المصابيح
وكذلك يجب أنْ أقدم شكرًا خالصًا إلى طالب أديب من طلاب مدرسة الحقوق الملكية، كتب إليَّ كتابًا رقيقًا، يسألني فيه أسئلةً أريد أنْ أجيب عليها، ولكن في إيجاز شديد؛ يسألني: ما بال كُتَّاب التمثيل من الفرنسيين يضعون قصصهم كلها أو أكثرها فيما يمس خيانة العلاقات الزوجية؟! ثم ما بالهم يميلون في الانتهاء بهذه القصص إلى العفو عن الخائن أو العطف عليه؟! ثم ما بالي أنا لا أكاد أختار أو لا أختار من هذه القصص إلا ما يمس هذا الموضوع؟!
أمَّا أنَّ الكُتَّاب الممثلين من الفرنسيين وغير الفرنسيين يؤثرون هذا النحو من القصص التمثيلي على غيره فحقيقة واقعة، ولكن لا إلى الحد الذي يتصوره السائل الأديب، ففي ملاعب التمثيل قصص كثيرة لا تعرض لخيانة الزوجية، ولا تميل إلى العطف على الخائنين، وإنما تعرض لأشياء أخرى من فروع الحياة التي تتصل بالعواطف والأهواء، وليس من الحق أيضًا أني لم أختر من هذه القصص البعيدة عن خيانة الزوجية شيئًا، فقد اخترت قصصًا لم يعرض فيها كتَّابها للزواج ولا لخيانته، ويكفي أنْ ألفت السائل الأديب إلى «الدمية الجديدة» و«نشوة الحكيم» «لفرنسوا دي كوريل» و«شأو القبس» «لبول هرڨيو»، وإلى قصص أخرى عرضت لها ولا أذكرها الآن، فإذا أردنا أنْ نتبين السبب الذي من أجله يعرض الكتاب الممثلون لصلات الزوجية وخيانتها فهو يسير؛ ذلك أنَّ الحياة الجنسية، أو — بعبارة أوضح — الصلة بين الرجل والمرأة هي أهم فروع الحياة وأشدها تأثيرًا في نفوسنا وسيطرة على أهوائنا وعواطفنا، أردنا ذلك أو لم نرد، ولست في حاجة إلى تعليل ذلك، فهو شيء قد فرغ الناس منه، وإذا كانت الصلة بين الرجل والمرأة من الخطر بهذه المنزلة، فليس عجبًا أنْ يعرض لها الكتاب، فيدرسوها ويحللوها، ولكن ماذا ينبغي أنْ يدرسوا ويحللوا من هذه الصلة؟ أيدرسون الصلة الهادئة المطمئنة التي ليس فيها عوج، ولم تعترضها أزمة قوية ولا ضعيفة، وإنما تمضي مع الزمان في هدوء واطمئنان! وماذا يدرسون من هذه الصلة وماذا يحللون؟ وأي شيء فيها يستحق أنْ يدرس أو يحلل! بل أي شيء فيها يستحق أنْ يقال! ومن الذي قد وهبه الله الصحة والعافية فهو يعنى بتحليل هذه الصحة والعافية والبحث عن أسبابها ونتائجها؟ إنما يعنى الإنسان بمرضه وأعراض مرضه وأسباب هذا المرض ونتائجه؛ لأن هذا المرض خليق أنْ يدرس ليتقي، وهو خليق أنْ يدرس لتتقي نتائجه إذا لم يكن إلى اتقائه سبيل، والأمر على هذا النحو في صلات الزوجية إذا درست وحللت، تدرس وتحلل حتى تستحق الدرس والتحليل؛ أي حين تنشأ فيها الأزمات، وحين تتعرض للأخطار.
وأما أنَّ الكتَّاب يميلون إلى العفو عن الخائن أو العطف عليه، فليس هذا صحيحًا دائمًا، وهو صحيح في كثير من الأحيان، وإلى من يريد السائل الأديب أنْ يميل الكاتب؟ وعلى من يريد السائل الأديب أنْ يعطف الكاتب؟ أعلى الصحيح؟ ولِمَ نميل إليه ولِمَ نعطف عليه؟ أم على المريض؟ أليس المريض خليقًا أنْ نميل إليه ونعطف عليه ونُعنى به ونطب لأدوائه وعلله؟ وهل خيانة الزوجية وغيرها من الآثام والنقائص التي يتورط فيها الناس إلا ضروب من العلل وألوان من الضعف؟! لم يقصد إليها الإنسان عمدًا ولم يختر التورط فيها، وإنما اضطر إليها اضطرارًا، واضطرته إليها أسباب قاهرة لم يجد إلى التخلص منها سبيلًا؟ أخشى أنْ يظن السائل أنَّ العطف على الخائنين والآثمين تشجيع للخيانة والإثم، فذلك بعيد كل البعد عن الحق والصواب، ليس هذا العطف تشجيعًا للآثم، وإنما هو فهم له وإدراك لأسبابه، وإذا كان الذين يدعون إلى أنْ يلغى القضاء بالموت على القتلة والمجرمين لا يشجعون القاتل ولا يؤيدون المجرم، وإنما يعتقدون أنه إلى المرض والضعف أقرب منه إلى تعمد الإثم والقتل، وهو إذن بالعناية والعلاج أحق منه بالقصاص، أقول: إذا كانت هذه حال الذين يلغون القضاء بالموت على القتلة، فقريب منها حال الذين يعرفون الضعف الإنساني وأسبابه، فيعطفون على الضعفاء، ويعملون لإصلاحهم لا للانتقام منهم.
