الفصل الثالث

الجسد

لنفترض أنك تنظر إلى مرآة. أترى نفسك أم انعكاسًا لك؟ يبدو أن ما تراه لا يمكن أن يكون هو أنت؛ لأنك هنا تقوم بفعل الرؤية، لذا لا يُمكنك أن تكون هناك أيضًا ويقع عليك هذا الفعل. إلا أن الانعكاس يُظهرك وكأنك لستَ هنا وحسب بل وهناك أيضًا. يقول ميرلو بونتي معلقًا: «المرآة في حدِّ ذاتها أداة سحرية عالمية … تُحوِّلني إلى آخر وتحول الآخر إليَّ أنا.»1 تمامًا كما تستطيع أن تنظر إلى صورةٍ لك وترى نفسك في مكانٍ آخر، يُمكنك أن تنظر في مرآةٍ وترى نفسك في مكان آخر حتى وأنت لم تبرح مكانك. الاختلاف هو أنه ليس هناك فارق زمني بينك وبين صورة المرآة، بل هي صورة حيَّة لك في الوقت الفعلي. والآن لنفترض أنك ستُشيح بوجهك عن المرآة وتنظر إلى يدِك حيث تُمسك بفرشاة أسنان. لن ترى انعكاس يدك في المرآة لكنك سترى يدك حيثما هي. لنقل كذلك بأنك استخدمتَ يدك الأخرى في لمس يدِك التي تمسك بفرشاة الأسنان. اليد الأولى ستكون ملامسة لفرشاة أسنان، وستكون ثمة يد أخرى تلمسها أيضًا؛ تلك اليد ستشعُر وسيتم الشعور بها.

تمامًا كما تستطيع أن تنظر إلى صورة لك وترى نفسك في مكانٍ آخر، يمكنك أن تنظر في مرآةٍ وترى نفسك في مكانٍ آخر حتى وأنت لم تبرح مكانك.

يستخدم علماء الظاهراتية مصطلح «الجسد» ليُشيروا إلى الطبيعة المزدوجة للكيان الحي الذي يقدِّم لنا عالمًا من الأشياء القابلة للإدراك، ويجعلنا أحد تلك الأشياء. ولدى اللغة الألمانية، وهذه ميزة كبيرة، كلمتان للتعبير عن الجسد وهما Leib وKörper. الأولى تشير إلى الجسد الحي القادر على التعبير ومعايشة الخبرات، والثانية تُشير إلى الجسد المادي الخامل. من أوجه القصور في اللغة الإنجليزية أننا ليس لدينا هذا التفريق، ومن ثمَّ نُطلق على كلا النوعَين، الحي وغير الحي، اسم «جسد». أما أقرب الكلمات في الإنجليزية إلى كلمة Leib فهي كلمة flesh، وهي كلمة عميقة الإيحاء، وتُشير إلى شيءٍ غريزي أو شهواني. أفضِّل في سياقات أخرى أن أطلق على هذا المعنى «الجسد الحيوي»، لكن هنا وفي ظل محاولةٍ منِّي للتعبير عن الظاهراتية باستخدام مصطلحاتٍ بسيطة، فسأستخدم كلمة «الجسد». لاحظ أنني أستخدِم الكلمة بصورة تقنية لأشير إلى الجسد الحي الذي يختبر العالم؛ ولا أؤكِّد بذلك على ارتباطاتها بالنزعات الحسية. الجسد الحي هو الذي يشعُر ويُمكن أن يُشعَر به على حدٍّ سواء، ويرى ويمكن أن يُرى. أثناء اختبارنا للعالم، ينشر الجسد للآخرين انخراطنا في تجربة الأشياء. وبفتح العالم لنا وأمام بعضنا بعضًا، هو يُعدِّنا إلى الحديث عن الأشياء ومعرفتها على حقيقتها.

