الفصل العاشر
الحركة الفلسفية
يتصور هوسرل مشروعًا مشتركًا يضم آلاف الباحثين
الظاهراتيين المتعاونين، ويصف هايدجر البحث بأنه تجديد
للحياة ذاتها. وفي الوقت نفسه، عادة ما يتعرض هذا
التجديد التعاوني — شأنه شأن الكثير من الشئون
الإنسانية — إلى الصراعات والنهايات المسدودة. وبالتالي
فغالبًا ما يكون هذا التجديد أي شيءٍ سوى الغاية
المقصودة منه. وهذا الفصل يُنظِّم ويلطِّف النزاعات
التي نشأت بخصوص الحركة الظاهراتية. كل هذه النزاعات
مبالَغ فيها؛ فهي تعود في أساسها إلى سوء الفهم
والتفاوت في التأكيد.
1 إن هايدجر ظاهراتي بشدة منذ البداية وحتى
النهاية، والحركات الأخرى فيما يُطلق عليه اسم «الفلسفة
القارية» لا يمكن فهمها إلا إلى الحدِّ الذي تحتفظ عنده
بظاهراتية الحقيقة. وتظل الظاهراتية في صميمها مشروعًا
تعاونيًّا بين الباحثين الذين يُجددون حركة الخبرة. ولم
تفقد صيحة الاستنفار المتمثِّلة في مقولة «لنعد إلى
الأشياء في حدِّ ذاتها» أيًّا من جاذبيتها بينما تدعونا
جميعًا لأن نستعيد ثراء الخبرة.
البداية (١٩٠٠)
كان إدموند
هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨) عالم رياضيات، والذي أثناء
محاولاته فهم أصل الأعداد والحقيقة في الرياضيات
أصبح أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا وأصالة في القرنين
الأخيرين. ويبيَّن عمله المذهل بعنوان «مباحث
منطقية» (١٩٠٠-١٩٠١) أن التفسيرات التجريبية
للحقيقة هادمة لذاتها، ثم يبحث برغم ذلك كيفية نشوء
الحقيقة في الخبرة من دون أن تكون مختزلة في تلك
الخبرة: كيف يمكن للخبرات العابرة أن تُحقق وصولًا
إلى الخبرات الضرورية؟ كيف وصلنا على سبيل المثال
إلى الخبرة التي تؤكِّد حقيقة أن ٢ + ٢ = ٤؟ كي
يفهم هذا، يشدد هوسرل على أن الخبرات تنطوي على
أكثر من مجرد الانطباعات الشخصية؛ فالذاتية — حين
نفهمها بالشكل الصحيح — تحمل مضمونًا موضوعيًّا.
وكي يكون مخلصًا للخبرة الأصلية عن الحقيقة، يؤيِّد
هوسرل توسيع نطاق الحدس من مجرد السِّمات المحسوسة
إلى العلاقات المقولية. فأنا لا أرى مجرد بُقَع من
الألوان وومضات من الضوء وأحوِّلها بداخلي إلى
نموذج عن قطة وسجادة؛ بل بإمكاني النظر في العالم
الخارجي ورؤية قطة على سجادة. إن الحالة الراهنة —
التي تُعرض لي من خلال فعلي — تُقدِّم نفسها في
شكلٍ متجسِّد بحيث أستطيع رؤيتها وإدراك حقيقتها.
وبهذا التفسير الغني للخبرة باعتبارها منفتحةً على
حقيقة الأشياء، يقدِّم هوسرل شيئًا يريده الكثير من
الفلاسفة. هنا نحن أمام طريقة جديدة من التفلسف
تزعم أن بإمكاننا تقديم عرضٍ مباشر لما نتحدث عنه؛
فعوضًا عن أن يسمح هوسرل للنظريات أن تتناحر فيما
بينها، يقدم طريقة لتحقيق السلام الفلسفي عن طريق
الانسحاب من ميدان المعركة الفكري والعودة إلى نطاق
الخبرة، والذي يمكن وينبغي اللجوء إليه وحدَه
لتسوية هذه النزاعات.
ورغم القبول الواسع النطاق لمنهج هوسرل، فقد
انتهى الأمر بهوسرل بأنه أنشأ حركةً تفتقر إلى
تلاميذ يلتزمون بها بشكل صارم. فكل عالم ظاهراتية
يضطلع بالظاهراتية فقط من أجل التشكيك في شيءٍ من
أفكار المعلم وللتعمق أكثر في طبيعة الأشياء ذاتها.
ومما يُحسب لهوسرل أنه أنشأ حركة لم تكن تتمحور
حوله، ولا تتعلق بالإخلاص لمذهبه، بل هي عوضًا عن
ذلك مسعًى مُحرَّر يهدف إلى التعرف على حقيقة
الأشياء، مسعًى لا شيء فيه مقدَّس، ولا حتى المواقف
التي تبنَّاها مؤسِّسُه. قد يبدو فشلًا من جانب
هوسرل أنه لم يلهِم أتباعًا مُخلصِين له (بالطبع
كان هذا مصدر إحباطٍ مرير ومشاعر بأنه تعرَّض
للخيانة)، لكن هذا في واقع الأمر علامة على نجاحه
كفيلسوف. وقد رأى ماكس شيلر هذا الأمر مبكِّرًا
وبوضوح:
ليس هناك «مدرسة» ظاهراتية تقدِّم
أطروحاتٍ مقبولة عمومًا. إنما هناك فقط
دائرة من الباحثين الذين ألهمهم موقف وسلوك
مُشتركان تجاه مشاكل فلسفية، والذين
يتحملون مسئولياتٍ منفصلة حيال كل شيءٍ
يزعمون أنهم اكتشفوه ضمن هذا الموقف، بما
في ذلك أي نظرية عن طبيعة هذا
«الموقف».
2
الظاهراتية ليست بأيديولوجية،
ولا هي بنظامٍ أو منتجٍ نهائي وجاهز للاستخدام. بل
بالأحرى هي شيء حي وينمو، شيء يتأقلم مع الاعتبارات
المختلفة، ويطمح دائمًا إلى الوفاء بالتوجيه
المُتمثل في العودة إلى الأشياء بذاتها. لقد زرع
هوسرل بذرةً عُرضة للتحوُّر مع كل جيل، والكثير من
هذه التحورات لا تؤدي إلا إلى جعل الظاهراتية أكثر
قوةً وثراء اعتمادًا على البيئة المحيطة.
مسألة التحول المتعالي (١٩١٣)
وجه الكثير من معاصري هوسرل اتهامات إليه بوجود
تناقض في عمله الفذ. إذ سألوه: كيف يمكنك الادعاء
بأن الحقيقة ليست شيئًا تجريبيًّا وأنها تنشأ في
الخبرة على حدٍّ سواء؟ يدرك هوسرل أن تحويل الحقيقة
إلى شيءٍ تجريبي يعني أن نجعلها نسبية، ويُدرك أن
فصل الحقيقة عن الخبرة يعني أن نكون غير مُنفتحين
على الطريقة التي نصل بها إلى الحقائق التي نسعى
إلى صونها. ويتمثَّل الحل عند هوسرل — الذي نشره
لأول مرة في المجلد الأول من كتابه «أفكار» (١٩١٣)
— في القيام بالتحول المتعالي. يمكن للخبرة الوصول
إلى الحقائق التي تتجاوز الخبرة، لأن هناك اختلافًا
جوهريًّا بين الخبرة التجريبية والخبرة المتعالية.