ولو أني ذهبت أفصل للسائل الأديب وجوه هذه المسألة، وما ينشأ عنها من بحث متشعب دقيق لأسرفت في الإطالة، ولتجاوزت القصد، وأنا إلى هذا القصد شديد الحاجة، فأمامي قصة أريد أنْ أحللها، وأحسب أنَّ السائل الأديب سيجد من قراءتها شيئًا من الجواب على أسئلته.
نعم! سيرى أنَّ بطل هذه القصة خليق بعطفنا كله، وإنْ لم تعطف عليه الطبيعة ولم يرفق به هذا العدل الخفي الذي يظهر أنه يسيطر على هذه الحياة، هو خليق بعطفنا كله، وهو مع ذلك قد خان صلة الزوجية، واضطر إلى خيانة الصداقة والإساءة إلى الصديق، ولكنه لم يتعمد ذلك تعمدًا، وإنما تورط فيه تورطًا، واضطرته إليه هذه الأسباب الخفية التي أشرت إليها آنفًا، والتي يخيل إلينا أنها ليست في حقيقة الأمر إلا طائفة من الشياطين، قد استخفت في طريق الإنسان تتربص به الدوائر، وتنتهز له الفرص، وتضطره إلى السوء اضطرارًا، وإنْ كان من أشد الناس طهرًا، وأعظمهم ميلًا إلى الخير وبعدًا عن الإثم، ولست أريد أنْْ أقدم المقدمات الطوال ولا القصار في شرح هذه القصة وتفسيرها، وإنما أريد أنْ تفسر القصة نفسها، فآخذ منذ الآن في التحليل.
•••
«لوران بوچيه» عالم فرنسي بعيد الصوت رفيع المنزلة، قد وقف جهوده على علم الحياة، فوصل بالبحث إلى نتائج عظيمة الخطر جعلته موضع الإجلال لا في فرنسا وحدها، بل في العالم كله، وهو لا يعمل وحده، وإنما يستعين على عمله الجليل بزوجه «جان»، وهي أجنبية أحبت زوجها، وأحبها هذا الحب العقلي الذي ينشأ بين شخصين ممتازين، وهما يعملان معًا متحابين متعاونين، ولئن كان الزوج نابغة فليس حظ امرأته من الذكاء والتفوق بقليل، ويعينهما قوم كثيرون، منهم الطلاب ومنهم الأساتذة، ولكن من بينهم جميعًا رجلًا قد تفوق عليهم حتى التحق أو كاد يلتحق بالزوجين، وحتى أصبح لهما صديقًا حميمًا، وحتى تعوَّد الأستاذ «بوچيه» أنْ يطلق لفظ الثالوث على هذه الجماعة التي تتألف منه ومن امرأته ومن صديقهما «بلونديل»، وقد عهدت الدولة إلى هذا الأستاذ في الإشراف على معهد علميٍّ جليل هو معهد «كلودبرنار»، فاتخذه مكانًا لهذه المباحث العلمية التي أخذت تثمر، وتظهر النتائج الهامة منذ عشرين عامًا متصلة، ولهذا الأستاذ ابنة هي «مارسيل»، قد أحبت العلم ومالت إليه وتقدمت فيه تقدمًا حسنًا، درست في فرنسا ثم ذهبت تتم درسها في ألمانيا، فلقيت في أثناء ذلك فتاة مجرية كأنها عطفت عليها ورقت لها، واصطحبتها إلى باريس؛ لأنها شقية بائسة لقيت في حياتها ألوانًا من الأذى، وأحبت في حياتها ضابطًا رافقها حينًا ثم خدعها ومضى لوجهه، فلما أقبلت هذه الفتاة، واسمها «أدويج» إلى باريس مع صديقتها «مارسيل» تلقاها الزوجان لقاءً حسنًا، وكلفاها شيئًا من العمل سهلًا في المعهد، ولكنها لم تلبث أنْ أظهرت ميلًا شديدًا إلى مباحث الأستاذ، فاختلفت إلى المعمل، وأخذت تشترك هي أيضًا في البحث العمليِّ الخالص.
ونحن في الفصل الأول وقد دعا الأستاذ إلى مائدته نفرًا من أصدقائه العلماء، فتغدوا ثم أقبلوا إلى المكتب لتناول القهوة، والأستاذ يحدثهم بأن بحثه قد انتهى به إلى استكشاف جليل الخطر جدًّا، فقد استكشف ميكروب السرطان، وقد أخفى استكشافه هذا ليمتحنه ويحققه، وهو الآن مستوثق من النتيجة لا يشك فيها، وقد اعتزم أنْ يعرضها بعد أيام على المجتمع العلميِّ، ولكنه أراد أنْ يظهر أصدقاءه عليها قبل أنْ يعلنها إلى الناس جميعًا، وأصدقاؤه دهشون معجبون، يملؤهم الأمل في المستقبل، أليس هذا الاستكشاف هو الخطوة الأولى القيمة في سبيل استكشاف آخر، سيكون له الأثر العظيم في حياة الإنسان، وهو الوصول إلى شفاء السرطان! هم إذن يثنون عليه وعلى زوجه ويبالغون في إجلالهما، وهو يريد أنْ يظهرهم على هذا الميكروب الذي استكشفه، فيريد أنْ يكلف أحد أعوانه الذهاب إلى المعمل ليحضر نموذجًا من هذه النماذج، ولكن الفتاة الغريبة «أدويج» قد ندبت نفسها متطوعة لهذا الأمر، وأسرعت إلى المعمل، وعادت ومعها ما طلب إليها، فأخذته «جان» ووضعته في الميكروسكوب، وأقبل أحد العلماء ينظر، ولكنه دهش؛ لأنه لا يرى ما تحدث به إليه الأستاذ، وإنما يرى شيئًا آخر، يرى بعض هذه الميكروبات التي يعرفها الناس جميعًا فتقبل «جان» وتنظر وإذا هي ساخطة مغضبة؛ لأن الفتاة قد أخطأت، وحملت شيئًا غير ما طلب إليها.
