الفصل الخامس

الحقيقة

أحد الأشياء الغريبة بشأن البشر هو كم السعادة التي يلقاها المرء في الملذَّات البسيطة مثل تسديد الكرة في السلة ودخولها إلى الشبكة مباشرة دون أن تلمس اللوحة أو الحلقة. يشعر المرء بشعورٍ رائع حين يوفَّق في رميتِه هذه، ومن الرائع أيضًا أن ترى شخصًا آخر يُسدد نفس تلك الرمية الناجحة؛ ثمة شعور مجيد يراوِدنا حين نرى هذا الإنجاز. وبالعكس، أن يُخفق المرء في رميتِه، أو أن ترتد الكرة عن حلقة الشبكة، أو الأسوأ من ذلك، أن يُخفق المرء في إصابة حتى الحلقة، فهذا يجلب شعورًا بالإحباط والإحراج. هذا الشعور مرتبط بالإنجاز والإخفاق، بحيث لا يستمتِع رامي الكرة وحده وحسب، بل ويستمتع المُتابع كذلك بالإنجاز نفسه، ويتحسَّر كلاهما على الإخفاق أيضًا. إننا حين نُصيب الهدف نشعر بشعورٍ مبهج بالحرية والرضا، وحين نُخفق نشعر بالضيق والحزن. وشعور الحرية هنا شعور عجيب هو الآخر؛ إذ إنه الشعور بالحُرية الذي يتأتَّى من التمتُّع بسلطةٍ ما. انظر إلى التجربة الأمريكية المثالية المتمثلة في قيادة سيارة على طريقٍ مفتوح، وقارن هذا بتجربة حركة المرور بالمدينة. تتمتَّع معظم الأنشطة البشرية بهذه البِنية نفسها: يكون لنا هدف، ونشعر بالسعادة لتحقيقه، ونُصاب بالإحباط حين نُخفق في تحقيقه. فأنت تُعِد طعامًا وتريد للأمور أن تنتهي على ما يرام؛ تربِّي أبناءك وتريد أن تكون أمورهم على ما يرام؛ تُعيد طلاء مرحاضك وتريد أن ينتهي العمل على ما يرام. فتجد أن احتراق الطعام وعدم نجاح أحد الأطفال وتنافر نسق الألوان هي كلها مصادر للشعور بالحرج بدرجاتٍ متفاوتة. لقد أردنا أن تسير الأمور في هذه الحالات على ما يُرام، وربما أننا حاولنا كل ما في وُسعِنا (أو لم نحاول) لحملِها على أن تسير على ما يُرام، وتمنَّينا لو أنها انتهت في واقع الأمر كما كنَّا نأمُل. إن النشاط البشري يكون موجهًا نحو هدفٍ ما، وما الحقيقة باستثناءٍ من ذلك. فنحن نريد أن تسير الأمور على ما يُرام. ونجعل هدفنا الحقيقة، وإن كنا لا نُحقق هذه الغاية في معظم الأحيان. ويسبب لنا الإخفاق شعورًا بالإحباط، لكن النجاح يُمِدُّنا بشعور بالحرية والسلطة. ما نوع السلطة هذا؟ إنه ليس النوع المُتعلق بالهيمنة، عوضًا عن ذلك، هو النوع الذي يجعل المرء يخضع له طوعًا.

