الحب
ليست يسيرة التلخيص، وليست يسيرة التمثيل، وإنما هي شاقة على من يريد أنْ يخلصها، شاقة على من يريد أنْ يمثلها، ولعلها شاقة أيضًا على من يريد أنْ يفهمها، ومع ذلك فهي يسيرة التأليف، مُتَّسِقَة المعاني، صادقة الشعور، حسنة اختيار الألفاظ، ممتازة بكل ما تمتاز به الآثار الفنية الراقية، التي قدر لها الخلود؛ لأنها صادقة.
هي عسيرة ويسيرة، عسيرة؛ لأن تلخيصها وتمثيلها وفهمها، كل ذلك يحتاج إلى جهد غير قليل، يحتاج إلى أنْ نجتنب التكلف، ونعود إلى طبيعتنا الصافية النقية، التي لم تُعقِّدها الحضارة، ولم تكدِّرها مواضعات الناس، ويسيرة؛ لأن الكاتب حين كتبها لم يستوحِ الحياة المعقدة، ولم يبحث عن أشخاصه في هذه الجماعات العادية التي تنافق في الحياة، ولا تحيا إلا متكلفة متصنعة خاضعة لضروب من النظم والأوضاع، التي تسيطر على جمال الطبيعة الإنسانية فتسترها، وتخفي ما تمتاز به من صدق وصفاء، ومن أمانة ووفاء.
هي يسيرة وهي عسيرة، وهي خالدة مع هذا كله، أعترف بأني أُعجب بها إعجابًا لا حد له، وقد أعجبت بقصص تمثيلية كثيرة، وسأعجب بقصص تمثيلية كثيرة، ولكن إعجابي بهذه القصة له جوهر خاص وصفات خاصة، لا أصدر فيه عن العقل، ولا عن المنطق، ولا عن الترتيب الفني الذي ألفه الناس وتواضعوا عليه، وإنما أصدر فيه عن القلب وعن الشعور، أصدر فيه عما أجد وعما أحس، أجد فيه نفسي، وأجد فيه من أحب، وأعتقد أنَّ كثيرًا من الصادقين المخلصين سيجدون في هذه القصة أنفسهم، وسيجدون فيها ما يحبون.
لا أعرف قصة كهذه القصة، تخلو الخلو كله من التكلف والتصنع، وتدنو الدنوَّ كله من السذاجة والصدق، وحسبك أنك لا ترى فيها عملًا، أو لا تكاد ترى فيها عملًا ولا حركة، مع أنَّ التمثيل إنما يقوم على العمل والحركة، وحسبك أنك لا ترى فيها إلا أشخاصًا ثلاثة، كل عملهم حوار: رجلان يحبَّان امرأة، أو امرأة تحب رجلين، هذا كل موضوع القصة، هو مجمل موجز، ولكن تفصيله والإطناب فيه قد لا ينتهيان إلى حد.
رجلان يحبان امرأة، وامرأة يتنازعها حب رجلين، فيجب أنْ تُدرس نفسُ هذه المرأة، وأنْ تُدرس نفسَا هذين الرجلين، وأحد هذين الرجلين زوج لهذه المرأة، فيجب أنْ يُدرس الزواج وصلاته، وما فيه من حق، وما فيه من واجب، وأحد هذين الرجلين رجل عمل، والآخر ليس بالكسل ولا بالنائم، ولكن له في الحياة مثلًا أعلى، ولكن له في الواجب رأيًا خاصًّا، ولكن له في كرامة الرجل، وفي كرامة المرأة، وفي قدر الزواج، وما يُكوِّن الأسرة من صلات آراء هي الحق، ولكن شعور الناس بها قليل، ثم هناك عواطف تتنازع هذه المرأة، كلها صادقة، ولكن منها المخطئ ومنها المصيب، منها ما يصدر عن الحق والواجب، ومنها ما يصدر عن الشهوة والهوى، هناك نفس إنسانية غريبة تتنازعها آلام وآمال، هناك محنة تمتحن بها الأسرة، فتتعرض لخطر الانحلال، ثم يُقال عِثَارُها، ويكون هذا الخطر نفسه وسيلة إلى تثبيت قواعدها، وإحكام ما يَجْمُعها من صِلات، كل هذا يجب أنْ يُدرس، وأنْ يُدرس في هدوء وَدَعَةٍ، وفي ألفاظ مختارة، وأساليب عذبة صافية.