أما الفتاة فخجلة مضطربة قد انتهى بها الخجل إلى البكاء، وأخذ بعض الحاضرين يرثي لها، وأخذ بعضهم يسخر منها همسًا، وأشد الناس جميعًا غضبًا وحنقًا إنما هي «مارسيل» ابنة الأستاذ؛ لأنها سمعت شيئًا من سخرية الساخرين، على أنَّ الأستاذ قد انصرف مع أصحابه إلى المعمل ليظهرهم بنفسه على هذا الميكروب، ثم ليظهرهم على النتائج العملية لبحثه، وتهم زوجه أنْ تتبعه، ولكن ابنتها تمسكها تريد أنْ تتحدث إليها، فإذا خلت إلى أمها كان بينهما حديث، فهمنا منه أنَّ هذه المرأة العالمة قد انصرفت إلى علمها انصرافًا تامًّا حتى أنساها كل شيء، وألهاها عن حياتها الزوجية وعن أشياء كثيرة تقع في البيت وهي لا تشعر بها، وابنتها هي التي تنبئها بذلك في شيء من السخرية التي يملؤها الحنان والإكبار، والأم دهشة مغضبة، تنكر على ابنتها لهجتها هذه، وتدخلها فيما لا ينبغي أنْ تتدخل فيه الفتيات، ولكن الفتاة لم تتدخل في هذا الأمر إلا لأنها مضطرة إلى ذلك، فقد سمعت أشياء لا ينبغي أنْ تسكت عليها، وهي خطيرة جدًّا، الطلاب وغير الطلاب يتحدثون بأن الأستاذ يتعشق هذه الفتاة ويتخذها له خليلة، وهم يتخذون هذا الأمر موضوع مزحهم، وهي تكره أنْ يتعرض أبوها لمثل هذا الهزؤ، ولكنها مع الأسف لا تشك في أنَّ الأمر حقيق بالعناية، فهي أيضًا تتهم أباها أو تتهم الفتاة بخديعة أبيها، هي تعلل ذلك وتفهمه، فقد انصرفت أمها إلى العلم حتى فقدت أو كادت تفقد صفات المرأة، ولم يفقد أبوها صفات الرجل، ولهذا الكلام الذي أوجزه إيجازًا مُخِلًّا تأثيرٌ شديد في نفس الأم، فقد اضطرت له وتنبهت في نفسها عواطف كانت مهملة، وأخذت تمقت الالتفات والتنبيه، وتحمد الغفلة والإغضاء، ولكنها قد تنبهت وأخذ الشك يعمل في نفسها، وأخذت نار الغيرة تضطرم في قلبها اضطرامًا، وقد اقترحت عليها ابنتها إحدى اثنتين: فإما أنْ تسافر هذه الفتاة وإما أنْ تتزوج، ليس تزويجها بالأمر العسير، فقد استكشفت الفتاة نفسها أنَّ «بلونديل» يحبها حبًّا شديدًا، وأنه أسعد الناس إذا استطاع أنْ يتخذها له زوجًا، ولم يكن دهش الأم لهذا الاستكشاف بأقل من دهشها لاستكشافها الأول، فهي لم ترَ شيئًا ولم تشعر بشيء، ثم تنصرف الفتاة إلى درس لها في «السربون»، ويأتي الأستاذ فيخلو إلى زوجه يريد أنْ يتحدث إليها في أمر علمي، ويريد أنْ يصطحبها إلى المعمل لاستئناف البحث، ولكنها تمسكه وتلح عليه في المسألة، ويظهر الرجل دهشًا شديدًا لهذه المسائل التي تلقيها عليه زوجه؛ لأنها لم تتعود ذلك؛ ولأنه أبعد الناس عن أنْ يفكر في مثل هذا السخف، وهو بطبيعة الحال ينكر كل ما يضاف إليه إنكارًا شديدًا، تظهر عليه لهجة الصدق فتصدقه امرأته وتطمئن إليه، بل تعتذر إليه من سؤاله عن مثل هذه الأشياء، ولكنها تريد أنْ تقطع ألسنة الناس، فهي تريد أنْ تزوج هذه الفتاة، وأنْ تزوجها من «بلونديل»؛ لأنها تعلم أنَّ «بلونديل» يحب الفتاة ويكلف بها، ويسعده أنْ يتخذها له زوجًا، أما الأستاذ فدهش لهذا كله، ضيق الذرع به، يريد أنْ ينصرف إلى بحثه، وأنْ يرجئ هذا الكلام إلى فرصة أخرى، وهو في هذا كله صادق غير متكلف، ولكن امرأته تلح وتريد أنْ تفرغ من هذا الأمر الآن، وزوجها مضطر إلى أنْ يذعن لها، وقد دعيت الفتاة، وحاول الرجل أنْ ينصرف، ولكن امرأته أكرهته على البقاء، فجلس ونظر في كتاب يتشاغل به عن هذا الحديث.
وتقبل الفتاة خائفة مضطربة تقدر أنها ستسمع تأنيبًا ولومًا على ما كان من خطئها، ولكنها لا تسمع لومًا ولا تأنيبًا، وإنما تسمع حديثًا في الزواج، فتأبى وتنفر من الزواج نفورًا شديدًا، وتلاطفها «جان» حينًا وتثقل عليها حينًا آخر، ولكنها لا تجد منها إلا إباءً ورفضًا، فتنذرها بالطرد والإقصاء، فتجزع لذلك، ولكنها لا تغير رأيها في الزواج، فهي تأباه كل الإباء وقد غضبت جان غضبًا شديدًا لهذا العناد وانصرفت، وقد كلفت زوجها أنْ يجتهد في إقناعها، وأعلنت إلى الفتاة أنها ستترك الدار إذا لم تذعن للأمر.
