الحارسة
أريد اليوم أنْ أحدثك عن قصة اختلفت فيها آراء النقاد اختلافًا عظيمًا، فمنهم من أكبرها حتى كاد يقرنها إلى آيات الفن في القرن السابع عشر، ومنهم من أصغرها حتى أشفق منها على صاحبها، بل إنَّ الاختلاف في أمر هذه القصة لم يقتصر على النقاد وحدهم، بل تجاوزهم إلى الجمهور، ويمكن أنْ يقال: إنَّ هذه القصة أخفقت أمام الجمهور، فلم تمثل إلا مرات قليلة آخر السنة الماضية.
بل نستطيع أنْ نقول: إنَّ الخلاف تجاوز النقاد والجمهور إلى الممثلين أنفسهم، فقد وقع الخلاف في أمور تفصيلية من هذه القصة بين السيدة سيمون التي كانت تلعب دور البطلة، وبين الكاتب نفسه، فألغت الممثلة أثناء التمثيل مناظر وحذفت جملًا طوالًا، وحرص الكاتب على هذه المناظر، وهذه الجمل عندما نشر قصته، وفي الحق أنَّ كل هذا الخلاف يفهم إذا قرأت القصة بإمعان وتدبر، فقد أراد الكاتب أنْ يجمع في قصته بين مذهبين مختلفين من مذاهب التمثيل، أو قل بين مذاهب مختلفة في التمثيل، أراد أنْ يتأثر بما رسم أرستطاليس من مناهج «التراجيديا»، وأنْ يتأثر أيضًا بما رسم القرن السابع عشر من هذه المناهج، ثم أراد مع ذلك أنْ يكون ملائمًا للعصر الذي يعيش فيه والذوق الذي يحيط به، وأنْ يكون متأثرًا بالحوادث التي خضعت لها الإنسانية في هذه الأعوام الأخيرة، ثم أراد مع هذا وذاك ألا تكون قصته خالصة لأحد المذهبين أو خالصة لهما معًا، وإنما حرص على أنْ تكون قصته فلسفية، فيها فكرة أساسية تقوم عليها وتنتهي إلى ما تنتهي إليه من النتائج، وإذن فهو أراد أنْ تكون قصته ساذجة سهلة على نحو قصص القدماء، مركبة معقدة على نحو قصص المحدثين، وفلسفية غنية بالآراء على نحو ما كتب «فرانسوا دي كوريل»، ومن الواضح أنَّ التوفيق بين هذه المذاهب المختلفة، والجمع بين هذه الأنحاء المتباينة ليس بالأمر الهين ولا اليسير.
لست أدري بم كان يشعر النظارة الذين شهدوا تمثيل هذه القصة في باريس! ولكني أعلم أنك إذا قرأت هذه القصة شعرت بأشياء مختلفة، وشعرت بهذه الأشياء المختلفة بانتقالك من فصل إلى فصل، فإذا قرأت الفصل الأول أعجبتك اللغة، وراقك الأسلوب الكتابيِّ وما فيه من دقة ومهارة، ولكنك تحس شيئًا من البطء والفتور، وتتمنى لو انتهى هذا الفصل لتعلم ماذا يريد الكاتب أنْ يقول، وماذا يريد أنْ يفعل، ثم إذا انتهى هذا الفصل لم تتبين شيئًا، أو تبينت شيئًا ولكنه غير ما أراد الكاتب، أو لمحت ما أراد الكاتب لمحًا دون أنْ تتبينه أو تستيقنه، فأنت مشوق كل الشوق إلى الفصل الثاني، وأنت في الوقت نفسه مشفق كل الإشفاق أنْ تكون قراءة الفصل الثاني كقراءة الفصل الأول، لا تخلو من شعور بالبطء ومن إحساس بالملل، ولكنك لا تكاد تقرأ هذا الفصل الثاني حتى يأخذك دهش ليس بعده دهش؛ لأنك تشهد تغيرًا عظيمًا في موقف الأشخاص وسيرتهم، تغيرًا كنت تتوهمه في الفصل