الحقيقة موجودة

ينتقد جون سيرل الظاهراتية لأنها لا تنطلق مما يُطلِق عليه «الحقائق الأساسية» للفيزياء وعلم الأحياء والعلوم العصبية. صحيح أن الظاهراتية لا تبدأ بتأييد ولا برفض النظريات المُعاصرة، سواء كانت فلسفيةً أو علمية؛ بل تُبقيها جانبًا باعتبارها عناصر قابلة للاستقصاء والتثبُّت منها. فهي تعتبر أن هذه النظريات بمثابة مقترحاتٍ أكثر منها حقائق. وبهذا، لا تدَّعي أنها تقوم باستقصاءات علمية ولكنها تحرص على أنَّ من يتحدثون نيابة عن العلم لا يُقوِّضون خفيةً احتمالية وجود الحقيقة. ذلك أن الظاهراتية تنطلق من حقيقة أساسية وهي: «الحقيقة موجودة» أو إن شئتَ فقل «الحقيقة واقعة». قد يبدو هذا بديهيًّا للغاية، بل وقد يبدو تافهًا في واقع الأمر، لدرجة أنه بالكاد يستأهل تركيزًا خاصًّا. لكن تزعم الظاهراتية أن الحقيقة هي الشيء الذي يجِب التعامُل معه أولًا، وفهمه وفقًا لطبيعته. فإن أنت حاولتَ فهمها لاحقًا — في ضوء حقائق بعينِها، مثل الحقائق التي تتعلق بعلم الأحياء التطوري أو علم النفس — فإنك تنتهي إلى توليد مشكلاتٍ مثل الشكِّ والنسبية والتي تُقوِّض كل الحقائق وليست الحقيقة وحدَها، بما في ذلك الحقائق التي تتعلق بعلم الأحياء التطوري وعلم النفس. العلم نفسه لا يفعل شيئًا من هذا القبيل، لكن يُقدم الكثير من العلماء تفسيرات عن الحقيقة تجعلها مجرد شيءٍ ذاتي ونِسبي. فنحن نسمع تفسيرات تختزل الخبرة في تصنيفاتٍ اجتماعية أو نفسية أو بيولوجية أو فسيولوجية. فإن لم تكن الحقيقة شيئًا سوى حدثٍ بيولوجيٍّ، فإن كل حقيقة إذن هي حقيقة مُعتمدة على عِلم الأحياء. يقول نيتشه: «فيما بيننا: حيث إن أحدًا لن يؤكد على أن ثمة ضرورة لوجود البشر، فإن المنطق، وكذلك الفضاء الإقليدي، «ليسا إلا سمتَين مميزتَين لنوع مُعين من الحيوانات، من بين سمات أخرى كثيرة».»1 وترى الظاهراتية أن هذه النظرة عبثية. فحقيقة أن مجموع زوايا المثلث الداخلية تساوي ١٨٠ درجة لا علاقة لها بالحمض النووي الذي نمتلكه. بالطبع ما كانت الهندسة لتتطور كما فعلت لو لم يكن نهر النيل يتدفق بصورة سنوية، لكن هذا لا يجعل الحقائق الخاصة بالهندسة مرهونة بهذه الحقيقة التاريخية. فإن كنا سنصل إلى حقائق مُستقلة عنا، فلا يمكن لهذه الماهيات أن تكون مرتبطة بالبشر كنوع طبيعي أو بالسمات المميزة لتاريخنا. عوضًا عن ذلك، يتعيَّن على الحقيقة أن تكون مرتبطةً بجانبنا الذي يتجاوز هذه التصنيفات. يتعيَّن على الحقيقة أن تكون مرتبطةً بذلك الجزء الموجود داخلنا والذي يستطيع التعاطي مع علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الأحياء أو علم وظائف الأعضاء، لا ذلك الجزء منا الذي تُجري هذه العلوم دراساتها عليه. تتقبل الظاهراتية حدوث الحقيقة ومن ثمَّ ترفض أي تفسيرٍ من شأنه أن يُقوِّض صحَّتها.

تتمثل الظاهراتية في هذا الرفض لاختزال الحقيقة في سمةٍ عابرة ما، وفي هذا الرفض لاعتناق الفكرة العبثية المُتمثلة في أن الحقيقة متجذِّرة في حقائق بعَينها من علم الأحياء أو علم النفس البشري.

يشير هوسرل إلى أنه لا تعارض بين العلم والظاهراتية، لكن ثمة صراعًا ينشأ متى تجاوز العلماء ما يقوله العلم نفسه وحاولوا التفلسُف (على نحوٍ رديء):

في واقع الأمر، نحن لا نسمح «لأي» سلطة — ولا حتى سلطة «العلم الطبيعي الحديث» — أن تجتزئ مشروعية الإقرار بكل نوعٍ من أنواع الحدس باعتباره مصدرًا للمعرفة مشروعًا وقيِّمًا بنفس القدْر. فإن تحدث العلم الطبيعي، فإننا نُنصت بحماس وكتلامذة. لكن لا يكون العلم الطبيعي دائمًا هو من يتحدَّث في المرات التي يتحدث فيها العلماء الطبيعيون، وبلا شك، «لا يكون» هو من يتحدث حين يتحدثون عن «فلسفة الطبيعة» وعن «نظرية المعرفة التي تليق بالعلم الطبيعي».2

تتمثل الظاهراتية في هذا الرفض لاعتناق الفكرة العبثية المُتمثلة في أن الحقيقة متجذِّرة في حقائق بعينها من علم الأحياء أو علم النفس البشري.

لِمَ هذا العداء؟ لأن هؤلاء المنظرين المعاصرين يدمِّرون واقع الماهيات بنكرانهم لإمكانية اختبار الحقيقة. يستطرد هوسرل فيقول:

وفوق كل شيء، لا يتحدَّث العلم الطبيعي حين يريد هؤلاء العلماء حمْلَنا على الاعتقاد بأن الأنواع العامة للبداهة الذاتية، مثل تلك التي تُعبر عنها جميع المُسلَّمات — فرضيات مثل «أ + ١ = ١ + أ»، و«لا ينبغي أن تكون الأحكام مُتحيِّزة»، و«إذا كان ثمة صوتان متنوِّعان على الصعيد النوعي، فإن أحدهما يكون منخفضًا والآخر يكون عاليًا» و«الإدراك في حدِّ ذاته هو إدراك لشيءٍ ما» ونحو ذلك — هي تعبيرات عن حقائق تجريبية، في حين أننا نعلم طوال الوقت و«بطريقة مميزة تمامًا» أن الفرضيات من هذه النوعية تُفسِّر وتعبِّر عن الرؤى الأساسية للحدْس الماهوي.

