طرفها لم ترَ إلا شجرًا، فإذا أدارته لم ترَ إلا شجرًا، فهي تسأم هذا الشجر كما تسأم البيت، وكما تسأم عشرة من فيه، فإذا ذكرت أختها لها زوجها ذكرته في رقة ولين، وشعرت أنها تحبه حبًّا شديدًا وأنه يحبها حبًّا جمًّا، وأما أختها الفتاة فراضية مطمئنة مبتهجة بالحياة، تعطف على أبيها عطفًا شديدًا، وتبر به وبأمها برًّا عظيمًا، وقد أقبلت تدعو أختها للعب الكرة؛ لأن «فيليب» ينتظرهما في ميدان اللعب، فترفض أختها ضجرة متبرمة، وتسخر من فيليب ومن جماله ومن ظرفه، وتقول: إنها لا ترى في هذا البيت إلا قومًا يصنعون الحديد، ويعكفون على صناعته، فأبوها وزوجها منكبان على صناعة المسامير، وهذا الزائر الذي مر منذ حين عاكف على صناعة كصناعة المسامير، وهذا الشاب فيليب أقبل ليرى كيف تصنع المسامير، وسيعود إلى باريس ليبيع المسامير، وكل شيء في حركاته يذكِّر بالمسامير، فهو إذا أراد أنْ يقذف بالكرة مثل رجل يدق ليصنع المسمار، وهو إذا أنشد الشعر كان صوته وإنشاده كهذا الصوت الذي تسمعه لأداة من أدوات المصانع، وهي ضيقة الصدر بهذا كله، على أنها لا تنكر أنَّ في هذا الشاب رقة وأدبًا وظرفًا، فقد ذهب إلى المدينة منذ أيام وعاد يحمل إليها وإلى أختها هدايا، أهدى إليها مروحة لا تمثل حسن الذوق الفني، ولكنه فكر في أنْ يهدي إليها مروحة، وأهدى إليها كتابًا هو ديوان «بودلير»، وفي الحق أنها لا تحب «بودلير» ولا تفهمه؛ لأن فيه غموضًا وتعمقًا وتعقيدًا، وإنما تؤثر عليه شاعرًا آخر هو «شينيه» غير أنها تعترف بأن هذا الشاب لم يكن يستطيع أنْ يعلم ذلك من نفسه، فيكفي أنه فكر في أنْ يقدم إليها كتابًا، والغريب من أمر هذا الشاب أنه متى انتهى العشاء أقبل مع زوجها إلى هذه الحجرة، فجلسوا جميعًا إلى المواقد وطالت بهم الجلسة، والرجلان يتحدثان ويمزحان حتى يأخذها هي النوم فتستأذن وتنصرف، ولا يفكر زوجها في أنْ يختصر هذه السهرة، وهي كانت تستطيع أنْ تلوم زوجها، ولكن أليس يحسن ألا تفعل والشاب مسافر بعد يومين.