ولكني لا أريد أنْ أطيل في هذه المقدمة، وإنما أريد أنْ أمضي في تلخيص هذه القصة، ولقد كنت أود أنْ أترجمها لك، فلن يؤدي التلخيص من حقها بعض ما يجب، ولكني أكتب في صحيفة سيارة، فحسبي أنْ أَلْفِتَكَ إلى القصة، وإلى شيء من جمالها، ولك إنْ شئت أنْ تقرأها، أو أنْ تشهد تمثيلها في فرنسا أو في مصر، إنْ حملها إلى مصر الممثلون.
•••
الزوجان في غرفة يتحدَّثان، قد وصل إليهما البريد، فهما يقرآنه، ويتبادلان الرأي فيه، وينتقلان من هذا إلى نفسيهما وإلى حبهما، وإلى رأي كل منهما في صاحبه، ذلك أنَّ الزوج «هنري» رجل سعيد مغتبط كل الاغتباط بحياته الزوجية، مطمئن إليها، واثق بمستقبلها، ولكنه يحس من زوجه «هيلين» شيئًا من الاضطراب، أو أقل شيئًا من السأم، أو قل: إنه يحس من زوجه شيئًا لا يتبين حقيقته، يحس أنَّ سعادتها ليست من الصفو والنقاء بحيث يحب، وبحيث يجب أنْ تكون، فهو يسألها عن أمرها، فتلح في أنها سعيدة، ويلح هو في أنه يشعر بأن هذه السعادة ليست خالصة، ويحاول أنْ يتعرف الأسباب، التي حالت بين سعادة زوجه وبين الصفاء، يبحث عن ذلك في أخلاقه، ويبحث عن ذلك في مزاجه، ويبحث عن ذلك في سيرته الزوجية، ولا يجد من امرأته إلا إلحاحًا في أنها سعيدة، وسخطًا عليه؛ لأنه يتكلف مثل هذا البحث السخيف، ولكن في الحق شيئًا تشعر به «هيلين»، ولا يلبث أنْ يظهر، فتتبين العقدة التي يجب على القصة أنْ تحلها.
الزوج مطمئن إلى حياته، سعيد لا يستزيد من سعادته، ولكن «هيلين» مطمئنة سعيدة، حتى يظهر لها شيء يُخَيِّل إليها أنَّ في سعادتها نقصًا ما، فهي تشعر شعورًا غامِضًا بالحاجة إلى تكميل هذا النقص، ولكنها لا تعترف بهذا الشعور، ولا تعترف بهذا النقص، حتى يُقبل الشخص الثالث من أشخاص القصة، فيجعل هذا الشعور في نفسها واضحًا، بل يجعله حاجة، بل يجعله ضرورة لا بد من إرضائها، هذا الشخص الثالث هو رجل يسمى «شالانج»، وقد كَلِفَ بالسياحة وطاف أقطار الأرض، وهو من أولئك الذين يؤثرون العمل المنتج على الحياة الهادئة المطمئنة، ذكيٌّ ولكن ذكاءه ليس بالعميق، وهو مع ذلك قوي الحجة إذا تكلم، خلَّاب إذا تحدث إلى النساء، يَخْلِبُهُنَّ بما يَقُصُّ عليهن مما رأى وسمع في سياحاته، ويخلبهن حين يشرح لهن رأيه في الحياة، وأنها يجب أنْ تتجدد، وأنْ تتغير أطوارها وحوادثها، لا أنْ تستقر وتتشابه هذا التشابه الممل، وقد أقبل هذا الرجل منذ شهر، فجاور الزوجين، واتصل بهما، واختلف إليهما، فما كاد يرى «هيلين» حتى كَلِفَ بها، وما كادت تراه «هيلين» حتى مالت إليه، ولكنها أخفت هذا الميل على زوجها، وأحسه زوجها، وراقبه دون أنْ يتحدث فيه.
•••
فإذا كان الفصل الأول من القصة أنبأ «هنري» زوجه بأن «شالانج» قادم لزيارتها بعد حين، فتتبرم بهذه الزيارة وتنكرها، وترى أنَّ هذا الرجل مُثْقِل مُلِحٌّ في زياراته، وأنها تريد أنْ تَنْتَحِلَ الصداع حتى لا تراه، فينكر عليها زوجها هذا كله، ويأخذها بلقاء هذا الرجل، ويسألها عن الأسباب التي تُبَغِّض إليها هذه الزيارة، فتحاول قليلًا، ثم تعترف لزوجها بأن هذا الرجل يتملقها ويتتبعها بحبه، فيجيبها بأنه يعلم هذا، ويدور بينهما هذا الحوار:
ثم يمضي هذا الحوار الطويل اللذيذ القيم، إلى أكثر مما تحتمل جريدة «السياسة»، ولقد كنت أود لو استطعت أنْ أترجمه كله، وأنْ أترجم غيره من ضروب الحوار، ولكن ما ترجمته يعطيك صورة واضحة من هذين الشخصين، وتصورهما للحب وصلات الزوجية، فإذا انقضى هذا الحوار، كان الزوجان قد اتفقا على أن تغير «هيلين» موقفها في لطف، فلا تتحبب إلى «شالانج»، ولا تظهر له الجفاء الشديد.
