الفصل الثاني

العالم

إن وقفتَ قريبًا بما يكفي من لوحةٍ تعود للمدرسة الانطباعية — أي قريبًا بما يكفي لتُثير غيظ حارس المتحف المُفرط الانتباه — فستجد الصورة الرائعة قد تحولت إلى مجموعاتٍ متداخلة من الألوان. وإن تراجعتَ خطوة، فستجد الأنماط تدخل مجال التركيز ثانية، وتبرز أمامك مثلًا بركة تطفو عليها زنابق الماء، أو كاتدرائية روان تتألق في أضواء المساء. ورغم أن الرسَّام بول سيزان كان يقدِّر نطاق الألوان الذي يستخدمه الانطباعيون في رسم لوحاتهم، فإنه كان يظنُّ أنهم أغفلوا شيئًا أساسيًّا بشأن الإدراك — وهو الشيء محلُّ الإدراك. ومن ثمَّ لجأ إلى تحديد الإطار الخارجي للأشياء المرسومة في لوحاته بخطوطٍ سوداء سميكة. لهذا السبب تبرُز ثمار الكمثرى على الطاولة في رسوماته عن الحياة الساكنة، وتتبدَّى مزرعته من بين الخضرة المحيطة الكثيفة. والآن مَن منهما كان على حقٍّ بشأن الإدراك، الانطباعيون أم سيزان؟ إنك إذا ما نظرت إلى ثمرة كُمثرى على طاولتك، فلن تراها محاطةً بخطوط سوداء. بل ستراها حيِّزًا ملوَّنًا ومغرورقًا بالضوء. بهذا الشكل، يبدو أن سيزان أساء فهم الإدراك. رغم هذا، يبدو أن الأشياء التي يرسمها سيزان دائمًا ما تكون ملموسةً أكثر، ومن ثمَّ حقيقية أكثر من بدائلها عند الانطباعيين. لماذا؟ لأن خبرتنا لا تتألَّف من حدودٍ تحدُّ الأشياء، لكنها تتضمَّن سماكة الأشياء البارزة في نطاق الإدراك. وإحدى الطرق المناسبة للتعبير عن هذه السماكة على سطحٍ ثنائيِّ الأبعاد هي برسم إطارٍ حول الشيء، بحيث يبدو بارزًا من قماش اللوحة. إن الخبرة الفعلية رباعية الأبعاد، فهي تُضيف العُمق والحركة خلال الزمن. انظر إلى ثمرة كُمثرى موضوعة على طاولة. ستبدو كسطحٍ مستدير ملوَّن فقط إذا ما نظرنا إليها بعينٍ واحدة، أو إذا ما نظرنا إليها في صورةٍ مُلتَقَطة. أما حين النظر بكلتا العينَين وتحريكهما عليها، فسنراها جسمًا كرويًّا، كشيءٍ له أكثر من جانب. والآن أمسِكها وقلِّبها وأَزِل الملصق وخذ قضمة. الخطوط الحدودية التي رسمها سيزان توضِّح لنا حقيقة أن الخبرة هي تجربة الأشياء، وأن عناصر التجربة هذه تبدو صلبة وحقيقية بسبب استكشافنا الجسدي لها.

fig1
شكل ٢-١: لوحة بول سيزان «الحياة الساكنة مع التفاح والكمثرى». متحف المتروبوليتان للفنون، نيويورك، من إرث ستيفن سي كلارك، ١٩٦٠.
وينبِّهنا سيزان إلى الحقيقة المبتذلة، والرائعة في نفس الوقت، والتي مفادها أن الشيء يوفِّر آفاقًا من الاستكشاف. وما الجانب الذي يظهر به الشيء، والزاوية التي يتبدَّى منها دومًا، إلا جانب واحد أو زاوية واحدة من عديد جوانبه وزواياه. فثمة جانب خلفي لثمرة الكمثرى، وثمة جانب تحتي للطاولة. وثمن الحضور هو غياب مكافئ. فلرؤية جانبٍ ما، لا بد للآخر أن يُصبح خفيًّا. وأن تكون بالداخل يعني ألا ترى الخارج، والعكس صحيح. ويُعبِّر هوسرل عن الطريقة التي يشتمل بها الجانب الحاضر على وعيٍ بالجوانب الأخرى الغائبة كما يلي: «بهذه الطريقة وحدَها يُمكننا أن نفهم كيف يمتد الوعي، ويتجاوز ما يختبره في الواقع. يمكن لهذا أن يعني — إن جاز القول — أنه يمتد ويتجاوز نفسه، وأن معناه يمكن أن يكتمل.»1 الحضور ينوِّه إلى غياباتٍ قد تُصبح حاضرة لاحقًا. بهذا الشكل، الإدراك دائمًا ما يؤدي إلى المزيد من الإدراك. تعبِّر لوحات سيزان عن جانبٍ من أفق الاستكشاف، جانب من هذا التلاعُب بين الحضور والغياب، والذي هو فاعل في أي خبرة. يكتب ميرلو بونتي أن «سيزان يعرف بالفعل ما ستُكرره المدرسة التكعيبية: أن الشكل الخارجي — الغلاف — ثانوي ومُشتق من شيءٍ أعمق، أنه ليس هو السبب في أن الشيء يتخذ شكلًا مُعينًا».2 الإدراك لا يعني ببساطةٍ سلبيةَ الانطباعات؛ إنما هو النشاط الذي يتمثَّل في السماح للأشياء بإظهار نفسها على حقيقتها. إنه ينطوي على ما تُطلِق عليه الظاهراتية «التكوين»، النشاط المُتمثِّل في السماح للشيء بأن يتبدَّى كما هو على طبيعته. وبفضل هذا النشاط، تبرُز الأشياء على حقيقتها أمام خلفية التيه المليء بالانطباعات الجامحة. بهذا يتطرَّق سيزان إلى أحد الاكتشافات الأساسية للظاهراتية، ألا وهو القصدية.