الأول، ولكنك كنت تستبعده الاستبعاد كله، فإذا وقع لم تستطع أنْ تقول: إنه سيء، وإنما اضطررت إلى أنْ تقف موقف الدهش الحائر، فإذا قرأت الفصل الثالث فلا حد لما تشعر به من خوف وإشفاق، ثم لا حد لما تشعر به من ألم ويأس، فإذا انتهيت من قراءة هذا الفصل لم تشك في أنَّ القصة تستطيع أنْ تنتهي بانتهائه، وأنها إنْ وقفت عند هذا الحد فقد حققت ما كان يريد أرستطاليس والممثلون القدماء من اليونان، وممثلو القرن السابع عشر من الفرنسيين حين يذكرون «التراجيديا»، أو يعمدون إليها، ولكن القصة لا تنتهي، وإنما هناك فصل رابع هو أقوى وأشد عنفًا من الفصل الثالث، وهو أدق وأبعد أثرًا في التحليل، وهو في الوقت نفسه يجمع بين مذهب القدماء ومذهب المحدثين من فلاسفة الكتاب التمثيليين، حتى إذا أتممت قراءة هذه القصة استيقنت أنها قوية عنيفة، ولكنك تحس مع هذا اليقين أنَّ شيئًا ينقص هذه القصة لا تدري ما هو، وأنَّ هذه القصة على جمالها وقوتها وقدرتها على أنْ تؤثر في نفسك أعظم تأثير، وتثير فيها الجهاد بين طائفة من العواطف العنيفة لم تلائم هواك، ولم ترضك كل الرضا، ولكني قد قطعت بك كل الطرق التي قطعتها القصة دون أنْ أنبئك من أمرها بشيء، فلأبدأ في تحليلها، فسيكون هذا التحليل دليلًا صادقًا على ما قدمت.
•••
«أودلف دي كوبورج» أمير شاب، فيه ما في الشباب والأمراء من ضعف وطمع، ومن استراحة إلى الأمل وإشفاق من الجهد، من حب للَّهو وحرص على الاستمتاع بالحياة، وكلف باسترداد الحق الضائع على أنْ يرده إليه غيره، وعلى ألا يكلفه ذلك عناء، وهو ضحية من ضحايا الحرب، فقد مملكته في ثورة من هذه الثورات التي بدلت أمور أوربا الشرقية، فهو منفيٌّ، يقيم في سويسرا مع أخته «ماريابيا»، وهي أميرة شابة، ولكنها تخالف أخاها الخلاف كله، فهي تظهر قوية أبية شديدة الإيمان بحقها، شديدة الحرص على أنْ تسترد هذا الحق، وقد انصرفت إلى العمل لاسترداد الملك الضائع، فهي تدبر وتأتمر، وقد شغلها التدبير والائتمار عن جمالها وقلبها وأهوائها، وعن الحياة وما فيها من لذة، فانصرفت إلى ذلك، وانصرفت معه إلى الدين والتقوى، وشاع ذلك عنها حتى فُتن بها أهل مملكتها فأجلُّوها إجلالًا عظيمًا، ولقبوها بالقديسة، ويعيش معها ومع أخيها مُرَبٍّ لها من رجال الدين هو أسقف «فرتنبرج»، وهو مثال هؤلاء الأساقفة الذين يجمعون بين الدين والسياسة، فهم يمثلون الله في الأرض، ولكنهم يمثلون حقوق الملك أيضًا، وهو لا يتصورون الفرق بين حقوق الله وحقوق الملك، بل هم يؤمنون بهذه الحقوق جميعها إيمانًا واحدًا، وهم مهرة في فهم هذه الحقوق، يؤلفون بين متناقضاتها، ويوفقون بين متبايناتها، ويجدون الحل لكل شكل منها، فهم يجدون للملوك وسيلة يجمعون بها بين رضا الله ورضا لذاتهم وشهواتهم، وهم قادرون على الائتمار وما يتصل به من الكيد والدس.
