الفصل الرابع

الحديث

للوهلة الأولى، تبدو الكلمة وكأنها شيء مادي: كأشكال الحِبر على الورقة، أو البكسلات المجتمعة على الشاشة، أو الموجات الصوتية في الهواء. وبالفعل تنطوي الكلمات على جانبٍ مادي من نوعٍ ما، لكن ما هذا إلا العباءة الخارجية لغموض الكلمة. ها هي الكلمة أمامي: أراها وأقرؤها، أسمعها وأفهمها، وفجأة لا أُصبح هنا مع الكلمة، وإنما أكون في مكانٍ آخر أخذتني هي إليه. على سبيل المثال، تأمَّل هاتين الكلمتَين: «جُزُر كوك». إذا قرأتَ أو سمعتَ هاتَين الكلمتَين بفهم، فإنك لا تستمر في التفكير في شكليهما المادِيَّين أو أصواتهما؛ أنت لن تركِّز على شكل حرف «ر» المُميز ولا شكل حرف «ك» المُتكرر. عوضًا عن ذلك، ستكون أفكارك في مكانٍ آخر، بالتحديد في مجموعة الجزر التي تقع جنوب المُحيط الهادي. تحوم أفكارك هناك في شيءٍ من التشويق. وبالتركيز على تلك الجزر، قد تتساءل عن الذي يُمكنني قوله عنها. «جزر كوك هي وجهة رائجة بين حديثي الزواج ممَّن لا يستطيعون تحمل تكلفة قضاء شهر العسل في تاهيتي.» الكلمات عجيبة، لا لأنها تمثِّل كياناتٍ مادية؛ بل لأنها تُنكر ذاتها تلك تواضعًا، وتنقل أفكارنا بيننا، بحيث لا نُضطر إلى الدخول بعضُنا إلى أدمغة بعض، بل نترافق ونمضي معًا في العالم. تمتلك الكلمات القُدرة على تمكيننا من مشاركة أفكارنا عن الأشياء حتى حين تكون غائبة عن إدراكنا. ويمكن لكلماتي أن تحملك إلى مكانٍ لم تذهب إليه من قبل قط، ويمكن لكلماتك كذلك أن يكون لها التأثير نفسه.

تتحقق ماهية الكلمات من خلال مواراتها لنفسها لصالح الأفكار، وتتحقق ماهية الأفكار من خلال مواراتها لنفسها لصالح الأشياء التي تدور حولها هذه الأفكار. وهذه الأشياء التي بإمكاننا التفكير فيها تشملُ مُجتمعةً كل ما هو كائن، سواء كان حاضرًا أم غائبًا، وسواء كان موجودًا أم غير موجود.

الكلمات والصور

أنتج الرسام البلجيكي السريالي رينيه ماجريت لوحة لغليون، كتب عليها بالفرنسية ما معناه «هذا ليس غليونًا». للوهلة الأولى، تبدو الجملة كاذبةً بصورة واضحة؛ لأن اللوحة توضِّح صورة غليون، وليس فيلًا مثلًا أو طائرة أو أي شيءٍ آخر. هذا غليون بالفعل. ومع ذلك، يجذب ماجريت الانتباه إلى طبيعة أي صورة؛ إنها تُقدِّم شيئًا ماهيته مختلفة عن ماهيتها. لذا، أجل، تقدِّم الصورة بالفعل غليونًا وليس فيلًا أو طائرة أو أي شيء آخر، لكنها تظل رغم ذلك مختلفة عمَّا تُمثله. الصورة تقوم بدور النافذة على الشيء الذي تُقدِّمه، لكنها ليست نسخةً طبق الأصل منه. إذ لا يمكن لأحد أن يدخِّن من صورة غليون أو أن يُطعِم صورة فيل مثلًا. اللوحة هي شيء بحدِّ ذاتها، قطعة من القماش عليها طبقات مُتداخلة من الطلاء والصبغة. يمكن قطع اللوحة من إطارها وسرقتها، وحينها لن يكون المرء قد سرق غليونًا أو فيلًا.

fig4
شكل ٤-١: رينيه ماجريت، «خداع الصور (هذا ليس غليونًا)». ٢٠١٩، سي هيرسكوفيتشي/جمعية حقوق الفنانين، نيويورك.