القصدية

ينطبق مفهوم القصدية الظاهراتي بوجهٍ عامٍّ على كل خبراتنا. الخبرة كلها هي مسألة إدراك شيءٍ باعتباره شيئًا ما، والفكر كله هو مسألة استهداف شيءٍ باعتباره شيئًا ما. ولا يمكن فهم الخبرة ولا الأفكار ببساطة فيما يخصُّ جانبهما «الداخلي» فقط لأنهما «خارجيَّان» أيضًا بشكلٍ لا مفرَّ منه، الأمر الذي يضعنا على اتصالٍ بعالم مُشترك من الأشياء. مثلًا، ثمة تجربة من التحيُّر والارتباك في المرة الأولى التي يرى فيها طفلٌ مقصًّا. إنه يرى أنه شيء، لكنه لا يمكن أن يقصد به ما هو عليه بالفعل. لكن قد يشرح له أحدُ الوالدَين أو مُقدمي الرعاية فيقول: «هذا مقص» بينما يُريه وهو يقصُّ به شيئًا. ولبقية حياته، سيكون الطفل قادرًا على أن يقصد بالمِقص أنه مقص.3 إننا متى دخلنا تجرِبة أو فكَّرنا فإننا نختبر أشياءً أو نُفكر فيها. ليس الأمر أننا نتفاعل معها وحسب، وإنما نتفاعل معها في إطارٍ معين، باعتبارها هذا الشيء أو ذاك. يُساعدنا التحليل الظاهراتي للقصدية على رؤية أن اللغة والناس هما الوسط الذي تتشكل من خلاله الخبرة، مما يوفر لنا طرقًا مختلفة لإدراك ما هو مُتاح لنا.

إننا نعدِّل القصدية في كل مرة نشاهد فيها فيلمًا. فنحن نرى المُمثلة آن هاثواي في شخصية «فونتين» من فيلم «البؤساء» (لو ميزرابل) أكثر مما نراها في شخصية «الملكة البيضاء» من فيلم «أليس في بلاد العجائب» (أليس إن ووندر لاند) أو شخصية «دافني كلوجر» من فيلم «عصابة أوشن الثمانية» (أوشنز إيت)، ونقصد هذه الشخصيات بشكلٍ مختلف عنه، حين نراها بشخصيتها الحقيقية عندما تظهر في حفل جوائز الأوسكار. إذن كيف يُمكن لشخصٍ واحد أن يظهر بشخصيتَين، شخصيته الحقيقية وشخصية أخرى؟ إننا نقصدها بشكلٍ مختلف في كلتا الحالتَين بسبب تحوُّل في السياق. في أحد السياقات هي تظهر كجزءٍ من عالم خيالي؛ وفي سياق آخر تظهر متجاوزةً لذلك العالم، وتنتمي للعالم الذي يُمكننا فيه أن نلتقِيها بشكلٍ شخصي. يمكن لهذه الفكرة أن تكون معقَّدة بشكلٍ مُثير للفكاهة، ويُمكننا أن نفهم هذا التعقيد بسهولة. ففي فيلم «عصابة أوشن الاثني عشر» (أوشنز تويلف) تلعب جوليا روبرتس شخصيتَين. فهي تلعب شخصية خيالية اسمها تيس، والتي يصادف أنها تشبه نجمة السينما الشهيرة جوليا روبرتس، وتلعب دور جوليا روبرتس، نجمة السينما الشهيرة. من الناحية الإدراكية، تظهر المُمثلة جوليا روبرتس بنفس الشكل أثناء تأدية كلتا الشخصيتَين، لكن المشاهِد يرى — ومن دون صعوبة — أن الشخصية الأولى هي «تيس»، والأخرى على أنها «جوليا روبرتس». وكل من يرى الفيلم وهو يفهمه يشارك نفس المظهر العام. علينا أن نفعل شيئًا لنمكِّن الأشياء من الظهور على حقيقتِها، ولكن بفضل هذا النشاط، فإن بإمكان الأشياء الظهور على حقيقتها أمامنا جميعًا.

