الفصل الأول
إلى الأشياء في حدِّ ذاتها
ما الذي يجذبنا بشدة في أي شاطئ؟ هنا في ذلك الامتداد
الشاسع الذي تلتقي فيه الأرض بالماء، ويجتمع فيه الماء
مع السماء، ثمة الكثير مما ينبغي استيعابه. تذوَّق
الملح بلسانِك. وتنفَّس عبق نسمات البحر. واشعُر بالشمس
المشرقة من فوقك، وبحُبيبات الرمال من تحتك. وانظر إلى
زَبَد الأمواج المتواترة. واسمع لهديرها في مدِّها،
ولهمسها في جَزْرها. فبخلاف مساحات العمل الحديثة
والمُحايدة، هذه خبرة جسدية كاملة، تدفعنا نحو طائفةٍ
من الأنشطة الترفيهية؛ مثل التشمُّس وتمشيط الشواطئ،
وبناء القلاع الرملية وركوب الأمواج، ونحو ذلك.
ثمة الكثير من الأشياء التي يمكن التفكير فيها وسط كل
هذه الأنشطة. فإذا ما أردتَ أن تعرف معلوماتٍ عن المد
والجزر والقوى الخاصة بالمسطحات المائية، فعليك بعلوم
البحار والمُحيطات والفيزياء. وإن وجدتَ أن المخلوقات
التي تتهادى في أرجاء حافة الماء مثيرة للاهتمام، فعليك
بعلماء التاريخ الطبيعي وعلماء الأحياء الميدانيين. وإن
عجِبتَ لجمال الألوان الخلابة التي تتراقص على الأمواج
بينما تتلاشى الشمس نحو الأفق، فعليك بالشعراء
والرسَّامين. وإن وجدتَ قلبك يُحلِّق ويسمو بما يفوق كل
التوقعات، فتطلَّع إلى المُتصوفين وعلماء اللاهوت بحثًا
عن التوجيه والإرشاد. لكن إذا أردت أن تعرف كيف تلعب
الحقيقة دورًا في خبرة الشاطئ، فعليك
بالظاهراتية.
الظاهراتية هي معايشة «الخبرة» أو اختبارها. وهي
تطلَق على منهجٍ فلسفي معاصر، وكذلك على حركةٍ فلسفية
معاصرة تتبع هذا المنهج. وبعد أن أسس لها إدموند هوسرل،
وأورد الشروحات لها كلٌّ من ماكس شيلر ومارتن هايدجر
وموريس ميرلو بونتي وآخرون، هي تُعَد الآن حركة عالمية
من الباحثين المُنقطعين للتوصل لحقيقة الخبرة. وعوضًا
عن الاكتفاء بالتصورات والمفاهيم المُسبقة، هي تخوض
غمار الخبرة حتى يمكن الالتقاء بالحقيقة وجهًا
لوجه.
لكن احذر؛ فموضوع هذا الكتاب الذي بين يديك موضوع
غريب. إنه ليس عن موضوعٍ بعينه، لكنه يتناول كل شيء،
وقد يبدو هذا طموحًا مبالغًا فيه، خاصة إن كان الكتاب
بهذا الحجم الصغير. لكن هذا الكتاب لا يتناول كل شيءٍ
وحسب، بل إنه يتناول كل شيءٍ «كما نعيه في خبرتنا». فإن
كان عِلم الأحياء هو دراسة الحياة، فإن الظاهراتية هي
دراسة الظاهر أو المظهر. الأمر الخادع بشأن هذا
التقابُل هو أن دراسة الظاهر توحي بأننا نتعامَل مع
مجرد الشكل الخارجي في مقابل الواقع، (وتقترح) أننا
نتعامل مع صورة ذهنية عوضًا عن الشيء الموجود. لكن سوء
الفهم هذا عن الظاهر هو ما يجعل الظاهراتية ضرورية
بصورة ملحَّة. إن الظاهراتية هي دراسة الخبرة، أي
الطريقة التي تظهر بها الأمور لنا على حقيقتها. في بعض
الأحيان قد تكون المظاهر خادعة؛ تبدو السلحفاة ميتة،
لكن يتبيَّن أنها كانت تتظاهر بالموت، أو أنها تبدو
كسلحفاة لكنها في الواقع حجرٌ يتَّخذ شكلًا غريبًا.