حاضرٌ بالجسد

التقطْ حجرًا بيدِك. ستجده باردًا وناعمًا. قلِّبه في يدك، تحسَّسْه. لاحظ كيف تشعر بشعورٍ جيد وأنت تتحسَّس منحنياته بأصابعك. اغمس الحجر في الماء، واستشعر برودة الماء على يدك، ولكن انظر أيضًا كيف يُبرز الماء حيوية ألوانه؛ يتلألأ الضوء بصورةٍ رائعة الجمال تُعطيه شكلًا لامعًا. إن جسدك هو الذي يسمح لهذا الشيء الجامد أن يظهر على هذا الحال. والآن مرِّر يدك عبر الخصلات الكثيفة لفراء كلبٍ ما. استشعر جسده وهو يعلو ويهبط مع كل نفسٍ يتنفَّسه وهو يستجيب للمساتك؛ لاحظ شعور الدفء المريح الذي يظهر بداخلك؛ استلقِ حين يتأثَّر الكلب بعطفك فيشرع في مسِّك بأنفه، ويُحاول لعق وجهك. إن أجسادنا تُساعدنا على استكشاف العالم ولقاء لا الأشياء وحسب بل أيضًا رفاقنا المستكشفين لها.

التفاعل الخاص بالتجربة بين الحضور والغياب، والذي استعرضناه في الفصل الثاني يتطلَّب شيئًا إضافيًّا حتى يُفهم. الحضور دائمًا ما يكون هو الحضور لأحدهم. نحن نقول: «دعني أنظر إلى الشيء» وبالطبع نريد فعلًا أن نُمسكه ونقلِّبه في أيدينا، ويكون حاضرًا أمامنا. نُريد أن نجعله حاضرًا بأن نجعله قريبًا منَّا. وهذا يعني أن الحضور يستوجب الجسد. حين نقرِّب منَّا شيئًا، ليست المسألة أننا نُريد جعله قريبًا منَّا ماديًّا؛ بل هي مسألة تقريبه منَّا بحيث نستكشفه ونستعرِضه على نحوٍ مفيد؛ ومِن ثمَّ نعرفه. بهذا الشكل، الخبرة ليست شيئًا يحدث «بداخلنا». بل هي شيءٌ يحدث «في العالم» عبر الاستكشاف النشط الذي يُحققه الجسد.

تخيَّل أنك نزلتَ في بلدٍ لا يتحدَّث أهله إلا بلغةٍ غير معروفة لك. والآن تخيَّل شيئًا أكثر غرابة، حتى أنت لا تعرف الإنجليزية ولا أي لغةٍ أخرى أيًّا كانت، بل وفاقد القدرة تمامًا على الحديث. كيف ستتعلَّم الحديث بلغة أهل هذا البلد التي يتحدَّثون بها من حولك؟ فأنت لا تستطيع أن تسأل ماذا يُسمى هذا الشيء، ولا يُمكنك كذلك محاولة قرن أفكارك بالإنجليزية مع أصوات الكلمات غير المعروفة التي تتناهى إلى سمعك. سيتعيَّن عليك أن تبدأ من الصفر. ما الذي سيتعيَّن عليك فعله؟ قد يبدو هذا الموقف مستحيلًا — بل وميئوسًا منه بشكل قاطع — عدا من حقيقة أن كلًّا منَّا وجد نفسه في مثل هذا الموقف تمامًا، وتعامل معه بطريقةٍ ما بنجاح، حتى إننا الآن نتمتع بإجادةٍ تامَّةٍ للُغتنا الأم. إن أي لغةٍ أخرى قد نعرفها كالإنجليزية والفرنسية والصينية تتألَّف من نظامٍ من الإشارات التي تعني ما تفعله بفضل العُرف. نحن لا نُخلَق ونحن نعرِّف معنى أي كلمات، بل عوضًا عن ذلك، يتعين علينا أن نفكَّ شفرتها بطريقةٍ ما. يمكننا أن نتعلَّم لغةً أجنبية بالإشارة إلى لُغتنا الأم، لكن كيف اكتسبنا لُغتنا الأولى؟ كيف حدث ذلك؟