هل الطاولات موجودة في خيالنا؟

كثيرًا ما تُقدَّم القصدية على أنها الاكتشاف الجديد للظاهراتية، لكن هذا شيء مُضلل؛ فالجميع يرى أن الأفكار تتعلق بأشياء؛ فالمسألة تتعلَّق بوضع تلك الأشياء المقصودة. أهي في أذهاننا أم في العالم بالخارج؟ يتعلَّق الاكتشاف الظاهراتي بعمومية المظاهر؛ هي ليست أشياء خاصة في عقولنا لكنها أبعاد عامة لأشياء بذاتها. تنتمي المظاهر لعالم الخبرة الذي نتشاركه جميعًا من خلال مواردنا.

فكِّر في أمر الجلوس لتناوُل وجبة. إذا ما جلستَ على رأس الطاولة ونظرت إلى سطحها المُستطيل، فستبدو لك الطاولة على شكلِ شبه منحرف. (بالطبع لن تظنَّ أن الشكل هو شِبه منحرف بالفعل، بل سترى أن شكلها المُستطيل يبدو بشكل شبه منحرف من هذا المنظور.) وإذا ما أخذتَ الكرسي إلى أحد أركان الطاولة، فسيبدو لك سطحها على هيئة شكلٍ رباعي غير مُنتظم ليست له أضلاع متوازية. وإذا ما تحركتَ إلى أحد جوانب الطاولة، فسيبدو سطحها على هيئة شبه مُنحرف مرة أخرى، لكن في هذه المرة ستكون القاعدة طويلة والأضلاع قصيرة. وأخيرًا، تخلَّ عن كل تهذيب تتمتع به وقف على سطح الطاولة وانظر إلى أسفل. حينها لن تعاود الطاولة المُستطيلة الشكل الظهور بشكل شبه منحرف أو بشكلٍ رباعي غير منتظم، بل ستظهر بشكلٍ مستطيل. ما الذي نخرج به من لعبة المظاهر هذه؟

يظن الفيلسوف ديفيد هيوم أن من البيِّن أن لعبة المظاهر هذه تحدث داخل عقولنا. أولًا، يقرُّ هيوم أن من البديهي أن نعتقد أن الطاولة تظل كما هي بمعزِل عن خبرتنا بشأنها. لكنه يصرُّ على أن الفلسفة «تدمِّر» هذا الاعتقاد عن طريق إثبات أن كل ما نختبره هو انطباعاتنا الذاتية؛ فنحن لا نستطيع الوصول إلى الأشياء على حقيقتها:

هذه الطاولة، والتي نرى لونها الأبيض ونشعر بصلابتها، يُعتقَد أنها موجودة بمعزل عن إدراكنا لها، وأنها شيء خارجي بالنسبة إلى عقولنا التي تُدركها. حضورنا لا يهبها الوجود، وغيابنا لا ينفيه. بل تحتفظ الطاولة بوجودها مُنتظمًا ومكتملًا، بمنأًى عن موقف الكائنات الذكية التي تُدركها أو تتأمَّلها.

لكن هذا الرأي العام والأساسي لدى جميع البشر سرعان ما يدمَّر بفعل أكثر الفلسفات تواضعًا، والتي تُعلِّمنا أنه بالنسبة إلى العقل لا يمكن أن يكون هناك شيء موجود سوى صورة أو إدراك، وأن الحواس هي المداخل الوحيدة التي تنتقِل هذه الصور من خلالها، من دون القدرة على إنتاج أي تفاعلٍ فوري بين العقل والشيء.4
لماذا قد تدمِّر الفلسفة ما هو بديهي إذن؟ يقول هيوم: «الطاولة التي نراها يبدو أنها تتضاءل، بينما نتحرك مُبتعِدين عنها، لكن الطاولة الحقيقية، والتي تكون موجودة بصورةٍ مستقلة عنَّا لا تعاني أي تغيير؛ ومن ثمَّ لم تكن الطاولة شيئًا سوى صورتها التي كانت عليها، والتي كانت بدورها حاضرة أمام الذهن».5 لذا إليك فرضيتَيه والاستنتاج المنطقي الناتج عنهما:
  • (١)

    إدراكنا للطاولة يتغير باستمرار.

  • (٢)

    الطاولة الحقيقية لا تتغيَّر.

  • (٣)

    ومن ثمَّ فإننا نُدرك شيئًا آخر — أي، صورًا ذهنية — وليس الطاولة الحقيقية.