•••
فإذا كان الفصل الأول رأيت الأمير الشاب جاثيًا بين يدي الأسقف يعترف، ويستغفر الله خطاياه، ثم يغفر له الأسقف باسم الله ويحثه على رغم هذه التوبة على أنْ يظهر هذا المساء في مرقص سيكون لهوًا كله، ويجري بينهما حديث قصير، تشعر منه بأن الأسقف يعمل في رد الملك إلى الأمير، وأنَّ الأمير يريد ذلك ويرجوه، ولكن أمله ضعيف، ثم يدخل عليهما رجل قد اتخذ صورة الكناديين وأسماءهم، وما هو في الحقيقة إلا ضابط من ضباط الأمير، قد أقبل إلى سويسرا ليتم المؤامرة بعد أنْ أحسن لها التمهيد في أرض المملكة، واسم هذا الضابط «ميشيل زوريس»، وهو شاب جميل الطلعة، حسن الخلق، قويِّ الإرادة، لا يعنى بالتفكير، وإنما يعنى بالعمل والمضي فيه، وهو شجاع قد امتحنته الحرب فأحسنت امتحانه، وقد خلص أميره مرة من مخالب الموت، وهو معجب بالأميرة، أو قل إنه مفتون بها؛ لأنه رآها في صباه فأحبها، ولكنه كتم هذا الحب؛ لأنه يائس من الفوز، فتدخل الأميرة فيقدم إليها هذا الشاب، فتحس أنَّ الأميرة تعجب به، ثم تدخل طائفة من الصحفيين يريدون أنْ يتحدثوا إلى الأمير والأميرة، وقد استعدا لهذا الحديث، فأما الأمير فقد تكلف اللهو والعبث حتى لا يحس أحد أنه يريد استرجاع ملكه، وقد أتقن هذا التكلف، أما الأميرة فلم تتكلف شيئًا، وإنما ظهرت بطبيعتها ميالة كل الميل إلى أنْ تسترد الملك وتنتقم لأبيها، وتجلس أخاها على العرش، فإذا انصرف الصحفيون وخلا الشاب الضابط إلى الأميرة لحظة أحست أنه يتحبب إليها، وأنها لا تكره منه ذلك، ثم ينصرف كل هؤلاء الناس، وتخلو الأميرة إلى نفسها تريد أنْ تعمل استعدادًا لحادث قريب سيرد الملك إلى أهله، ولكنها لا تجد من نفسها ميلًا إلى العمل، وإنما هي متأثرة تأثرًا غريبًا، وتذهب إلى كتاب تريد أنْ تقرأ فيه فلا تستطيع أنْ تقرأ، تذهب إلى الموسيقى فلا تستطيع أنْ توقع، هي ثائرة مضطربة؛ لأن شيئًا غريبًا قد ملك عليها أمرها.
•••
فإذا كان الفصل الثاني فأنت في البيت الذي يقيم فيه الضابط منذ أشهر، وقد أعدت في هذا البيت أسباب اللهو وأدواته من شراب وطعام وزهر، ثم يدخل الضابط ويتبعه الأسقف، فتشعر من الحديث بينهما أنَّ الضابط قد اعتزم السفر فجأة، وأنَّ الأسقف يريد أنْ يثنيه عن هذا السفر، فإذا استمر الحديث عرفت أنَّ هذا الضابط إنما يريد السفر؛ لأنه يحب الأميرة، وهو يعلم أنَّ هذا الحب عقيم، ويشعر أنه يهين الأميرة بهذا الحب، وقد حاول أنْ يكتم هذا الحب، وأن يقتله فلم يوفق، وإذن فهو يريد أنْ يفارق الأميرة أبدًا، يحاول الأسقف صرفه عن السفر، ثم عن الحب فلا يوفق، فيحاول أنْ يقنعه بأن الواجب عليه إنما هو أنْ يعمل لمن يحب، وأنْ يكتم هذا الحب ويضحي به في سبيل الواجب، ولكن الضابط — كما قدمنا — لا يحب التفكير ولا الفلسفة، وإنما هو رجل عمل، وليس له في الحياة غاية إلا أنْ يحارب ويحب، وهو لا يعرف الحب العذري ولا يطمئن إليه، وإنما للحب عنده نتائج لا بد أنْ ينتهي إليها، وإذ كان يائسًا من هذه النتائج فهو يريد أنْ يسلي عن نفسه بالسفر، ينصرف الأسقف ويبقى الضابط لحظة مضطربًا، ثم يقبل عليه قوم دعاهم للهو، وفيه نساء ورجال، ومن بينهم امرأة مغنية اسمها «مارت سوريكي» قد أحبها الضابط حبًّا يسليه عن حبه الآخر؛ لأنه ينسيه باللهو واللذة ما يجد من ألم ووحشة، يتحدثون ويمزحون وينصرفون إلى المائدة، ولكن جرس التليفون يدق، فلا يكاد الضابط يتحدث في التليفون قليلًا حتى يضطرب، ويدعو خادمه فيعلن إليه أنه سيصرف من عنده من الناس، وأنَّ زائرًا سيأتي، فعليه أنْ يدخله دون أنْ يسأل عن اسمه، ودون أنْ يُدخل بعده أحدًا، ثم يذهب فيصرف أصحابه معتذرًا إليهم وينتظر، فإذا الأميرة قد أقبلت، وإذا هي مضطربة اضطرابًا شديدًا لا تستطيع معه أنْ تقف دون أنْ تعتمد على شيء، فإذا جلست وقف الضابط بين يديها كما يقف الرعية بين يدي مولاه، وتكلف أنْ يسألها عن مصدر هذه الزيارة الغريبة، فلا يجد منها إلا اضطرابًا وترددًا، ثم تنبئه بأنها كانت تريد أنْ تقول له شيئًا كثيرًا، ولكنها نسيت كل ما كانت تريد، وأنها عرفت أنه اعتزم السفر فأقبلت لتراه قبل أنْ يسافر، ثم ينتهي بهما هذا الحديث المضطرب إلى ما لم يكن بد من أنْ ينتهي إليه؛ لأن الأميرة تحب هذا الضابط كما يحبها، وقد كتمت هذا الحب ما استطاعت، فلما علمت أنه مسافر لم تستطع صبرًا، فأقبلت إليه ونسيت منزلتها وآمالها ومطامعها وسمعتها، ولم تفكر إلا في الحب، فإذا صرحت له بذلك، كانت كأنها قد خلعت كل عذار، وقد تجردت من شخصيتها الأولى، فلم تصبح أميرة ولا قديسة، وإنما أصبحت امرأة تملكها العاطفة وتستأثر بها الحاجة إلى اللذة، وهي بين ذراعي حبيبها فانية، تناجيه مناجاة حلوة هادئة حينًا، ثم مرة عنيفة حينًا آخر، وقد سحر الحبيبان فنسيا من حولهما كل شيء، ثم يستيقظان فإذا هي تريد أنْ تعود، وإذا هو يأبى عليها هذه العودة، ولم تكن الأميرة قد فكرت في نتائج زيارتها هذه، ولم تكن قد أرادت إلا أنْ ترى صاحبها، ولكنها الآن تشعر بأنها لن تستطيع أنْ تعود، فما أسرع ما يحملها صاحبها بين ذراعيه.
ذلك أنَّ هذه المرأة التي كانت منصرفة إلى الملك والدين، قد جاهدت جهادًا عنيفًا في إنكار نفسها وعواطفها، وفي الانصراف إلى الزهد والتقوى، وكان الناس من حولها قد أحسوا منها ذلك فقدسوها، فلم توجه إليها كلمة حب ولا نظرة غرام، ولكنها لم تكد ترى هذا الضابط حتى تنبهت فيها تلك العواطف المكظومة كظمًا عنيفًا، فانفجرت انفجارًا عنيفًا.