تتعامل الخبرة التجريبية مع السِّمات العرضية
للتجربة؛ في حين تجلب الخبرة المتعالية إلى الخبرة
البِنى غير المُتغيرة التي تلعب دورًا في الخبرة.
وقد رفض بعض أتباعه الذين استقبلوا عمله الرائع
بحماس هذا التطور الجديد. وتساءلوا: كيف لهوسرل أن
يتخلى عن الواقعية لصالح المثالية الحديثة؟ ويعتقد
تلامذة لهوسرل مثل رومان إنجاردن (١٨٩٣-١٩٧٠)
وديتريش فون هيلدبراند (١٨٨٩-١٩٧٧) أنه انشغل
بأفكار مجردة عوضًا عن العودة إلى الأشياء في حدِّ
ذاتها. بهذا الشكل، هو يخون الظاهراتية، فيستبدل
العقيدة بالخبرة. هل هذا صحيح؟ هل أقدم هوسرل على
هذه الخيانة؟
في رأي هوسرل، هذا التبنِّي للتحول المتعالي ليس
خيانة؛ بل بالأحرى له هدف واحد فقط وهو إنقاذ فكرة
العودة إلى الأشياء في حدِّ ذاتها. إذ يتحسَّر
هوسرل على «النزعة الواسعة الانتشار بشكلٍ غير عادي
نحو «إضفاء الطابع النفسي على ما هو ماهوي»»، أي
رؤية أن الماهيات بطريقةٍ ما ليست أكثر من «تراكيب
ذهنية».
3 يظن هوسرل أن المرء لن يستطيع إنقاذ
ماهيات الأشياء إلا من خلال ذلك التحول المتعالي.
وقرب نهاية حياته، عاود هوسرل النظر إلى أفكاره
وأكد على العلاقة الداخلية بين عمله «مباحث منطقية»
والعودة التي حقَّقها في كتابه «أفكار»،
فقال:
الاكتشاف الأول لهذه العلاقة البديهية
العامة بين الشيء المُختبر وأنماط الظهور
(والذي حدث أثناء عملي على كتاب «مباحث
منطقية» حوالي عام ١٨٩٨) أثَّر عليَّ بدرجة
عميقة حتى أن مهمة واحدة سيطرت على جُلِّ
أعمال حياتي اللاحقة، والمُتمثلة في
التفصيل الممنهج لهذه العلاقة البديهية.
وسيُظهر المسار الإضافي للتأملات في هذا
النص كيف أنه عندما جرى إدخال الذاتية
البشرية في مشاكل هذا الارتباط، أصبح
التحول الجذري لمعنى هذه المشاكل ضروريًّا
مما أدى أخيرًا إلى الاختزال الظاهراتي إلى
الذاتية المتعالية المطلقة.
4
إذن في رأي هوسرل نفسه على
الأقل، ليس الأمر فقط أنه لا تُوجد فجوة بين
كتابَيه «مباحث منطقية» و«أفكار»؛ ولكن كتابه
«أفكار» يُمثِّل التفصيل اللازم للعودة للأشياء
ذاتها التي حقَّقها في كتابه «مباحث منطقية». فإن
كنا نستطيع العودة إلى الأشياء ذاتها، فهذا بموجب
انفتاحنا الجذري على حقائق الأشياء. والآن وبتحقيق
هذا الانفتاح، صحيح أن هوسرل يتبنَّى من الرطانة
المثالية الألمانية أكثر مما هو مفيد، وهذه اللغة
تضع عقباتٍ غير ضرورية أمام استقبال الظاهراتية.
لكن توضيحه اللاحق بخصوص منهج الرد المتعالي لا
يهدد واقع الأشياء والماهيات؛ بل بالأحرى، يُحصنها
عن طريق الإقرار بأن معايشة شيءٍ يختلف عن صناعته؛
فالمعايشة ليست عملية سببية من شأنها أن تجعل الشيء
أو الماهية محلَّ الاختبار نتاجًا للخبرة. الواقعية
من دون العودة المتعالية تدمِّر حقيقة الماهيات. في
نهاية المطاف، كان هذا هو خطأ نيتشه ما قبل
الظاهراتية. فالخبرة ليست في الأساس حدثًا سببيًّا؛
عوضًا عن ذلك، هي مسألة السماح لشيء بالدخول على
حقيقته إلى دائرة الضوء. والعودة المتعالية عند
هوسرل، بعيدًا عن تهديد حقيقة أن الماهيات والأشياء
تحظى بالاستقلالية إزاء الخبرة، في واقع الأمر تصون
تلك الحقيقة وتتواجد لهذا السبب فقط.
من بين المُتعاونين الأوائل الأكثر أصالة مع
هوسرل هو ماكس شيلر (١٨٧٤–١٩٢٨)، ذلك الرجل غير
العادي وصاحب الشخصية النزَّاعة للحدس والذي
يستخدِم الظاهراتية لاستكشاف بِنَى الحب والقيمة.
فما حققه هوسرل في مجال المنطق بجعل معالم الخبرة
أساسها، يُحققه شيلر في مجال الأخلاق. واهتمامه
بمفهوم القلب يمثِّل جسرًا لا غِنَى عنه لفهم كيفية
تحول نزعة هوسرل إلى المنطق إلى تركيز هايدجر على
الوجود البشري وانفتاحه على طبيعة الوجود
نفسه.
هوسرل وهايدجر (١٩٢٧)
ينتقي هوسرل من بين مجموعةٍ متميزة من الطلاب
مارتن هايدجر (١٨٨٩–١٩٧٦) ليكون خلفًا له، وهو
يتَّسِم بالألمعية والغموض والإزعاج الشديد. في
البداية، يبدو هذا الوضع مواتيًا. وفي عام ١٩٢٧،
يهدي هايدجر أعظم ما أبدع، وهو كتاب «الوجود
والزمن» إلى هوسرل، ويشرح عميق امتنانه له:
لكن الكشف عما هو بديهي لا يعني صناعة
بِنية «بديهية». لم يُمكِّننا إدموند هوسرل
من فهم معنى أي «تجريبية» فلسفية أصيلة مرة
أخرى وحسب؛ بل قدَّم لنا الأدوات اللازمة
لذلك أيضًا.
5
وفي حين سعى
الكانطيون الجدد لصناعة نموذج غير مباشر للخبرة،
فإن الظاهراتية تبيِّن لنا عوضًا عن ذلك كيفية
اختبار الخبرة بصورة مباشرة. بهذا الشكل يمكن
اعتبار أن الظاهراتية هي أول تجريبية فلسفية أصيلة.
غير أن الصدع الخفي بين المؤسس وخليفته أصبح باديًا
للعيان بعد فترة قصيرة، إذ حدث بينهما خلاف شهير
كانت له عواقب وخيمة على الحركة الظاهراتية. ففي
نُسخته من كتاب هايدجر «الوجود والزمن» كتب هوسرل
باللاتينية ما ترجمته: «أفلاطون صديق، لكن الحقيقة
صديق أهم».