يظنُّ هيوم أن الفرضية الثالثة حتمية. «هذه هي إملاءات المنطق الواضحة؛ وما من رجلٍ يستخدم التفكير شكَّ أبدًا في أن الوجود الذي نلاحظه حين نقول هذا المنزل أو تلك الشجرة هو لا شيء سوى صورٍ مدرَكة في الذهن، ونسخ أو تمثيلات مؤقتة خاصة بوجودٍ آخر، يظلُّ بدوره مكتملًا ومستقلًّا».6 الطاولة مُستطيلة الشكل وليست بشكلٍ شبه منحرف أو شكلٍ رباعي بدون أضلاع متوازية؛ والشكل الأخير لا بد أن يكون تصورًا ذهنيًّا محضًا.
fig2
شكل ٢-٢: إدراك طاولة.
كيف يمكن للظاهراتية أن تخلَّ بخطِّ التفكير هذا من أجل إعادة إدراك الأشياء على حقيقتها؟ كيف يمكن لها أن تتَّخذ جانب البديهة وفلاسفة ما قبل الحداثة مثل أرسطو وأوغسطينوس في مقابل «إملاءات المنطق الواضحة»؟ يتفق هوسرل مع فرضيتَي هيوم الأُولَيَين، بل ويقدِّم تحليلًا أكثر دقةً حتى للفرضية الأولى، إدراك الطاولة دائم التغيُّر. فليس ما يتغيَّر هو مظهر الطاولة وحسب حين نسير حولها، بل وحتى حين نظلُّ ساكِنين، يتغيَّر الإدراك بين اللحظة والأخرى بسبب «التدفُّق المستمر» للزمن: «أغلق عينيَّ. وحواسِّي الأخرى لا تكون ذات صلة بالطاولة. حينها، لا يكون لديَّ إدراك بشأنها. أما عندما أفتح عينيَّ أُدركها مرة أخرى. أهو نفس الإدراك؟ ليس تمامًا. إنه حين يعود لا يُصبح هو ذاته تحت أي ظرفٍ من الظروف. الطاولة وحدَها هي التي لم تتغيَّر، وأنا واعٍ بأنها متطابقة بسبب الوعي الذي يجمع بين الذاكرة والإدراك الجديد.»7 يتَّفق هوسرل مع هيوم في أن الطاولة نفسها لا تتغير. إذن كيف يُمكن له أن يتفادى استنتاج هيوم المحتوم بأننا نختبر لا الأشياء بذاتها بل انطباعات خاصة عنها؟ يقدِّم هوسرل فرضية ثالثة مختلفة:
  • (١)

    إدراكنا للطاولة يتغير باستمرار.

  • (٢)

    الطاولة الحقيقية لا تتغير.

  • (٣)

    الإدراك المُتغيِّر يُقدِّم الطاولة الحقيقية ذاتها بكل واقعها.

يقدِّم هوسرل هذا التماثُل الذاتي الحقيقي لا كفكرةٍ مجرَّدة ولكن كشيءٍ تؤكِّده التجرِبة باستمرار، وبصورةٍ حتمية. كيف يمكن أن يكون هذا؟ قارَبَ هيوم بين المتغيِّر وغير المتغيِّر من وجهة نظر مجرَّدة، ووجد أنهما مُتبايِنان. ويدلف هوسرل بواقعيةٍ إلى داخل معالم الخبرة، ويجد أن المُتغير وغير المُتغيِّر متضافران بالضرورة. إن الخبرة نفسها — إذا جرى تدبُّرها بتمعُّن وتفكُّر — تدحض رأي هيوم وتؤكِّد قول هوسرل:

يظهر الشكل نفسه (بافتراض أنه هو ذاته بالنسبة إلينا) مرارًا وتكرارًا وبصورةٍ مستمرة «بشكل مختلف»، في ظلالٍ منه تكون مختلفة دائمًا.8

يطلق هوسرل على هذه المظاهر المختلفة «الظلال»، أو الأطياف الكثيرة التي يُلقي بها الشيء بينما نستكشفه. فالشيء لا يختبئ خلف مظاهره. إنما تلك المظاهر هي ما تكشف عن حقيقة الشيء. إننا نرى أن الطاولة المستطيلة مستطيلة الشكل فقط حين تبدو على شكل شبهِ منحرفٍ، بينما نجلس إلى جوارها أو نراها على هيئة شكلٍ رباعي ليس له أضلاع متوازية بينما نجلس عند أحد أركانها. وهذا المظهر أو ذلك هو ما يعطي للطاولة شكلها المُستطيلي. ويُنقذ هوسرل عمومية الطاولة عن طريق التفريق — وليس الفصل — بين المظاهر من جانب، وما يتبدى لنا بفضل المظاهر من جانبٍ آخر. إن المظاهر زائلة بالفعل، وذلك كما يُشير هيوم، ولكنها تُقدِّم بشكلٍ مستمر حقيقة الشيء الذي نُدركه. ومن ثمَّ فإن المظاهر ليست خاصة؛ لأنها تضعنا على اتصالٍ بالملامح العامة للأشياء.