هذا حديث الأختين تشعر منه بسأم «ماري لويز» وضيق صدرها حتى بهذا الشاب الجميل، بل بهذا الشاب الجميل بنوع خاص، ويدخل زوجها فتلقاه لقاء العاشقة الكلفة، ولكن عندما يريد الانصراف ينبئها بأن «فيليب» قد تسلم كتابًا من أبيه، وبأنه مسافر إلى أمريكا الجنوبية، إلى بلاد الأرجنتين، ولا تكاد «ماري لويز» تسمع هذا حتى يظهر عليها الدهش، بل شيء آخر أكبر من الدهش، شيء يشبه الذهول، ثم ينصرف زوجها، وتقبل هي إلى النافذة، ثم تلتفت فإذا شعاع الشمس يضطرب أمامها اضطرابًا شديدًا يكاد يأخذ بصرها، فإذا سألت أختها عن ذلك أنبأتها أنَّ فيليب قد وقف خارج الغرفة، وفي إحدى يديه مرآة، وفي الأخرى أداة لعب الكرة، وهو يشير إليهما بهذه الأداة أمام المرآة، فتغضب «ماري لويز» وتصيح به تأمره أنْ يكف، فإذا مضى في عبثه مضت في صياحها تزجره زجرًا، وأختها تدعوها إلى أنْ تترك مكانها لتلقى شعاع الشمس، ولكنها لا تحفل بأختها، وإنما تمضي في زجر الشاب وتوبيخه كأنها تجد في ذلك لذة، ويسدل الستار ثم يرفع بعد حين، وقد مضت ستة أسابيع على سفر فيليب، ونحن نرى ماري لويز جالسة في الغرفة نفسها مغرقة في القراءة، حتى إنَّ زوجها يدخل فلا تحسه، فإذا كلمها نهضت مذعورة، فإذا سألها فيم تقرأ أجابته في ديوان «بودلير»، فيلاحظ زوجها أنَّ ذوقها سريع التغير، ألم تكن تكره «بودلير» فهي الآن تحبه، ثم يتحدثان، فتفهم أنَّ فيليب قد سافر ولم يرسل إليهما كتابًا ولا شبه كتاب، وذلك شيء يخالف الذوق، على أنَّ بطاقة قد وصلت اليوم تنبئ بأنه في طريقه إلى «الأرجنتين»، وهما يتحدثان عن هذا السفر، ويصلان إلى شيء من الفلسفة في السفر، وما يترك من ألم في نفس المقيم مهما تكن الصلة بينه وبين المسافر، وتأتي «جاكلين» فيتحدثون في أمر هذا الفتى أيضًا، وتظهر «جاكلين» صورة من صوره الفوتوغرافية فينظرون فيها جميعًا، أما «جاكلين» وأوليڨييه فيريان أنها صادقة مقاربة، وأما ماري لويز فتنكر ذلك إنكارًا شديدًا، وتلح في إنكارها، وتشدد الخصومة بينها وبينهما في ذلك، وتفهم من هذه الخصومة شيئين: الأول أنَّ شخص فيليب قد اتخذ في نفس «ماري لويز» صورة غير صورته الحقيقية، صورة تقرب من المثل الأعلى؛ ولذلك تنكر الصورة الفوتوغرافية التي تمثل شخصه الحقيقي، الثاني أنها تستبقيه في حجرتها، فتحتفظ بالحجرة كما كانت يوم تركها، فما زالت الكراسي الثلاثة على وضعها أمام الموقد، وما زالت المروحة وديوان «بودلير» في مكانهما، فإذا انصرف أوليڨييه، وبقيت الأختان حاولت الفتاة أنْ تغني عابثة إحدى أغاني الجند وفيها ذكر الأرجنتين، فتغضب أختها غضبًا شديدًا وتزجرها، وتنصرف مغضبة، وقد فهمنا أنَّ سفر فيليب قد غير في نفس ماري لويز كل شيء، وأنَّ سخطها عليه وتبرمها به في أول الفصل لم يكونا إلا مظهرًا من مظاهر الحب.