6 هنا يُردِّد هوسرل صدى تعليق أرسطو
الشهير الذي يقول بأنه على الرغم من أن أفلاطون كان
صديقه ومعلِّمه، فإن عليه أن يختلف معه متى ما وجد
منه خطأً. بالمثل، في حين كان هوسرل وهايدجر
صديقَين فيما سبق، فإنهما يختلفان على الحقيقة التي
تُعَد أهم من إخلاص كلٍّ منهما للآخر. ماذا حدث؟
كيف آل المطاف بعملاقَي الظاهراتية إلى انقلاب كلٍّ
منهما على الآخر؟ كان الخلاف بينهما يتعلَّق
بالوجود البشري وعلاقته بحقيقة الخبرة.
كانت التهمة الأساسية التي رمى بها هوسرل هايدجر
أن الأخير يربط كل شيءٍ بالوجود البشري مما ترتَّب
عنه نتائج «كارثية»:
هايدجر يحوِّل أو يُغيِّر التوضيح
الظاهراتي التأسيسي لكلِّ جوانب الكيانات
والكليات — لإجمالي جوانب العالم — إلى
إطارٍ أنثروبولوجي: لقد تحوَّلت الإشكالية
برمَّتها: فالأنا يُقابلها الوجود البشري،
إلخ. بهذا الشكل، يُصبح كل شيءٍ غير واضح
إلى حدٍّ كبير ويفقد قيمته
فلسفيًّا.
7
ومن ثمَّ يمنح هوسرل كتاب هايدجر
«الوجود والزمن» درجة «راسب»، ويقول عنه أسوأ ما
يمكن قوله في عمل فلسفي: أنه مُبهم وعديم القيمة.
فهل هوسرل مُحقٌّ؟ ما لا يستطيع هوسرل رؤيته هو أن
مُبتغى هايدجر ليس اختزال حقيقة الخبرة في إطارٍ
أنثروبولوجي؛ بل مُبتغاه أن يأتي بفهمٍ جديد للوجود
البشري من زاوية خبرة الحقيقة. وقد صاغ هايدجر
الأمر في رسالةٍ إلى هوسرل في عام ١٩٢٧:
نحن متفقان على حقيقة أنه لا يمكن تفسير
الكيانات فيما تُطلِق أنت عليه مصطلح
«العالم» من حيث تكوينها المتعالي عن طريق
الإحالة إلى كيانٍ له نفس شاكلة
الوجود.
لكن هذا لا يعني أن ما يشكِّل الإطار
الأساسي لخبرتنا لا يُعد كيانًا على
الإطلاق؛ فبالأحرى، هذه النقطة هي تحديدًا
مَكمن «المشكلة»: إذ ما هو نمط الوجود
للكيان الذي يتكوَّن «العالم» فيه؟ هذه هي
المشكلة الأساسية في كتاب «الوجود والزمن»
— على وجه التحديد، الأنطولوجيا الأساسية
للوجود الإنساني. يتعيَّن إثبات أن نمط
الوجود للوجود البشري مختلف تمامًا عن
أنماط الوجود لكل الكيانات الأخرى، وأنه —
على حالته تلك — يُئوي داخله إمكانية فهم
التكوين المتعالي للخبرة.
8
مَن الذي يعايش الخبرة؟ كل واحدٍ
منا بالتأكيد. لكي يجعلنا هوسرل «مُتلقِّين
للخبرة»، يطلق علينا مصطلح «الذوات المتعالية» — هي
«متعالية» لأنها تهتم بإمكانية التجربة، وهي «ذوات»
لأنها تختص بكلِّ واحدٍ منا. نحن لسنا مَن تحدُث
لهم الخبرة وحسب؛ نحن أيضًا مَن نظهر في الخبرة. هب
أنك تجلس في شرفتك الخلفية تشرب شايًا مثلجًا في
يومٍ شديد الحرارة. أنت تشعر بموجات الحرارة على
جسدك بأكملِه وكذلك درجة الحرارة الحادة للمشروب
المُثلَّج. وحين تنظر إلى يدك، ترى القطرات
المتكثِّفة على الكوب تسقط على ركبتك. في هذه
الخبرة، أنت موجود لا باعتبارك مُتلقيًا للخبرة
وحسب، بل باعتبارك أيضًا أحد عناصر الخبرة. فركبتُك
التي تسقط عليها قطرات الماء هي أحد الأشياء التي
تظهر في عالم خبرتك، إلى جانب اليوم الحار وكوب
الشاي المثلَّج وغيرهما. يُطلق هوسرل على هذا الجزء
منا الذي يظهر في التجربة «الذات التجريبية»، أو
الذات المُستشعرة. إذن هوسرل يقدِّم لنا مفهومَين
للشخص الواحد: الذات المُتعالية التي تختبر العالم
والذات التجريبية التي تُختبَر في ذلك
العالم.
يتفق هايدجر مع الاستراتيجية الهوسرلية العامة
بشأن النظر إلى الذات باعتبارها مُتلقية للخبرة
وكذلك باعتبارها عنصرًا يظهر في الخبرة، لكن فوق
ذلك، يريد هايدجر أن يُشدد على أن الذات واحدة في
تلك التفرقة الجذرية. كيف يمكن أن تكون هناك ذات
واحدة تضطلع بكِلا الدورَين، أن تكون مُعايشة
للخبرة وأن تكون مُختبَرةً خلالها، أن تكون متعالية
وتجريبية في آنٍ واحد؟ يصك هايدجر مصطلحًا يُطلقه
على هذه الذات الموحدة الثنائية النمط، أو بالأحرى،
يُوكِل مهمة جديدة إلى مصطلحٍ فلسفي مألوف. يطلق
هايدجر على هذا الإنسان الموحَّد الكلمة الألمانية
Dasein. يستسلم
الكثير من المترجِمين عند هذه المرحلة، ومن ثمَّ
يشيع أن نجد هذا المصطلح الألماني مُبعثرًا في
أرجاء ترجمات أعمال هايدجر، لكن هذا لا يُفيد
القارئ. فكلمة
Dasein في
الألمانية تعني «الوجود»، ويستخدِمها هايدجر ليُشير
إلى ماهية البشر باعتبارهم مُختبرين للحقيقة. ومن
ثمَّ أجد من الحصافة أن أترجِم الكلمة إلى «الوجود
البشري».
9 يُواجِه هايدجر الانقسام في الذات بين
الجزء الذي يُعايش الخبرة والجزء الذي يُستشعَر
فيها، بين الجزء الذي يتلقى التجربة والجزء الذي
يظهر في ذلك النطاق كعنصرٍ من بين عناصر كثيرة.
يُريد لنا هايدجر أن نرى أن الوجود البشري قادر على
التحول الجذري والحُر، الذي فيه نُحصي أنفسنا لا
كعنصرٍ بين عناصر كثيرة وحسب، ولكن أيضًا كجزءٍ
يمثِّل النقطة المحورية في الخبرة. مصطلح الوجود
البشري يُشير إلى نمط الوجود الفريد هذا والذي
يستوعِب الذاتَين، المتعالية والتجريبية.
يجد هوسرل أن الروَّاد الظاهراتيين هم كانط
وديكارت وأوغسطينوس، أما هايدجر فيرى أنهم كانط
وأوغسطينوس وأرسطو. فبالنسبة إلى هايدجر، يتمثَّل
تجديد الظاهراتية في استعادة النمط الأصلي للتفلسف،
صاحب الدور في التناول اليوناني للأشياء. وبالنسبة
إلى هوسرل، توضح الظاهراتية وللمرة الأولى
المُتطلبات المنهجية للخبرة. ويكتب أنه «إذا جاز
التعبير، الظاهراتية هي المطمح السري للفلسفة
المعاصرة بأكملها».