يُشير علماء النفس إلى شيءٍ يُدعى «قراءة العقل» لتفسير الجسر ما قبل اللغوي بيننا وبين الآخرين.2 فالرُّضَّع يقرءون عقول مَن حولهم ومن ثمَّ يستطيعون فهم الكلمات التي تمر بأسماعهم: ككرة وقطة وماما وما إلى ذلك. ولا يقصد علماء النفس بذلك أي قدرة سحرية أو خارقة، ولا نوعًا من حاسَّةٍ سادسة تزوِّدنا بسبيلٍ إلى أفكار الآخرين الخفية. عوضًا عن ذلك، يقصدون أن السلوك الخارجي يقدم أدلةً تساعد على فهم الحالات العقلية الخفية. إذ قد يُشير مُستخدِم اللغة إلى شيءٍ ما بينما ينطق بلفظ «كرة» ومن ثمَّ يستطيع الرضيع أن يستنتج أن هذه الحركة الجسدية تُشير إلى هذا الشيء الذي تعنيه هذه الكلمة في عالمه. إلا أن هذا الاحتكام إلى قراءة العقل لا يتناسَب إلى حدٍّ كبير مع الحقائق الظاهراتية. إذ إن الانتباه المتأنِّي للخبرة يكشف أن المعنى لا يكمُن خلف الجسد، بل يظهر في حركة الجسد، ويبرُز من خلالها. أي إن الرضَّع يتعلَّمون أن يتحدثوا، لا بفضل مهاراتهم في الاستنتاج بل بفضل التجسُّد الطبيعي للجسد.3 إن المعنى غير مُستتر خلف الجسد؛ بل هو متجسِّد في الحركة تجاه الأشياء محط الانتباه أو بعيدًا عنها. يتعلَّم الرضع الحديث بفضل «قراءة الجسد» وليس قراءة العقل.

جرِّب القيام بهذا النشاط. قف وسط ميدان مزدحِم وحدِّق باهتمامٍ نحو الأعلى في شيءٍ ما، ربما يكون طائرًا يحوم بالمكان. ستكون نظرتك مُعدية، حيث سيطِّلع الآخرون بصورة عفوية على محط اهتمامك، والذي أصبح الآن ظاهرًا بفضل سلوكك الجسدي: «ما الأمر؟ ماذا ترى؟» لن يتعيَّن على الناس أن يستنتجوا أنك تنظر إلى الأعلى باهتمام؛ بل سيرون ذلك. بالطبع لن يعرفوا ما تنظر إليه إلا إذا أخبرتَهم أو إذا نظروا هم فيرون ذلك بأنفسهم. في الغالب، نحن ننتبِه إلى ما ينتبِه إليه الآخرون من دون تفكير. تخيل حين نكون خارج أحد المتاجر فنرى سيارة طراز فورد موديل إيه النادرة، أو عربة شركة أوسكار ماير الدعائية التي على شكل هوت دوج. نحن لا نرى المركبة غريبة الشكل وحسب؛ بل نرى أن الآخرين يرونها أيضًا. ولأن الخبرة تحدث في العالم بفضل أجسادنا، فإن خبراتنا لا تكون خاصةً أو قاصرة علينا بل تكون متاحةً لمن هم حولنا. يضعنا الجسد في عالَم من الأشياء الحاضرة والغائبة، ويضعنا في ذلك العالم مع آخرين يستطيعون اختبار أجسادنا، ومن ثمَّ معايشة خبراتنا. إن أجسادنا الحية تُوفِّر لكلٍّ منَّا وجهة نظر على العالم، وبهذا يمكن أن تكون وجهات نظر الآخرين محلَّ إدراك. بهذا الشكل، يكون الجسد نتيجة ضرورية لعمومية المظهر التي استعرضناها في الفصل الثاني. إن اللغة البدائية التي تسبق أي لغةٍ تقليدية هي المعنى الطبيعي الذي تنقله أجسادنا.