لكننا نتعرض للمظاهر الخادعة هذه لأن الخبرة أساسًا
موثوقة؛ فنحن نعرف أن السلحفاة في واقع الأمر على قيد
الحياة؛ لأننا نَراها الآن تسبح مُبتعدة، أو أننا
نلتقِط ما نظنُّ أنه سلحفاة لنكتشف أنه حجر مُصمت لا
روح فيه. إنَّ تكشُّف الخبرة يسمح لنا أن نُفرق بين
المظاهر الحقيقية والمظاهر الخادعة. والظاهراتية لا
تدرس المظاهر الخادعة، لكنها تدرس المظهر الحقيقي
للأشياء.
ما الذي يغيب عن الصورة العلمية؟
قد يبدو الآن أن الظاهراتية ليس لها مكانٌ فيما
يُشير إليه عالما الفيزياء ستيفن هوكينج وليونارد
ملودينوف باسم «التصميم العظيم»، وهو عرض شامل
للكون وكلِّ ما فيه. إذ يُعلنان بجرأة أن «الفلسفة
قد ماتت».
1 ويعتقدان أن الإجابة عن الأسئلة الكبرى
التقليدية تقع على كاهل العلم، ويسعيان لتقديم
«صورة جديدة للكون ومنزلتنا فيه».
2
يولِّد النظام الكوني مجموعةً متنوِّعة ومدهشة من
الأكوان المُمكنة، لكننا نجد أنفسنا في الكون الذي
نحن فيه لأن معظم السيناريوهات الأخرى ستجعل من
المُستحيل علينا أن نكون موجودين. يُعلِّق هوكينج
وملودينوف فيقولان: «ومن ثمَّ ينتقي «حضورنا»، من
بين هذه المجموعة المتنوعة، الأكوانَ التي تتوافق
وحسْب مع وجودنا.»
3 فما التفسير الذي يمكن لهما أن
يُقدِّماه عن هذا الحضور؟ نظرًا لأن القوانين
الفيزيائية غير قابلة للاختراق، هما يَستنتجان أننا
«مجرد آلات بيولوجية».
4 إن وعينا وفهمنا يَحدُثان داخل عقولنا،
وعقولنا هي ما تُنشئ نموذجًا عن العالم الخارجي.
نتيجة لذلك، لا نكون حاضرين أبدًا أمام أي شيء: «ما
يقصده المرء حين يقول «أرى كرسيًّا» هو مجرد أن هذا
الفرد استخدم الضوء الذي بدَّده الكرسي ليُنشئ
صورةً ذهنية أو نموذجًا للكرسي».
5 إن هوكينج وملودينوف يقدِّمان لنا
صورةً لأنفسنا نكون فيها محصورين في عقولنا
ومُقيدين بها.
مشكلة هذه الصورة أنها لا يمكن أن تستوعِب الشيء
الذي نريد تصويره، على وجه التحديد، منزلتنا في
الكون.
6 لماذا؟ في الصورة، تنظر من الخارج إلى
ما يُصور، لكن لا يمكن أن تكون هناك صورة لفعل
النظر نفسه؛ لأن فعل النظر يرتبط ارتباطًا أساسيًّا
بمنظورٍ داخلي. وكما سيُبيِّن الفصل الثاني، لا
توجَد طريقة لتصوير الحضور الذي يستمتع به المرء في
الوقت الحالي؛ عوضًا عن ذلك، يتحتَّم على المرء أن
يعيش وجهة نظره من الداخل، ويعود إليها عبر منهجيةٍ
جديدة من الخبرة. سيتطور هذا الكتاب انطلاقًا من
هذه المنهجية، وسيُبيِّن الفصل التاسع طريقة ذلك
ببعض التفصيل.
يسمح لنا فضولنا الفطري بتجاوز الجزء الصغير الذي
نشغله من الزمان والمكان الكونِيَّين. يقول هوكينج
وملودينوف: «نتساءل، فنبحث عن الأجوبة».