لإثبات وجهة نظره عن الصور، تعيَّن على ماجريت أن يستدعي موارد قدرة أخرى من قدرات البشر. لم يتعيَّن عليه أن يرسم فقط، بل تعيَّن عليه أن يكتُب. استطاع ماجريت التعبير عن الفكرة «هذا ليس غليونًا» بسبب قوة اللغة في صنع التمييزات وتتبُّعها. في هذه الحالة، الكلمة «ليس» يمكن أن تُحدِّد الالتباس المُتعلِّق بكل صورة، والتي بدورها تقدِّم شيئًا ماهيته مختلفة عن ماهيتها. اللوحة تُصوِّر بالفعل غليونًا؛ لذا، ومن هذا المنطلق، فهو غليون. لكن التصوير باعتباره تصويرًا يظلُّ مُغايرًا لما يُصوِّره؛ من ثمَّ، ومن هذا المنطلق، فهو ليس غليونًا. يمكن للغة أن تُساعدنا في تتبُّع حركاتنا ونحن نتأرجح بين ما هو مُصوَّر وبين التصوير، بين الغليون والصورة.

ثمة ميزة ثانية من ميزات اللغة ذات صلةٍ في الصورة. كلمة «غليون» تنطوي على قوة بارزة. هذه الحروف الخمسة التي تُمثِّل مجرد لطخاتٍ من الطلاء، رغم أنها تبرُز إلى الإدراك جنبًا إلى جنبٍ مع الغليون المرسوم، الذي يختلف عن الغليون الأصلي الذي يمكنك تدخينه، تقدِّم صوتًا يُصبح مشبعًا برابط مباشرٍ مع الغليون بالكامل. فعلى النقيض من صورة الغليون، كلمة «غليون» تمتدُّ إلى الشيء ذاته. ومن ثمَّ يقارن ماجريت بين قوة الصور وقوة الكلمات، ويدعونا لنرى أن الكلمات تمتدُّ إلى الشيء ذاته بينما تكون الصورة قاصرةً في هذا الشأن. يتبيَّن أن نقطة ضعف الكلمات — وهي أنها توجهنا إلى الشيء من دون أن تقدِّمه لنا — هي أكبر نقاط تميُّزها؛ الكلمات تتجاوز كل الصور، وكل نظرة جزئية للخبرة، سواء من خلال الصور أو حتى من خلال الإدراك. الكلمة تستهدف الشيء بذاته.

توضِّح لوحة ماجريت أن الكلمة تتجاوز الصورة، لكن صحيح أيضًا أنها تتجاوز كل إدراك. لنأخذ الغليون ونضعه على المكتب. الآن بإمكاننا أن نكتُب على مُلصق «هذا غليون» ونكون مُحقِّين في رؤيته كتوصيفٍ حقيقي للشيء الموضوع على سطح المكتب. الإدراك يُعطي للشيء ما لا تُعطيه صورته له، الإدراك يضعنا أمام الغليون الحقيقي، ذلك الشيء الذي تستطيع حشوه بالتبغ وإشعاله وتدخينه. هذا كله صحيح. لكن انتبه إلى هذا القصور المُتبقي. بينما أنا أنظر إلى الغليون، أراه من جانبٍ واحد فقط في كل مرة أنظر فيها إليه، بإمكاني أن أُمسكه وأقلِّبه في يدي؛ ومن ثمَّ أتبين الجانب الغائب منه، لكنني أفعل هذا فقط من خلال إخفاء الجانب الحاضر حتى الآن؛ إذ سأجعله هو الجانب الغائب. أو بإمكاني أن أنظر إلى الجزء الخارجي منه فيما يظل باطنه خفيًّا، أو أنظر إلى فوهته فأُغيِّب ما بقي من أجزائه. إن إدراك أي شيءٍ ينطوي دائمًا على تبادل مُستمر بين الحضور والغياب. مرة أخرى، يطلق هوسرل على وجهات النظر الجزئية هذه «الظلال» أو الأطياف الكثيرة التي تَنتج عن تفاعُلنا مع شيءٍ ما. لا يمكن أبدًا إدراك الشيء من كل الزوايا والجوانب في وقتٍ واحد ودفعة واحدة. لكن لاحظ أنه يمكن للكلمة أن تستهدف الشيء ككلٍّ رغم أنها لا تقدِّمه. فكلمة «غليون» توجِّهنا إلى الغليون بصفته الكلية، وليس كما نراه من هذه الزاوية أو من تلك، ولا وهو مملوء بالتبغ أو فارغ منه، ولا وهو مشتعل أو مُطفأ، ولا وهو مقلوب في موضعه أو موضوع بصورةٍ صحيحة. ولهذه الميزة في الكلمات نتيجة أخرى. فرغم أنني كمتحدِّث للغة الإنجليزية قد قلت هذه الكلمة مراتٍ كثيرة، ورغم أن الآخرين من مُتحدثي الإنجليزية على مدار التاريخ قد قالوها مراتٍ لا تُعَد ولا تُحصى، فهناك كلمة واحدة مميزة — «غليون» — وهي تشير في كل هذه الحالات إلى الشيء نفسه (مع تنحية الاستخدامات الأخرى مثل السفن الشراعية الضخمة أو لعبة الأطفال الصغيرة التي على شكل سفينة). ولكي أوضح ما قاله هوسرل، فإن كلمة «غليون» لا تُوجَد إلا مرة واحدة في اللغة الإنجليزية.1 وكل لوحة لغليون تُقدِّم لنا شيئًا مختلفًا بصورةٍ ما، أو وجهة نظر جديدة لهذا الشيء؛ فكل مرة تُستخدَم فيها كلمة «غليون» للإشارة إلى التدخين هي إشارة تُطابق مرجِعها. من هذا المنطلق، تُقدِّم الكلمة شيئًا مثاليًّا.