يرى هوسرل بُعدَين لمظاهر أي شيء. الأول هو البُعد المكاني. اجلس على أحد الكراسي وانظر إلى الطاولة من نفس وجهة النظر؛ لن يختلف شكل الطاولة. في واقع الأمر، بإمكاننا أنا وأنت تبديل الأماكن، وبافتراض أننا نتساوى في الطول، لن يختلف على الإطلاق شكل الطاولة بالنسبة إلى كلٍّ منَّا. هذا الشكل الذي يمكن لكلٍّ منَّا أن يتشاركه مع الآخر هو الشكل الذي نراه للطاولة من مكاننا ويرتبط بوجهة نظرٍ مُعينة. لكن هناك البُعد الزمني كذلك. اجلس على أحد الكراسي وانظر إلى الطاولة من نفس وجهة النظر. وأغلق عينَيك ثم انظر ثانية. جرى الآن اعتراض الإدراك ثم استكماله مرةً أخرى. ستجد أن الإدراك قد اختلف، رغم أنه يقدِّم الشكل نفسه. هذا المظهر غير المُتكرر والمُتفرِّد بشكلٍ مؤقت هو الظل. وبفضل بُعد الخبرة الخاص — الكيفية التي يبدو بها الشيء في لحظةٍ ما من نقطةٍ ما — بإمكاننا معًا التوصُّل إلى الكيفية التي يبدو بها الشيء في أي وقتٍ من هذه النقطة أو تلك، أي بإمكاننا معًا إدراك حقيقته. إن التفاعل بين وجهات النظر المختلفة يجعلنا نُدرك سماكة الأشياء؛ فهي ليست على ما هي عليه لكل واحدٍ منَّا على حدة، بل لنا جميعًا معًا. يكتب هوسرل فيقول: «لم نُدرك أبدًا أن منظور «الآخر» يمتدُّ إلى العالم كله، مشكلًا موضوعيته ومُضفيًا عليه هذا الطابع من البداية».9 إن هيوم يختزل المظاهر إلى انطباعات ذهنية خاصة؛ أما هوسرل فيرى أنها تجسيدات عامة ومشتركة للأشياء.

كثيرًا ما يُخطئ فلاسفة مثل هيوم في تصوُّر الإدراك على أنه نوع من التصوير، ومن ثمَّ يرَون أن الصور تُوجَد في أذهاننا، وبهذا يُمهدون الطريق لمشكلة كيفية ارتباط هذه الصور بالأشياء المجهولة لولاها التي تصِفها. في الواقع، تربطنا المظاهر بما يبدو، بدلًا من أن تقف بيننا وبين ما يبدو؛ فهذه المظاهر تنتمي لكينونة الشيء الذي يتبدَّى.

بهذا الشكل، لا يسأم هوسرل أبدًا من أن يقول إن الإدراك يقدِّم الأشياء على حقيقتها. يقول: «إدراكنا لشيءٍ لا يُعيد تقديم شيءٍ غير موجود، وكأنه كان ذكرى أو وهمًا، بل يركِّز على ما هو موجود، ويستوعب الشيء ذاته بوجوده المادي.»10

ألا تنتمي المظاهر للمخ؟

يبدو أن المُحفزات الحسية لا تعدو كونها «بيانات في صورتها الخام».11 ومن ثمَّ يتعيَّن على المظاهر أن تحدث بنفس الطريقة التي يُحوِّل بها المخ تلك البيانات إلى نموذج. على سبيل المثال، يرى نيتشه أن كل الكلمات هي استعارات لصور هي نفسها وبدَورها استعارات للمُحفزات العصبية، ويُضيف أننا لا نجد طريقةً لمعرفة كيف تنتظم هذه الاستعارات في شكل أشياء خارج رءوسنا.12 ويكتب سيرل شيئًا مُشابهًا، فيقول:
افتراضي الأساسي ببساطة هو كالتالي: … المخ هو كل ما لدينا لتحقيق غرض تقديم العالم إلى أنفسنا، وينبغي أن يكون كلُّ شيءٍ نستطيع استخدامه داخل أمخاخنا. لا بد أن يكون كل مُعتقد من معتقداتنا مُمكنًا لكيانٍ عبارة عن مخٍّ في وعاء؛ لأن كل واحدٍ منا هو على وجه التحديد مخ في وعاء؛ الوعاء هو الجمجمة و«الرسائل» التي تأتي إليه تأتيه بفعل التأثيرات الخارجية على النظام العصبي.13
على النقيض، يدفع عالم الظاهراتية روبرت سوكولووسكي بأن الإدراك الحسِّي لا يُعَد مسألة تأثيرات مادية على مستقبلاتنا الحسِّية. عوضًا عن ذلك، الطاقة التي تستخدمها حواسنا هي «طاقة مُحيطية»: الضوء المُتناثر بفعل الشيء المدرك هو ضوء تشكَّل بفعل شكلِ الشيء وتركيبته. والطاقة المُتشكِّلة تعكس مظهر الشيء، أي الطريقة التي يبدو بها. بهذا الشكل تختلف هذه الطاقة عن الطاقة المُشعَّة، والتي تأتي مباشرةً من مصدرها؛ ومن ثمَّ لا تعكس أي شيء.14

في الواقع، تربطنا المظاهر بما يبدو، بدلًا من أن تقف بيننا وبين ما يبدو؛ فهذه المظاهر تنتمي لكينونة الشيء الذي يتبدَّى.