7 إنهما يشيران إلى أننا نطرح الأسئلة عن
ماهيات الأشياء، وعن وجودها، وعمَّا هو مقدَّس،
وهذا التساؤل هو ما يؤدي بنا إلى العلم. لكنَّ هذا
التساؤل ذاته هو ما ينقص الصورة التي يُحاولان
رسمَها. وكما سيُبيِّن الفصل الثامن، حين نتساءل عن
شيء، فإننا نتساءل عن طريق استعراض حضور ذلك الشيء
في مقابل غياب الاحتمالات الأخرى. نتساءل لماذا نشأ
الكون بانفجار، لأننا نُدرك أنه ربما كان لينشأ
بأنينٍ أو تأوُّه. ولذا لكي نستوعِب هذا التساؤل
ونفهمه، علينا أن نفكِّر جديًّا بشأن التفاعُل بين
الحضور والغياب.
في تفسيرهما للواقع ومكانتنا فيه، يتحتَّم على
هوكينج وملودينوف أن يستخدِما مفاهيم لا يُمكنهما
شرحها — مثل الحضور والتساؤل — وفي الوقت نفسه
مصطلحات ذات صلة مثل الكلام والحقيقة. قد نقول:
«لكن هذه المفاهيم البشرية لا تحمِل إلا أهميةً
ذاتية، على عكس التفكير العلمي الموضوعي والرياضي.»
لكن وبقدْر ما هي بديهية هذه النقطة، فإن علينا
ذكرها: لولا العلماء ما كان للعلم وجود. ولولا
الطريقة البشرية خاصَّةً في التساؤل عن سبب كون
شيءٍ ما بالطريقة التي هو عليها عوضًا عن أن يكون
بطريقةٍ أخرى، لما كان هناك علماء، ولا يمكن تصوُّر
فعل التساؤل ذاته الذي يؤدِّي إلى العلم بمنأًى عن
تفسيرٍ عامٍّ للحضور، وللطريقة التي نتمكَّن من
خلالها من اختبار حقيقة الأشياء والتعبير عنها. إن
النقطة العمياء للعلوم المعاصرة، وهي عدم القدرة
على تحديد موقعها في الصورة التي تُنتجها، هي
بمثابة محورٍ رئيسي للميدان الفلسفي المُسمَّى
الظاهراتية. لا يمكن لأي تفسيرٍ عن الواقع أن يكون
مكتملًا إذا لم يأخذ في الاعتبار تفسيرًا لطريقةِ
فهمنا للواقع، أي إن لم يكن معنيًّا بتساؤلنا
وفضولنا بشأن الواقع. ولا يمكن لأي تفسيرٍ للتساؤل
أن يكون كاملًا إذا كان لا يفسر وجود الإدراك، لا
باعتباره مقارنةً بين شيئين، بل باعتباره انفتاحًا
منَّا على مجالٍ أوسع من الخبرة.
التحول إلى متفرِّج مفكِّر
كيف يُمكننا التساؤل بشأن الحضور بهذا الشكل؟
تكمُن الإجابة في مفهوم «الرد المُتعالي» الخاص
بالظاهراتية. صفة «المتعالي» تعني هنا أنه يركِّز
على «الهيكل العلائقي» للخبرة أكثر من أيٍّ من
محتويات الخبرة. و«التعالي» يعني «التجاوز»،
فخبرتنا تتجاوز نطاق أنفسنا وتصطدم بالأشياء
الخارجية. ومصطلح «الرد» هنا يعني أنه يرد شيئًا
نَختبره ونُعايشه إلى الخبرة التي تجعله موجودًا.
ومَغزى الرد المتعالي هو العودة وإعادة تتبُّع
الخطوات التي تجعل الخبرة تحدث. وهذا التحوُّل من
تأمُّل الأشياء إلى تأمُّل «الكيفية» التي نتأمَّل
بها الأشياء في غاية الغرابة، ولكن بعض تجارب
الحياة العادية تستبِقه.