إليك مُلخَّص ما قُلناه حتى الآن. «الكلمة» هي صوت يحمِل معنًى يوجِّه أفكارنا إلى الشيء الذي نقصده؛ وهي تستهدف مثالية لا حدود لتكرارها. أما «الصورة»، فهي شيء يُقدم شيئًا من جانبٍ واحد، ووجهة نظر واحدة، في حين تبقى هي نفسها مختلفة عن الشيء الذي تُقدمه. أما «الإدراك» فيقدِّم الشيء بذاته، لكن دائمًا ما يكون ذلك عن طريق زاويةٍ واحدة فقط من الزوايا ووجهات النظر الكثيرة المُمكنة. لقد بدأنا بهذا الشكل البسيط لنلفتَ الانتباه إلى التفاعُل بين الحديث والإدراك. وتهتم الظاهراتية بشكل أساسي بالطابع الخبراتي للحديث، والطابع اللغوي للخبرة.

من الحضور إلى الغياب

لنفترِض أنني وأنت نتجاذب أطراف الحديث. وأنني أذكر شيئًا عن الأدوات الصغيرة. فتسألني أنت عن ماهية هذه الأدوات. بإمكاني أن أُشير إلى مثالٍ معي لها. أو بإمكاني أن أقول لك: «هي شيء مُصنَّع صغير وعام.» وبفضل هذا التعريف، وبفضل أنك تعرف ما تَعنيه كلمات «صغير» و«عام» و«مُصنَّع» و«شيء»، سيكون بمقدورك أن تربط بينَه وبين هذه الكلمة. وإن لم تكن تعرِف معاني هذه الكلمات، فبالطبع كنتُ سأُعرِّفها في شكلِ كلماتٍ أخرى أيضًا. لكن من أجل أن يؤتي التعريف الثمرة المرجوة منه، سيتعيَّن عليَّ أن أصل في نهاية المطاف إلى كلماتٍ أنت تعرفها بالفعل، بعض الكلمات التي لا تحتاج إلى أن تجد لها تعريفًا. فمن أين يأتي المخزون الأولي من الكلمات، تلك التي لا تعرفها بتعريفاتها؟

كما بيَّن الفصل الثالث، تأتي الكلمات الأولى من الحضور المشترك. في الأصل، يدلف الطفل في الحديث حين يبدأ في إدراك الطريقة التي يتحدَّث بها مستخدمو اللغة عن الأشياء التي من حولهم، خاصة تلك الأشياء المُثيرة للاهتمام بصورةٍ لا نهائية، مثل الكرات والكلاب والخناجر والحليب والأم والأب. يسمع الأطفال تيارًا من الحديث، ويمكنهم — بفضل الطريقة التي يُمكننا بها الجسد من تحقيق الحضور المشترك — الربط بين الحديث والأشياء.2 إن الطفل يسمع باستمرارٍ أحاديث عن كل أنواع الأشياء: السباك، والمدير، والطقس، وغير ذلك. في البداية يكون قادرًا على الربط بين الكلمات والأشياء فقط، حين تكون الأشياء الحاضرة محورًا للحديث، وحين تجعل الحركات الجسدية هذه الأشياء نفسها حاضرةً في حضورهم: «هل رأيت الكرة الحمراء الصغيرة؟» «بالطبع. إنها هنا» — هكذا يقول المتحدث بينما يتحرك ليحضر الكرة.

وبمجرد أن نكون قد بدأنا بمشاركة الكلمات مع الآخرين بفضل الحضور المشترك، يُصبح حينها من المُمكن أن نتجاوز هذا الحضور المشترك لنتحدَّث عن كل الأشياء الغائبة بشتَّى أنواعها. ينشأ الحديث في ظلِّ الحضور المُشترك، لكنه سرعان ما يتخلَّى عنه. يتعلم الطفل أن يسأل عن ماهية الشيء ويولِي اهتمامًا للسياق اللغوي، وتفتح هاتان القدرتان الجديدتان الخاصتان بتحديد المعنى البابَ أمام إمكانية اكتساب الكلمات التي تُشير إلى الأشياء الغائبة. فبإمكاننا الحديث عن الماضي السحيق، عن مغامرات قيصر في بلاد الغال؛ وبإمكاننا الحديث عن المُستقبل، حين تُصبح كواكب أخرى مأهولة بالبشر؛ وبإمكاننا الحديث عن الأشياء المجردة، مثل المجمعات الانتخابية والأوراق المالية؛ وبإمكاننا الحديث عن الأشياء الخيالية، مثل الكائنات الخرافية؛ وعن المجهول مثل الكائنات الفضائية؛ وعن الكائنات المُنقرضة مثل طائر الدودو. بإمكاننا الحديث عما تناولناه في الإفطار، وما قد نتناوله على الغداء. يمتدُّ نطاق الحديث ليشمل، ليس فقط كل ما هو كائن، وإنما أيضًا كل ما كان، وكل ما يُمكن أن يكون، وكل ما هو مجرد خيال.

من اللافت للنظر أنه حتى الأشياء الغائبة التي ذكرتها أعلاه، والتي يُتيحها الحديث، تكون مُمكنة بفضل الحضور المُبهَم للكلمات. فعند سماع صوت الكلمة ينحسِر الصوت نفسه من أجل أن يفسح المجال لما تَعنيه أيًّا ما يكون. يقول ميرلو بونتي: «تتمثل أعجوبة اللغة في أنها تجعل نفسها منسيَّة: نظرتي تكون مركزة على السطور المكتوبة على الورقة، ومنذ اللحظة التي أُدرك فيها ما تعنيه، تختفي الكلمات من أمامي فلا أعودُ أراها.»3 ببساطة، كرِّر صوت إحدى الكلمات مرةً تلوَ الأخرى، وسرعان ما ستُصبح الكلمة غريبة وغير مألوفة: على سبيل المثال، سقف، سقف، سقف. هنا ينحسر المعنى ويبرز الصوت. مع ذلك، فإننا في غالب الأمر نسمع الصوت الخاص بالكلمة وهو مُغلَّف بالمعنى، فتختفي الكلمة لصالح ذلك الذي تُشير إليه — السقف. سنفكِّر فيما يُغطي المباني، وهي أشياء حقيقية بما يكفي لتدرأ الرياح العاتية والأمطار الغزيرة وقوة العواصف الشتوية. الصوت الحالي للكلمة يُخفي نفسه من أجل أن يوجِّهنا نحو شيءٍ ليس هناك حاجة لأن يكون حاضرًا — الأسقف.

مستويات الحضور

تفحص الظاهراتية مستويات الحضور المتنوعة، تلك المستويات التي تُصبح ممكنةً بفضل تضافر الحديث والخبرة.

