مقدمة
لبستُ النظارة لأول مرةٍ عندما كنت في السادسة عشرة من عمري. وكان من المُذهل معايشة العالم مرةً أخرى بجودة عالية — أتذكَّر بوضوح الصدمة الناتجة عن قُدرتي على رؤية «الأنصال الفردية» للعشب. ومع حيوية الأشياء التي تُنادي بأعلى صوتها من أجل تمييزها وإدراكها، انجذبتُ إلى الملاحظة بقوة مُتجددة.
ذات مرة اتُّهِم شيرلوك هولمز بأنه يحوز بصيرةً تكاد
تكون سحرية. يقول واطسون: «يبدو أنك قرأت فيها الكثير
مما كان خفيًّا عليَّ تمامًا.» فيُصحح له هولمز قائلًا:
«لا تقل خفيًّا، بل قلْ غير ملحوظٍ يا واطسون. أنت لم
تعرف أين تنظر بالتحديد، ومن ثمَّ فوَّتَّ كلَّ ما هو
مُهم. لا يُمكنني أبدًا أن أحملك على إدراك أهمية
الأكمام، أو دلالة أظافر أصابع الإبهام، أو الأشياء
المهمة التي قد تتدلى من رباط الحذاء.»1 ومثلها مثل عمل المُحقق الجيد، تُعزز
الظاهراتية — أو علم الظواهر — الإدراكَ، بحيث نلاحِظ
كلَّ ما هو مُهم في ما يبدو أنه وضيع.
يتذكَّر مارتن هايدجر كيف أصبح مهووسًا بالظاهراتية
فيقول: «ظللتُ مفتونًا بشدة بعمل هوسرل حتى إنني قرأته
مرارًا وتكرارًا في السنوات التالية، من دون اكتساب
معرفةٍ كافية بماهية ما «فَتَنني». وقد امتد الإعجاب
بعمله، ليصل إلى المظهر الخارجي لتراكيب الجمل وصفحة
العنوان.»2 والمقابل الإنجليزي لكلمة «يُفتتن» ينحدِر
من الكلمة اللاتينية التي تعني «أن يقع تحت سحر أو
تأثير». بل ويقول البابا يوحنا بولس الثاني، الذي نشر
عملًا له عن الظاهراتية وهو أستاذ جامعي: «أشكر الرب
أنه أتاح لي أيضًا المشاركة في هذا المشروع
الفاتن».3 إن الظاهراتية تُمارس سلطةً غريبة وقوية
على مُمارسيها. فهم يُصبحون مبهورين ومفتونين ومأخوذين
بها.
غالبًا ما تُذهلنا الأشياء من خلال انتزاعنا بعيدًا
عن الوسط المُحيط. على سبيل المثال، أي لعبة فيديو
إدمانية تجعلنا غير واعِين بالأشياء والأناس العاديين
الموجودين من حولنا. بهذا الشكل، ما يُذهِلنا يجعل
عالمنا أصغر؛ فهو يُقيِّدنا بما يأسرنا ويفتننا. أما
الظاهراتية، فهي، على النقيض، تبثُّ الروح في سحر الشيء
العادي من خلال إعادتنا للتواصُل مع الخبرة أو
التجرِبة. فعوضًا عن جعل العالم أصغر، تجعلنا مُنفتحِين
على كل شيءٍ وكل شخص. إنها تعويذة تعكس مفعول تعويذة
الشيء المُبتذل الموهِنة، بما يسمح لنا أن نرى الأشياء
رؤيةً أخرى وكأننا نراها للمرة الأولى. يصِف موريس
ميرلو بونتي الأمر بكلماته فيقول: «تتضمَّن الفلسفة
الحقيقية تعلُّم رؤية العالم بصورة جديدة.»4 إن الظاهراتية تُذهلنا من خلال إعادة السحر
إلى الأشياء البسيطة في هذا العالم. إنها تأسر لُبَّنا
بأن تجعلنا أحرارًا، أحرارًا لاختبار حقيقة الأشياء
بعُمق، ومشاركتها مع الآخرين.