•••
فإذا كان الفصل الثالث فقد انتهى الحب إلى نتائجه بين هذين العاشقين، ولكنه ظل أمرًا مكتومًا لا يكاد يعلم به أحد إلا اثنان، أحدهما تلك المرأة المغنية التي تركت سويسرا، ثم عادت إليها لا مغنية فحسب بل مغنية وجاسوسة أيضًا، وهي تحب هذا الضابط، فما زالت به حتى خدعته واضطرته إليها مرات واسترقت سره كله، فعرفت مكانه من الأميرة ومن الأمير، والثاني رجل عدو للأمير وملكه، وقد أوفد إلى سويسرا ليتتبع الأمير ويخلِّص منه الدولة، وقد اتفق هذان الشخصان، فتراهما في أول الفصل يعملان معًا في بيت الضابط يفتشان أدراجه، ويفحصان أوراقه ويسخران من الأميرة القديسة ويتحدثان بقتل الأمير، ثم ينظر الرجل من النافذة، فإذا الضابط مقبلًا فيرتاع ويطلب إلى المرأة أنْ تخفيه، فتضطره المرأة إلى مخبأ يلجأ إليه، ويدخل الضابط فينكر مكان هذه المرأة، ولكنها تلاطفه وتعرض نفسها عليه، فينصرف ويأبى؛ لأنه مشغول الليلة؛ ولأنه ينتظر الأمير، فتلح المرأة في أنْ ترى الأمير، وتنتظر حتى يأتي الأمير ثم تنصرف، ويتحدث الأمير إلى ضابطه، فإذا ائتمارهما قد نجح، وإذا هما يريدان أنْ يسافرا الليلة في طيارة إلى حيث ينتظرهما أنصارهما، وقد أعلنت الثورة في المملكة، وتم الأمر على ما كانا يريدان، وتأتي الأميرة فيتحدثون في هذا وهم سعداء مغتبطون، ثم ينصرف الأمير حينًا ليغير ثيابه ويتنكر، فينتهز العاشقان هذه الفرصة ليتحدثا في الحب، فتتبين أنهما قد اعتزما الزواج بعد أنْ يتم ردُّ المُلك إلى الأمير، ولكنهما يريدان أنْ يخلوَا لحظة قبل هذا السفر الذي سيكون بعد ساعتين، فيدبران بهذه الخلوة أمرهما، ويتفقان على أنْ ينتظرا الأمير، حتى إذا أقبل انصرف الضابط لحاجة، ثم تنصرف الأميرة بعده بقليل، ثم تعترف الأميرة لأخيها بكل ما كان بينها وبين صاحبها، فلا يسع الأمير إلا أنْ يغتبط بذلك، ويعد بأنه سيعرف لهذا الضابط حقه، ولكن الأميرة تطلب إليه أنْ يأذن لهما بالزواج وبالمعيشة الهادئة بعيدًا عن الملك ومناصبه، ثم تستأذن أخاها في الغيبة حينًا، فيفهم ويأذن لها كارهًا؛ لأنه مشفق من الوحدة، فإذا خلا الأمير إلى نفسه اضطرب خوفًا، وتردد في الغرفة قليلًا، ثم يشتد اضطرابه، فيحاول أنْ يخرج ليمشي في الشارع حينًا، ولا يكاد يخرج حتى يظهر الرجل من مخبئه، ويقبل إلى النافذة، ويطلق مسدسه على الأمير فإذا هو قتيل.