ثم يُقبل «شالانج» ويخرج «هنري»، فلا تلبث «هيلين» أنْ تخاطبه في غلظة وجفوة، ولكنهما متكلفتان؛ لأنها تميل إليه، وتحاول أن تخفي هذا الميل، وهو يعلم ذلك فَيَهِمُّ بالانصراف، فتمسكه وتتحدث إليه في لطف، تريد أنْ تقنعه بأنها سعيدة، وبأنها تحب زوجها، وبأنها راضية عن حياتها غير طامعة في تغييرها، ويريد أنْ يقنعها بأنها غير سعيدة، ولا مطمئنة، وبأنها لا تحب زوجها؛ لأنها أحبته فتاة غِرَّة، ولا قيمة لحب الفتاة الغرة، وإنما القيمة لحب المرأة التي استكملت عقلها وقوتها، وأنها في حاجة إلى أنْ تحب من جديد، وتحيا من جديد، وتغير أطوار هذا العيش الذي ينوء بها والذي أخذت تمله.
يقنعها، وتفزع من هذا الإقناع، فتستأنف الجفوة، وتكلفه الخروج فيخرج، ولكنه واثق مطمئن، ويأتي زوجها فتتكلف أمامه الأمن والثقة، وتنبئه أنها قد وضعت صاحبها حيث ينبغي أنْ يوضع، ولكن زوجها لا يكاد يطيل إليها الحديث، ويسألها عما كان بينها وبين «شالانج» من حوار، حتى يشعر من حديثها وقصصها وانصرافها عما يقول بأنها لم تفلح، وبأنها لم تزدد إلا تورطًا في هذه الفتنة.
•••
ثم يكون الفصل الثاني، فإذا هذه الفتنة قد بلغت أشدها، وإذا الزوج قد يئس من زوجه، واعتزم العدول عن اللين والرفق إلى العنف والشدة، فيأمرها ألا تلقى «شالانج»، ويكون بينه وبينها في ذلك حوار عنيف، ينتهي بعدوله عن رأيه وقبوله للمعركة، فيبيح لزوجه أنْ تلقى خصمه، وأنْ تختار بين الرجلين، ويعلن إليها أنه نازل عند حكمها، ثم ينصرف ويأتي «شالانج»، وهنا موقف من أجمل المواقف، وأشدها تأثيرًا في النفس، واستهواء لِلُّبِّ، وهزًّا للعواطف، موقف تبذل فيه المرأة كل ما تملك من قوة في البيان والعاطفة، وكل ما تملك من دموع وضعف؛ لتدافع عن أسرتها، وعن حبها لزوجها، ولتخلص من هذا الحب الطارئ، ولكنها لا تفلح في هذا الدفاع؛ لأن خصمها قوي عنيد؛ ولأن هذا الخصم ليس «شالانج»، وإنما هو نفسها، فهي تحب «شالانج»، وتعترف له بهذا الحب، وتلقي أمامه السلاح، وتترك له أنْ يحكم فيها، وفيما بينها وبين زوجها من صلة، وهما كذلك إذ يأتي الزوج، فيلتقي الرجلان — كما يلتقي الخصمان الشريفان — لا يخفض أحد منهما رأسه، ولا ينكر أحد منهما من موقفه قليلًا أو كثيرًا، فينصرف «شالانج»، ويسأل «هنري» زوجه ماذا اعتزمت؟ فلا تجيبه بل تحاول الفرار منه، فيمسكها — وما يزال بها — حتى تنبئه بأنها تريد السفر، فيفهم أنها آثرت صاحبه، وَأَحْسِنْ بموقفه حين ذاك! موقف ملؤه المروءة والحرية والإذعان للقضاء في شرف وكبرياء، ينبئ زوجه بأنه قد فهم، وأنَّ لها أنْ تسافر متى شاءت، وأنه سيردُّ إليها حريتها في أسرع وقت ممكن.
