الجسد
تمامًا كما تستطيع أن تنظر إلى صورة لك وترى نفسك في مكانٍ آخر، يمكنك أن تنظر في مرآةٍ وترى نفسك في مكانٍ آخر حتى وأنت لم تبرح مكانك.
حاضرٌ بالجسد
التقطْ حجرًا بيدِك. ستجده باردًا وناعمًا. قلِّبه في يدك، تحسَّسْه. لاحظ كيف تشعر بشعورٍ جيد وأنت تتحسَّس منحنياته بأصابعك. اغمس الحجر في الماء، واستشعر برودة الماء على يدك، ولكن انظر أيضًا كيف يُبرز الماء حيوية ألوانه؛ يتلألأ الضوء بصورةٍ رائعة الجمال تُعطيه شكلًا لامعًا. إن جسدك هو الذي يسمح لهذا الشيء الجامد أن يظهر على هذا الحال. والآن مرِّر يدك عبر الخصلات الكثيفة لفراء كلبٍ ما. استشعر جسده وهو يعلو ويهبط مع كل نفسٍ يتنفَّسه وهو يستجيب للمساتك؛ لاحظ شعور الدفء المريح الذي يظهر بداخلك؛ استلقِ حين يتأثَّر الكلب بعطفك فيشرع في مسِّك بأنفه، ويُحاول لعق وجهك. إن أجسادنا تُساعدنا على استكشاف العالم ولقاء لا الأشياء وحسب بل أيضًا رفاقنا المستكشفين لها.
التفاعل الخاص بالتجربة بين الحضور والغياب، والذي استعرضناه في الفصل الثاني يتطلَّب شيئًا إضافيًّا حتى يُفهم. الحضور دائمًا ما يكون هو الحضور لأحدهم. نحن نقول: «دعني أنظر إلى الشيء» وبالطبع نريد فعلًا أن نُمسكه ونقلِّبه في أيدينا، ويكون حاضرًا أمامنا. نُريد أن نجعله حاضرًا بأن نجعله قريبًا منَّا. وهذا يعني أن الحضور يستوجب الجسد. حين نقرِّب منَّا شيئًا، ليست المسألة أننا نُريد جعله قريبًا منَّا ماديًّا؛ بل هي مسألة تقريبه منَّا بحيث نستكشفه ونستعرِضه على نحوٍ مفيد؛ ومِن ثمَّ نعرفه. بهذا الشكل، الخبرة ليست شيئًا يحدث «بداخلنا». بل هي شيءٌ يحدث «في العالم» عبر الاستكشاف النشط الذي يُحققه الجسد.
تخيَّل أنك نزلتَ في بلدٍ لا يتحدَّث أهله إلا بلغةٍ غير معروفة لك. والآن تخيَّل شيئًا أكثر غرابة، حتى أنت لا تعرف الإنجليزية ولا أي لغةٍ أخرى أيًّا كانت، بل وفاقد القدرة تمامًا على الحديث. كيف ستتعلَّم الحديث بلغة أهل هذا البلد التي يتحدَّثون بها من حولك؟ فأنت لا تستطيع أن تسأل ماذا يُسمى هذا الشيء، ولا يُمكنك كذلك محاولة قرن أفكارك بالإنجليزية مع أصوات الكلمات غير المعروفة التي تتناهى إلى سمعك. سيتعيَّن عليك أن تبدأ من الصفر. ما الذي سيتعيَّن عليك فعله؟ قد يبدو هذا الموقف مستحيلًا — بل وميئوسًا منه بشكل قاطع — عدا من حقيقة أن كلًّا منَّا وجد نفسه في مثل هذا الموقف تمامًا، وتعامل معه بطريقةٍ ما بنجاح، حتى إننا الآن نتمتع بإجادةٍ تامَّةٍ للُغتنا الأم. إن أي لغةٍ أخرى قد نعرفها كالإنجليزية والفرنسية والصينية تتألَّف من نظامٍ من الإشارات التي تعني ما تفعله بفضل العُرف. نحن لا نُخلَق ونحن نعرِّف معنى أي كلمات، بل عوضًا عن ذلك، يتعين علينا أن نفكَّ شفرتها بطريقةٍ ما. يمكننا أن نتعلَّم لغةً أجنبية بالإشارة إلى لُغتنا الأم، لكن كيف اكتسبنا لُغتنا الأولى؟ كيف حدث ذلك؟