•••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضى عام ونصف عام على ما قدمت، ولكن الحجرة على حالها لم يتغير فيها شيء، وقد جلس أوليڨييه إلى مكتبه، وجلست «ماري لويز» إلى عمل يدوي قد عكفت عليه، وكأنها مغرقة في التفكير، وقد سألها زوجها ماذا تصنع، فلم تجب؛ لأنها لم تسمعه، ثم مضى حين فسألت زوجها وكأنها لا تفكر فيما تقول: ماذا يصنع؟ فيجيبها أنه يرتب أوراقه، ولكنها لم تفكر في سؤالها، ولم تنتظر له جوابًا، فهي لم تسمع زوجها حين كان يكلمها، فإذا فرغ زوجها من عمله أقبل إليها يحدثها في لطف ورفق، ولكنها تجيبه في ضعف وإعياء، وكأنها قد أقبلت من مكان بعيد، وقد ظهرت عليها آثار السأم والتعب، كأن قوى خفية عملت في نفسها منذ حين طويل، فصرفتها عن كل شيء، وزهدتها في كل شيء؛ فكأنها تحيا لأنها لا تستطيع أنْ تموت، وزوجها يرى ذلك ويشعر به، ويحاول أنْ يتبين أسبابه، ولكنه لا يجد إلى ذلك سبيلًا، هو رفيق، رقيق العاطفة، شديد الإيمان بزوجه وشرفها، فهو لا يتهمها بشيء بل لا يفرض شيئًا، وهو في الوقت نفسه لا يريد أنْ يسألها مخافة أنْ يثقل عليها أو يؤذيها، ولكنه اليوم يشعر بأنها قد انتهى بها الضعف إلى حد بعيد، ويشعر مع ذلك بأنها مطمئنة إليه واثقة به، فهو يناجيها مناجاة المحب العطوف، وهو يجرؤ فيسألها: ما بالها محزونة؟ ما بالها شقية؟ فتنكر أنْ تكون محزونة أو شقية، ولكن إنكارها نفسه يدل على أنَّ حظها من الحزن والشقاء عظيم، فهي لا تكاد تسمع زوجها، وهي لا تكاد تجيب؛ لأنها لا تفهم ما يقول، ولكنه قد ألح عليها، فجمعت قواها واجتهدت في إقناعه بأنها سعيدة راضية.
أما هو فيريد أنْ يصدقها، ولكنه لا يستطيع، وهو يسألها: أليس قد خاب أملها فيه؟ ألم تكن تنتظر منه غير ما تجد؟ فتلح عليه أنْ يترك هذا الكلام وألا يسرف في مثل هذا السخف، ويذكر هو أنها تغيرت تغيرًا شديدًا، لقد تزوجها طفلة وكانت سعيدة، فظلت طفلة لا تفكر في شيء، ولا تحفل بشيء إلا بالحياة وابتساماتها، أما الآن فقد تغير هذا كله، فإذا هي كئيبة، كاسفة البال، منصرفة عن الحياة ولذاتها، ما أشد حاجتي إلى أنْ أعرف ما يضطرب في هذا الرأس، إني أريد أنْ أجعلك سعيدة ناعمة البال، أريد أنْ أقدم إليك أشياء كثيرة: ثيابًا، فتجيبه في ذهول: نعم! حُليًّا، فتجيبه في ذهول: نعم! سيارة، فتجيبه في ذهول: نعم! ويعرض عليها أشياء كثيرة متباينة، ويعرض عليها الكتب والحفلات والسياحة وزيارة الملاعب في باريس، فتجيبه على هذا كله في ذهول: نعم! لأنها تفكر في غير ما يقول لها زوجها، ولا تسمع إلا لهجة الاستفهام، وينتهي به الأمر إلى أنْ يشعر بهذا فيقول: ولكنك معنية بغير هذا كله، وينتقل الحديث إلى شيء آخر، فأخته قد أقبلت في زيارة، وستمكث أيامًا وهو يطلب إلى زوجه أنْ تتلطف لها، وأنْ تقضي معها مساء اليوم، فتضيق بذلك ثم تستسلم! نعم! سأقضي معها مساء اليوم كما قضيت معها مساء أمس، وكما سأقضي معها مساء غد، فلا يزيده هذا إلا حزنًا وألمًا، وقد ذهبت هي إلى النافذة، فنظرت منها كأنها سجينة تريد أنْ تفر، ولكنها لا تجد أمامها إلا شجرًا وشجرًا وشجرًا، فليس لها مفر من هذا السجن، وهي تنظر من النافذة إذ يقبل ابنها الطفل، وهو في التاسعة من عمره، فترتاع لرؤيته؛ لأنها لم تكن تنتظر أنْ تراه، ثم تتخذه تعلة، فتعتذر إلى زوجها من الذهاب إلى أخته، وتضرع إليه في أنْ يتركها مع ابنها فيفعل كارهًا.