  • أولًا: يمكن أن أسمع بصورةٍ عابرة حديثًا عن حصان. في مسرحية شكسبير «ريتشارد الثالث»، يَصيح الملك في ميدان المعركة قائلًا: «حصان! حصان! حصان في مقابل مملكتي بأكملها!» لأني أعرف معنى الكلمة، فيُمكنني أن أفهم ما يَعنيه على الفور. لا يتعيَّن عليَّ أن أتخيَّل حصانًا أو أن أرى حصانًا لأتمكن من أن أعرف ما يريده. هذه النقطة الأخيرة مُثيرة للجدل، لكن لننظر في حقيقة أنك وبينما تقرأ مسرحية شكسبير، قد يذكر الشاعر حصانًا، وكذلك مجموعة كاملة من العناصر التي ينطوي عليها ميدان المعركة؛ في واقع الأمر، أنت لا تستطيع أن تتخيل كلَّ عنصرٍ يذكره منفردًا، ولستَ كذلك في حاجة لذلك؛ فالكلام يحدث بصورةٍ سريعة ونتخيَّل نحن بعض الأشياء، لكن لا يتعيَّن علينا فِعل ذلك من أجل أن نُتابع فهم ما يقصده. لذا نحن في غِنًى عن أن نتخيَّل شيئًا أو أن نراه من أجل أن نفهم، لكن ومع ذلك، هذا الفهم «يتوق إلى» هذه الرؤية، بحسب تعبير هوسرل.4 يعمل المعنى في غياب الخبرة، سواء إدراكية أو تصوُّرية، غير أنه يتحقَّق بها.
  • ثانيًا: يُمكنني أن أتخيَّل حصانًا. يبدأ شكسبير مسرحيته «هنري الخامس» بالإشارة إلى ضعف إمكانيات المسرح أمام الوقائع التي يتناولها، ويدعو جمهوره إلى استخدام مخيلتهم لإضافة مختلف التفاصيل الضرورية إلى الصورة: «حين نتحدَّث عن الجياد، تخيلوا أنكم ترَونها/تطبع في كبرياءٍ آثار حوافرها على الأرض.» ويُمكنني أن أتخيَّل انتصاب هيئة الحصان وتناسُق قوامه ولمعان عَرْفه، وعَدْوه وحمحمته. يمدُّنا الخيال بمستوياتٍ جزئية للكيفية التي يُقدِّم بها شيئًا ما، لكنه لا يُقدم لنا الشيء ذاته بشكلٍ كامل.
  • ثالثًا: قد أرى حصانًا. هنا أنا لا أفكر في الحصان وحسب، بل أجده أمامي يُقدِّم نفسه إليَّ. الشيء الذي تَعنيه الكلمة مُتجسِّد أمامي. يقول هايدجر: «الحدس بالمعنى الظاهراتي لا ينطوي ضمنيًّا على قدراتٍ خاصة، ولا على طريقةٍ استثنائية لأن ينقل المرء نفسه إلى داخل مجالاتٍ وأعماق مغلقة من العالم.»5 عوضًا عن ذلك، أن تدرك الشيء يعني أن «تُحيط به بشكلٍ مباشر بشكله المادي، تمامًا كما يتبدَّى لك.»6 حضور الشيء هو ماهيته في مقابل احتمالية أن تكون كينونته مجرد تصوُّر أو خيال.

اللغة والخبرة

أحد الأشياء المميزة للفلسفة هي الطريقة التي تستفيد بها من القدرات العادية التي تكمُن في الأحاديث اليومية. على سبيل المثال، كلمة «باعتباره» البسيطة تتمتع بمكانة محورية في الظاهراتية لأنها محورية بالنسبة إلى الخبرة. انظر إلى أي شيء. ماذا ترى؟ جوربًا، أو كلبًا، أو شخصًا آخر؟ أنت لا ترى شيئًا ماديًّا عامًّا؛ بل بالأحرى، أنت ترى ما تراه باعتباره كذا أو كذا: باعتباره جوربًا، باعتباره كلبًا، أو باعتباره شخصًا آخر وهكذا. أنصِت. ماذا تسمع؟ سيارة مارة، طيور تزقزق، موسيقى تُعزف. أنت لا تسمع محضَ ضوضاء وتُفسِّرها بعد ذلك؛ بل تسمع الأصوات «باعتبارها» أصواتًا لأشياء؛ والصوت الذي لا تستطيع تحديده باعتباره صوت كذا أو كذا يجذب انتباهك ويجعلك تتساءل: ماذا كان «ذلك»؟ فأنت لا تدري كيف تُفسِّره. تُشير كلمة «باعتباره» إلى الطبيعة المُوحِّدة الأساسية للخبرة والتي تربط بين ما تُدركه بحواسِّك وما تفهمه، وما تختبره وما يمكن قوله.