إن شرح لعبة البيسبول لطفلٍ للمرة الأولى أمرٌ
صعب؛ لأن المبتدئ يرى الأشياء من دون أن يفهم، وهو
لا يعرف كيف يفهم اللعبة. لماذا يجري هذا الشخص؟
ولماذا يهتف الناس ويُشجِّعون؟ ما الذي يحدُث؟
الحدث ذاته يحدُث أمام أعيُننا، لكن الطفل لا
يستطيع أن يمرَّ بنفس التجربة التي نمرُّ بها. يقوم
مخرج المباراة التي يجري عرضها على التلفزيون
بالكثير من الفهم نيابةً عن المُشاهد؛ فالكاميرا لا
تُكرر تجربة الحضور في المدرجات؛ عوضًا عن ذلك،
تُصوَّب الكاميرا من الزاوية الأنسب وتُبيِّن
للمُشاهِد الزوايا الضئيلة من الملعب التي تقع فيها
مجريات المباراة. وعلى عكس النظرة الشاملة التي
يتمتع بها المشجع في الاستاد، فإن الانتقال بين
الكاميرات يساعد مُشاهد التلفزيون على البقاء مع
الحدث.
8 بل وينبغي أن يكون البث الإذاعي أكثر
وضوحًا وتفسيرًا بالنسبة إلى المشاهد. فما يبثُّه
المذيع لا يقتصر فقط على الكيفية التي تبدو عليها
الأمور (ما يُمكن حتى للطفل غير المُلِمِّ باللعبة
أن يراه)؛ بل ينطوي بثُّ كل حدثٍ في المباراة على
ربط «الفهم» بما يُرى. «اللاعب الراكض يقف بالقُرب
من القاعدة. واللاعب الرامي يستعِدُّ لقذف الكرة،
ويتقدم اللاعب الراكض للقاعدة التالية، وها هو
اللاعب المُلتقط يُلقي بالكرة، ويحصل رجل القاعدة
الثاني على الكرة، واللاعب الراكض …» إن محاولة شرح
لعبة البيسبول لِمبتدئ، أو محاولة نقل التجربة إلى
جمهورٍ يُشاهد التلفزيون، أو محاولة قصِّ مذيع
بالإذاعة هذه التجربة على جمهورٍ غير مشاهد
للمباراة، هي عمليات لا تتطلب أن يكون المرء
متفرجًا يُركِّز على المباراة وحسْب بل وعلى كيفية
معايشة المباراة أيضًا.
إن الدخول إلى عالم الظاهراتية هو أشبَه بأن
تُشاهد مباراة بيسبول. ففي الظاهراتية، يعايش المرء
التجربة بصورةٍ واعية بصفة عامة. ومن ثمَّ يمكن له
أن يحلل الهياكل الأساسية للتجربة التي تنطبق لا
على مباراةٍ في لعبةٍ تُستخدَم فيها الكرة وحسْب،
بل أيضًا وعلى أي عرضٍ أدائي، أو فيلم، أو زوجٍ من
قرد العنكبوت يتأرجحان من فرع شجرة إلى آخَر في
حديقة الحيوان. يمكن للمرء أن يُبيِّن الاختلاف بين
رؤية شيءٍ وفهم ما يراه. ويستطيع أن يُحدد الاختلاف
بين الرؤية بدون فهم والفهم بدون رؤية (كأن أُخبرك
ببساطةٍ عما رأيته أثناء رحلتي إلى حديقة الحيوان).
وأن تقوم بالتحوُّل المتعالي يعني أن تُصبح متفرجًا
على التجربة، متفرجًا يستوعِب التجربة ويفهمها، ومن
ثمَّ يُمكنه توضيحها للآخرين. تُصبِح حينها ما
يُطلِق عليه هوسرل «متفرجًا غير مشارك، مُعاينًا
للعالَم».
9 وعلى غرار المُتفرج على مباريات
البيسبول، يظل المُتفرِّج على التجربة منخرطًا
بصورةٍ عميقة فيها، يكمن الفارق في أن المُتفرج
ينتبه إلى وجهات النظر والبعد الجديد الخاص بالفهم
أو الإدراك الواعي لما يُرى كما هو.
يمكن أن يكون الجلوس ضمن هيئة مُحلَّفين من
الأمثال الأخرى الأقرب والأبسط للظاهراتية. أثناء
عملية الانتقاء، يُوجِّه المحامون والقاضي أعضاءَ
الهيئة إلى تنحيةِ تحيُّزاتهم أو أحكامهم المُسبقة.