ظهور الجسد

مع وجود كاميرات المُراقبة في مساكننا الخاصة بأعداد لا تقل عن أعداد وجودها في الأماكن العامة، نحن على وعيٍ اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بأننا لا نَرى وحسب، بل وعرضة للرؤية كذلك. وإلى جانب أسئلة مهمةٍ تتعلق بالخصوصية، إن ظهورنا يتناول سؤالًا فلسفيًّا أساسيًّا: ما الذي يراه الآخرون تحديدًا حين ينظرون إلينا، وماذا نرى نحن حين نُطالع الآخرين؟

نظر أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت من نافذته، وتساءل إن كان المارَّة بالميدان أدنى منه ليسوا في واقع الأمر روبوتات ترتدي ملابس البشر. كان ديكارت بكامل قواه العقلية، لكنه تساءل، بنغمةٍ تأمُّلية، كيف يمكن أن نتأكد بصورةٍ قاطعة مما نراه حين نظن أننا نرى أناسًا آخرين. ففي نهاية المطاف، ما الذي نراه عدا المظاهر الخارجية؟ بطبيعة الحال نحن لا نرى أرواحهم ولا حيواتهم الشعورية. ومن ثمَّ ابتكر اختبارًا للتمييز بين البشر والروبوتات. أولًا، اسألهم مجموعةً من الأسئلة المعقدة وراقب إجاباتهم؛ ثانيًا، اجعلهم يُنجزون مجموعة متنوعة من المهام المُعقَّدة. فإن استطاعوا القيام بكلا المُهمَّتَين بكفاءة، فلا بد إذن أنهم مُبتكِرون وليسوا مبرمَجين؛ يتعيَّن أن يكونوا بشرًا وليسوا آلات.4 بهذه الطريقة، يواجِه ديكارت ما قد يبدو أنه سؤال مُهم: كيف يمكن أن نتأكد أن من يبدو وكأنه شخص آخر ليس في واقع الأمر شيئًا آخرَ متنكِّرًا؟ بالنسبة إلى أولئك الذين هم من خارج مجال الظاهراتية، ما يُطلق عليها مشكلة العقول الأخرى هي مشكلة لا حلَّ لها. تُصبح هذه المشكلة لا حلَّ لها عن طريق اعتبار أن العالم يتألَّف من نوعَين من الأشياء: الذوات الذين يمكن اختبارهم من الداخل وحسب، والموضوعات التي لا يمكن اختبارها إلا من الخارج وحسب. تخيل أن شيئًا يقع ضمن نطاق الحس الذاتي الخاص بي. ما الأسباب التي يُمكن أن تُشكِّل حافزًا لي لأن أُسقط عليه شيئًا من ذاتِيَّتي الخاصة؟ لماذا قد أُضفي عليه حياة داخلية؟ ما الذي يمكن أن يُطمئنني إلى أنَّ جاري ليس في نهاية المطاف روبوتًا أو زومبي؟

أحد الحلول التي اقترحها الفلاسفة هو «الاستدلال القياسي». أنا أعرف من خبراتي من داخلي. وأرى من الخارج جسدًا يتصرف بطريقةٍ مُعينة. أرى كذلك جسدي من الخارج وهو يتصرف بصورة معينة. فأنتقل إلى نتيجةٍ منطقية مفادها أنه كما أن جانبي الداخلي مُتوحِّد مع جانبي الخارجي، فلا بد أن جانبًا خارجيًّا آخر متوحِّدٌ مع جانبٍ خارجي آخر. إذن لا بد أن الجسد الذي يتصرف بهذه الطريقة هو الجانب الخارجي من جانبٍ داخلي آخر، أو شخص آخر. لكن معظم الفلاسفة غير راضين عن هذا القياس. أولًا، يبدو أن هذا القياس يفرض مُسبقًا وجود الشيء الذي ينطلق من أجل إثبات وجوده، ألا وهو أننا نتعامل مع ذاتٍ أخرى. فإذا لم نكن كذلك، فإن السلوك الذي نراه ليس متناظرًا مع سلوكنا. ثانيًا، يفترض هذا القياس أن سلوكي وسلوك الشخص الآخر يتواجدان جنبًا إلى جنبٍ بحيث يمكن المقارنة بينهما. لكن في واقع الأمر أنا لا أُولِي انتباهًا إلى سلوكي معظم الوقت، رغم أنني أنتبِهُ إلى سلوك الآخرين. سلوكي أشعر به من داخلي، وسلوك الآخر ظاهر. لا يمكن مقارنتهما مقارنة مباشرة. ثالثًا، يُعد الاستدلال القياسي عملية في غاية التعقيد، بحيث لا يُمكن أن تعمل في الأطفال والحيوانات الأخرى، لكننا نعرف أن الأطفال والحيوانات الأخرى تعي العقول الأخرى. لا بد إذن أن يكونوا عباقرة في الاستنتاج من أجل حدوث هذا. عوضًا عن ذلك، لا بد أن تحدث عملية أخرى. ومِن ثمَّ يقدِّم الكثير من الفلاسفة حلًّا مختلفًا، يُسمى «اللجوء لأفضل تفسير». فبينما ننظر إلى تلك الأجساد التي تتصرف بصورةٍ واعية، يبدو أن التفسير الأمثل لهذا السلوك هو أننا نتعامل مع أشخاصٍ آخرين مشابهين لنا. لكن من الصعب مرة أخرى أن تأخذنا الحماسة ونعتبر هذا تفسيرًا، ناهيك عن أن يكون هو أفضل التفسيرات المتاحة. إذ يبدو أنه يُغيِّب المشكلة أو يُقصيها؛ فهو لا يُبدد الشكوك التي تتسلَّل إلينا. لذا توقف الكثير من الفلاسفة عن التفكير في حلِّ هذه المشكلة.