«إنه يوم رطب حار.» هنا نحن نُدرك اليوم «باعتباره» رطبًا حارًّا؛ ربما كانت الرطوبة مُرتفعة، وربما لا يوجَد نسيم، وربما كانت الحرارة غير عادية. نحن نرى هذه الأشياء باعتبار أنها كلها تُشكِّل شدة الحرارة والرطوبة في الأيام الرطبة الحارة. اللغة تسمح لنا بالتعبير عن هذه الخبرة عن طريق الربط بين كيفية إدراكها («اليوم باعتباره رطبًا حارًّا») والكيفية التي نعبر بها عنها بالكلمات («إنه يوم رطب حار»). فاعتبار أن اليوم «رطب حار» يمكِّننا من التعبير عن حقيقة أن اليوم «رطب حار».

في أغلب الأحيان، تعمل كلٌّ من اللغة والخبرة جنبًا إلى جنب. من الصعب علينا اختبار ما لم يُعبر عنه بالكلمات بالفعل، ومن الصعب التعبير عن خبرةٍ ما للمرة الأولى. الشاعر هو الشخص المُتمرِّس في الفن الاستثنائي المُتمثِّل في توسيع نطاق دائرة اللغة والخبرة.7 على سبيل المثال، ينظر جيرارد مانلي هوبكنز إلى العالم الذي نراه نفسه، لكنه يدعونا لفهمه بشكلٍ جديد، يدعونا لأن نراه باعتباره يُجسِّد ما يطلق عليه «الجمال المُتعدد الألوان». المقطع الأول من قصيدته والتي تحمِل نفس هذا العنوان يقول:
فليتمجَّد الرب على الأشياء المُرقطة —
على السماء المتعددة الألوان التي تُشبه البقرة المُبرقشة؛
على البقع الوردية المُتناثرة على أجسام سمك السلمون المُرقط وهي تسبح؛
على حبَّات الكستناء التي تسقط كجمرٍ مُستعر؛ وعلى أجنحة العصافير الدورية؛
وعلى الأراضي المُقسمة إلى حقولٍ وأراضٍ مستريحة وأراضٍ محروثة؛
وعلى كل الحِرف بأدواتها ومعداتها وملابس العامِلين فيها.8

يدعونا هوبكنز لرؤية السماء والبقرة وسمك السلمون المرقط والعصافير الدورية والأراضي الزراعية والأدوات «باعتبارها» تجسيدًا لظاهرةٍ واحدة، وهي تعدُّد الألوان. علاوة على ذلك، يريد منا أن نرى هذا التعدُّد «باعتباره» شيئًا جميلًا. إنه يطلب منا الانتباه لما تحويه المُتناقضات المعقدة من جمال، وهو شيء يتبدَّى بصورةٍ طبيعية بالقدْر الكافي في خبراتنا، لكنه رغم ذلك يتطلَّب شاعرًا لكي يسلط عليه الضوء ويُعطيه اسمًا. وكنتيجة لشعره هذا، يمكن لجمالِ ما هو «متناقض، وأصيل، ونادر، وغريب» أن يتبدَّى لنا بشكلٍ أكثر سهولة ووضوحًا حين ننظر إلى الأشياء. بعد ذلك، يُمكننا النظر من نافذة الطائرة على رقعةٍ من الحقول بالأسفل ونعدها شيئًا جميلًا بفعل تعدُّد الألوان فيها. أي إننا، وبفضل هوبكنز، نستطيع الآن رؤية الأشياء بصورةٍ أفضل باعتبارها حالات أو نماذج على تعدُّد الألوان ونرى تعدُّد الألوان باعتباره شيئًا جميلًا. يُمدُّنا الشعراء بالكلمات لنرى الأشياء بعينٍ جديدة؛ إنهم يفتحون لنا آفاقًا جديدة كانت كامنةً في عالم الخبرة. وبهذا يُتيحون لبقيتنا طريقة أثرى لفهم الخبرة والحديث عنها.