فمُهمَّتهم هي استيعاب مشهد المحاكمة بأكمله، بدءًا
من الجُمَل الافتتاحية حتى الجُمَل الختامية، وفهم
وتقييم كافة الأدلة والشهادات المقدَّمة في خلال
ذلك، من أجل الوصول إلى حُكم واحد بشأن ما إذا كان
المُتهم مذنبًا أم بريئًا من الجريمة. ومن أجل ذلك،
لا بد من فرْز المظاهر المُتعارضة. إذ يتحتَّم
تمييز الحقيقة بعنايةٍ وبطريقةٍ مدروسة. والآن قد
يبدو أن الهيئة وهي غير قادرةٍ على طرح الأسئلة
تُعَد زائدة عن الإجراءات، لكن هذا خطأ بالطبع. إذ
إن كلَّ من في المحكمة برمَّتها يؤدِّي دوره من أجل
هيئة المُحلَّفين وحدَها. في واقع الأمر، يُشار إلى
هيئة المُحلَّفين باسم «الحضور»، وثمة مسائل فنِّية
بعينها ينبغي مناقشتها في غياب هيئة المُحلَّفين.
نجد إذن أن هيئة المحلَّفين ضرورية وأساسية من أجل
المحاكمة، على النقيض من مُشاهد مباراة البيسبول.
وباعتبارك عضوًا في هيئة مُحلَّفين، فإن واجبك
المدني المقدس هو اكتشاف الحقيقة، بينما تظهر وسط
المظاهر الغامضة في إجراءات المحاكمة. وهكذا هو
الحال أيضًا مع الظاهراتية؛ إذ يكون هدفك الرئيسي
هو تمييز حقيقة التجرِبة ذاتها، وتحقيق إمكانية
الحضور التي يُوفِّرها كوننا نوع الكائنات التي نحن
عليها، أن تصل لا إلى حقيقة الأشياء وحسب، بل إلى
حقيقة الحقيقة نفسها، وكيف تنشأ هذه الحقيقة في
وعيِنا وخبرتنا.
جوهرية الخبرة
يُثير سقراط الدهشة بطرحه سؤالًا تبدو إجابته
واضحة عن ماهية هذا الشيء أو ذاك، ثم يُبيِّن لمن
يظنُّون أنهم يعرفون الإجابة أنهم لا يعرفونها على
الإطلاق. إليك مثالًا: يسأل سقراط «ما العدل؟» يقول
الاعتقاد السائد إن العدل هو قول الحق وأداء الدين.
لكن سقراط يتساءل إن كان من العدل حقًّا إعادة
الأشياء إلى أصحابها حين يفقدون رُشدهم؛ فبالطبع
ليس من العدل إعادة مفاتيح السيارة لمالِكها
المخمور على سبيل المثال. لذا ثمة شيء خاطئ هنا
فيما يتعلق بتعريف العدل. ما يفعله سقراط هو أنه
يطرح سؤالًا بديهيًّا، ويدحض إجابةً تقليدية من أجل
تجهيز العقل وإعداده للمزيد من التساؤل بشأن الجوهر
الحقيقي للشيء المسئول عنه. حتى حين نكون في نطاق
المواقف العادية، وحين نظن أن الإجابة في متناول
يدِنا، يُنبهنا سقراط إلى جهلنا، ينبهنا أن ثمة
شيئًا مُراوِغًا، شيئًا غامضًا وغريبًا بداخلنا.
يُصبح سؤال سقراط عن الجوهر شاغلًا أساسيًّا
للفلسفة. لقد وَجَد منذ زمن طويل شيئًا ينتمي إلينا
في الوقت الراهن. ونحن اليوم لا نزال نستقصي جوهر
الأشياء إن كنا نفكِّر بعمق في الأساس.