10 يرى هوسرل إذن أن الظاهراتية تُشكِّل
«تتمَّة» الفلسفة، خاصة في مُهمَّتها المعاصرة
المُتمثِّلة في توضيح الخبرة؛ أما بالنسبة إلى
هايدجر، فإن الظاهراتية تُشكِّل «إعادة اكتشاف»
للفلسفة ومهمَّتها في اختبار وفهم معنى الأشياء في
حد ذاتها. وفي أيٍّ من الحالتين، فإن الظاهراتية
ليست شيئًا لم يكن له سوابق في تاريخ الفلسفة. وفي
ضوء المفهوم المعاصر للفلسفة، يُصبح من المُمكن إذن
أن نقرأ تاريخ الفلسفة بعينٍ ظاهراتية.
في العقد
الأخير من حياته، يقدِّم هوسرل مدخلَين جديدَين
لفلسفته، كتابَي «تأملات ديكارتية» و«الأزمة». في
الكتاب الأول، يتبنى هوسرل النمط الديكارتي في
التساؤل أو التشكيك ويُحوله لخدمة أغراض
الظاهراتية؛ وفي الثاني، يفرِّق بين الظاهراتية
وعلم النفس ويقدِّم الظاهراتية باعتبارها حلًّا
للعداءات بين الحياة والمعرفة التي ابتُلِيت بها
الحداثة. وتأتي أكثر كتابات هوسرل جاذبيةً من هذه
الفترة الخصبة، كما ينشر أيضًا دراستَين حول أصل
المنطق في الخبرة، هما: «المنطق الصوري والمتعالي»
و«الخبرة والحكم».
الفلسفة التحليلية (١٩٣٢)
في عام ١٩٢٩، تولى هايدجر كرسي هوسرل في جامعة
فرايبورج. وألقى محاضرةً شهيرة بمناسبة تنصيبه
بعنوان: «ما الميتافيزيقيا؟» وقد استخدم فيها
أسلوبًا خطابيًّا مبالغًا فيه لحث العلماء
المُجتمِعين على تأمل الجوانب الأساسية للعلوم عبر
الاستقصاء الفلسفي. وقال إن الظاهراتية لا تدرس
شيئًا، وذلك على النقيض من كل العلوم. وفكرته —
المألوفة لأي قارئ لكتابه «الوجود والزمن» — أن
الخبرة تحدُث في مجالٍ لا يُعدُّ شيئًا. قد يبدو
هذا غريبًا، لكن تأمل هذا التشبيه: الكلمات
المكتوبة على هذه الصفحة تختلف عن الصفحة نفسها.
فالكاتب الذي لا يستطيع الكتابة لكنه يجِد الصفحة
الفارغة أو مؤشِّر الفأرة الوامض المُخيف على
الشاشة الفارغة يُحدِّق إليه يُعايش مشاعر الرهبة
أو الخوف أمام الإمكانية المجردة للكتابة. فكيف
يمكن أن نتحدث عن هذا الفراغ؟ هنا يُمسي الأمر
معقدًا. هناك بعض الكتب التي تستخدِم عبارة «هذه
الصفحة تُركت فارغة عن عمد». مكمن المشكلة أن هذا
الفراغ قد دُمِّر من أجل التعبير عنه؛ فثمة جملة
مكتوبة الآن على الصفحة! يمكن قياس مشكلة هايدجر
على هذا؛ فهو يريد توجيه الانتباه إلى الإمكانية
المجرَّدة لمعايشة الخبرة وإلى نطاق الخبرة
الصِّرف، ويريد أن يأتي بطريقة مناسبة للحديث عن
هذا من دون أن يشي بماهيته. ويُشبِّه هايدجر الأمر
لاحقًا بالوقوف في فُسحة في الغابة: «إذا ما وقفنا
في فسحةٍ في الغابة، فإننا لا نرى إلا ما يمكن أن
نجده في أرجائها: المكان الخالي، والأشجار المنتشرة
في الأرجاء — لكننا لا نرى الفُسحة كشيءٍ في حدِّ
ذاته.»
11 فنحن غالبًا ما نغفُل عن المكان وعن
حدوث الخبرة في سبيل الأشياء التي تُقدمها لنا؛
يتعيَّن على الظاهراتية أن تعمل بصورةٍ مخالفة لهذه
النزعة المألوفة.
يجد رودولف كارناب (١٨٩١–١٩٧٠) — عضو جماعة فيينا
للوضعيين المنطقيين — أن حديث المحاضرة عن اللاشيء
أمر مُثير للغضب على نحوٍ لا يقبل الجدل. وفي مقاله
الذي كتبَه عام ١٩٣٢ بعنوان «مجاوزة الميتافيزيقيا
من خلال التحليل المنطقي للغة»، يرى أنه مثال بارز
على العبارات الزائفة التي عادةً ما يُنتجها علماء
الميتافيزيقيا.
12 ولا يبدو أن كارناب يُدرك أن هايدجر لا
يقدِّم طريقة جديدة للكلام وحسب؛ بل ويقدم أيضًا
نوعًا جديدًا من الظواهر وأسلوبًا جديدًا
لاختبارها. والآن ثمة وفاق من نوعٍ ما بين كارناب
وهايدجر؛ فكلاهما مُنتبه إلى الدور الذي تلعبه
الخبرة في تبرير المزاعم الفلسفية. لذا يدور
الاختلاف في واقع الأمر حول مسألةِ ما إن كانت
الخبرة تقتصر بالضرورة على الأشياء أم إذا كان من
الممكن معايشة الخبرة نفسها. ويتمثل النقد الذي
وجهه كارناب في الآتي: «لا يمكن اختبار إلا الأشياء
وحدَها، ومن ثمَّ فإن كل العبارات ذات المعنى
تختصُّ بالأشياء. يقول هايدجر إن نطاق الخبرة ليس
شيئًا. ومن ثمَّ فإن ما يزعمه هايدجر بلا معنى.»
أما الجواب الظاهراتي على هذا فيقول: «لا تتعلق كل
العبارات ذات المعنى بالأشياء، لأن بالإمكان اختبار
نطاق الخبرة، وهو ليس بشيء. ومن ثمَّ يمكن مناقشة
نطاق الخبرة بشكلٍ ذي معنى.» إذن يتَّجه النقاش نحو
ما إن كان هناك اختبار للخبرة، وهذه مسألة تخصُّ
الظاهراتية لا التحليل المنطقي.
ثمة معسكران مُتنافسان بين الفلاسفة المحترفين في
زمننا هذا. من ناحية، هناك الذين ينتمون إلى ما
يُسمى «الفلسفة التحليلية» وهم متعاطفون مع مخاوف
تُشبه مخاوف كارناب بشأن الشَّطط الفلسفي؛ ومن
ناحيةٍ أخرى، هناك من ينتمون إلى الفلسفة القارية
(الظاهراتية) وهم متعاطفون مع أسئلة هايدجر بشأن
علاقة الفلسفة بالعلوم، إضافة إلى اختبار الحقيقة.