ويخلو الأستاذ إلى الفتاة، فإذا موقف من أشد المواقف تأثيرًا في النفس، ذلك أنَّ هذه التهمة ليست متكلفة ولا منتحلة، وإنما كان بين الأستاذ وهذه الفتاة شيء، ولكن رأي الأستاذ والفتاة يختلف اختلافًا عظيمًا جدًّا في هذا الشيء.
أما الفتاة فقد أحبت أستاذها وكلفت به وقدسته أو كادت تتجاوز التقديس إلى الجنون، وعلى هذا النحو فهمت الصلة التي كانت بينها وبينه، وأما الأستاذ فلم يحب الفتاة ولم يكلف بها، لم تقع الفتاة من نفسه موقعًا، وهو لا يحب إلا امرأته ولا يكبر إلا إياها، وهو إنما تأثر في لحظة من اللحظات بمؤثرات حسية خالصة ليس بينها وبين القلب والعاطفة صلة، فاسترسل مع حبه، ولم ينظر إلى ما كان بينه وبين الفتاة من صلة في ساعة أو بعض ساعة، إلا كما ينظر إلى متعة عارضة لا قيمة لها، ولذلك نسي الأمر ونسيه نسيانًا تامًّا صادقًا، وكان مخلصًا حينما أنكر وقد سألته زوجه، وكان مخلصًا حينما كان يزدري هذه الأشياء ويضيق بها، ويريد أنْ يعود إلى العمل والبحث العلميِّ، وهو الآن صادق حين ينصح للفتاة بأن تتزوج، والفتاة صادقة حين تكره الزواج وتأباه، كلاهما صادق، ولكن رأيهما مختلف، هي تحبه وقد وقفت نفسها عليه، وهو لا يحبها وهو لا يريد أنْ يضيع مستقبلها، وهو يعلم حق العلم أنها لن تظفر منه بشيء، وأنه لن يفكر فيها إلا كما يفكر في تلميذة بائسة تحتاج إلى شيء من العطف والمعونة، وهي تنكر عليه قسوته وتلومه على هذه الغلظة، وتذم هذا العلم وهذه الفلسفة اللذين يرتفعان بالعالم والفيلسوف عن الحياة العادية وعن العواطف والأهواء التي يخضع الناس لها ويتأثرون بها، ولكنها مهما تلح في اللوم وتسرف في الاستعطاف فهو لا يرق ولا يعطف، وإنما يمضي في نصحه للفتاة بأن تتزوج مزدريًا أشد الازدراء هذه الصلات المادية الخالصة، التي تجمع أحيانًا بين المرأة والرجل دون أنْ يكون هنالك سبب آخر من عقل أو شعور.
غير أنَّ الفتاة قد وجدت سلاحًا قويًّا ماضيًا أصابت به الأستاذ، فملأته رعبًا واضطرابًا، فللأستاذ أنْ يقول: إنه لم يحب هذه الفتاة، وإنه يزدري هذه الصلة التي كانت بينهما، وله أنْ يقسو عليها ويزدري حبها، ويضحي بعواطفها في سبيل هدوئه وطمأنينته في حياته الزوجية الخاصة، ولكن ليس له إذا استباح خيانة الفتاة في حبها أنْ يخون صديقه «بلونديل» في صداقته، فهو يعرض عليها أنْ تكون زوجًا لهذا الصديق، وليس لهذا العرض معنى إلا أنه يضحي بها وبصديقه ليسعد هو ويطمئن، أليس يقدم عشيقته إلى صديقه لتكون زوجًا له؟ أليس يضطر هذه العشيقة إلى أنْ تخفي ما كان بينه وبينها، وإلى أنْ تؤسس حياتها الزوجية على الكذب والنفاق؟ هو إذن يخون صديقه ويضحي به، وكل ما انتهت إليه فلسفته إنما هو أنْ جعلته أَثِرًا مسرفًا في الأثرة.