يتفق علماء الظاهراتية على أن هذه المشكلة غير قابلة للحل، لكنهم يختلفون على سبب ذلك. إنها غير قابلة للحل لأنها تُعتبَر مشكلة زائفة؛ شيئًا تولَّد صناعيًّا، ونوعًا من أنواع التأطير غير المناسِب للمشكلات، والذي تسعى الظاهراتية إلى القضاء عليه. مشكلة هذه المسألة أنها خاطئة فيما يتعلق بالحقائق الظاهراتية للأمر. إن فكرة التفريق بين الداخلي والخارجي بالكامل شيءٌ مصطنع، ومن ثمَّ فإن فكرة أن «السلوك» شيء خارجي بحت هي فكرة خاطئة. الخبرة ليست مقتصِرة على الشخص المخاطب؛ فالآخرون لا يظهرون كموضوعاتٍ في المقام الأول؛ بل يظهرون كرفاق.

تستغني الظاهراتية عن السؤال المُصطنع المتمثِّل في: «ماذا قد تكون أسبابي التي تجعلني أنسب عقولًا إلى تلك الأجساد، التي ربما تكون بلا حياة، المتواجدة في نطاق إدراكي؟» وعوضًا عن ذلك تطرح التساؤل: «كيف نبرز أنا وأنت معًا في نطاق الخبرة؟» هذه واحدة من الحالات التي تبرُز فيها بوضوح الطبيعة التعاونية للظاهراتية؛ فعن طريق تطبيق أنفسهم بالتتابُع على المشكلة نفسها، يصل علماء الظاهراتية ببطءٍ بمنطق الخبرة إلى تعبيرٍ أكثر اكتمالًا.