أي بنيتي، أي أختي، فكري في اللذة التي نجدها حين نذهب هناك؛ لنعيش معًا، حين نفرغ للحب حين نحب، ونموت في البلاد التي تشبهك.
وهي تلعب وتغني هذا الشعر، وقد دخل زوجها ولم تشعر به، فإذا أهاب بها نهضت مذعورة وقد أقفلت البيانو، فيسألها: ماذا تصنع؟ فتجيبه مضطربة: كنت أعين الطفل على الدرس ثم يهم أنْ يسألها، ولكنها تنصرف مذعورة مضطربة، فيحاول أنْ يسألها، ولكن جرسًا يدق هو جرس العشاء، وقد جمعت قواها، وأخذت تدفع زوجها أمامها هلم إلى العشاء، كما تعشينا أمس وكما سنتعشى غدًا.
•••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت دون هذا ثمانية أشهر، ونحن في ديسمبر والحجرة على حالها لم يتغير فيها شيء، فما زالت الكراسي أمام الموقد، وما زالت المروحة وديوان «بودلير» على المائدة، وقد أقبلت «ماري لويز» وأختها «جاكلين» فدخلتا تريدان الخلوة والتحدث بمعزل من الأسرة؛ ذلك أنَّ جاكلين قد تزوجت منذ حين، وأقبلت تزور أسرتها، وقد أرادت أنْ تخلو إلى أختها حينًا؛ لأنها تريد أنْ تحدثها بأمر ذي بال، وأختها تتعجلها وتلح عليها، فتنبئها بأنها رأت فيليب، فلا تكاد ماري لويز تسمع هذا الاسم حتى تضطرب له اضطرابًا عظيمًا، فتسأل أختها: ماذا تقولين؟ تجيبها دهشة إنها تفهم ما تقول، وهو أنها رأت فيليب، رأته في مدينة «أبينال» التي تقيم فيها، رأته خارجًا من دار البريد فدهشت، وكانت معها صديقة تماشيها، فسألتها: أتعرفينه؟ وكان قد مضى ولم يرها فلم يتكلما، تسمع «ماري لويز» فلا تزداد إلا اضطرابًا، وكأن حياتها كلها قد انقلبت رأسًا على عقب، فهي تسأل نفسها حائرة ماذا أصنع؟ أما أختها فلا تزداد إلا دهشًا، فهي كانت تظن أنَّ ماري لويز تعنى عناية خاصة بفيليب؛ لأنه ترك في نفسها أثرًا قويًّا، ولكنها لم تكن تفرض أنَّ الأمر قد تجاوز هذه العناية إلى الحب، وهي حين كانت تدهش لهذا الحب كانت بعيدة كل البعد عن أنْ تقدر الأمر قدره؛ لأن الأمر لم يكن حبًّا، وإنما كان شيئًا فوق الحب، كان جنونًا واضطرابًا عصبيًّا عظيمًا، فلم تكد «ماري لويز» تشعر بأن فيليب في «أبينال» حتى دار رأسها، وأخذت تفكر في سرعة مدهشة، ففرضت أنه لم يأتِ إلي «أبينال» إلا لأجلها، وأنه مع ذلك تعمد ألا يزورها، وتعمد ألا ينبئها بشيء من نبئه، وهو مع هذا كله ينتظرها في «أبينال» ويريد أنْ تسعى إليه، وكيف يريدك على هذا السعي وهو لم ينبئك بمكانه؟
– وأي شيء يخفي في حياة الأقاليم! فهو يقدر أني أعلم مكانه في أبينال!
– ولم لم ينبئك؟
– لأنه يريد أنْ يمتحنني.