•••
فإذا كان الفصل الثالث رأينا هيلين في إحدى الغرف تستعد للسفر، ولكنها تنظر حولها، وتقلب صورًا لابنها، وهي كذلك إذ يدخل «شالانج»، فيعرف منها حقيقة الأمر، يسعد ويغتبط، ولكنها ليست سعيدة ولا مغتبطة، وإنما هي مستسلمة محزونة، يلح عليها صاحبها في ألا تنتظر الطلاق، وأنْ تسرع إليه فلا تأبى، ثم يرى حزنها فيسألها عنه، فتنبئه بأنها تنظر إلى ما حولها، فتأسف وتأسى وتذكر ما كان لهذه الأشياء، ولهذا البيت من أثر في حياتها، بل تذكر أنَّ حياتها مكونة من هذه الأشياء، وأنَّ فراق هذه الأشياء عليها عسير، يحاول تسليتها فلا يوفق، ثم تذكر طفلها المفقود، فترى أنَّ صاحبها لا يعلم من أمر هذا الطفل شيئًا، بل لا يعلم من أمرها هي شيئًا، وإنما كل الأمر لديه حب وهوى.
تريد أنْ تخرج معه فلا تستطيع، كأن الأشياء تمسكها، وتأبى عليها الخروج، فتضرب معه موعدًا إلى غد، ثم يمضي، وتبقى حينًا واجمة ذاهلة، وما هي إلا أنْ تصيح داعية زوجها مرة ثم مرتين، فيقبل الزوج في شكل مؤلم مضطرب، فيسألها ماذا تريد؟
تتكلف في الجواب، تريد أنْ تنبئه بأنها ستسافر دون أنْ تحمل شيئًا، وأنها ستترك له صور ابنها؛ لأنه وحده خليق أنْ يحتفظ بهذه الصور، ولكن الزوج يجيبها بأنها تستطيع أن تحمل كل شيء، فهو لا يحفل منذ الآن بشيء، وهو يريد أنْ ينسى كل شيء؛ لأنها قد قطعت بينهما كل شيء، ثم يظهر المُخَبَّأ، تظهر نتيجة الأزمة، يظهر أنَّ هذه المرأة قد عرفت من أمرها ما كانت تجهل، وشعرت بأنها لم تكن عاشقة «لشالانج»، وإنما كانت مفتونة «بشالانج»، وأنَّ حبها وقلبها وحياتها وعواطفها كل ذلك موقوف على زوجها، الذي عرفته وبلت سره وجهره، فهي لا تريد أنْ تسافر، وإنما تريد أنْ تبقى، لا تريد أنْ تخرج من البيت، وإنما تريد أنْ يمسكها زوجها فيه، لم تكن تحب «شالانج»؛ لأنها لم تكن تعرفه، وهي تحب «هنري»؛ لأنها تعرفه، كانت مفتونة، ولا ينبغي أنْ تسمى الفتنة حبًا، فليس الحب إذن اتقاد العواطف، واهتياج الشهوات، وعبث الهوى بالعقل، وإنما هو شيء آخر، هو شيء هادئ مطمئن، للقلب فيه أثر عظيم، ولكن للعقل فيه أثرًا أيضًا، تلح على زوجها أنْ يعفو عنها، ولكن هذا الزوج قد تألم، فهو لا يجد إلى العفو سيبلًا، غير أنَّ هناك شيئًا فوق العفو وفوق الألم، فوق الإساءة وفوق الإحسان، هناك الحب، والرجل يحب امرأته، فلا يكاد يراها تعسة شقية حتى يأخذه الإشفاق والعطف، فيلين ولكنه عنيف، يطلب إليها أنْ تذهب لتستريح، ثم يراها مضطربة قد أخذها البرد، فهي لا تكاد تثبت، فيسرع إلى شيء من الحطب يلقيه في الموقد، ويشعل فيه النار ويجلسها أمامه.
هو واقف وسط الغرفة على بعد منها، وهي أمام النار تصطلي، ولكن في جوفها زفرة شديدة تريد أن تكتمها، فلا تفلح فتجهش بالبكاء، وإذا هذا الزوج الغاضب الحانق قد أقبل في هدوء وحنان، فمد يده إلى امرأته فأنهضها، فما تكاد تحس ذلك حتى تصيح باسم زوجها، وتلقي نفسها بين ذراعيه، وكذلك تنتهي هذه القصة.
وأحسب أني لست في حاجة إلى شرح ولا إلى نقد، وإنما أنا في حاجة إلى الأسف؛ لأني لم أترجم لك منها الشيء الكثير.