يُعد شيلر أول علماء الظاهراتية الذين واجهوا ديكارت بصورةٍ مباشرة. يدفع شيلر بأن فكرة أننا نملك وصولًا مباشرًا إلى أنفسنا ووصولًا غير مباشر إلى الآخرين هي فكرة خاطئة تمامًا؛ في واقع الأمر، يعتقِد شيلر أننا نملك نفس درجة الوصول، سواء إلى أنفسنا أو إلى الآخرين. يقول في هذا الشأن: «ما نراه … أن بإمكان كل فردٍ إدراكَ خبرات رفاقه «بصورة مباشرة (أو غير مباشرة)» بقدْر مقدرته على فهم خبرته.»5 علاوة على ذلك، يوضِّح شيلر أن انفتاحنا على الآخرين لا يُعد مسألة تصادُف وجودهم حولنا. إذ يقول إنه لو كان بيننا شخصٌ مثل روبنسون كروزو — الذي لم يرَ بشرًا في حياته قط — لشعر رغم ذلك بغياب الآخرين من حيث إنه سيفتقر إلى تحقيق أفعالٍ اجتماعية بعَينها مثل الحُب. وإلى جانب شيلر، يريد هايدجر أن يؤكِّد على أن الآخرين يظلُّون محفورين في خبرتنا بالأشياء حتى إذا لم يكن حولنا أحد. بهذا الشكل، لا يُعَد الآخرون عاملًا ثانويًّا في خبرتنا بل هم العامل الأساسي. ويقول هايدجر إن طريقة وجودنا تتحدَّد بفعل «مصاحبة» الآخرين، وذلك من بين أشياء أخرى.6 بل إن شيئًا عاديًّا مثل الخروج في نزهة في أرجاء الحي يظلُّ يستحضر إلى الذهن وجود الناس، حين نلاحظ باحةً مصونة أو مركبة مركونة أمام أحد المنازل. لكن الإصرار على الانفتاح الأساسي على الآخرين حتى أثناء استكشافنا للأشياء لا يُفسر كيفية اختبار شخصٍ آخر بشكلٍ مباشر.
في أطروحتها للدكتوراه، التي أعدَّتها تحت إشراف هوسرل، تكشف إيديث شتاين الكيفية التي نختبر بها الآخرين. يحدث اختبارنا للآخرين بفضل حركةِ أجسادهم، ووضوح أفعالهم النابعة عن الإرادة، والتي نراها نحن كانعكاسٍ لأفعالنا. تبدو حركة الآخرين الحيوية مختلفةً بشكلٍ أساسي عن الحركة الميكانيكية. وتقدِّم شتاين مثالًا يتعلق بالفارق بين رؤية مسمارٍ وهو يُطرق إلى داخل الجدار، ورؤية يدٍ وهو تَخِزُ بالمسمار. ميكانيكيًّا، الحركة في كِلتا الحالتَين واحدة؛ لكن عند تعرض اليد للوخز بالمسمار، نرى أن الأمر مؤلِم. تقول شتاين: «تشعر اليد بالألم إذا وُخِزت، ونحن نرى ذلك.»7 ترى شتاين أن هذا الإدراك ينطوي على الإسقاط العفوي لحياتنا على الجسد الذي نراه. وإدراك الحركة الحيوية يُثبت وجود العديد من الرفاق في الإدراك — أو وجهات النظر بصورةٍ أعم — الذين تُعبِّر أجسادهم عن خبرتهم بالأشياء. يبني هوسرل على هذه الفكرة، ويُشير كتابه الشهير بعنوان «تأمُّلات ديكارتية» إلى الارتباط بين جسدي وجسد الآخر. كل منَّا يُدرك أن جسده موجود «هنا» وأن جسد الآخر موجود «هناك»، ونحن نفهم وجهة نظر الآخر باعتبار أن بإمكاننا تبنِّيها إذا ما انتقلنا من هنا إلى هناك.8 إذن، يحدث الارتباط بين وجهة نظري ووجهة نظر شخصٍ آخر لأنني أفهم أن وجهة نظري يُمكن أن تتغيَّر حسب مكانها الحالي.
ويُعبِّر ميرلو بونتي بصورةٍ تقليدية عن الارتباط بين الذات والآخر بأنه يحدُث بفضل الجسد، فهو الذي يمكِّن الذات والآخر أن يكونا «مدخلَين … ينتمي كلٌّ منهما إلى العالم نفسه.»9 الانعكاس بين الذات والآخر يحدُث بفضل حقيقة أن الجسد يُجسِّد وجهات نظرِنا في عالمٍ مشترك بيننا. يقول: «الجسد بالنسبة إلينا يُمثِّل أكثر من مجرد كونه أداة أو وسيلة؛ إنه التعبير الخاص بنا في هذا العالم، الشكل المرئي لنوايانا.»10 يُقدِّم ميرلو بونتي مفهومَي «الانفتاح» الخاص بشيلر وهايدجر و«الارتباط» الخاص بشتاين وهوسرل باعتبارهما مُستويَين لإدراكنا للآخرين. نحن نظلُّ منفتحِين بصورة جذرية على الآخرين، ويظهرون هم في نطاقِ تجربتنا بفضل الجسد. في هذا الشأن، تتفق الظاهراتية مع البديهيات الكلاسيكية لأوغسطينوس وأرسطو في مقابل اغتراب الذات والآخر لدى ديكارت.
الديكارتي لا يرى «نفسه» في المرآة؛ بل يرى نموذجًا زائفًا، «شكلًا خارجيًّا» يملك هو كلَّ سببٍ يحمله على الاعتقاد بأن الآخرين يرَونه بالطريقة نفسها، لكنه — في رأيه وفي آراء الآخرين من وجهة نظره — لا يُعَد جسدًا حيًّا. «صورته» في المرآة هي تأثير من تأثيرات آليات الأشياء. إن أدرك نفسه فيها وتعرَّف عليها، إن رأى أنها «تُشبهه»، فإن أفكاره هي ما تنسج هذه الصلة. أما الصورة في المرآة فلا تنتمي إليه في شيء.11