– ولم يريد أنْ يمتحنك وهو لم يعلن إليك حبًّا، ولم يتحدث إليك في غرام؟
– أنت لا تفهمين هذا، فهو يحبني ويحبني، وأنا أحبه، وإنْ كنت قد جنيت جناية فهي أني شعرت بهذا الحب، ولم أشجعه على أنْ يبوح به، يجب أنْ أسعى إليه، يجب أنْ أراه، وأنْ أقول له ما لم أقل، وأنْ أسمع منه ما لم أسمع!
أما أختها فقد رقت لها وكأنها أشفقت عليها من الجنون، فتعرض عليها أنْ تصطحبها إلى «أبينال» لتقضي عندها الليل، ولتراه في بيت أصدقاء لها وهي واثقة بأنها ستراه، فإذا تحدثت إليه عرفت أنه قد تزوج ودبر حياته كما كان يحب، فأقلعت عن هذه الغواية، ولكنها لم تكد تعرض هذا الأمر حتى أشفقت من عاقبته، وخشيت أنْ يجر عليها وعلى الأسرة كلها سوءًا وعارًا، فتراجع أختها وتنصح لها بالبقاء، ولكن هذه تأبى وتلح الإلحاح كله في السفر معها، وتأمرها أنْ تذهب إلى حجرة الاستقبال حيث زوجها لتستأذنه في هذا السفر دون أنْ يعلم بشيء من حقيقة الأمر، وتدفعها خارج الحجرة دفعًا، وتظل وحدها حينًا مضطربة، وقد ذهبت إلى البيانو وإلى حيث المروحة والكتاب، ولكنها تحس وقع أقدام فتعود، وقد دخلت أختها وزوجها فتم الاتفاق على السفر، فإذا خلت إلى أختها بعد حين أخذت هذه تراجعها وتلح عليها فيه، وتذكرها زوجها وأبويها وابنها والأسرة كلها، فكلما ذكرت لها شيئًا من هذا أمرتها بالصمت أمرًا عنيفًا، وهي في حقيقة الأمر مضطربة مترددة تشعر، ولكن شعورًا ضعيفًا جدًّا؛ لأنها مقدمة على أمر خطير، وتحاول أنْ تَرَوَّى، وأنى لها أنْ تَرَوَّى وقد ملكتها هذه العواطف الثائرة، واستأثر بها هذا الجنون، فلا بد من أنْ تسافر، ومن أنْ تراه، وستسافر وستراه.
•••
ويسدل الستار ثم يرفع، فإذا نحن في غد ذلك اليوم الذي مر فيه ما قدمت لك، والغرفة على حالها، وقد جلس إلى المكتب أبو «ماري لويز» وزوجها يتحدثان في أمر المصنع وتقدمه، ويقدم كل منهما إلى صاحبه التهنئة والثناء، ولكنهما مضطربان اضطرابًا يحاولان كتمانه، أما الشيخ فلا يفهم سفر ابنته إلى «أبينال»، وهو لا يحاول أنْ يفهم، وأين السبيل إلى فهم ما يخطر للنساء، وهو يعلم أنَّ ابنته شديدة التأثر بالشعور، قد ورثت ذلك عن جدتها، ألم تكلف جدتها حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها بفتى من الذين يلعبون ليضحكوا الجمهور، على أنَّ هذا الحب لم يكن إلا عرضًا لم يلبث أنْ زال، أما الزوج فاضطرابه أشد ظهورًا وأعظم رسوخًا؛ لأنه قد فهم نفسية زوجه وما يخالجها، وهو مشفق إشفاقًا شديدًا، ولكن هذا الإشفاق يستحيل إلى جزع حين يتناول رسالة، ويقرأ فيها أنَّ فيليب قد وصل إلى «أبينال»، وحين يعلم أنَّ الشيخ قد عرف مكان الشاب في «أبينال»، وإذن فامرأته أيضًا قد عرفت مكانه، وهي