وجدت هذه الحجة منفذًا لا إلى عقل الأستاذ بل إلى قلبه وضميره، فقد يكون فيلسوفًا، وقد يكون هو مزدريًا للصلات الجنسية، وقد يكون مزدريًا لما توارث الناس من عادة وخلق، ولكن من يدري؟! أيشاركه صديقه في هذه الآراء أم يخالفه فيها؟ أليس من الحق عليه قبل أنْ ينصح بهذا الزواج أنْ يتبين رأي صديقه في مثل هذه الأشياء، فإن كان هذا الصديق كغيره من الناس يقدر الشرف — كما يقدره الناس — ضن به على الزواج القائم على الخيانة والكذب، وإنْ كان مثله لا يحفل بالصلات الجنسية المادية، وإنما يقدر العقل والقلب أولًا، مضى في النصح بهذا الزواج والحث عليه، بلى! هذا حق عليه، وقد اعتزم أنْ يستشير صديقه ويظهره على جلية الأمر، وهو الآن متوجع يألم أشد الألم لهذا العمل اليسير في نفسه الذي جعلت له الأوضاع الاجتماعية هذا الخطر العظيم، وهو يألم لأن هذا الأمر قد يتكشف عن كوارث، فقد ينغص الحياة على زوجه التي يحبها، وقد تضطر هذه الفتاة التي يعطف عليها إلى أنْ تستأنف حياة البؤس والفاقة، والفتاة تنظر إليه وتسمع له، وما كانت تظن أنه سيضعف إلى هذا الحد، وإذا هي كلها إشفاق ورحمة، وإذا هي تكره أنْ يألم حبيبها وأستاذها هذا الألم الثقيل، وإذا هي تعتذر إليه وتعلن أنها قد قبلت الزواج وتلح عليه في ألا يكاشف صديقه بشيء، ولكن الرجل قد اعتزم — وهو لا يعرف التردد إذا اعتزم — وقد دعا صديقه ويتدرج به في الحديث وإلى الحب والزواج، ثم ينتهي به إلى ذكر الفتاة، إلى أنه يعلم ما يضمر لها من حب، فيجتهد الصديق في أنْ يخفي ذلك، ولكن الأستاذ قد ألح ومهر في الإلحاح حتى انتهى صديقه فاعترف بهذا الحب وقوته وسلطانه على نفسه، وأخذ صاحبه يتحدث إليه فيذكر له أنَّ هذه الفتاة ليست كما يقدر وأن قد كان لها ماض في ألمانيا، فيجيب بأنه لا يحفل بذلك ولا يلتفت إليه وإنما يعنيه أنْ تميل الفتاة إليه، وترغب في أنْ تكون زوجًا له، وقد أخذ الأستاذ يبتهج؛ لأن المسافة بينه وبين صديقه أخذت تظهر قريبة، فصديقه مثله يزدري هذه الصلات المادية التي لم تقم على الشعور ولا على العقل، غير أنَّ صديقه مضطرب متردد يسأله سؤالًا يترك في نفسه أثرًا قويًّا، يذكر له أنَّ الناس يتحدثون في المعهد بصلة كانت بينه وبين الفتاة، وهو يريد أنْ يتبين حقيقة هذا الأمر، فإذا أنكر الأستاذ ذلك لم يعرف الصديق حدًّا لابتهاجه ولا لغبطته، فهو يستطيع إذن أنْ يقترن بالفتاة.
– ولو كان بيني وبينها شيء كهذا؟
– إذن لكان الزواج مستحيلًا.
– ولكني قد أكون شديد التأثير في نفس هذه الفتاة، فهي تجلني وتكبرني إجلال الأستاذ وإكباره.
– ذلك شيء أحبه ولا أكرهه، وإنما الذي أكرهه هو الصلة المادية، وقد بعثت في نفسي الطمأنينة من هذه الناحية فأنا سعيد.
وقد استيقن الأستاذ إذن أنه يخون صديقه إنْ نصح بهذا الزواج ويعرضه للشقاء، فأخذ يجتهد في أنْ يهدئ من صديقه ويدعوه إلى الأناة، ولكن الباب قد فتح وأقبلوا ينبئون الأستاذ بأن كاتبًا بلجيكيًّا كبيرًا تنحى له عن جائزة «نوبل»، ثم أقبلوا ينبئونه بأنه قد منح الجائزة، ثم أقبلوا يهنئونه، وانصرف عما كان فيه إلى جائزة «نوبل»، وأقبلت الفتاة واعتزمت الزواج، وأعلن هذا الزواج إلى الطلاب، ولم يستطع الأستاذ أنْ يؤجل هذا الإعلان.
•••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضى حين على هذا كله، وتم الزواج رغم ما بذل الأستاذ من جهد لإلغائه، وأصبحت الخيانة أمرًا واقعًا، ولكن الزوج يجهلها، وكذلك تجهلها «جان»، وليس يعلم بها إلا الأستاذ وتلميذته، وقد أخذت التلميذة العهد على نفسها أن تجتهد في نسيان هذا الحب القديم وفي البر بزوجها والتلطف له، وأخذ الأستاذ نفسه بأن يكون محتشمًا متحفظًا كلما لقي تلميذته أو تحدث إليها.
ونحن في هذا الفصل الثاني نشهد احتفالًا رائعًا؛ لأن وسامًا قدم إلى الأستاذ، وأقبل الناس يهنئونه ويحتفلون به، والمعهد قائم قاعد في استقبال الوفود وتحياتها، والناس يترددون بين الحديقة وحجر المعهد، وكثيرة جدًّا مناظر هذا الفصل، ولكني مضطر إلى أنْ أحذف منها الشيء الكثير، ومهما أحذف فلن أستطيع أنْ أهمل موقفًا بين الأستاذ وبين هذا الكاتب البلجيكي الذي تنحى له عن جائزة «نوبل»، فقد أقبل هذا الكاتب يهنئ الأستاذ ولم يكونا قد تعارفا من قبل، فخلا كل منهما إلى صاحبه في الحديقة وأخذا يتحدثان، وأخذ الأستاذ يسأل الكاتب: لماذا تنحى له عن الجائزة وهو لا يعرفه؟ فيجيبه بأنه إنما فعل ذلك؛ لأنه مدين له بشيء كثير، كان هذا الكاتب قد فرغ للقصص التمثيلية يكتبها حتى نبغ فيها، ثم نالته أزمة من هذه الأزمات الغرامية التي تنتهي بالناس أحيانًا إلى الموت، فخرج من بيته إلى حديقته ومعه المسدس يريد أنْ يقتل نفسه، واضطجع إلى شجرة وقد صوب المسدس إلى مقتله، وكانت الليلة جميلة والنجوم ساطعة، وإذا نظره قد ارتفع إلى السماء، وإذا منظر النجوم التي علقت في السماء كأنها مصابيح قد أثر في نفسه المضطربة تأثيرًا شديدًا، وإذا هو يرى إلى جانب هذه المصابيح مصابيح أخرى ليست أقل منها جمالًا وبهجةً، هي هذه الحقائق العلمية الفلسفية التي تسيطر على حياة الناس وتهديهم في سبيل الرقي والكمال، وإذا عزمه على الموت قد فتر، وإذا هو مشوق إلى أنْ يعلم، وإلى أنْ يدرس هذه الحقائق العلمية الفلسفية، فلما أصبح نظر في الكتب فوقعت إليه كتب الأستاذ، فكان تأثيرها في نفسه شديدًا، صرفه عن التمثيل وحياة الكتاب إلى الفلسفة وحياة الفلاسفة، وإذا هو قد سلك سبيله متأثرًا بالحس ثم بالعاطفة، ثم انتهى إلى الحياة العقلية الخالصة، كذلك يتحدث الكاتب إلى العالم فيجيبه العالم — مضطربًا متأثرًا — بأنه قد سلك الطريق المضادة لطريقه، بدأ بالحياة العقلية الفلسفية، ثم هو الآن وقد جاوز الخمسين قد أخذ يتعرض للشك وآثاره، فهو يترك الفلسفة قليلًا قليلًا، يترك حياة العقل إلى حياة الشعور، ومن يدري إلى أين ينتهي؟ هو شاك في علمه وفلسفته، وفي تلك الحقائق التي تشبه مصابيح السماء.