إظهار الأشياء على حقيقتها

الأطفال تحت سن السنتَين والرئيسيات ممن تعلَّموا لغة الإشارة يرتِّبون كلماتهم بشكل متسلسل، الواحدة تلوَ الأخرى. يتمتع هؤلاء بجانبٍ دلالي، لكنهم لا يتمتعون بجانبٍ نحوي. وحين يكون لديهم الجانب النحوي، يتوقَّف الأطفال عن الحديث عن العالم بتَعداد الكلمات، كما قد يفعل المرء وهو يضع حبَّات الخرز في عُقد. فيبدءون في التعبير عن العلاقات الفاعلة في العالم الذي يختبرونه، كما قد يفعل المرء حين يبني برجًا بقوالب من الطوب. يسمح لنا الجانب النحوي بالتعبير عن التراكيب الكامنة في الخبرة ذاتها.9 فهو يرفع تركيبةً موجودة في الخبرة (بصيغة «باعتبار») إلى تركيبة جملة (صيغة الكينونة).

إن جملة «في عام ١٩٤٧، اندفع النرويجي تور هايردال من بيرو إلى بولينيزيا على متن طوفٍ من خشب البلسا» تنطوي على تسلسل من العلاقات النحوية. فالجملة لا تقدِّم كلماتٍ وحسب، بل والعلاقات التي بينها أيضًا. هل «اندفع» الرجل فعلًا عبر المحيط الهادي؟ هل كانت رحلته فعلًا «على متن طوف من خشب البلسا»؟ تطرح هذه العلاقات النحوية أسئلةً تنطوي على الخبرة من أجل تأكيدها. لا يُمكننا أن نختبر الكلمات الفردية وحسب، بل يُمكننا كذلك اختبار التضافُر فيما بينها: يمكن للمرء أن يكون واحدًا من بين الرفاق الخمسة الذين كانوا على متن الطوف معه، أو مِن الآلاف الذين تلقَّوا التقارير الإذاعية والصحفية عن الرحلة، أو مِن الجماهير التي شاهدت الفيلم الوثائقي الذي أعقب الرحلة، أو مِن الكثيرين الذين يُشاهدون التجسيد السينمائي الحديث للقصة الحقيقية. في هذه الحالات، يمكن بدرجاتٍ متفاوتة اختبار ليس فقط السمات الدلالية — تور، اندفع، بيرو، بولينيزيا، خشب البلسا، طوف — بل والتفاعل المتبادل على المستوى النحوي كذلك — اندفع تور، من، إلى، على متن. ما الذي تُسهم به الظاهراتية في فهمنا للاكتشاف الإنساني للجانب النحوي؟

تطمح الظاهراتية إلى إبراز العلاقة الرائعة والمانحة للحياة بين اللغة والخبرة. ففي كتابه «مباحث منطقية»، يُحلل هوسرل شيئًا عاديًّا ورتيبًا في ظاهره، وهو الكيفية التي قد نتحدث بها عن مجموعةٍ من طيور الشحرور التي تطير منطلقةً من باحاتنا الخلفية.10 بفعله هذا، هوسرل ليس مهتمًّا بتلك الطيور ولكنه مُهتم عوضًا عن ذلك بالطريقة التي يمكن من خلالها التعبير لغويًّا عن الأحداث أو الأوضاع. ما يذهله أنه يمكن التعبير بطرق مختلفة كثيرة عن الحدَث نفسه، وكل هذه الطرق تتماشى مع الوضع نفسه. «طيور الشحرور تطير مبتعدة.» «مجموعة الطيور تشرع في التحليق.» «تلك المخلوقات المُجنحة تستخدِم أجنحتها الآن.» «الباحة تفرغ من الطيور.» «تلك طيور سوداء.» يريدنا هوسرل أن نلاحظ عدة نقاطٍ مهمة:
  • (١)

    لا تسمح لنا اللغة بالتعبير عن الخبرة وحسب؛ بل تسمح لنا بالتعبير عنها بأساليب مختلفة. وهذه الأساليب لا يتحتَّم أن تكون مترادِفة بالضرورة؛ كما هو مبيَّن في الأمثلة أعلاه. تقدم لنا اللغة حُرية في تنظيم وإنشاء الأوضاع تبعًا لاهتماماتنا وغاياتنا. وحين نُقسِّم المشهد إلى أجزاء، نكون أحرارًا في استخدام الإبداع ومُلتزمين بالاستجابة لما هو موجود.

    تكون لدَينا حُرية أن نقول أي عددٍ من الأشياء، كل منها سيبرز أبعادًا مختلفة للنظام المعقَّد الفاعل في نطاق الخبرة التي تتكشَّف أمامنا.