يُفترَض بالفلاسفة التحليليين أن يكونوا واضحِين
ولكن مُملِّين، كما يُفترَض بالكُتاب الظاهراتيِّين
أن يكونوا غامِضين ولكن ذوي رؤى مُتبصرة. لا شك أن
هناك شيئًا من الحقيقة في هاتَين الصورتَين
النمطيَّتَين، لكنها ذات قيمة محدودة. ومن الأفضل
أن ننظر إلى النهجَين باعتبارهما نهجَين مكمِّلَين
أحدهما للآخر ومُتبادِلَي الإثراء لمجال الاستقصاء
الفلسفي. فالتفكير التحليلي يشجِّع على التفكير
النقدي، الذي هو فنُّ تقييم الحُجج والمفاهيم
للتأكد من ترابُطها المنطقي؛ والظاهراتية تُعزز
التفكير الإدراكي، الذي هو فنُّ معايشة وتحليل
البِنى المكوَّنة من أجزاءٍ وكل الخاصة بالأشياء
والماهيات والمقدمات والخبرة نفسها. ويميل الكُتاب
الظاهراتيون الذين يتخذون التفكير التحليلي على
مَحمل الجد أن يتمتعوا بقدرةٍ أكبر على الوصول إلى
قرائهم، كما يميل الكُتاب التحليليون الذي يتَّخذون
الظاهراتية على مُحمل الجد أن يتمتعوا بثراءٍ
إضافي. فالظاهراتية توفِّر للتحليليين إحساسًا
قويًّا بالخبرة لا ينحدِر إلى ما هو مجرد ذاتي أو
تجريبي أو عرضي. وتوفِّر الفلسفة التحليلية
للظاهراتيين دقةً مفاهيمية لا تجعل أعمالهم تنحدِر
إلى ما هو مجرد بارع أو شاعري.
إن التحليل المفاهيمي والتوضيح الظاهراتي أداتان
يحسُن بكل فيلسوف أن يكونا في متناول يده. ويرى
هوسرل أن هاتين الأداتين مكمِّلتَين
لبعضهما.
13 ويكتب هايدجر قائلًا: «لكن في حالتنا،
ليست المسألة مسألة استنباط الافتراضات وتسلسلات
الافتراضات بعضها من بعض، بل هي مسألة معرفة كيفية
الوصول إلى الأمور التي نستخلص منها الافتراضات في
المقام الأول.»
14 فالظاهراتية هي أسلوب تفلسُف ينقلنا
إلى جذور الحجج في الخبرات الأساسية.
الظاهراتية هي أسلوب تفلسُف ينقلنا إلى جذور
الحجج في الخبرات الأساسية.
هايدجر في مواجهة هايدجر (١٩٣٣)
كان هوسرل يهوديًّا تحوَّل إلى المسيحية حين كان
شابًّا. وكان هايدجر كاثوليكيًّا تحوَّل إلى
البروتستانتية حين تزوَّج امرأة من تلك الطائفة.
وقد اعتبر الاشتراكيون القوميون أن الظاهراتية حركة
يهودية بسبب جذور هوسرل. وحين وصلوا إلى سدة
السلطة، رأى هايدجر بشكلٍ مأساوي أنهم يَعِدون
بتجديد الحضارة الأوروبية، فأصبح أول رئيسٍ نازي
لجامعته، وقد ظلَّ يشغل هذا المنصب مدة تسعة أشهر.
لقد أُريق الكثير من الحبر وسيظلُّ يُراقُ في
الكتابة عن هذه الفترة التي لا تُغتفر من حياة
هايدجر.
15 وحريٌّ بالروح الفلسفية أن تجعل صاحبها
بمنأًى عن النزعة القومية والتحيُّزات العرقية، ومع
ذلك فمن الواضح أن هايدجر استسلم لفيروس
الأيديولوجية. أي معنًى — إن وُجِد — يمكن أن
نستقيه من هذا؟ الأمر المُهم في هذا السياق هو أن
نرى أن خطايا هايدجر لا علاقة لها بالظاهراتية؛ فهي
تظل مِن صُنعه الشخصي. فهو ينتقد «ترتيب الحب» عند
شيلر، غافلًا عن أساسه الظاهراتي الراسخ، ويُعاني
عواقب ذلك: سقوطه فريسة للنزعة القومية يعكس بوضوحٍ
تشويهه للحُب وتوجيهه في اتجاهٍ غير صحيح. وكان
هناك عالِم ظاهراتي آخر — هو ديتريش فون هيلدبراند
— وهو من تلاميذ هوسرل، يقاتل ضد الاشتراكية
القومية ونتيجة لذلك تعيَّن عليه الهروب من ألمانيا
لينجو بنفسه.
16 وبإمكاننا أن نُميِّز بين هايدجر
الإنسان وهايدجر الفيلسوف الظاهراتي. في واقع الأمر
كان أكثر تلاميذ وأتباع هايدجر موهبة من اليهود. من
بين هؤلاء حنة آرنت (١٩٠٦–١٩٧٥) وليو شتراوس
(١٨٩٩–١٩٧٣)، وهانس يوناس (١٩٠٣–١٩٩٣)، وإيمانويل
ليفيناس (١٩٠٦–١٩٩٥). كان بإمكان هؤلاء رؤية قيمة
فلسفته رغم ما كان يلفُّ حياته من فضيحة
وحرج.
الميتافيزيقيا (١٩٣٥)
الظاهراتية هي تفسير للخبرة، وهذا التفسير يدافع
عن قُدرتنا على فهم ماهية الأشياء وحقيقتها. فهل
هذا الموضوع وهذه المهمة يُضنيان الفلسفة؟ وبالأخص،
هل يعوقان إمكانية الميتافيزيقيا، التي تُحقق في
ماهية الأشياء في حدِّ ذاتها ووجودها؟ عادة ما كان
يُنهي هوسرل مقدمات أعماله بتلميحٍ للميتافيزيقيا.
وكان يرى هايدجر في البداية أن الظاهراتية لا شيء
سوى استقصاءٍ في أساس الميتافيزيقيا. لكن بدءًا من
حوالي عام ١٩٣٥، أبعد هايدجر استقصاءه عنها، بل
وتحدَّث عن أن أفكاره تتجاوزها. فهل اتبع هايدجر
كارناب، في نهاية المطاف، في الاعتقاد بأن
الميتافيزيقيا مستحيلة؟
أصبح هايدجر يعتقد أن التراث الميتافيزيقي لم
يُبلِ بلاءً حسنًا في تفسير الخبرة؛ فهو دائمًا ما
يُفسِّرها على أنها العلاقة بين شيءٍ وآخر وبهذا
يغفل المفهوم الأوسع للعالم. لكن القول بأن
الميتافيزيقيا لم تُبلِ بلاءً حسنًا في الإجابة عن
تساؤل الظاهراتية أمر يختلف عن قول إنها لم تبلِ
بلاءً حسنًا في الإجابة عن تساؤلها هي نفسها بشأن
وجود الأشياء.
إن أعظم اكتشافات الظاهراتية هو التوصُّل لتفسير
كيف أن الخبرة لا تُضعِف استقلال الأشياء عن
الخبرة، بل تسمح لنا، عوضًا عن ذلك، بأن نعرفها في
ظل استقلالها. والعودة إلى الأشياء في حد ذاتها
تعني أننا عدنا إلى تلك الأشياء المتعالية ذاتها.