وكل شيء في حقيقة الأمر يدعو هذا الأستاذ إلى أنْ يضطرب ويشك، فهو يعاني آلامًا شدادًا منذ كان هذا الزواج، هو لا يحب الفتاة، ولكنه يعلم أنَّ الفتاة تحبه حبًّا شديدًا مسرفًا في الشدة ينغص عليها حياتها، ويوشك أنْ ينغص على صديقه حياته ويوشك أنْ يفسد كل شيء، فالفتاة تتجلد وتجاهد، ولكنها لا تظفر من هذا الجهاد بطائل، وإذا افتضح هذا الأمر — ولا بد من أنْ يفتضح — فما مصير صديقه؟ وما مصير بحثهم العلمي؟ أضف إلى هذا أنَّ هذا الأستاذ الذي لم يتعود الكذب قط يعيش الآن عيشة قائمة كلها على الكذب، يكذب على امرأته، ويكذب على صديقه، ويحمل صديقه على حياة كلها نفاق، وليس هذا الفصل إلا إثباتًا لهذا كله، فنحن نرى الفتاة بعد قليل قد أقبلت مع زوجها شاحبة ممتقعة شديدة الضعف، وزوجها يتلطف لها، ويرفق بها، بل يغازلها فلا يجد منها إلا فتورًا يشبه النفور، وهو يعلل ذلك بالمرض واضطراب الأعصاب، وبينا هما كذلك إذ يظهر الأستاذ ومعه امرأته فينتحيان في الحديقة ناحية كأنهما يطلبان العزلة حتى إذا ظفرا بها تعانقا فرحين مبتهجين بهذا الفوز والفتاة تراهما، فيقع ذلك من نفسها موقعًا مؤلمًا جدًّا، ثم يمر الأستاذ وحده بالفتاة، وهي تستريح في مجلسها هذا فيكون بينه وبينها حديث نفهم منه كل ما قدمت.
نفهم أنَّ الفتاة قد انتهت من الصبر إلى أقصاه، وهي لا تستطيع أنْ تنسى هذا الحب ولا أنْ تبرأ منه، وهي لا تستطيع أنْ تحمل جفوة الأستاذ واحتشامه، وإنما تريد أنْ يرق لها، ويمنحها من حين إلى حين ابتسامة بريئة أو قبلة طاهرة على جبهتها، هي لا تطمع في أكثر من هذا، وهو يضن عليها بهذا احترامًا لصديقه وإنكارًا لهذا الحب الآثم، ولكنها تلح وتسرف في الإلحاح، تريد أنْ تخلو إليه لحظة؛ لتظفر منه ببعض هذا أو بكلمات رقيقة، وقد انتهى هذا الإلحاح إلى أن أثر في نفس الأستاذ، وكأنه قد قبل ما تريد، ويمضي الاحتفال كما بدأ، يذهب الناس فيه ويجيئون، وقد اعتذرت الفتاة فصعدت إلى منزلها بالحديقة لأنها مريضة، وما هي إلا لحظات حتى يمر الأستاذ متجهًا إلى هذا البيت وقد رأته زوجه فأنكرت اتجاهه هذا الوجه، ولكنه زعم لها أنه منصرف إلى مكتبه ليقفل درجًا من الأدراج يحرص على أنْ يظل مقفلًا، وآمنت له زوجه ومضت إلى ما كانت فيه من استقبال وتوديع، وإذا «بلونديل» يمر بنفس المكان بعد حين، ويلقاه أحد المدعوين منصرفًا، فيدهش للقائه وينبئه بأنه كان قد دخل بيته يأخذ معطفه، وهو في ذلك إذ انطفأ النور فجأة وخرج، فخيل إليه أنَّ رجلًا يدخل البيت فظنه إياه.