جرِّب القيام بهذا النشاط. قف وسط ميدان مزدحِم وحدِّق باهتمامٍ نحو الأعلى في شيءٍ ما، ربما يكون طائرًا يحوم بالمكان. ستكون نظرتك مُعدية، حيث سيطِّلع الآخرون بصورة عفوية على محط اهتمامك، والذي أصبح الآن ظاهرًا بفضل سلوكك الجسدي: «ما الأمر؟ ماذا ترى؟» لن يتعيَّن على الناس أن يستنتجوا أنك تنظر إلى الأعلى باهتمام؛ بل سيرون ذلك. بالطبع لن يعرفوا ما تنظر إليه إلا إذا أخبرتَهم أو إذا نظروا هم فيرون ذلك بأنفسهم. في الغالب، نحن ننتبِه إلى ما ينتبِه إليه الآخرون من دون تفكير. تخيل حين نكون خارج أحد المتاجر فنرى سيارة طراز فورد موديل إيه النادرة، أو عربة شركة أوسكار ماير الدعائية التي على شكل هوت دوج. نحن لا نرى المركبة غريبة الشكل وحسب؛ بل نرى أن الآخرين يرونها أيضًا. ولأن الخبرة تحدث في العالم بفضل أجسادنا، فإن خبراتنا لا تكون خاصةً أو قاصرة علينا بل تكون متاحةً لمن هم حولنا. يضعنا الجسد في عالَم من الأشياء الحاضرة والغائبة، ويضعنا في ذلك العالم مع آخرين يستطيعون اختبار أجسادنا، ومن ثمَّ معايشة خبراتنا. إن أجسادنا الحية تُوفِّر لكلٍّ منَّا وجهة نظر على العالم، وبهذا يمكن أن تكون وجهات نظر الآخرين محلَّ إدراك. بهذا الشكل، يكون الجسد نتيجة ضرورية لعمومية المظهر التي استعرضناها في الفصل الثاني. إن اللغة البدائية التي تسبق أي لغةٍ تقليدية هي المعنى الطبيعي الذي تنقله أجسادنا.
ظهور الجسد
مع وجود كاميرات المُراقبة في مساكننا الخاصة بأعداد لا تقل عن أعداد وجودها في الأماكن العامة، نحن على وعيٍ اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بأننا لا نَرى وحسب، بل وعرضة للرؤية كذلك. وإلى جانب أسئلة مهمةٍ تتعلق بالخصوصية، إن ظهورنا يتناول سؤالًا فلسفيًّا أساسيًّا: ما الذي يراه الآخرون تحديدًا حين ينظرون إلينا، وماذا نرى نحن حين نُطالع الآخرين؟
أحد الحلول التي اقترحها الفلاسفة هو «الاستدلال القياسي». أنا أعرف من خبراتي من داخلي. وأرى من الخارج جسدًا يتصرف بطريقةٍ مُعينة. أرى كذلك جسدي من الخارج وهو يتصرف بصورة معينة. فأنتقل إلى نتيجةٍ منطقية مفادها أنه كما أن جانبي الداخلي مُتوحِّد مع جانبي الخارجي، فلا بد أن جانبًا خارجيًّا آخر متوحِّدٌ مع جانبٍ خارجي آخر. إذن لا بد أن الجسد الذي يتصرف بهذه الطريقة هو الجانب الخارجي من جانبٍ داخلي آخر، أو شخص آخر. لكن معظم الفلاسفة غير راضين عن هذا القياس. أولًا، يبدو أن هذا القياس يفرض مُسبقًا وجود الشيء الذي ينطلق من أجل إثبات وجوده، ألا وهو أننا نتعامل مع ذاتٍ أخرى. فإذا لم نكن كذلك، فإن السلوك الذي نراه ليس متناظرًا مع سلوكنا. ثانيًا، يفترض هذا القياس أن سلوكي وسلوك الشخص الآخر يتواجدان جنبًا إلى جنبٍ بحيث يمكن المقارنة بينهما. لكن في واقع الأمر أنا لا أُولِي انتباهًا إلى سلوكي معظم الوقت، رغم أنني أنتبِهُ إلى سلوك الآخرين. سلوكي أشعر به من داخلي، وسلوك الآخر ظاهر. لا يمكن مقارنتهما مقارنة مباشرة. ثالثًا، يُعد الاستدلال القياسي عملية في غاية التعقيد، بحيث لا يُمكن أن تعمل في الأطفال والحيوانات الأخرى، لكننا نعرف أن الأطفال والحيوانات الأخرى تعي العقول الأخرى. لا بد إذن أن يكونوا عباقرة في الاستنتاج من أجل حدوث هذا. عوضًا عن ذلك، لا بد أن تحدث عملية أخرى. ومِن ثمَّ يقدِّم الكثير من الفلاسفة حلًّا مختلفًا، يُسمى «اللجوء لأفضل تفسير». فبينما ننظر إلى تلك الأجساد التي تتصرف بصورةٍ واعية، يبدو أن التفسير الأمثل لهذا السلوك هو أننا نتعامل مع أشخاصٍ آخرين مشابهين لنا. لكن من الصعب مرة أخرى أن تأخذنا الحماسة ونعتبر هذا تفسيرًا، ناهيك عن أن يكون هو أفضل التفسيرات المتاحة. إذ يبدو أنه يُغيِّب المشكلة أو يُقصيها؛ فهو لا يُبدد الشكوك التي تتسلَّل إلينا. لذا توقف الكثير من الفلاسفة عن التفكير في حلِّ هذه المشكلة.