ما ستقاتل الظاهراتية لأجله بشراسة هو واقع معايشة الحقيقة وواقع الماهية؛ وأي نظرية تُحاول تجاهل هذا أو التقليل من شأنه تُصبح عدوَّ الظاهراتية الأبدي. إن الظاهراتية توضِّح كيف يمكن أن تنشأ الماهيات في الخبرة باعتبارها متجاوزةً لتلك الخبرة. من هذا المنطلق، الظاهراتية لا تُعارض العلوم؛ بل على العكس، هي حليفتها الكبرى، لأنها من خلال توضيح إمكانية وقوع الحقيقة، تُجيز كل الاكتشافات الخاصة التي تحدُث في العلوم.

ما شرط إمكانية وقوع الحقيقة؟ تحدُث الحقيقة بسبب انفتاح جوهري يُميِّز الوجود البشري، انفتاح يوفِّر حيزًا لأشياء هذا العالم لكي تتبدَّى على طبيعتها وحقيقتها. إن الإنسان قادر على الانتباه التأمُّلي، وهو انتباه يسمح له لأن يكون متصلًا بما هو أكثر من العوامل البيئية ذات الصِّلة بالبقاء والتكاثر. إن الإنسان قادر على ممارسة انتباهٍ تأمُّلي يحطم قيود الأهمية العملية، ويندفع نحو الأعلى ليشمل السماء المليئة بالنجوم، ويكتسح سريرته ليشمل الطابع المُميز الخاص بالوجود البشري، ويكتسح اكتساحًا عريضًا وشاملًا ليُغطي نطاقًا غير محدودٍ من الأشياء المتاحة للبحث والاستقصاء. الإنسان مُنفتح في كينونته على طبائع الأشياء. هذه هي نقطة الانطلاق بالنسبة إلى الظاهراتية، لأن هذه النقطة هي الفرضية السابقة على كل بحثٍ واستقصاء.

كيف تقع الحقيقة؟ أولًا، تقع لأحدهم. فالحقيقة ليست مجهولة المصدر بل هي شخصية. فإن كانت هناك حقيقة، فإن هذا بسبب أن أحدهم مسئول عن إظهارها، عن التقصِّي وعن رؤية ما هو موجود. الحقيقة ليست شيئًا خارجيًّا، فهي ليست بشيءٍ تجده في قواعد البيانات أو الكتب؛ بل هي رؤية أحدِهم. وبمجرد تسجيل الحقيقة، يمكن تحميلها وتخزينها. على سبيل المثال، يمكن لأحدهم أن يتعلَّم الكثير من الأشياء الحقيقية عن «البيتلز» عن طريق الاطلاع على موقع «ويكيبيديا». لكن بالطبع كلُّ حقيقةٍ محملة على هذا الموقع عن هذه الفرقة هي ثمرة جهد مُحب غير معروف سجَّل هذه الحقيقة على النحو الذي هي عليه.

ثانيًا، تحدث الحقيقة أو تقع لأحدهم عن طريق حضور شيءٍ ما. هذا يعني أنه لا يمكن التأكد من الحقيقة في ظلِّ غياب الشيء محل النظر. ذلك أننا نصِل إلى الحقيقة بموجب تحقيق واستقصاء، وجعل شيءٍ ما حاضرًا وموجودًا. هب أن أحدهم يقول إن مدينة سان دييجو مدينة مُشمسة على الدوام. قد يكون هذا حقيقيًّا وقد يكون غير ذلك. فأذهب إلى هناك في شهر يونيو وأعايش ما يُطلق عليه أهل المدينة «غبشة يونيو». في كل صباح، تكون السماء غائمة حتى تصفو فيما بعد الظهيرة. حينها أكون في موضعٍ يُمكنني من معرفة الحقيقة. أو إن أنا صدقتُ شيئًا ما باعتباره حقيقيًّا وكان أحدهم قد رآه، فإنني أُصدق أنه حقيقي لأنه كان حاضرًا أمام هذا الشخص. لذا إن زعم أحدُهم أن مدينة أطلانتس المفقودة موجودة بالفعل لكنه لم يرها، فإنني لن أعتبر قناعته تلك مسألة حقيقية. رغم هذا، إن قال أحدُهم إن طروادة كانت مدينة موجودة بالفعل لأنه رأى الأدلة، حينها ربما أعتبر ما يقوله حقيقة. تنطوي الحقيقة على شيء قد حضر.

ثالثًا، تقع الحقيقة للمرء عن طريق جعل شيء يحضر على حقيقته. الحضور ليس كافيًا بطبيعة الحال، وإن كان مُهمًّا. إذ يمكن لشيءٍ أن يحضر بسهولة، لكن بصورة مشوشة. فالحضور ينطوي على تفكيك ما هو موجود إلى سماته الأساسية. إنها مسألة فهم بنيته. تخيَّل أن أحدهم بالخارج يلعب بالكرة مع أطفاله. يلتقط الرجل كرة السلة ليُنطِّطها، لكنه يجد أنها ترتطم بالأرضية بصوت مكتوم وأجوف ولا تعود إلى يده. الكرة ليست حاضرة بالنسبة إليه باعتبارها كرةً وحسْب، بل هي حاضرة على حالتها، أي، باعتبارها كرة ناقصة الهواء بشكلٍ كبير.