قد عرفته قبل أنْ تسافر، وهي لم تسافر إلا لذلك، ولكنه يكتم هذا كله في نفسه، ويتكلف الجلد، والشيخ يفهم كل ما يدور في رأسه، ويتكلف الجهل والغفلة، وهما كذلك إذ يدخل الطفل فيداعب الشيخ حينًا ثم يداعب أباه، وقد انصرف الشيخ، ولكن أباه مشغول، فهو ينظر في الساعة من حين إلى آخر ينتظر أنْ تعود امرأته، والطفل يلح عليه، فيلتفت إلى الطفل حينًا وقد أخذ هذا الطفل يقرأ على أبيه أسطورة حفظها، وهو في ذلك إذ يلتفت فيرى أمه قد أقبلت، أما أبوه فيأمره أمرًا عنيفًا أنْ ينصرف، وتحاول الأم أنْ تمسك ابنها، ولكن الزوج يلح في انصرافه؛ لأنه يريد أنْ يتحدث إليها، ينصرف الطفل، ويخلو الزوجان، فإذا الرجل مغضب غضبًا شديدًا، ولكنه محب حبًّا شديدًا فهو يملك غضبه، ويكتفي بأن ينظر إلى امرأته نظرًا ثقيلًا، ويسألها في صوت المغضب الذي يملك نفسه: ماذا صنعت وماذا رأت وفيم تحدثت؟
أما هي فتتجلد، ولكنها قد فقدت الجَلَد، فلا تستطيع أنْ تثبت فتجلس، وتجيب زوجها مضطربة متثاقلة، فتحدثه أنها رأت فيليب.
– ماذا قال لك؟
– لم يقل لي شيئًا ذا خطر!
– أريد أنْ أعلم!
وهنا تعيد عليه ما قال لها في صوت يدل على خيبة الأمل وعلى حزن شديد، وكأنها قد عادت من رحلة بعيدة جدًّا، وهي متعبة وهي تطمح إلى الراحة وتطمع في استئناف الحياة الهادئة، فقد حدثها بأنه ضخم الثروة في الأرجنتين، وبأنه يشرف على مصنع عظيم ويخرج طائفة ضخمة جدًّا من المسامير في كل يوم، وبأنه يقاوم منافسة الصناع الألمانيين، وبأن شوارع الأرجنتين مستقيمة منظمة كشوارع البلاد الأخرى، وهو إذن رجل كغيره من الناس، هو كزوجها وكابنها وكالشيخ الذي زار البيت في الفصل الأول، منصرف إلى صناعة المسامير وتجارة المسامير، والأرجنتين كغيرها من بلاد الأرض، كانت إذن في حلم وقد أفاقت من هذا الحلم، وهي تذكر أنَّ هذا الشاب قد مات بالقياس إليها، وهي في أثناء هذا الحديث وإذا زوجها قد جلس إلى جانبها يلاطفها ويرفق بها وينهاها عن البكاء، قد رق لها وهو سعيد بعودتها إليه، ولكنه يخفي سعادته كما أخفى شقاءه؛ لأنه لا يفكر أو لا يريد أنْ يفكر إلا فيها، وهو ينظر وهي تتبع نظره، وإذا عينه قد وقعت على المروحة وعلى ديوان «بودلير» وعلى الكراسي المصفوفة أمام الموقد، وهي قد نهضت فأخفت الديوان بين الكتب، وأخفت المروحة في درج من الأدراج، ونقلت أحد الكراسي من مكانه، كل ذلك وزوجها ينظر إليها، حتى إذا وصلت إليه ضمها إلى صدره ضمًّا طويلًا، ثم تتخلص من ذراعيه وتذهب إلى البيانو فتلعب، ولكنها لا تلعب «الإغراء بالرحيل»، ولا تتغنى بشعر لبودلير، وإنما تلعب قطعة أخرى كانت كلفة بها أيام سعادتها، وكانت تلعبها في أول القصة، وإذا هو يميل إليها شاكرًا.