ولكي نستوعب الفارق بين الطاقة المحيطية والطاقة المشعة، إليك مثالًا بسيطًا: تخيل أنك تقود سيارتك في طريقك للمنزل على طريقٍ ريفي مظلم، وتلتقط مصابيح سيارتك الأمامية زوجًا من العيون أمامك؛ فتضغط على الفرامل بقوة، وتتوقف أمام قطيع من البقر المُتجوِّل. قارن بين خبرة بقرة من هذا القطيع وخبرتك أنت. أصيبت البقرة بالعمى من ضوء مصابيح السيارة الأمامية لأن الضوء أتى مباشرةً من مصدره ولم ينعكس على أي سطح. وعلى النقيض من ذلك، لم يُصبك الضوء بالعمى، بل جعلك تُبصِر؛ لأن الطاقة المُنبعثة من المصابيح لم تؤثِّر بصورةٍ مباشرة على مستقبِلاتك الحسية، بل انعطفت بأن انعكست عن البقرة نفسها، وبانعكاسها تغيَّرت؛ لذا استطاعت تلك الطاقة أن تمدَّك من على مسافةٍ بشكلِ عينَي البقرة وهيئتهما، ولم تُبيِّن لك طريقًا مفتوحًا. ليست الطاقة في حاجةٍ لأن تكون عاملًا مؤثِّرًا يُسبب العمى؛ إذ يمكن لها أن تكون وسيطًا ينقل مظهر شيء.

كيف ينبغي أن ننظر إلى المخ والجهاز العصبي في ضوء الحقيقة التي مفادها أن الطاقة المُحيطية تنقل لنا المظاهر؟ يقترح سوكولووسكي أننا يمكن أن نعتبر المخ والجهاز العصبي كشيء مشابهٍ لعدسة زجاجية عادية يُمكنك أن تنظر إما «إليها» أو «من خلالها»: يمكن لهذه العدسة أن تكون الوسيلة الشفافة التي تسمح للعالم أن يتواجَد أمامنا؛ ويمكن أيضًا أن تكون شيئًا نجعله نحن مُستقلًّا بذاته، فننظر في خصائصه المادية.15 أنت في حاجة لمُخك لتستقبل طاقة مظهر البقرة، لكن المظهر ليس هو عقلك ولا أنت كذلك. وأنت تستطيع رؤية البقرة بفضل الضوء وبفضل مُخك، لكن ليس بالطريقة التي تؤدِّي إلى أن يقف الضوء أو مخك بينك وبين البقرة. والبقرة تظهر وتتبدَّى بفضل هذه الوسيلة الشفافة التي تعمل على نقل المظهر، بنفس الطريقة التي قد ترى بها البقرة من خلال نظارتك أو من خلال الزجاج الأمامي للسيارة.

أين أنت في هذه الخبرة؟ أنت لستَ قطعة دومينو أخرى في هذه السلسلة: الضوء والبقرة والطاقة المُتشكِّلة وخلايا الشبكية والمحفزات العصبية والمخ وأنت. بالأحرى أنت السائق المتجسد الذي يرى البقرة. توفر الجوانب الفسيولوجية الخلفية لخبرتك، لكن ليس بطريقةٍ تعرف بها أو تختزل هويتك. إننا نشتهي صورة تُدخلنا في العملية؛ نريد أن نرى أنفسنا في طبقةٍ عليا فوق العمليات البيولوجية، باعتبارنا ترسًا آخر في تلك الآلة. لكن المشكلة في واقع الأمر مع هذه الصورة هي أنها لا تنطوي على ما نريده مُصوَّرًا، وهو وجود وجهة نظر. الحقيقة ببساطة هي أننا بحاجةٍ لأن نشغل وجهة نظرٍ ما من أجل أن نتصور واحدة.

حين يعمل المخ والجهاز العصبي، فإنهما يقدِّمان لنا عالم الأشياء. لكننا حين نتجاهل وجهة نظرنا العاملة، يمكن أن يبدو — وهنا يتساءل المرء، من سيبدو له ذلك؟ — أن العقل والجهاز العصبي يُمثلان عائقًا غير قابلٍ للنفاذ أمام هذا العالم. ويقع سيرل في نفس خطأ هيوم حين يجعلنا نتماهى مع أمخاخنا؛ إذ يجعل المظاهر خاصة، وينقلها إلى داخل طيَّات العقل. وبفعله هذا يَعزلنا سيرل ضمنيًّا بعضنا عن بعض وعن عالَمٍ مشترك من الحقيقة. على النقيض من ذلك، يُعيد علماء الظاهراتية عمومية المظاهر؛ وبفعلهم هذا يُبرهنون أيضًا على أن الخبرة تحدُث لا في داخل أمخاخنا بل بالعالم الخارجي مع الآخرين وبين الأشياء. يفتح هيكل الخبرة مجالًا من الحضور والغياب يمكن للُّغة أن تبرز فيه وتُمثِّل صوت الحقيقة.