إذن كيف يمكن أن تقع الحقيقة؟ يمكن للحقيقة أن تقع لأننا من نوعية الكائنات التي تنطوي سماتها الأساسية على الانفتاح، بحيث يتسنَّى للأشياء أن تتبدَّى لنا على حقيقتها. يأخذُنا كلٌّ من هايدجر وهوسرل داخل دوَّامة الخبرة، وينزلان بنا إلى أعمق روافدها المُتمثل في التفاعل الزماني والمكاني للحضور والغياب.

الحقيقة كصناعة للحضور

يقول هوسرل «إن ثمة شعورًا مميَّزًا بالتحقق في معايشة الحقيقة: الشيء «حاضر» أو «مقدَّم» بالفعل، وهو حاضر كما قصدنا تمامًا؛ لا يبقى أي قصد جزئي مستتر ولا يزال يفتقر إلى التحقق.»3 تقدِّم لنا أجسادنا سيطرةً على العالم؛ فهي توفر لنا وجهة نظر. إذ يُمكِّن الجسد الأشياء من أن تكون حاضرةً لنا بصورةٍ مادية، ويُمكِّننا من التحرك نحو الأشياء وحولها لنراها على حقيقتها. الزمن — لا أقصد ذلك التمثيل الفراغي للوقت على ساعة أو روزنامة أو رسم بياني، بل الوقت الفعلي، الوقت الذي تقع فيه الخبرة — يوفِّر لنا الحضور، وهو حضورٌ يندفع قدمًا إلى مستقبلٍ غائب حاليًّا، وللخلف إلى ماضٍ غائب حاليًّا. إن إدراك أي شيءٍ يتكشَّف زمنيًّا. تخيل أنني أنظر إلى تمثال رودان أمام متحف كليفلاند للفنون. وقد خرجت من مبنى المتحف وأنا أنظر إليه الآن من الجهة الخلفية. واجهتُه غائبة عن نظري، لكنني أسير حوله الآن. الجهة الخلفية التي كانت حاضرة حينها أصبحت الآن غائبة؛ وواجهته التي كانت حينها غائبة أصبحت الآن حاضرة. الزمن ووجودي الجسدي يسمحان بهذه الإمكانية. وبينما تتبدَّى واجهة التمثال لي شيئًا فشيئًا، أُصاب بالصدمة. ليس من المُفترَض أن يكون تمثال «المفكِّر» لرودان على هذا النحو. المعدن الذي نُحت منه الساقان متمعج؛ والقدمان مفقودتان! عوضًا عن أن أتلقى الأشياء في مُحيطي بصورة لا واعية، تأسر سمةٌ من سمات ذلك المحيط انتباهي بشدة: ما الذي حدث لقدمَي تمثال المفكِّر؟ ثمرة هذه الخبرة هي الحكم بأن «قدمَي نُسخة تمثال رودان «المفكِّر» الخاصة بمتحف كليفلاند مفقودتان». أبحث عن تفسيرٍ لما حدث وأرى لافتة تقول إن عبوة متفجرة زرعها متطرفون في عام ١٩٧٠ انفجرت وألحقت أضرارًا بالتمثال.
وقعت الحقيقة وأنا أجعل تمثال رودان حاضرًا على حقيقته، على ما أصابه من ضرر. واستطعتُ تأدية هذا العمل الإدراكي الفذ لأنني مُنفتح على طبيعة الأشياء، انفتاحًا ينطوي على إمكانية الاستكشاف الجسدي وضرورة تمدُّد الزمن. ويمكنك مشاركة هذه الحقيقة عن طريق الثقة بي أو دعم صناعتي للحضور بصناعة الآخرين له. إن حديث الآخرين يتألف من الكثير من المؤشرات عن الإمكانية التي يمكن أن تكون الأشياء عليها، ومن الكثير من السُّبل تجاه الأشياء التي قد نتلقَّاها. يصف ميرلو بونتي الأمر فيقول: «المعرفة ليست هي الإدراك، والحديث ليس مجرد إيماءةٍ بين كل الإيماءات الأخرى. ذلك أن الحديث هو وسيلة حركتنا نحو الحقيقة، كما أن الجسد هو وسيلة وجودنا في العالم.»4 إن لقاء الحديث بالإدراك أثناء اختبار الحقيقة هو ما يُنتج المعرفة بالأشياء. تقع الحقيقة حين يتغيَّر فهمنا لموضوعٍ ما أو يتأكد بفعل الظهور المباشر لهذا الموضوع.
fig5
شكل ٥-١: نسخة تمثال رودان «المفكِّر» في كليفلاند. حقوق الصورة محفوظة لتشاد إنجلاند.