تختلف الفلسفة المُعاصرة عن الفلسفة الكلاسيكية
في تحويل الانتباه من ماهية الأشياء إلى اختبار
الأشياء. على سبيل المثال، يُوجِّه إيمانويل كانط
انتباهنا إلى السؤال الذي يبدو بديهيًّا بشأن كيف
يمكن أن نكون قادرين على اختبار الأشياء وبالتالي
معرفتها. يجد كانط هذا الأمر مُحيرًا؛ لأنه يبدو أن
الخبرة شيء عرَضي بالنسبة إلى الأشياء، شيء بالكاد
يستطيع أن يُمثِّل الأساس لمعرفة الكيفية التي
ينبغي أن تكون عليها الأشياء، ومع ذلك فإننا لا
نعرفها إلا من خلال الخبرة. يصادف كانط شكلًا من
أشكال اختبار الخبرة لا يُعد عرَضيًّا أو ثانويًّا
وإنما جوهريًّا وضروريًّا، وهذا الشكل هو ما يُتيح
المعرفة. والآن، من الصعب التفكير في أي شيءٍ
نستطيع أن نلمس حضوره أكثر من أنفسنا والعالم
الموجود حولنا، لكن في هذه البداهة يُثير التفكير
الحديث مرةً أخرى علامة استفهام مميَّزة،
فيُنبِّهنا كم هو مُحيِّر أننا منفتحون في كياننا
على أشياء خارج نطاقنا. إن هذا السؤال مُزعج لدرجة
أننا نجد إغراءً في إنكار فحواه والقول بأننا لسنا
مُنفتحين، بل عوضًا عن ذلك نحن منغلقون، مُنغلقون
على تصوراتنا الشخصية ووقائعنا العصبية، غير قادرين
على فِعل أي شيءٍ أكثر من إنتاج التخمين تلوَ الآخر
بشأن ما يُمكن أن نجده «بالخارج»، خارج حدود وعينا
أو جسدنا.
إن الظاهراتية تجمع بشكلٍ فعَّال بين هذين
التوجُّهَين الفلسفِيَّين، البحث عن جوهر الأشياء
المُراوِغ، والتساؤل بشأن إمكانية اختبارها. إنها
تُجدد استقصاء سقراط الدءوب عن «ماهية»
الأشياء.
10 وتجدد الاستقصاء الحديث الدءوب عن
«الكيفية» التي نختبر بها الأشياء.
11 إن الأسلوب الهجين للظاهراتية يوازن
بين هذَين التوجُّهين المتعارضَين عن طريق دمجهما
معًا. فهي تسأل: «كيف نختبر الماهيات، وما ماهية
الخبرة؟» والآن هل يمكن أن يكون هناك شيء أكثر
وضوحًا من ماهية الأشياء أو الكيفية التي نختبِرها
بها؟ ومع ذلك، هنا تظهر الفلسفة الظاهراتية، وتنادي
علينا وتستدعينا من أجل أن نسأل، وتُخبرنا أن هناك
الكثير من البحث النزيه الذي يتحتَّم علينا إجراؤه،
إن أردنا أن نصل إلى ما نعتقد أننا وصلنا إليه
لكنَّنا لم نفعل — إلى الحقيقة. بل ويتجرأ هوسرل
ليقول إنه «يمكن بشكلٍ متناقض وعميق أن نطلق على
الفلسفة أنها علم المُبتذل أو التافه».
12 وقد يبدو هذا ادعاءً غريبًا بالنسبة
إلى فيلسوف يسعى وراء الحكمة. إذ لماذا قد ننظر إلى
الفلسفة باعتبارها موجِّهة «للمبتذل»؟ لأن «أصعب
المشاكل تكمُن تمامًا وراء ما هو بديهي».
13 تستقصي الظاهراتية شيئَين مبتذلَين
«ظاهريًّا» لكنهما في الواقع موضوعان عميقان:
اختبار الماهيات، وماهية الخبرة. ومن ثمَّ ترأب
الصدع بين القدامى والمُحدَثين، وتدشِّن حقبةً
جديدة للتفلسُف، حقبة تزخر بالإمكانيات.
إن الظاهراتية تجمع بشكلٍ فعَّال بين هذين
التوجُّهَين الفلسفِيَّين؛ البحث عن جوهر
الأشياء المراوِغ، والتساؤل بشأن إمكانية
اختبار الأشياء.