أما «بلونديل» فقد تنبه في نفسه شك مؤلم حاول كتمانه، ولكن أخذ يستوثق حتى استيقن أنَّ زوجه ليست نائمة، وأنها ليست وحدها، وإذا هو يطلب «جان» زوج صديقه الأستاذ، فإذا أقبلت توسل إليها أنْ تصعد لترى امرأته، فقد تركها مريضة فتصعد «جان»، وتعود مضطربة مخلوعة القلب؛ لأنها رأت زوجها عند الفتاة، أما «بلونديل» فقد فهم واستوثق، وأمسك زوج صديقه، وجلسا يرقبان عودة الأستاذ، ويعود الأستاذ بعد حين، فيلقاه «بلونديل» بكلام عنيف ثقيل، ولكن «جان» تأمره أنْ يتركهما وحدهما، فإذا خلا الأستاذ إلى زوجه حاول أنْ يعتذر، وأنْ يذكر الحق فلم يكن عند الفتاة في إثم، وإنما كان عندها يهدئ من ثورتها ويقدم لها النصح، ولكن زوجه تأبى عليه أنْ يتكلم، فهي مشغولة عن الكلام، بين يديها مسودات لمقال كتبته لصحيفة من الصحف، وفي هذا المقال حديث عما كان بينها وبين زوجها من حب وتعاون على البحث العلمي، وهي تقرأ هذا المقال متأثرة محزونة؛ لأنها تحس أنها مخطئة فيما زعمت فيه، أليس زوجها قد خانها؟ أليس حبها قد خدع وازدري؟! أما زوجها فليس أقل منها اضطرابًا، لا لأنه خانها؛ بل لأنه يشعر بأنها تعتقد ذلك، ويريد أنْ يغير رأيها، وكيف السبيل إلى ذلك دون الاعتراف بالحق؟ على أنَّ «بلونديل» قد أقبل وطلب الخلوة إلى صديقه، وأخذ يزجره ويعنفه ويتهمه بخيانته، ويجتهد الأستاذ مخلصًا في أنْ يثبت له أنه لم يخنه ولم يسئ إليه، ثم ينتهي به الأمر إلى التصريح بالحق، فإذا الغضب قد بلغ من صديقه أقصاه، أليس صديقه قد كذب عليه، وما له لم ينبئه بالحق قبل الزواج؟ وقد أسرف «بلونديل» في الغضب حتى اتهم صاحبه بأنه أول من اتصل بالفتاة، وأنه اخترع قصة الضابط الألماني، وأنه كان عشيق زوجه قبل الزواج وبعد الزواج، وهو يزدري الصداقة الآن، ويزدري العلم ويزدري الفلسفة، ولا يفكر إلا في شيء واحد هو الانتقام، وسينتقم.
وهما كذلك إذ تقبل الفتاة وقد سمعت صياح زوجها، فإذا أقبلت اجتهد الأستاذ في أنْ يستعين بها على إقناع زوجها لبراءته فيسألها: أليس من الحق أنك تحبين زوجك؟ وإذا هي تجيب في صراحة وعنف: كلا، لا أحبه ولم أحببه ولن أحبه وما أحببت ولن أحب غيرك! انتهى الحب بها إلى الجنون فهي لا تخفي من أمرها شيئًا، وانتهت الغيرة بزوجها إلى الجنون، فهو لا يملك من نفسه شيئًا، وقد تركهما وعاد ومعه كتاب هو ثمرة الحياة العلمية للأستاذ، فيه فلسفته وخلاصة مباحثه، وهو مخطوط كتبته الفتاة بإملاء الأستاذ حين كانت تعمل في المعهد، أقبل يحمل هذا الكتاب، وهو يعلم أنه أعز شيء على الأستاذ، ولكنه يريد أنْ ينتقم، وبم يبدأ الانتقام؟ خانه الأستاذ في امرأته، فهو يسيئه في فلسفته، وإذا هو يمزق الكتاب، ويفرق أوراقه المقطعة في الهواء، والأستاذ صعق يتوجع لكتابه، والفتاة والهة تجمع هذه القطع المفرقة، وقد انضمت إليها زوج الأستاذ فهي تعينها على هذا الجمع.
•••
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أيام على هذه القصة ونحن في غرفة «جان» زوج الأستاذ، وفي المعهد اضطراب شديد؛ لأن حادثًا حدث، وأخذت الصحف تذيعه، وتخوض فيه، وظهر أعداء الأستاذ فأسرفوا في التشهير به والتشنيع عليه، كان الأستاذ في المجمع العلمي، وبينما هو خارج بعد انتهاء الجلسة لقيه صديقه «بلونديل» في أروقة المجمع فلطمه بمشهد من أصحابه وزملائه، وأعلن الأمر إلى الناس، فلجَّت فيه الصحف، وأصبح حديث باريس، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن ناسًا نصحوا للأستاذ بأن يثأر لنفسه من صديقه بالمبارزة، وكاد الأستاذ يقبل هذا النصح لولا أنْ ألحت عليه زوجه في أنْ يربأ بنفسه عن هذا الأمر الذي لا يليق بالعلماء، ولا سيما إذا بلغوا منزلته من المجد والرفعة، كذلك تتحدث زوجه إلى صديق حميم هو هذا الكاتب البلجيكي الذي رأيناه في الفصل الثاني، ولكن هذه المرأة مخدوعة تجهل كل شيء، فإذا زوجها قد قبل النصح وقبل المبارزة وأخفى عليها الأمر، وقد بارز صاحبه، ونالته الرصاصة، وحمل إلى المعهد وهو في غرفة مجاورة يقدم إليه الطبيب الإسعافات الأولى، ثم هو يريد أنْ يرى زوجه وابنته، وقد اعتزم الطبيب أنْ ينقله إلى هذه الغرفة، وألح هو في أنْ يدخلها ماشيًا لا محمولًا حتى لا ترتاع زوجه، وها هو ذا يقبل وقد أخذ أصحابه يسندونه وفي فمه لفافة التبغ ليظهر لامرأته أنْ ليس عليه بأس، فإذا رأته جزعت، ولكن الطبيب والأصدقاء يهدئون من روعها، ويؤكدون لها أنْ ليس عليه من بأس، وأنَّ الرصاصة قد أصابت الكتف ولم تبلغ الرئة، وهم يمدون الأستاذ على مضجعه، وقد خلا إليه الطبيب لحظة، فإذا الأستاذ يسأله ملحًّا ويطالبه بالصراحة المطلقة: ما أمره؟ وهل هو معرض للخطر؟ وهو لا يريد في ذلك تلميحًا ولا مراوغة؛ لأنه في حاجة إلى أنْ يوصي بأمور هامة جدًّا، فينبئه الطبيب أنه ليس عليه من بأس إلا أنْ يبصق دمًا، فإن فعل فليس هو معرضًا، ولكن حاله تحتاج إلى احتياط شديد.