•••
إلى هنا يمكن أنْ تنتهي القصة، فقد استوفيت كل الشرائط اللازمة لتكوين قصة قويَّة لذيذة، وانتهت هذه الشرائط إلى نتيجتها العملية والفلسفية، فقتل الأمير وقتل حين كان يستعد لاسترجاع عرشه، قتل في الساعة التي تحقق فيها أمله، وذهبت مساعيه ومساعي أخته ومساعي الأسقف هباء، ثم قتل الأمير، وكان مصدر قتله هذا الحب الذي وصل بين أخته وبين الضابط، فلولا أنَّ هذين العاشقين حَرَصَا على أنْ يخلوا لحظة قبل السفر لما وجد الأمير منفردًا، ولما استطاع هذا القاتل أنْ يظهر من مخبئه، وإذن فهذه الأميرة التي أنفقت من القوة والجهد شيئًا كثيرًا لتجعل أخاها ملكًا، هي التي قتلت أخاها لا لشيء إلا لأنها سمحت لنفسها بأن تعيش كما يعيش الناس، وبأن تحب كما يحب الناس، فأنت ترى أنَّ هذا التصور أشبه لأشياء بما كان يتصور للقدماء اليونان في قصصهم التمثيلية المحزنة، ولكن القصة لم تنتهِ بعد، وهي لم تنتهِ لأن الكاتب لا يكتفي بما وصل إليه من الحوادث، وإنما يريد أنْ يصل إلى أكثر من هذا، يريد أنْ يصل إلى نتائج هذه الحوادث، على أننا نحن الذين يعلمون إلى الآن بمقتل الأمير ومصدره، أما أخته والضابط فيسمعان حين يعودان أنَّ الأمير قد قُتل، ولكنهما سيجهلان مصدر هذا القتل، ولا بد من أنْ يعلماه، وهذا هو موضوع الفصل الرابع.
•••
فإذا ابتدأ هذا الفصل فنحن في إيطاليا لا في سويسرا، ونحن في مدينة «فينز»، وقد جلست الأميرة إلى أسقفها وهما يتحدثان، وفي صوت الأميرة نبرات الحزن والأسى، ولكن هذا الحديث غريب، فنحن نفهم منه أنَّ الأميرة قد يئست من كل شيء، فهي لا تطالب بملك ولا تطمع فيه، وهي لا تفكر في أنْ تثأر لأخيها، وإنما انصرفت عن كل شيء إلا عن شيء واحد وهو حبها؛ ذلك أنَّ صاحبها الضابط الذي كان يظهر لها قبل المحنة حبًّا لا يعدله حب، ولكنه حب شهوة وحرص على اللذة، قد استطاع بعد المحنة أنْ يظهر لها حبًّا لا يعدله حب، ولكنه حب رحمة وعطف وإشفاق، فهو لا يطمع إلا في شيء واحد هو أنْ يعزِّيها ويهون عليها احتمال الحياة، وقد أثر هذا في نفس الأميرة، فعرفت أنها تستطيع أنْ تعتمد أيام المحنة على صديق لذتها أيام السعادة، فاعتزمت أنْ تترك كل شيء وكل إنسان لتعيش مع صاحبها هذا بعيدين عن أوربا وما فيها مما يذكرهما الآلام والآمال، وهما يريدان أنْ يهاجرا إلى أمريكا.
أما الأسقف فبذل ما يستطيع من قوة ليقنع الأميرة بالعدول عن هذا الجنون، ولكنها لا تسمع له، فإذا طال الحديث بينهما رأيت أنَّ هذه الأميرة القديسة لم تكتف باليأس من كل شيء، بل تجاوزت ذلك فجحدت الدين فهي لا تؤمن بالله، وكيف تؤمن به وقد اضطرها إلى هذه المظلمة الفادحة، ففتح لها باب الأمل واللذة لحظة قصيرة ريثما تذوقهما وتحرص عليهما، ثم أسرع فأغلق أمامها هذا الباب! هي لا تؤمن بالله؛ لأنه لو وُجِد لكان أعدل من هذا، وإذا ذكر لها الأسقف ضابطها أجابت بأن وجود هذا الضابط ورحمته لها وَبِرَّهُ بها آكد، وأثبت من وجود الله ورحمته وَبِرِّهِ! يئس منها الأسقف، وأراد أنْ يودعها، فينبئها بأنه سيقيم في روما أشهرًا، وأنه مستعد لإجابتها متى دعته، ثم يلقي إليها في خفة أنها لو بحثت قليلًا لتعرفت السبب في مقتل أخيها؛ لأنه بحث فعرف أنَّ هناك جاسوسة مغنية ترددت إلى المدينة التي كانوا يقيمون فيها في سويسرا، وأنَّ هذه الجاسوسة كانت تعرف الضابط، ينصرف، ويدخل الضابط فيتحدثان في سفرهما وما ينتظر كل منهما من صاحبه من مودة وعطف وحنان، ويتعزيان عن فقرهما وآلامهما، ولكنهما يذكران القتل، فتقص على صاحبها ما سمعت من الأسقف، فلا يكاد هذا الضابط يسمع ذكر المرأة المغنية التي ترددت على سويسرا حتى يذكرها، ثم لا يكاد يفكر حتى يبدو له الأمر واضحًا جليًّا، ولكنه فظيع منكر، أما الأميرة فكانت تفترض أنَّ هذه الجاسوسة كانت صديقة أخيها، فإذا الضابط ينبئها بأنها لم تكن صديقة الأمير، وإنما كانت صديقته هو، نعم! كانت صديقتي، فأنا الذي قتلت الأمير! إذن فقد ارتكب إثمين: قتل ملكه وخان عشيقته، وهو يعترف بهذا كله في صوت المروَّع الذي فقد رشده أو كاد، وهو يعترف على نفسه بهاتين الجريمتين وبجرائم أخرى؛ فقد كان مقتل الأمير مصدرًا لنكبات ألمت بأنصاره الذين أعلنوا الثورة، ففقد الحياة خلق كثير، وفقد الحرية خلق أكثر، وهو مصدر هذا كله؛ لأنه لَهَا بجاسوسة، وَلَهَا بها خائنًا عهد الحب.
أما الأميرة فلا تسل عن روعها وغضبها حين تعلم هذا، فهي ساخطة على هذا الضابط تطرده، ثم تعمد إلى مسدس تريد أنْ تقتله، فيكف يدها قائلًا: لا تفعلي، فسأفعل ذلك أنا، ولكن كفي عن البكاء، واجتهدي في أنْ تعيشي، وأنْ تكوني أقل شقاء منك الآن، ثم يحاول أنْ يتركها، فإذا هي لا تزال متصلة به، لا تزال حريصة على حبه، ولكن ليس من سبيل إلى الحياة معه، فقد قتل أخاها، قتل الملك، وقد خانها ولم يخنها إلا حبًّا للاستطلاع، وإلا لأنه يحب المرأة من حيث هي امرأة، وإذن فليست هي بالقياس إليه إلا امرأة كغيرها من النساء! نعم! ما زالت تحبه، وتوشك أنْ تعلن إليه ذلك، ولكن قتل الملك والخيانة أمامها يعقدان لسانها، فتمسك صاحبها قبل أنْ ينصرف، ولا تطلب إليه إلا شيئًا واحدًا هو أنْ يصلي، وأنْ يذكر الله، ويؤمن بالدين، إذن فقد عادت هي إلى إيمانها، أما الضابط فقد أرسل يطلب الأسقف ثم انصرف، ولا يكاد ينصرف حتى يدخل الأسقف، فإذا الأميرة قد نال منها الذهول، فما تكاد تعي شيئًا، والأسقف يبالغ في تعزيتها، فلا يصل إلى شيء، هلم! تعالي! إنَّ أنصار الملك قريبون، وهم يريدون أنْ يروك، فاستجمعي قواك، واظهري لهم كما تعودت أنْ تظهري، وهو يقول لها ذلك إذ يسمع طلق مسدس فتقول: هذا ميشيل يقتل نفسه، يجيبها الضابط: سأفعل ما يجب أنْ أفعل، ولكن تعالي واذكري أنك تمثلين الملك، فتتبعه، وكأنها آلة تتحرك بلا إرادة.
فأنت ترى أنَّ هذه القصة تجمع بين السذاجة والتعقيد، وتجمع بين العمل والفلسفة، وتجمع بين أساليب القدماء وأساليب المحدثين في التمثيل، وما أحسب أني في حاجة إلى أنْ أطيل القول، أو إلى أنْ أقول شيئًا في تعليل ما شجر حولها من الخلاف بين النقاد.