فماذا عن تلك الماهيات التي تكشفها الخبرة لكنها لا
تبتدِعها؟ ماذا عن وجود الأشياء التي تُصادفها
الخبرة؟ لماذا تكون الأشياء على النحو الذي هي
عليه؟ لماذا تُوجَد الأشياء من الأساس؟ ولماذا نحن
موجودون، نحن الذين تحدُث الخبرة لهم؟ حتى بعد أن
فسَّرنا ظهور الخبرة من حيث حضور وغياب الزمن
والتاريخ، فإننا لم نُفسِّر بعدُ ظهور وجود
الأشياء، أي حقيقة أنها على النحو الذي هي عليه.
يعلق هوسرل قائلًا:
نحن الظاهراتيين نُنتج أيضًا افتراضات،
أي، مواقف نظرية فعلية، لكنها تكون موجَّهة
بصفةٍ حصرية تجاه الخبرات المعيشة
والعمليات المرتبطة بها. في الأنطولوجيا،
على الجانب الآخر، نُنتج افتراضاتٍ فعلية
موجهة مباشرة نحو الموضوعات في حد ذاتها،
في شكلها المجرد، عوضًا عن أن تكون موجهة
إلى الموضوعات المُدركة والموضوعات ما بين
علامتَي اقتباس.
17
إن شيئًا ما لا يتوقف عن الوجود
لأنه غائب؛ ولا يكون سبب حضوره الوحيد هو أنه
موجود. فمسألة الحضور والغياب تختلف عن مسألة
الوجود واللاوجود. إذن هناك مما يدعو للتأمل أكثر
مما تستكشفه الظاهراتية. إن الاستقصاء الميتافيزيقي
في تجاوز الماهيات وسببية الوجود يظلُّ إمكانية
حقيقية، الأمر الذي يُكمِّل الظاهراتية أكثر مما
يُشكِّل منافسًا لها.
الظاهراتية الوجودية (١٩٤٣)
في عام
١٩٢٩، يسافر هوسرل إلى فرنسا ليُلقي محاضراته في
باريس، ونتيجة لذلك، تكتسب الحركة الظاهراتية زخمًا
وحياة جديدةً هناك. ويُعدُّ جابريل مارسيل
(١٨٨٩–١٩٧٣) — الذي صكَّ مصطلح «الوجودية» —
ظاهراتيًّا بصورة عامة في نظرته، كما يضع تفسيرًا
ظاهراتيًّا للحياة اليومية في العالم المعاصر،
مركَّزًا بصفةٍ خاصة على التفاعُل بين الاغتراب
والمشاركة وأهمية الجسد الحي. والعالِم الظاهراتي
الفرنسي الكبير موريس ميرلو بونتي (١٩٠١–١٩٦١) —
الذي يظلُّ كتابه بعنوان «ظاهراتية الإدراك» عملًا
كلاسيكيًّا — يبذل جهدًا كبيرًا للحديث عن الثلاثي،
الذات – الآخر – الشيء، باعتباره مؤثرًا في عمل
الخبرة الإدراكية؛ وفي حوار مع علم النفس، يُبرز
ميرلو بونتي الهياكل الأساسية في الإدراك، وكيف أن
عالمًا مشتركًا ينشأ بفضل مواردنا الفردية. ويعتنق
كلٌّ من جان بول سارتر (١٩٠٥–١٩٨٠) وسيمون دي
بوفوار (١٩٠٨–١٩٩٦) الوجودية، لكنهما غالبًا ما
يفعلان هذا على حساب الالتزام الظاهراتي بالخبرة
باعتبارها مجالًا للحقيقة؛ ونتيجة هذا هي التأكيد
على الحرية التي تقترب من العشوائية. ففي رأي
سارتر، نحن «محكوم علينا أن نكون
أحرارًا».
18 وفي البوار الروحي الذي خلَّفته الحرب
العالمية الثانية، تغلبت وجوديتهما على الظاهراتية
بتقديم التوجيه الرواقي حول تحمُّل المرء المسئولية
عن ذاته وعواطفه. والحرية الغاشمة للوجودية هي خطأ
ظاهراتي. ففي الواقع، تجد الحرية نفسها ضمن نطاق
أفق الحقائق التي يسلط الحب الضوء عليها.
هايدجر المبكر والمتأخر (١٩٤٧)
يظلُّ النص الفلسفي الوحيد الأكثر تأثيرًا في
فلسفة القرن العشرين غير مُكتمل. في البداية، كان
كتاب هايدجر «الوجود والزمن» أكبر من أن يسعه كتاب
هوسرل السنوي، لذا استُبعِد القسم المنهجي الأخير
والنصف الثاني عن تاريخ الفلسفة بأكمله حين جرت
طباعة الكتاب في عام ١٩٢٧. ثم أصبح هايدجر غير راضٍ
عن مسودة ذلك القسم، فحاول إعادة كتابتها من أجل
اللحاق بموعد النشر الوشيك. وفي نهاية المطاف،
تخلَّى هايدجر عن كل أملٍ في إنهاء النص وفقًا
للخطة التي كان قد وضعها، فقرَّر أنه في حاجة
لبداية جديدة. ونتيجة ذلك، سيظلُّ كتاب «الوجود
والزمن» غير مكتملٍ للأبد. السؤال الآن: ما العلاقة
بين أعظم ما أبدع هايدجر وكتاباته اللاحقة؟ في
كتابه «الوجود والزمن»، يعتبر هايدجر نفسه
ظاهراتيًّا صرفًا؛ وفي كتاباته الأخيرة — والتي بدأ
نشرها لأول مرة في عام ١٩٤٧ — يتلاشى المصطلح، فيصف
ما يفعله على أنه «تأمُّل» أكثر منه مُمارسة
للظاهراتية. فهل تخلى هايدجر عن الظاهراتية؟
إن استعراضًا متأنيًا لمبادئه يكشف أن كلَّ شيءٍ
يُثمِّنه بشأن الظاهراتية في عام ١٩٢٧ يظل ذا قيمة
عظيمة بالنسبة إليه في تأملاته اللاحقة، وفي واقع
الأمر أنه أتى على التحوُّل الذي قام به من أجل أن
يكون ظاهراتيًّا أكثر ممَّا كان أثناء كتابته لعمله
«الوجود والزمن». وفي فقرة شهيرة يُفسِّر فيها سبب
عدم قُدرته على الانتهاء من أعظم أعماله،
قال:
التأمل الذي يحاول دفع الفكر قدمًا نحو
حقيقة الوجود لا ينجح — في ظل فقر ما
حقَّقه من تقدُّم أولي — في التعبير إلا عن
جزء صغير من ذلك البعد المختلف تمامًا
باستخدام اللغة. وهذه اللغة حتى تشوِّه
نفسها، لأنها لم تنجح بعدُ في استبقاء
المساعدة الضرورية للنظرة الظاهراتية بينما
تتجاوز التركيز غير الملائم على «العلم»
و«البحث».
19
إنه يرغب في أن يكون ظاهراتيًّا
أكثر تأثيرًا، كما يرغب في أن يعرض مساحة أوسع من
المجال الظاهراتي للخبرة والتعبير. إنه لا يتخلَّص
من الخبرة الظاهراتية. بل بالأحرى، يحاول أن يجد
مفرداتٍ تُعبِّر بصورة أوفى عن «السماح للأشياء بأن
تتبدَّى كما هي»، الكامن في الخبرة
الظاهراتية.