ثمة نزعة في التقليد الفلسفي وفي الحديث اليومي نحو رؤية الحقيقة باعتبارها شيئًا يلتحِق بالجُمل أو التأكيدات التي نقولها. ومن ثمَّ ومن هذا المنطلق في الفكر، يكون التأكيد حقيقيًّا فقط إذا كان يُطابق واقع الأشياء. تكون جملة «التقطَ بيتر بايبر كمية من الفلفل المُخلَّل» حقيقية فقط إذا التقط بيتر بايبر كمية من الفلفل المخلل في الواقع. لا ترغب الظاهراتية في دحض حقيقة أن بعض التأكيدات حقيقي وبعضها زائف، وأن الحقيقي منها حقيقي بمُقتضى تأمُّل واقعه. لكن ما ترغب الظاهراتية في فعله هو الغوص عميقًا في عملية وقوع الحقيقة؛ أن تقول إن الشيء الجوهري — الذي يمكن إغفاله بسهولة — هو الحدث الذي يجعل التأكيد الحقيقي حقيقيًّا.

وما هو ذلك الحدث؟ ظهور الأشياء على حقيقتها. الحقيقة البسيطة لرؤية بيتر بايبر يأخذ بعض الفلفل أكثر أصالة من الجملة التي تُبلِّغ ما تمَّ رؤيته. تحدث الحقيقة بفضل خبرتنا واختبارنا للأشياء.

الهيئة في مقابل الجوهر

نحن مُهتمون بطبيعة الحال بالفارق بين الهيئة والجوهر. انظر إلى ردِّ فعلنا تجاه القائد الديني أو السياسي الذي يتبيَّن أنه مُحتال أو إلى العاشق الذي يبدو عشقه صادقًا لكنه يخون. في الفلسفة، كانت الغاية منذ عهد بارمينيدس هي أن نخترق مظهر الأشياء حتى نصل إلى حقيقتها. قد تبدو الظاهراتية دراسة للمظهر أو الهيئة عوضًا عن أن تكون دراسة للكيفية التي عليها الأشياء، أو جوهرها. من هذا المنطلق، تكاد الظاهراتية تبدو مناهضةً للفلسفة. لكن وكما نوَّهنا من قبل، تهتم الظاهراتية في واقع الأمر بالمظهر الحقيقي، ذلك الذي يتطابق مع الجوهر. لكن لماذا نولِي انتباهًا من الأساس إلى الهيئة والمظهر؟ لماذا لا نخترق ونصِل إلى حقيقة الأشياء؟