التركيز على الظواهر
مُستقيًا إلهامه من الصورة العالمية الحديثة التي
ترى الخبرات باعتبارها حدثًا مُحايدًا، يُصبح
فريدريك نيتشه مُتشككًا بشدة في المظاهر: «إن
رسَّامًا بدون يدَين، يرغب أن يُعبِّر بأغنيةٍ عن
الصورة التي يتصوَّرها في عقله، سيزال بإمكانه —
عبر تبديل العوالم هذا — كشف جوهر الأشياء أكثر مما
يكشفه العالم التجريبي».
14 إن ما تُعاني منه المُحفزات الحسِّية
من فقرٍ لا يُتيح لنا الوصول إلى حقيقة الأشياء.
وعلى الرغم من هذه الفكرة، فإنه يُصبح أكثر حنينًا
إلى معنًى أغنى للخبرة:
يا لهؤلاء اليونانيين! كانوا يعرفون كيف
يعيشون الحياة. ما يتطلَّبه الأمر هو أن
تتوقف بشجاعةٍ عند السطح والقشرة والثنايا،
أن تهيم بالمظهر، أن تؤمِن بالأشكال
والنبرات والكلمات، في المظاهر. لقد كان
اليونانيون سطحيِّين — بدافع من العمق.
أوَليس هذا بالضبط هو ما نعود إليه ثانية،
نحن الأرواح الجريئة والمتهورة التي
تسلَّقت أعلى قِمم الفكر وأخطرها، ونظرنا
حولنا من فوقها — نحن الذين نظرنا باستعلاء
من هناك؟
ألسْنا يونانيين في هذا الصدد بالتحديد؟
ألسنا عاشقين للأشكال والنبرات والكلمات؟
ومن ثم نكون فنانين؟
15
كتب نيتشه هذه السطور في عام
١٨٨٦؛ ولما واجه هوسرل الموقف نفسه بعد أربعة عشر
عامًا، صادف احتماليةً أخرى فكتب يقول: «ألسنا
عاشقين للأشكال والنبرات والكلمات؟ ومن ثم نكون
«ظاهراتيين»؟»
هنا نجد تجديد هوسرل المُهم. إننا لا «نُركِّب»
الخبرة بطريقة الفنانين؛ إنما «نكوِّنها» ومن ثمَّ
نترك مجالًا لمكوِّنات الخبرة أن تُظهِر نفسها على
حقيقتها. يكتب هايدجر فيقول: «إن فعل «التكوين» لا
يعني الإنتاج بمعنى الصنع والنسج؛ بل يعني «السماح
للشيء بأن يُرى على نحوٍ موضوعي».»
16 علينا أن نفعل شيئًا لنستقبل ما هو
مُتاح، لكن هذا النشاط لا يعوق قُدرتنا على
الإدراك، بل بالأحرى يُعزز من قدرتنا على
الاستقبال. ففي نهاية المطاف، إن أردنا، على سبيل
المثال، تحديد عدد سكان منطقة فيليسيتي
بكاليفورنيا، فإن علينا أن نقوم بأمرٍ ما — تسجيل
عدد المُقيمين — من أجل أن نعرف كم فردًا يعيش
هناك. لكنَّ فِعل التسجيلِ أو العدِّ لا يجعل من
الصحيح أن عدد سكان هذا المكان هو اثنان؛ فعل
العدِّ يدعنا «نُسجل» الحقيقة الموضوعية التي تقول
إن هناك شخصَين فقط يعيشان هناك.
من أجل استعادة حقيقة الخبرة، نحن في حاجةٍ لأن
نُعيد طرح مسألة ماهيتها. وفصول هذا الكتاب تكشف
النقاب عن كلِّ المصطلحات الأساسية الواردة في هذه
الفقرة. إن الخبرة لا تحدُث في عقولنا بل في
«العالم» الخارجي. الإدراك هو نتاج عمل جسدِنا
بالكامل بينما نستكشف العالم؛ ويُحدد «الجسد»
الطريقة التي يغرس بها استكشافنا للخبرة في وجودنا
الجسدي، مما يجعل هذا الاستكشاف متاحًا للآخرين
لاختباره. و«الحديث»، الذي هو مُتجذِّر في حضورنا
الجسدي، يفتح عالمًا من الغياب؛ يُمكننا التحدُّث
بعضنا إلى بعض عن أشياء لا نُدركها في الوقت
الراهن، وفي الواقع عن أشياء قد لا نُدركها أبدًا.