20 ومن يُطلق عليه هايدجر المتأخِّر لا
يتزعزع في التزامه تجاه الظاهراتية، ولا بالتزامه
تجاه «السماح لمادة الفكر الملائمة بأن
تتبدَّى».
21 بل يظلُّ ظاهراتيًّا بالكامل منذ
البداية وحتى النهاية، فلم يتردَّد إلا فيما
يتعلَّق بأسلوب اللغة التي يستخدمها لخدمة أغراضه
الظاهراتية. ومفرداته الفنية تفسح المجال إلى شكلٍ
أكثر شاعرية من التعبير، وسبب هذا ببساطة أنه يعتقد
أن الشكل الشعري يُعبر بصورة أقدر عن معايشة الخبرة
التي هي تعريف الظاهراتية.
التأويلية (١٩٦٠)
في كتابه «الوجود والزمن»، يصف هايدجر نسخته من
الظاهراتية بأنها «تأويلية» في تطوير بسيط على منهج
هوسرل. والتأويلية مصطلح يهتمُّ في الأصل بصعوبة
فهم النصوص، خاصة الكتاب المقدس. وبتطبيقه على
الظاهراتية، يريد هايدجر تسليط الضوء على الدور
الجوهري للفهم والتفسير في منطق الخبرة. فنحن نختبر
الأشياء باعتبارها هذا أو ذاك. وفي ألمانيا، يُطور
هانس جيورج جادامار (١٩٠٠–٢٠٠٢)، تلميذ هايدجر،
تناولًا غنيًّا عن فهم النصوص وكل الخبرات تحت لواء
«التأويلية»، فيما يستمر في ممارسة فن الرؤية
الظاهراتية. وفي فرنسا، يعمَد بول ريكور
(١٩١٣–٢٠٠٥) — وهو ظاهراتي لامع وأصيل — إلى توصيف
أعماله بأنها تأويلية. قد يبدو الأمر أن التأويلية
تتمتع بنوع من الاستقلال في مقابل الظاهراتية، لكن
التأويل في واقع الأمر ليس سوى لحظة من التفسير
الظاهراتي؛ فالتأويلية تهدف إلى إظهار كيفية نشأة
الحقيقة ضمن تجربة التفسير. ويتحدث جادامار حديثه
المعروف عن «اندماج الآفاق»، التي هي طريقة لتسمية
الخبرة الظاهراتية للعالم المؤثِّرة في فهم أعمال
شخصٍ آخر.
22 على سبيل المثال، قراءة كتاب أفلاطون
«الجمهورية» هي محاولة لإحياء معنى عالم الخبرة
الذي ينبض بالحياة في الكتاب وعبرَه. إن جادامار
وريكور — ومن أعقبوهما — يشكِّلان تطبيقًا للتحليل
الظاهراتي على النصوص والمحادثات. بهذا الشكل،
تنتمي التأويلية إلى المهمة الظاهراتية المتمثلة في
توضيح خبرة الحقيقة.
ما بعدَ الحداثة (١٩٦٧)
من الضروري أن نذكر شيئًا عن المعلِّق الظاهراتي
السابق جاك دريدا (١٩٣٠–٢٠٠٤) الذي حظِيَت قراءاته
الألمعية والمتبصِّرة في أغلب أحوالها لهوسرل
وأعلام آخرين في تاريخ الفلسفة بالكثير من الاهتمام
في العقود الأخيرة من القرن العشرين. يبني دريدا
على تركيز هايدجر على أبعاد الخبرة التي يراوغنا
دائمًا، ويقرأ كل النصوص الفلسفية في ضوء فكرةٍ
أساسية ما، دائمًا ما تراوغ المُفكِّر، وهي مفهومٌ
مركزيٌّ ما لا يمكن تحديده. يلهم دريدا الكثير من
المناصرين، خاصة خارج نطاق الفلسفة في الدراسات
الأدبية؛ ويبدو ابتكاره للتفكيكية طريقةً تعمل بشكل
مناقض للغاية الظاهراتية، بالعودة إلى الأشياء في
حدِّ ذاتها. عوضًا عن ذلك، يرغب دريدا في إظهار أن
الغاية الفلسفية محكوم عليها بالفشل؛ فالأشياء
دائمًا ما ستراوغنا؛ ودائمًا ما سنسحب شباكنا
خاويةً من أي صيد.
في واقع الأمر، إلى الدرجة التي تكون فيها
التفكيكية مفهومة، فما هي إلا جزء من المنهج
الظاهراتي. فكما ذكرت في الفصل التاسع، ابتكر
هايدجر أسلوبًا لقراءة التراث الفلسفي يُهندس ما
قاله الفلاسفة هندسةً عكسية، من أجل اكتشاف الخبرات
الأصلية التي تحضُّ على هذه الرؤى الفلسفية. يفعل
هايدجر هذا من أجل تحريرنا للتعرُّف على ماهية
الخبرات بأنفسنا. أما دريدا فيعزل اللحظة السلبية،
لحظة التفكيك، ويُخرجها من الحركة الإيجابية تجاه
فهم الخبرات؛ بهذا، يوهِن باعثها ويجعل الأمر بلا
معنى. إذ لماذا سنُفكك إلا لإفساح المجال لرؤيةٍ
جديدة؟
يشك مفكرو ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو
(١٩٢٦–١٩٨٤) في مسألة كفاية منظور الشخص الأول في
الظاهراتية. ففي نهاية المطاف، نحن نظلُّ مُشكِلين
من خلال القوى التاريخية بحيث لا يُمكننا جلبها
للظهور الحدسي إلا من خلال عدسة منظور الشخص الثالث
التاريخي. ويتَّجه فوكو نحو أمثلة كالجنون
والجنسانية ليبرهن على أن الفهم الراهن لهذه
الأشياء يتغير بتغير الحقب الزمنية، وأن هذه
التغيُّرات في الفهم بدورها تؤثِّر على الكيفية
التي يختبر بها الأفراد ذواتهم. فما ننظر إليه
باعتباره داءً عقليًّا يُعزَل صاحبه بسببه كان في
وقتٍ ما اختلافًا يُحتفى به. ويعتقد فوكو أن دفق
الحقائق التاريخية ذلك يعني أنها لا تنطوي على
ماهية، ومن ثمَّ فإنها تقاوم التحليل الظاهراتي
الكلاسيكي.
23 يمكن أن نُقر بالنقطة التي مفادها أن
التاريخ في بعض الأحيان وبالنسبة إلى الموضوعات
الثقافية المُعقَّدة، يقدم فهمًا أفضل من خلال
التنويع الخيالي مما يُمكننا نحن من خلال التنويع
الحُر. بهذا الشكل، يمكن للتاريخ أن يساعد على
التوضيح الظاهراتي للماهيات. لكن وفيما يتعلق
بالهيكل الأساسي للخبرة، فإن زعم فوكو عبثي وهادم
لذاته. فهو يقول إن من سمات نطاق الخبرة أنَّ ما
يأتي للنور مُقيَّد بالتاريخ. لكن هذا الزعم في حد
ذاته إن كان صحيحًا، يتجاوز سماتِ أي سياقٍ تاريخي.