الحقيقة ببساطة هي أننا بحاجةٍ لأن نشغل وجهة نظرٍ ما من أجل أن نتصور واحدة.

العالم كمكان للحضور

يقدم هايدجر مثاله المميز الخاص بالمطرقة التي نستخدمها في أداء المهام. إننا نبدأ في التفكير في المطرقة عوضًا عن المهمة التي بين أيدينا حين يتبيَّن لنا أن المطرقة مفقودة أو بها عطب. فقط حين يلاحظ عدم إتاحة المطرقة، يمكن أن ننظر إليها باعتبارها شيئًا مستقلًّا، ونستكشف خصائصها المادية.16 في الغالب، نحن نُدركها عن طريق الإمساك بها وإنجاز الأعمال بها. فما العامل المؤثِّر في مثل هذه الأمثلة عن الأشياء التي تُستخدَم بصورة يومية؟ المَغزى من هذه التمارين الظاهراتية ليس الإشارة إلى أن العملية هي جوهر الأشياء، أو أننا ينبغي أن نكون عمليِّين في فهمِنا لذاتنا. في واقع الأمر يكتب هايدجر قائلًا: «لم يخطر لي قط … أن أُحاول أن أزعم أو أثبت بهذا التفسير أن جوهر الإنسان يتمثَّل في حقيقة أنه يعرف كيف يستخدِم السكاكين والشوك ويستقل الترام».17 ففي نهاية المطاف، هناك أيضًا خبرات تتجاوز ما هو عملي، مثل خبرة الجمال والاندهاش أمام الطبيعة. تُقدِّم الظاهراتية تفسيراتٍ عن طبيعة خبراتنا مع الأشياء اليومية من أجل تسليط الضوء على نقاط ثلاث:
  • (١)

    الأشياء التي ننشغل بها تشغلنا في ضوء اهتماماتنا الشاملة. انظر إلى روتين إفطار الصباح. رغبتي في تأمين الطعام لنفسي ولأحبابي، وهي رغبة متجذِّرة في الاهتمام الذي أصبُّه على حياتي، تُعد أساسًا لسلسلة المعاني هذه. أنا أختار لسدِّ الجوع تقديم شرائح الخبز المحمَّص، وهذا يقتضي مني نمطًا من الأفعال: إحضار شرائح الخبز، ووضعها في آلة التحميص، وانتظارها حتى تنتهي الآلة، ثم وضعها على طبق، واستخدام سكينٍ لتغطيتها بالمربى والزبد. هذه الأشياء — الخبز وآلة التحميص والطبق والسكين والمربى والزبد وما إلى ذلك — متضافرة بعضها مع بعض؛ تضطلع هذه الأشياء بالمعنى الذي تحمِله في ضوء رغبتي في تناول الخبز المحمص، وهي رغبة تُعبِّر عن الاهتمام الذي أُغدقه على نفسي وعلى أحبائي. لذا، ما يرغب علماء الظاهراتية في لفت الانتباه إليه باستخدام أمثلةٍ من الأدوات والسلوكيات الروتينية اليومية هي الطريقة التي تحمل من خلالها الأشياء في العالم الخارجي المعنى في ضوء شبكةٍ من الدلالة التي تتكشَّف بالإشارة إلى أنفسنا وقُدرتنا على الفعل. الخبرة لا تنطوي على نفسٍ منعزلة في مقابل شيءٍ منعزل. بل تنطوي على استكشافنا لسياقٍ غنيٍّ بالأشياء مع الآخرين.

  • (٢)

    الأشياء التي تجذب انتباهنا تفعل ذلك من خلال التفاعُل بين الحضور والغياب. يُمكننا أن نضع قطعة من الخبز في فرن آلة التحميص، ونُعِد القهوة ونصب كوبًا من عصير البرتقال. وبينما نفعل هذه الأشياء، قد يتحول انتباهنا مثلًا من الألم الذي نُعاني منه في الرقبة إلى افتقار طاولة المطبخ إلى الترتيب، أو حتى قد يقفز إلى المُستقبل، ونفكِّر في المشاريع المُفترض إنجازها في وقتٍ لاحق من اليوم. في الغالب، لا يتوقف انتباهنا عند العناصر التي تكوِّن روتين تناول طعام الإفطار — مثل الخبز وآلة التحميص والقهوة والكوب وعصير البرتقال. عوضًا عن ذلك، تقبع هذه الأشياء في الخلفية بينما نهتم بشئونٍ أخرى. إلا أنه من المُمكن أن تُصبح هذه العناصر مهمة، فتبرز عن الخلفية لتنتقل إلى الواجهة. من الممكن أن تُصبح هذه العناصر حاضرة بصورة بارزة. على سبيل المثال، لنفترض أن الخبز المحمص خرج من الآلة وقد زاد التحميص عن حدِّه حتى احترق. ستعود أفكارنا من التخطيط، لليوم وستلزم هذا العنصر الحاضر. قد نتساءل لماذا لم يتحوَّل لون الخبز المحمص إلى البُنيِّ وتحول إلى الأسود بدلًا من ذلك. وسنكتشف أن أوضاع الضبط كانت غير مُفعَّلة، أو أن الطبق كان منخفضًا جدًّا أو أيًّا كان السبب الذي ستجده. ثم سنُصلح المشكلة، وسنعود إلى أفكارنا بشأن الأشياء القصيَّة، بينما يستمر الروتين الذي نقوم به.