تتعلق «الحقيقة» بطريقة تأكيد خبراتنا لمزاعِمنا
حول الأشياء بحيث تكون الأشياء المقصودة في غيابها
حاضرة وقابلة للخبرة تمامًا كما هو مقدَّر لها؛ هذا
الارتباط بين الأشياء المُفترضة والمختبرة يُنتج
إدراكًا عميقًا للحقيقة. و«الحياة» التي نحياها نحن
الذين أُمِرنا أن نتبع الحقيقة من خلال الإدراك
والحديث، هي حياة تتجاوز حياة الحيوانات الأخرى.
وفي السجل الخاص بالخبرة، يُعَد «الحب» طريقةً
فعالة للرؤية، ولتمكيننا من إدراك حياة المَحبوبين
بشكلٍ كامل. و«التساؤل» يظهر عندما يُربك شيء غير
عادي التدفق العادي للخبرة، مما يبشر بإمكانيات
جديدة. هذه المصطلحات — العالم والجسد والحديث
والحقيقة والحياة والحب والتساؤل — ترتبط جميعها
بعضها ببعض في الخبرة. يكتب هوسرل قائلًا: «نحن
نبحث كمن يمشي بشكلٍ متعرِّج، وهذه استعارة ملائمة؛
لأن الترابُط الوثيق بين … مفاهيمنا المتعددة، يعود
بنا مرةً تلوَ الأخرى إلى تحليلاتنا الأصلية، حيث
يؤكِّد الجديد على القديم، والقديم على
الجديد.»
17 إن المنهج الظاهراتي هو طريقة لتوضيح
طبيعة الخبرة المكتوب في نسيجها، وللتشديد على
التساؤلات ومُفاقمتها إلى حدٍّ جعلنا نواجِه الخبرة
ككل. إن الحركة الظاهراتية هي تاريخ أولئك الذين
صارعوا منطق الخبرة، الذين يفتحون أمامنا هذه
الإمكانية المُتمثِّلة في اختبار الخبرات والتفكير،
تلك الإمكانية الجذرية لتجديدنا للحياة البشرية
معًا.
تحشد الحركة الظاهراتية قواها تحت شعار «إلى
الأشياء في حدِّ ذاتها». فعوضًا عن أن تقنع
بالتصوُّرات النظرية للتجربة والتي تقف بيننا وبين
الأشياء، يعود الظاهراتيون إلى اختبار «الأشياء»
على حقيقتها. يكتب هايدجر قائلًا:
الشعار الظاهراتي «إلى الأشياء في حدِّ
ذاتها» موجَّه ضدَّ الأفكار المجردة
والتساؤلات التي لا هدف لها للمفاهيم
التقليدية، والتي أصبحت لا أساس لها أكثر
فأكثر. إن حقيقة أن هذا التوجُّه بديهي،
بيد أنه أصبح من الضروري تحويله إلى نداء
حرب صريح ضد الفكر الهائم، تُلقي الضوء على
الوضع الحالي للفلسفة.
18
لا بد أن نعود إلى الأشياء في
حدِّ ذاتها لأننا عندما افترضنا أن المظهر شيء سطحي
أو خادع، سمحنا لأنفسنا على نحوٍ مؤسف أن نفقد
اتصالنا بالأشياء. إن الظاهراتية حركة جديدة
نسبيًّا، لكنها تُمثِّل الاستعادة الصريحة
لإمكانيةٍ قديمة جدًّا، لدرجة أنها تكمُن في قلب
التجربة البشرية. يكتب شيلر قائلًا: «إن الفيلسوف
الظاهراتي المُتعطِّش لمعايشة تجربة الوجود سيسعى
في المقام الأول لأن ينهل من «الموارد» ذاتها التي
تكشف فيها محتويات العالم عن نفسها.»
19 إن الظاهراتية تُقدِّم بداية جديدة من
خلال إعادة تركيز الفلسفة على الخبرة.