  • (٢)

    رغم هذه الاستقلالية الموجودة بين الحديث والحدث المُختبر، فيمكن للحدث المُختبر أن يؤكِّد على ما يُقال. فسواء كنت أقول: «الطيور السوداء تطير مبتعدة» أو «تلك طيور سوداء»، فإن النظر إلى الخارج ورؤية رحيل الطيور هو ما يُحقق معنى الكلمات. الشيء الذي يُقال يتبدَّى بفعل الاختبار المباشر لما يحدُث. إن اللغة مستقلة بعض الشيء عن الخبرة، لكنها يمكن أن تجد فيها ما يقرُّها ويُحققها.

  • (٣)
    لا تؤكِّد الخبرة على دلالة الجملة وحسب؛ بل تؤكِّد كذلك على العلاقات النحوية أو المقولية. هذا يبرز لنا فكرة ذات أهمية بالغة. ليست المسألة كما يعتقد الفلاسفة المحدثون من ديكارت إلى نيتشه أن الخبرة تتألَّف فقط من خصائص معقولة ومعزولة، وأن التنظيم كله يحدُث داخليًّا. بل بالأحرى أنها تتألف أيضًا من علاقاتٍ بين الخصائص يمكن إدراكها خارجيًّا، وذلك كما كان يعرف الفلاسفة الكلاسيكيون ومن العصور الوسطى من أرسطو وحتى توما الأكويني. بعبارة أخرى، إنني حين أنظر إلى الخارج لا أختبر خصائص معقولة ومعزولة وحسب — اللون الأسود، وشكل الطيور، والحركة — بل أنظر وأرى تلك الخصائص وكذلك «العلاقات» التي تحدث بينها. لقد رأيت، واختبرت، وقدمتُ لنفسي الخبرة «المُعقدة» لطيران تلك الطيور. يقول هوسرل، تحديدًا لأن اللغة تجد تأكيدها في الخبرة، فإنه يجب «توسيع» الخبرة لتشمل ما يطلق هو عليه النطاق «المقولي».11 هذا يعني أن الخبرة تمتدُّ فعلًا لتشمل ليس مجرد الخصائص المعقولة وحسب، بل وكذلك العلاقات التي تحدث بينها. تريدنا الظاهراتية أن نقدِّر «الكم» الذي نجِده في الخبرة — ليس مجرد الخصائص، بل وكامل نسيج العلاقات الغني، ذلك النسيج الذي تستطيع اللغة التعبير عنه بطرق متنوعة مُذهلة.
قد يبدو الأمر أن كل فردٍ منَّا يسير في عالم الخبرة وفهمه يزيد تدريجيًّا للأشياء. فإن أردْنا أن نُطلع أحدًا على ما نُفكر فيه، يتعين علينا أن نُترجم هذه الأفكار إلى كلمات. من هذا المنطلق، تعمل اللغة بشكلٍ مستقلٍّ عن الخبرة ولا يأتي دورها إلا حين نرغب في توصيل الأفكار إلى الآخرين. إن الحركة الظاهراتية تُرجِع اللغة بصورةٍ مُستفزة إلى الخبرة بطريقةٍ مفادها أنها تنظر إلى الشيء محور الحديث باعتباره «متلحفًا» بالكلمة؛ فالحديث يسمح للأشياء أن تظهر على حقيقتها.12 ويكتب هايدجر فيقول: «أليس الحديث، في جوهره، مجرد قول، مجرد عرضٍ متعدِّد الأوجه لما يسمح السماع بأن يُقال، السماع الذي هو الإنصات لما يتبدَّى؟»13 أن تتحدَّث يعني أن تُعبر عن الأفكار التي تنشأ عن طريق الانتباه جيدًا لما يتكشَّف أمامنا. إن أحاديث الآخرين تمثِّل دعوات كثيرة للنظر ورؤية ما هو موجود لنراه، دعوات كثيرة لإثراء خبرة المرء عن الأشياء. من هذا المنطلق، الحديث يُمكِّننا من الاتصال بأشياء غائبة؛ تبرز اللغة باعتبارها طريقة مُحددة لفهم واقع مُعقد؛ وكل ما يمكن قوله يمكن تأكيده عن طريق أحد أشكال الخبرة.

تريدنا الظاهراتية أن نُقدِّر «الكم» الذي نجده في الخبرة — ليس مجرد الخصائص، بل وكامل نسيج العلاقات الغني، ذلك النسيج الذي تستطيع اللغة التعبير عنه بطرق متنوعة مذهلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