بينما كنا نُخيِّم على الشاطئ، نادت زوجتي على أطفالنا وقالت: «انظروا! إنه دولفين!» وفي البحر، رأينا الزعنفة الظهرية وهي تشقُّ الماء. ساد شعور عام بالإثارة. وقالت ابنتي إن الدلافين هي حيوانها المُفضل. وبعض عدة دقائق، بدا أن الدولفين لا يتحرك؛ كان الدولفين يطفو ويغوص بمرحٍ في نفس المكان. فظننَّا أنه ربما ليس هذا بدولفين. ماذا كان إذن؟ نظرت من خلال النظارة المُكبرة وخلصت إلى أنه يبدو قمامة من نوعٍ ما. وبعد حوالي ساعة، دفعت الأمواج هذا الشيء نحو الشاطئ. حينها استطعنا أن نرى أنه لم يكن دولفينًا ولا قطعةً من القمامة في واقع الحال، بل كان سبع بحرٍ نافقًا. وكانت «الزعنفة الظهرية» في واقع الحال زعنفةً طرفية فيه. في هذه الحالة، بدت هيئة الشيء متعارضةً مع حقيقته، عدا شيئًا واحدًا. كيف اكتشفت أسرتي الحقيقة؟ إننا حظِينا في النهاية بنظرة فاحصة على الشيء. بفضل هذه «النظرة الفاحصة» أو «المظهر الحقيقي» استطعنا تحديد ماهيته. يطلق هوسرل على هذا «الحدس الكافي» في مقابل «الحدس غير الكافي». الحدس الكافي يزيل الالتباس ويقدِّم لنا الشيء في حدِّ ذاته. يقول هوسرل: «في التمثيل غير الكافي، نظن فقط أن الشيء على شاكلةٍ مُعينة (يبدو كشيءٍ ما)، وفي التقديم الكافي، ننظر إلى مادة الشيء نفسه، و«للمرة الأولى نتعرف عليه بصورة تامة».»5 إليك مثالًا آخر، لاحظنا جميعًا أن الماصَّة تبدو مكسورة حين تكون في كوبٍ مُمتلئ بالماء. كيف نعرف أن هذا تقديم وافٍ؟ بإخراج الماصة من الكوب ورؤية أنها تبدو سليمة. فقط لأننا نُدرك أن الماصة ليست مكسورة فعلًا نستطيع تحرِّي خصائص الضوء والسوائل التي أنتجت هذا المظهر. فمن خلال المظهر الحقيقي نستطيع دائمًا أن نُميِّز الكيفية التي يبدو عليها الشيء في حقيقته من الكيفية التي يظهر بها.
في المظهر الزائف، يبدو الشيء بصورة مغايرة عما هو عليها في الواقع؛ وفي المظهر الحقيقي، يظهر الشيء على حقيقته. يكتب هايدجر عن الزيف فيقول: «بالمثل، إن «الزيف» … يرقى إلى مرتبة الخداع بمعنى «الإخفاء»؛ وضع شيء أمام شيء (بطريقة تظهره بها) ومن ثمَّ تمريره كشيءٍ مغاير لحقيقته.»6 في البداية بدت الماصَّة بصورةٍ مغايرة لما هي عليه في الحقيقة — مكسورة — قبل أن تظهر بهيئتها الحقيقية — كونها سليمة. مسألة كفاية الخبرة تُميِّز وجهات النظر السطحية والخاطئة للشيء عن المعرفة العميقة والصحيحة اللازمة لوقوع الحقيقة.
ليس من الضروري أن يكون الجوهر والهيئة مُتناقِضين، لأننا لا نعرف الجوهر إلا من خلال الهيئة الحقيقية. لا يُمكننا أن نتخطى الكيفية التي يبدو بها الشيء للوصول إلى حقيقته؛ ففقط من خلال الكيفية التي يبدو عليها يمكننا أن نُحدد جوهر الشيء. يقول هايدجر: «الجوهر يتكشَّف في الأساس من خلال المظهر».7 وهذا التحالف بين الهيئة والجوهر يُشكل أحد أهم إسهامات الظاهراتية في الفلسفة.
يعتقد سيرل أن الخبرة لا يمكن أن تكون هي محكمة الاستئناف النهائية بالنسبة إلى الحقيقة، لكن في واقع الأمر نقده لأسبقية الخبرة يستخدم الخبرة استخدامًا ضمنيًّا. يطلب منَّا سيرل أن نفترِض وجود شخص، سنُسميه جاك، وأنه ينظر إلى شيءٍ ما؛ لنفترض أن هذا الشيء هو حذاء رياضي. ودون أن يعرف جاك، سيُدخل الآن شخصٌ مرآة تعكس حذاءً رياضيًّا مطابقًا للحذاء الذي ينظر إليه لكنه غيره، وهذا الحذاء المُنعكس في المرآة يظهر في نفس مكان الحذاء الأول. بالنسبة إلى جاك، يبدو كِلا الحذاءين واحدًا، لذا هو يظنُّ أنهما الحذاء نفسه. يعتقد سيرل أن الظاهراتية لا يمكن أن تُميِّز بين هاتَين الحالتَين، لكن أسلوبه في التحليل المنطقي يستطيع ذلك. فيكتب سيرل من وجهة نظر جاك قائلًا: «ما عدتُ أرى الشيء الذي كنت أراه في الأصل لأن هذا الشيء لا يُسبب خبرتي البصرية. والدليل هو أننا «ما كنا لنصف» هذا بأننا نرى الشيء الأصلي. هذه فلسفة لغوية مباشرة؛ إنها ليست تحليلًا ظاهراتيًّا.»8 مشكلة هذا النقد للظاهراتية هو الغموض الذي يُغلِّف استخدامنا لكلمة «أننا». «من» الذي لم يكن ليصف هذا الشيء بأنه الشيء ذاته؟ سيرل يقصدنا نحن، الراصدون أو الملاحظون، الذين لا يستطيعون رؤية جاك والحذاء وحسب، بل والمرآة المُتداخلة التي تقدِّم له صورة حذاء آخر. سيرل لا يأتي باعتبارٍ يتجاوز الخبرة. بل يناشد خبرتنا، والتي تتمتع بوجهة النظر المناسبة لرؤية حدود وجهة نظر جاك. إن محاولة سيرل لادعاء الوهم من جانب الظاهراتية تتجاهل حقيقة أن نقده لا يزال قائمًا على الخبرة. نحن لا نستطيع أن نرى لما هو أبعد من حدود الخبرة الفردية إلا بمُقتضى خبرةٍ أخرى. لم يجرِ هنا دحض الظاهراتية ولا يمكن تحقيق ذلك.

النسبية

كلمة «الحقيقة» هي من الكلمات التي أصبحنا نشكُّ فيها مؤخرًا. ونحن لا نشك فقط في الحقيقة التي يتبنَّاها أولئك الذين يستفيدون منها كما كان الحال في العصور الماضية. بل نشكُّ في الفكرة ذاتها. بادئ ذي بدء، تبدو الحقيقة بعيدة المنال؛ كل ما يُمكننا فعله هو إطلاق التخمينات؛ كل الأشياء ليست إلا مظاهر. أيضًا، يبدو من الوقاحة بعض الشيءِ أن نُصرَّ على الحقيقة؛ فالآراء صارت أكثر ملائمةً لعالمنا المُتنوع. وأخيرًا، نتساءل في أعماقنا إن كانت الحقيقة مرغوبة؛ تبدو الحقيقة وكأنها تطوقنا وتحدُّ من حُريتنا — دعنا لا نسمع المزيد عن الحقيقة!