على النقيض، تؤكِّد الظاهراتية أن المرآة تعكس ما يراه الآخرون؛ أن ذاتي هي المعروضة. وبسبب الحياة — حياة أجسادنا الحيوية والحية — يُمكننا بسهولة أن نفهم قابلية وجهات النظر المُختلفة للانعكاس بشكلٍ عام. ويظهر الآخر، لا بفضل فعلٍ من أفعال المنطق مثل الاستدلال، بل بفضل إدراك قابلية الجسد للانعكاس، ذلك الجسد الذي يُجسد وجهات نظر مختلفة.

fig3
شكل ٣-١: ماري كاسات، لوحة «الصغير النائم»، ١٩١٠ تقريبًا. باستيل على ورق؛ المقاس الكلي: ٢٥٫٥ × ٢٠٫٥ بوصة. متحف دالاس للفنون، صندوق مانجر، ٣٨.١٩٥٢.إم.

انظر إلى المشهد الذي صوَّرته ماري كاسات في لوحتها «الصغير النائم». ستجد أن حضور الصغير بالنسبة إلى الأم واضح وملموس. في الصورة، هذان ليسا جسدَين جامدَين يقعان جنبًا إلى جنب؛ بل هما جسد يشعر ويُستشعَر. إن أجسادنا تؤالفنا مع دينامية خبرة الأم؛ فجسدها يعكس جسدنا. إننا نُدرك العالم بفضل أجسادنا، وبإدراكنا للعالم نلتقي أجساد الآخرين الذين يُدركون العالم بدورهم.

من خلال هذا الاستحضار للجسد، تُعيد الظاهراتية توحيد البشر مع الحيوانات وتعترِف بأصالة حياة الحيوانات الأخرى. هبْ أنك صادفتَ في أثناء تنزُّهك في الغابة أسرةً مكونة من أربعة من حيوان المُدرَّع تبحث عن طعامٍ لها. تمضي الحيوانات في الأرجاء بسرعةٍ بحثًا عن الطعام وتُقلِّب هنا وهناك. حركتهم لإشباع الجوع تعكس خبرتهم به وإدراكهم بالكائنات التي ستكون وسيلة للتخفيف من وطأته. حركتهم تكشف عن خبرتهم الإدراكية. أجسادنا تسمح لنا بأن يكون لدَينا فكرة ليس فقط عن أفعال البشر الآخرين وحسب، بل وكذلك عن أفعال الحيوانات الأخرى. قد تبدو هذه الأفعال غريبةً ومُستغربة، لكنها كذلك باعتبارها تجسيدات مختلفة للجسد. حدِّق في عينَيْ طائر الإيمو السَّوداوين اللامعتَين وهو يحملق فيك باهتمام. يمكنك أن تُدرك أنه يعايش خبرة، رغم أنك لا تستطيع أن تفهم أو تسبر أغوار تلك الخبرة. قد تختلف وجهات نظر البشر والحيوانات اختلافًا شديدًا، لكن إمكانية إدراك كلٍّ منهما للآخر بدرجةٍ ما مُمكنة؛ وذلك بفضل الطبيعة المشتركة للجسد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