  • (٣)

    يحدث تفاعل الحضور والغياب بفضل ما يُطلِق عليه علماء الظاهراتية العالم. إننا لا نتعامل فقط مع الأشياء التي في نطاق الحضور؛ بل إن أي أحدٍ منَّا يستطيع في أي لحظةٍ أن يُحوِّل انتباهه عن الأشياء، سواء كانت حاضرة أم غائبة، ويُوجهه إلى فكرة الحضور والغياب نفسها. حين نفعل ذلك، نحن لا نترك وراءنا الأشياء، لكننا الآن ننظر إليها باعتبارها أشياء أُخرى مُغايرة لمجال الحضور والغياب ذاته. إن حركة الماضي والمُستقبل الزمنية، وحركة القريب والقصِّي المكانية تحدُثان هنا في هذا المكان المنفتح. من هذا المنطلق، العالم ليس هو الكرة الأرضية أو كوكب الأرض الذي ننظر إليه عن طريق تصغير الصورة في خرائط جوجل. ومن هذا المنطلق أيضًا، هو لا يُعَدُّ مجموعة من الأشياء أو المجموعة التي تضمُّ كل شيءٍ موجود. بل هو بالأحرى نطاق الخبرة المُمكنة، المكان الذي نلتقي فيه بالأشياء المختلفة عنا. فأن نكون بشرًا يعني أن نكون تلك الكيانات التي تُوجَد في عالم الخبرة المُشترك هذا، والذي بفضله نستطيع لقاء أشياء بعينِها.

إن أوجُهَ الحضور والغياب المختلفة للأشياء في خبرتنا تحدث في ضوء خلفية فكرة الحضور والغياب ذاتها. يكتب هايدجر قائلًا: «لا يمكن أبدًا تصوُّر الكيفية التي يمكن بها مصادفة شيءٍ ما — شيء طبيعي — في حضوره الجسدي الخالص إن لم يكن هذا التصور مبنيًّا على أساس «الحضور المُسبق للعالم».»18 ومن ثمَّ إذا كان البشر يُعرَّفون من خلال الخبرة، فإنهم يُعرَّفون بما يطلِق عليه هايدجر «الوجود في العالم».

ويشير سيزان إلى تفاعل الحضور والغياب في الإدراك عن طريق تحديد الإطار الخارجي للأشياء التي يرسمها؛ يفعل الفنانون التكعيبيون ذلك عن طريق الإبراز المازح لكل الأوجُه الغائبة في آنٍ واحد. بهذه الطريقة يبتكِرون أسلوبًا بديلًا للفت الانتباه إلى سماكة الخبرة الرباعية الأبعاد في حين يكونون مُرتبطين بالمِثل بالحيِّز الثنائي الأبعاد. لكن التكعيبيِّين لا يجذبوننا إلى قلب الخبرة كما يفعل سيزان؛ إنهم لا تسترعيهم الدعوة المنقوشة في الحضور. عوضًا عن ذلك، ينهرُنا التكعيبيون عن نطاق الخبرة؛ ففي لوحاتهم، الإدراك حدث بالفعل؛ كل شيءٍ منثور في الأرجاء؛ لا يوجَد ثمة شيء خفيٌّ لنكتشفه. تقودنا الظاهراتية — كما يفعل سيزان — إلى قلب الخبرة التي تحدث وتُرشدنا إلى أعجوبة الأعاجيب، وهي أن الأشياء تتبدَّى لنا وتدعونا للاستمرار في الاستكشاف. يكتب هوسرل فيقول:

التفسير الظاهراتي لا يفعل شيئًا سوى أنه «يحلل المعنى الذي يتمتع به هذا العالم لنا جميعًا، قبل أي تفلسُف»، ومن الواضح أنه يتأتَّى من خبرتنا وحدها — «وهو معنى يمكن للفلسفة أن تكشف عنه لكن لا يمكنها أبدًا أن تُغيِّره»، كما أنه ينطوي (في أي خبرة فعلية) على آفاق تحتاج إلى توضيحاتٍ جذرية، وذلك بدافعٍ من ضرورةٍ أساسية وملحَّة، وليس بسبب ضعفنا.19

في حين تدعونا الخبرة لفهم الأشياء، تدعونا الظاهراتية إلى فهم العالم الذي تحدُث فيه هذه الخبرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