لكن الحياة التي سنعيشها في ظل راية الاعتزال هذه ستكون حياةً أقل بهجة. الأمر أشبه بلعبِ أو مشاهدة مباراة لا يحاول أحد فيها أن يُحرز هدفًا؛ ربما يبدو هذا الأمر من المُستحيل، وربما كان وقاحة، وربما مُعيقًا ومُقيِّدًا؛ في نهاية المطاف، مَن قال إن كرة القدم ينبغي أن تدور حول إحراز الأهداف؟ عوضًا عن ذلك، إن تبنى اللاعبون نهجًا آخر، ولنقل إنهم قرروا أن غايتهم الوحيدة في المباراة هي ألا يُحرزوا أي أهداف، حينها سرعان ما سيفقد المشاهد واللاعبون اهتمامهم بالمباراة. قد تحدُث بعض الأمور بالتأكيد: قد يُنفذ أحد اللاعبين مراوغة هنا أو هناك، لكن لن يكون هناك شيءٌ حاسم، شيء للتشجيع عليه. فكيف ستبدو الحياة التي لم تعُد فيها الحقيقة غاية وهدفًا؟

ستكون حياة لا نحصل فيها سوى على المظاهر. أليست هذه هي الحياة التي تجعلنا الظاهراتية — أو علم دراسة الظواهر — نعيشها؟ أن نقول إن الحقيقة تنطوي على «علاقة» بيننا وبين الأشياء لا يعني أن الحقيقة «نسبية». التفكير السطحي وحدَه هو ما يمكن أن يساوي بين العلائقية والنسبية. النسبية تعادل بين المظهر والواقع؛ أما العلائقية فتميِّز بين المظاهر الأصيلة والزائفة. يُشير هايدجر إلى أن رؤية نظرية النسبية في الفيزياء كنوعٍ من أنواع النسبية هو خطأ ساذج، في حين أنها في الواقع تتناول العلاقة بهدفٍ وحيد وهو الحفاظ على الحقيقة الموضوعية للقوانين الطبيعية.9 تدبر ظاهرة مثل خسوف القمر، والتي تلقي فيها الأرض بظلٍّ على القمر. إدراك هذا الخسوف — مثل إدراك غروب الشمس — يعتمد على المكان الذي يقف فيه الملاحِظ. فالخسوف الذي يمكن رؤيته في نصف الكرة الأرضية الشمالي لن يُمكن رؤيته في النصف الجنوبي منها. لكن علاقة الخسوف بالملاحظ لا تُقوِّض حقيقة الخسوف. وهكذا هو الحال مع الظاهراتية؛ ربط الأشياء بمظهرها من خلال علاقةٍ له هدف وحيد وهو «الحفاظ» على حقيقة الأشياء. ورغم أن الحقيقة «مرتبطة» بالوجود البشري، فإن هذه العلاقة لا تقوِّض الطبيعة الموضوعية للحقيقة: «لكن هذا لا يعني أن نقول إن ما نكتشفه في الحقيقة يكون رأيًا شخصيًّا أو فرديًّا؛ بل بالأحرى، يُمثل الحقيقة كما تُوجَد، على الحال تمامًا الذي هي عليه!»10 التفكير المشوَّش وحدَه هو ما يعادل بين فكرة القصدية الخاصة بالظاهراتية ونوع من أنواع النسبية.
الحقيقة هي سمةٌ ليست للأشياء ولا لنا، بل لنموذج العلاقة بيننا وبين الأشياء الذي تُظهر فيه الأشياء نفسَها على حقيقتها ونُسجلها نحن بتلك الحقيقة. الحقيقة إذن ليست سمةً من سمات الأشياء المُستقلة عن الفكر، لكن الفكر لا يجعل الأشياء حقيقية؛ الأشياء هي ما تجعل الأفكار حقيقة. وكما يقول أرسطو: «أنت لستَ شاحبًا لأننا نظن فعلًا أنك شاحب، لكن لأنك شاحب تعكس عبارتنا بهذا الشأن الحقيقة.»11 تستعيد الظاهراتية هذا الفهم الكلاسيكي القائل بأن الحقيقة سمةٌ لا من سمات الأشياء ولا الأفكار، بل هي سمة من سمات العلاقة بين الفكر والأشياء، خاصة تبعية الأفكار لإظهار الأشياء لنفسها. أفكارنا تُطابق الأشياء حين يُسمح للأشياء بأن تأخذ بزمام المبادرة وتُظهر نفسها على حقيقتها.
يُعلِّق هوسرل لائمة النسبية على الفشل في فهم تجربة الحقيقة: «تكون تلك الشكوك مُمكنةً فقط ما دامت تُؤَوَّل البداهة الذاتية والعبث باعتبارهما من المشاعر المتمايزة (سواء كانت إيجابية أو سلبية)، والتي ترتبط عرضيًّا بفعل الحكم فتؤثر عليه بسماتٍ نُقيِّمها نحن منطقيًّا باعتبارها حقيقةً أو زيفًا.»12 لكن إن فُهمت البداهة الذاتية بصورةٍ صحيحة باعتبارها إدراكًا للأشياء، فإن النسبية ستكون سخيفةً بوضوح. تنطوي الحقيقة بالفعل على شعور بالرضا، لكن هذا الشعور مرتبط بفهم المظهر العام لما هو حقيقي. النسبية تقع في خطأ هيوم ونيتشه المُتمثِّل في جعل المظاهر داخليةً وخاصة. لكن البداهة الذاتية ليست خاصة؛ إنها الظهور الذاتي لشيءٍ على حقيقته، إنها ظهور ذاتي متاح في أساسه أمام كلِّ شيء.