والتحليل الظاهراتي لنطاق الخبرة الهيكلي، لمصطلحات
مثل العالم والجسد والحديث والحقيقة والحياة والحب
والتعجب، ليس فرديًّا. بل هي سمات أساسية لمعايشتنا
للخبرة. قد لا نستوعب هذه المصطلحات دائمًا، لكنها
موجودة في الخلفية بالضرورة، إذ تجعل من الخبرة
أمرًا مُمكنًا. إن نقد فوكو للظاهراتية يخفق في
التمييز بين الماهيات اليومية والماهيات المتعالية
للخبرة، وهذا يمنعه من إدراك أن الانتباه إلى
التاريخ لا يُقوِّض الشاغل الرئيسي
للظاهراتية.
إن التفكيكية وما أثارته من فلسفةٍ ما بعد حداثية
يحافظان على الانفتاح الأساسي الذي تقوم عليه
الظاهراتية، لكنهما يقوِّضان هذا الانفتاح خلسة
فيما يتعلق برفضهما لمَيله إلى الحقيقة التحويلية
والتغييرية للأشياء.
استشراف المستقبل
يظلُّ هوسرل مهووسًا بعض الشيء بفكرة تحويل دراسة
الخبرة إلى عِلم. ولا حرج في هذا بالطبع كفكرة، إذا
كان من المفهوم أنَّ العلم استقصاء مَبني على
الأدلة، لكن هوسرل يريد بلوغ المُثُل الحديثة
لليقين في وجه الشك الراديكالي، وهو يفعل هذا عن
طريق التأكيد مرةً تلوَ الأخرى على أولوية الذات
باعتبارها العنصر الفاعل للخبرة. ويظلُّ هوسرل
غارقًا في بعض المصطلحات الحديثة الخاصة بالذاتية
والتي تُمثِّل حواجز غير ضرورية أمام المبتدئين.
ويمكن لهذا أن يُعطي انطباعًا خاطئًا بأن
الظاهراتية تستقصي الذات فقط ولا شيء آخر، في حين
أن أي دراسة مُتمعِّنة لها ستكشف أن جِدَّة
الظاهراتية تكمن تحديدًا في الطريقة التي تُفجَّر
بها الأنا الحديثة، بحسب تعبير هايدجر.
24
يعوِّض هايدجر هذا الإغفال في عمل هوسرل، لكنه
وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يستقر أبدًا على
مفردات فنية؛ عوضًا عن ذلك، يقدِّم هايدجر الألفاظ
الجديدة الواحد تلوَ الآخر في العمل تلوَ الآخر،
على الرغم من أنه يحاول دائمًا في نهاية المطاف أن
يُعبِّر عن الشيء ذاته. فاستشراء المصطلحات الفنية
يمثِّل أمام المبتدئين حواجز غير ضرورية. ومن
الصحيح أيضًا أن هايدجر يظل نزَّاعًا بصورةٍ حصرية
تجاه استقصاء للبِنى الأساسية لفهم الوجود. وهذا
تركيز رائع، لكنه ليس بالشيء الوحيد الذي يمكن
للظاهراتية استقصاؤه؛ إذ يُقدِّم هايدجر رؤيته
المحدودة كرؤيةٍ شاملة، ونتيجة لذلك، لا يسع المرء
سوى أن يشعر أنه مقيد في تحليلاته.
والظاهراتية تكون في أقوى حالاتها حين تُعَدُّ
حركة تعاونية. هذا هو ما تراءى لهوسرل في الأصل،
لكنه ظلَّ جامدًا ولم يستطع أن يرى قيمة الإسهامات
الفردية للآخرين. لكننا في وضع يمكِّننا من أن
نُبلي بلاءً أفضل. يمكننا أن نجمع أفكارَ ورؤى
هوسرل وهايدجر وآخرين حتى يتسنَّى لنا رؤية ما
يقدمونه لنا لنراه، ونفهم ما يعطونه لنا لنفهمه،
ونتفلسف من جديد براديكالية تُنافس راديكالية
سقراط. إن ظاهراتيِّين مُعاصرين مثل روبرت
سوكولووسكي وجان لوك ماريون ومارك راثال وشون
جالاجر ودان زاهافي يبرهنون على الإثمار المُستمر
للظاهراتية في الحوار مع الفلسفة المعاصرة للعقل
واللغة والدين.
إننا اليوم نشكُّ في قدرتنا على الوصول إلى
الحقائق التي تتجاوزنا. وفي ظل الرواية الزهيدة
والرديئة والبائسة الراهنة عن الخبرة، لدينا كل سبب
يدفعنا للاعتقاد بأننا لا نستطيع أن نكون
مُستقبِلين للأشياء، بل ينبغي علينا أن نُركِّبها.
وأعظم ميزة للظاهراتية هي أنها تُقدم لنا روايةً
قوية وغنية عن الخبرة، يمكن فيها لحقائق الأشياء
والماهيات أن تُصبح تحت الضوء. ففي تكويننا
للأشياء، نسمح لها أن تكون؛ أي، إننا نُحرِّر
أنفسنا لنستقبِل الأشياء على حقيقتها. كيف يكون هذا
ممكنًا؟
الخبرة تحدث في «عالم» مشترَك من الحضور.
و«أجسادنا» تضع كل فردٍ منا في هذا العالم مع
الآخرين، ومن ثمَّ تؤسس للتفاعُل بين حضور الأشياء
وغيابها بالنسبة إلينا. أما «الحديث» — والذي يبدأ
في الحضور — فيجعلنا مُنفتِحين على عالَم من
الغيابات القصيَّة. وتنشأ «الحقيقة» حين يتوافق ما
قيل مع ما اختُبر في الجسد. أما «الحياة» البشرية
فهي نمط العيش الفريد في حقيقة الأشياء. ويجعلنا
«الحب» منفتِحين على المحبوب ويسمح لنا أن نشارك
وبقوةٍ نفسَ الفهم تجاه الأشياء. وأما «التعجب»
فيُوقِظنا وينبِّهنا إلى أعماق الخبرة ويؤدي بنا
إلى حقيقة الأشياء.
تدعونا الظاهراتية للانتباه إلى البهجة التي
أفسدتها العادة، وإلى استعادة ثراء الخبرة
وتجديدها، الأمر الذي لا يجعلنا مُنغلقين على
ذواتنا، بل يفتح أمامنا أبواب عالم من الأشياء
الباهرة. ويسمح لنا المنهج الظاهراتي بأن نتعجَّب
ونتساءل بشأن ماهية الخبرة واختبار الماهيات؛ فهو
يوضِّح كيف تنشأ الحقائق المتجاوزة بفضل ممارستنا
لفعل التجاوز. وتأتي الحركة الظاهراتية من كل الذين
يسعَون إلى مخالفة الفكر التقليدي، وينغمسون في
العملية الفوضوية الخاصة باستكشاف الخبرة. إنها
تأتي من كلِّ من يعرفون — مثل هوسرل — الإثارة
الناجمة عن حُب حقيقة الأشياء:
الحب، من خلال فعل المحبة، هو التبدُّد
في الآخر والعيش فيه والتوحُّد معه، إنه
ليس تلذُّذيًّا أو هادفًا للمتعة بصورةٍ
تامَّة، وإن كان يجلب مباهج عميقة ومتعًا
كبيرة.
25