يتفق علماء الظاهراتية على أن هذه المشكلة غير قابلة للحل، لكنهم يختلفون على سبب ذلك. إنها غير قابلة للحل لأنها تُعتبَر مشكلة زائفة؛ شيئًا تولَّد صناعيًّا، ونوعًا من أنواع التأطير غير المناسِب للمشكلات، والذي تسعى الظاهراتية إلى القضاء عليه. مشكلة هذه المسألة أنها خاطئة فيما يتعلق بالحقائق الظاهراتية للأمر. إن فكرة التفريق بين الداخلي والخارجي بالكامل شيءٌ مصطنع، ومن ثمَّ فإن فكرة أن «السلوك» شيء خارجي بحت هي فكرة خاطئة. الخبرة ليست مقتصِرة على الشخص المخاطب؛ فالآخرون لا يظهرون كموضوعاتٍ في المقام الأول؛ بل يظهرون كرفاق.
تستغني الظاهراتية عن السؤال المُصطنع المتمثِّل في: «ماذا قد تكون أسبابي التي تجعلني أنسب عقولًا إلى تلك الأجساد، التي ربما تكون بلا حياة، المتواجدة في نطاق إدراكي؟» وعوضًا عن ذلك تطرح التساؤل: «كيف نبرز أنا وأنت معًا في نطاق الخبرة؟» هذه واحدة من الحالات التي تبرُز فيها بوضوح الطبيعة التعاونية للظاهراتية؛ فعن طريق تطبيق أنفسهم بالتتابُع على المشكلة نفسها، يصل علماء الظاهراتية ببطءٍ بمنطق الخبرة إلى تعبيرٍ أكثر اكتمالًا.
على النقيض، تؤكِّد الظاهراتية أن المرآة تعكس ما يراه الآخرون؛ أن ذاتي هي المعروضة. وبسبب الحياة — حياة أجسادنا الحيوية والحية — يُمكننا بسهولة أن نفهم قابلية وجهات النظر المُختلفة للانعكاس بشكلٍ عام. ويظهر الآخر، لا بفضل فعلٍ من أفعال المنطق مثل الاستدلال، بل بفضل إدراك قابلية الجسد للانعكاس، ذلك الجسد الذي يُجسد وجهات نظر مختلفة.
انظر إلى المشهد الذي صوَّرته ماري كاسات في لوحتها «الصغير النائم». ستجد أن حضور الصغير بالنسبة إلى الأم واضح وملموس. في الصورة، هذان ليسا جسدَين جامدَين يقعان جنبًا إلى جنب؛ بل هما جسد يشعر ويُستشعَر. إن أجسادنا تؤالفنا مع دينامية خبرة الأم؛ فجسدها يعكس جسدنا. إننا نُدرك العالم بفضل أجسادنا، وبإدراكنا للعالم نلتقي أجساد الآخرين الذين يُدركون العالم بدورهم.
من خلال هذا الاستحضار للجسد، تُعيد الظاهراتية توحيد البشر مع الحيوانات وتعترِف بأصالة حياة الحيوانات الأخرى. هبْ أنك صادفتَ في أثناء تنزُّهك في الغابة أسرةً مكونة من أربعة من حيوان المُدرَّع تبحث عن طعامٍ لها. تمضي الحيوانات في الأرجاء بسرعةٍ بحثًا عن الطعام وتُقلِّب هنا وهناك. حركتهم لإشباع الجوع تعكس خبرتهم به وإدراكهم بالكائنات التي ستكون وسيلة للتخفيف من وطأته. حركتهم تكشف عن خبرتهم الإدراكية. أجسادنا تسمح لنا بأن يكون لدَينا فكرة ليس فقط عن أفعال البشر الآخرين وحسب، بل وكذلك عن أفعال الحيوانات الأخرى. قد تبدو هذه الأفعال غريبةً ومُستغربة، لكنها كذلك باعتبارها تجسيدات مختلفة للجسد. حدِّق في عينَيْ طائر الإيمو السَّوداوين اللامعتَين وهو يحملق فيك باهتمام. يمكنك أن تُدرك أنه يعايش خبرة، رغم أنك لا تستطيع أن تفهم أو تسبر أغوار تلك الخبرة. قد تختلف وجهات نظر البشر والحيوانات اختلافًا شديدًا، لكن إمكانية إدراك كلٍّ منهما للآخر بدرجةٍ ما مُمكنة؛ وذلك بفضل الطبيعة المشتركة للجسد.