الظاهراتية تجد الطريق الوسط المناسب بين طرفَي نقيض. أحد الطرفَين هو النسبية: الحقيقة هي ببساطة المظهر. أيًّا ما يحدث ويبدو حقيقيًّا هو حقيقي. الطرف الآخر هو العقلانية المُضللة: لا علاقة بين الحقيقة والمظهر. الوسط المناسِب يقول بأن الحقيقة هي نوعٌ خاصٌّ من المظاهر، نوع تُعبِّر فيه الكيفية التي يبدو بها الشيء عن حقيقته. صحيح أنه يمكن للأشياء أن تظهر بمظهرٍ مُختلف عما هي عليه، لكن بإمكانها أيضًا أن تظهر على حقيقتها، وهذه الحالة الأخيرة هي التي تقع فيها الحقيقة. تبيِّن لنا الظاهراتية كنظرية للخبرة كيف نُميِّز بين المظهر والجوهر ومن ثمَّ فهي توجِّه ضربة قاصمة لفكرة النسبية، والتي تنظر إلى المظهر باعتباره أفضل ما يمكن الحصول عليه. الأمر اللافت بشدة بشأن التفنيد الظاهراتي هو أنه يُجابه النسبية فيما ينبغي أن يكون مضمارها الخاص — ألا وهو الخبرة. الحقيقة تبرز فعلًا لنا في الخبرة ومن خلالها.

نحن نقول إننا نجد حجةً ما قاهرة، واختيارنا لهذه الكلمة مُثير للفضول. في العادة، لا نعتبر أن الحرية ذات صلة بالحقيقة، ومع ذلك، فإننا، كما يقترح استخدام كلمة قاهرة هنا، نكون مُقيَّدين ومُجبرين ومُسيَّرين أمام الحقيقة، والحقيقة في واقع الأمر تُكبلنا وتشكِّلنا وتقهرنا. ألسنا أحرارًا أمام الحقيقة؟ أم نحن في واقع الأمر عبيد لها؟ الحقيقة تُخضعنا بتحريرنا. نحن نختبر اكتشافنا للحقيقة باعتباره تحرُّرًا من الجهل؛ وإن قاومنا الحقيقة فإننا نقاوِمُها ليس لأنها صحيحة ولكن لأنها وبطريقةٍ ما تجعل الحياة بالنسبة إلينا أكثر صعوبة. أما الحقيقة، فنحن نجِدها في جوهرها مكبَّلة، ومع ذلك فإن التقيُّد بها ليس تضييقًا وإنما انفتاح. نحن نشعر بالقهر من الغَشوم أو الطاغية الذي يُريدنا أن نقول إن ما هو كذا ليس بكذا وبذلك نُناقض الحقيقة التي نراها. فيُفتَرض بنا أن نقول إنه يرتدي ملابس رغم أن من الجليِّ أنه لا يرتدي أيًّا منها. لكننا نشعر بإلزاميةٍ إيجابية ومُمتعة بالفعل بالحقيقة التي نراها. فمن الرائع أن نقول: «الإمبراطور لا يرتدي أي ملابس!» لأن هذا حقيقي ببساطة. نحن أحرار في الإذعان للحقيقة، وهذا الإذعان هو ما يُثبِت حريتنا.

الأمر اللافت بشدة بشأن التفنيد الظاهراتي هو أنه يُجابِه النسبية فيما ينبغي أن يكون مضمارها الخاص — ألا وهو الخبرة.

في قلب الظاهراتية ثمة فَهم مزدوج للحقيقة: لا يمكن اختزال الحقيقة في أي عمليةٍ نفسية أو عصبية أو كيميائية أو فيزيائية دون الوقوع في فخِّ النسبية الذاتية التناقض؛ ورغم هذا فإن الحقيقة تتطلَّب الخبرة، وهي التجسيد الفعلي للواقع أمام البشر. ما معنى أن تكون بشرًا؟ تنادي الظاهراتية بفهمٍ جديد لما يعنيه أن تكون بشرًا، أعني ذلك الكائن الذي يختبر حقيقة الأشياء. بالإشارة إلى الظاهراتية باعتبارها «علم النزاهة المُطلقة»، يكتب هايدجر قائلًا:

علم النزاهة المُطلقة لا ينطوي على مزاعم. إنه لا يتَّسع للثرثرة، وإنما فقط ﻟ «الخطوات الجلية»؛ النظريات فيه لا تتصارع بعضها مع بعض، بل تواجِه الرؤى الأصيلة الرؤى غير الأصيلة. لكن لا يمكن الوصول للرؤى الأصيلة إلا من خلال الاستغراق بنزاهةٍ وبغير هوادة في أصالة الحياة كما هي، وفي النهاية أصالة «الحياة الشخصية».13

إن وجودنا في حدِّ ذاته يدعونا إلى دراسة الظاهراتية، وهذا يتطلَّب أن نسعى وراء الحقيقة لا بشأن الأشياء وحسب، ولكن أيضًا بشأن حيواتنا وتفلسُفنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