– إِذَنْ فَأْذَنْ لي أنْ أخلو إلى زوجي حينًا ما، قبل أنْ تبدأ في عملك لكشف مكان الرصاصة.
فيأذن له الطبيب، ولكن على ألا يتحرك ولا يسرف في الكلام، وهذه زوجه قد دخلت عليه جزعة، فما هي إلا أنْ هدأها، فأظهرت الهدوء ونسيت كل شيء إلا زوجها، لكن زوجها سيكلفها أشياء ثقالًا، وليس يطلب إليها إلا أنْ يرى الفتاة التي كانت مصدر كل هذه النكبات، ومهما تَأْبَ زوجه فهو متشدد في ذلك، وهو يريد أنْ يراها، وامرأته لا تأبى غيرةً، وإنما تأبى إشفاقًا على زوجها، ولكن زوجها ملح ولا بد من الإذعان، وقد كتبت «جان» كلمة وبعثت بها إلى هذه الفتاة، فأقبلت وانصرفت «جان» ليخلو زوجها إلى هذه الفتاة، كما أراد على أنْ يدعوها إذا فرغ من ذلك.
وانظر إلى هذه الفتاة قد أقبلت، وهي لم تكن تقدر من هذا كله شيئًا، وانظر إليها جزعة والهة حين رأته طريحًا جريحًا، فهي تتكلم كلامًا متصل اللفظ غير متصل المعنى، قد فقدت رشدها أو كادت، والأستاذ يجتهد في أنْ يظفر منها بالصمت، فلا يكاد يبلغ ذلك إلا بمشقة شديدة، يعلن إليها إرادته وهي أنْ تترك باريس ولا ترى زوجها ولا امرأته، حتى ولو ألح زوجها في طلبها، وقد ضمن لها الحياة وخصص لها مقدارًا من المال، أما هي فلا تسمع لشيء من هذا، وإنما هي منصرفة إلى جزعها، فهي تتكلم، وهي تبكي، وهي تضحك، وهي تقبل يد الأستاذ ومضجعه وكل ما ظفرت به شفتاها، فهي شخص لا يستطيع تصوره ولا تصويره إلا «هنري بتايل»، وقد صرف الأستاذ هذه الفتاة بعد أنْ رق لها وبارك عليها كما يفعل القسيس، أكان يحبها؟ أم كان يعطف عليها ويرثي لها؟ أليست خليقة بالعطف والرثاء؟ انظر إليها تخرج طائعة جزعة مذعنة للقضاء ثائرة عليه، وانظر إلى الزوج قد عادت إلى زوجها يلاطفها ويرق لها ويكاد يغازلها، ولكن سيكلفها شيئًا ثقيلًا، أليس يطلب إليها أنْ تدعو صديقه وقاتله «بلونديل»! وهي ثائرة تأبى ذلك كل الإباء، ولكنه يريد ويلح ويعزم عليها ولا بد من الإذعان لما أراد، وقد أقبل هذا الصديق، فلم يكد يرى صاحبه طريحًا حتى أخذ منه الجزع، وإذا هو يستغفر ويضرع ويبكي ممعنًا في البكاء، وإذا الزوج تلقاه لقاءً عنيفًا كله بغض وموجدة، وأما الأستاذ فرقيق رفيق قد قبل العذر وغفر الذنب وعرف للصداقة والعلم حقهما، وهو سعيد؛ لأن صديقه قد آب إلى رشده، وهو يصافح صديقه ولكن يريد أنْ يكلف زوجه شيئًا ثقيلًا، يريدها لا على أنْ تصافح هذا القاتل بل هو أشد من هذا، فإلى أي حال ستئول هذه المباحث العلمية إذا مات هو ولم يتعاون «بلونديل» و«جان» على المضي فيها؟ يجب إذن أنْ يتعاونا، وقد كتب ذلك في وصيته، وهو يريد أنْ يقسما له على الإذعان بهذه الوصية، أما «بلونديل» فيقسم وأما «جان» فتأبى، وهو يلح وقد ظهر عليه الجهد والإعياء، وأخذت الحمى تظهر عليه، والرجل عالم بأنه ميت؛ لأنه قد بصق الدم، وأخفى ذلك على طبيبه وعلى من حوله، وهو يلح وزوجه تأبى، وهي مطمئنة إلى أنه سيحيا؛ لأن الطبيب قد أكد لها ذلك، وهو يلح وهي تأبى، وقد اضطرب لسانه وحركاته وقال غير الصواب، وإذا النزيف، وإذا زوجه صارخة تدعو الطبيب وقد أقبل الطبيب وإذا الأستاذ قد مات، فانظر إلى صديقه جاثيًا يبكي، وانظر إلى امرأته ملقاة كأن قد أغمي عليها، وقد أقبل الطلاب من كل مكان فملئوا الحجرة وهو يبكون، ونظروا فإذا القاتل بينهم يبكي، فهموا به يدفعونه دفعًا، ولكن، انظر إلى هذه المرأة قد نهضت مستجمعة كل قوتها وشجاعتها فأعلنت إلى الطلبة أن دعوه، فقد أراد أستاذكم كذا وكذا وطلب منا أنْ نقسم، فأما هو فأقسم، وأما أنا فلم أتمكن من القسم قبل أنْ يموت، وإذا هما يقسمان على تنفيذ ما أراد.