الفصل السادس

الحياة

إن تذوُّق شريحة من خبزٍ مخبوز حديثًا ومكلَّل ببعض الزبد لا يعني فقط أن تتذوَّق شريحة الخبز والزبد، بل أن تتذوق أيضًا نفسك باعتبارك المُستقبِل الحي لتلك الخبرة. إن مطالعتك بحيرة يعكس صفاءُ مائها الأشجارَ على الجانب الآخر يعني أن تنظُر أيضًا إلى نفسك باعتبارك المُشاهِد الحي لذلك المشهد. ثمة خبرة ضمنية تحدث في الخلفية للنفس في فعلَي التذوُّق والمشاهدة. ولولا الخبرة الذاتية هذه لما تلذَّذنا بخبرتنا مع هذه الأشياء الأخرى؛ ما كنا لنسعى وراءها سعيًا حثيثًا للاستمتاع بها. وكان دافعنا لاختبار الأشياء سيتبخَّر ويتلاشى. ولولا أن الذات تكون نشطةً في أثناء معايشة الخبرة، لربما كان هناك شخصٌ آخر يُعايشها. يؤكِّد عالِم الظاهراتية ميشيل هنري أن الحياة راسخة في خبرة الذات هذه.1 كلُّ خبرة تنطوي على إحساسٍ وليد بالذات كفاعلٍ في معايشة الخبرة.
وبمُقتضى كوننا أحياء على وجه التحديد، وبمُقتضى أننا نُعايش تلك الخبرة الحياتية من الداخل، يُمكننا أن نُدرك حياة الآخرين. يمكن إدراك الحياة من خلال الحياة فقط من خلال انعكاس الذات والآخر والذي يكون مُمكنًا بفضل ازدواجية الجسد: نحن نعي أنفسنا ونحن نُدرك ونعي الآخرين وهم يُدركون. بهذا الشكل، تدفع إيديث شتاين أن بإمكان ملاحِظٍ غير حي — ولنقل إنه روبوت فضائي — أن يتتبَّع الحركات الميكانيكية، لكنه سيَعمى عن الحياة التي جرى التعبير عنها في تلك الحركة.2 هنا باستطاعتنا أن نرى القصور الفلسفي لاعتبار عِلم الأحياء المنهج الشامل تجاه الحياة. وما دام علم الأحياء يُعَدُّ فرضيةً منهجية لا تأخُذ في حسبانها عاطفيةَ الحياة، فإنه سينظر إلى الحياة من عدسةٍ ميكانيكية أو فسيولوجية أو ظاهرية بحتة. يتعلَّم الفيلسوف من علم الأحياء لكنه يضع اكتشافاته في سياقٍ أكثر شمولًا، تُحدده خبرة الحياة على الصعيدَين الخارجي والداخلي. يستطيع عالم الظاهراتية أن يفهم حقيقة أننا حين نُقابل أناسًا آخرين وحيوانات أخرى تكون حياتهم معروضةً أمامنا، ليس مجرد وجودهم الأيضي وحسب — الذي لا يتميَّز بشيء — بل وحياتهم العاطفية أيضًا. أرى الكلب حزينًا لرؤيتي وأنا مُغادر، وسعيدًا حين أعود، ومهتمًّا بشدة باكتشاف هويةِ مَن بالباب.

المنزلة البشرية

كيف ستكون خبرة الحجر؟ هذا السؤال من المُستحيلات، لأن الحجر لا يُمكنه معايشة أي خبرات. كيف ستكون خبرة ثمرة البطيخ؟ مرة أخرى، لا يُمكننا أن نضع أنفسنا موضع ثمرة البطيخ مثلما لا نستطيع أن نضع أنفسنا مكان الحجر. كيف ستكون خبرة النحلة؟ أخيرًا هذه مسألة حية، لأن النحل له قدْر من الخبرات، وهذا القدر غريب ومُثير للاهتمام بصورة واضحة. يبذل هايدجر بعض المجهود في محاولة وضع نفسه مكان النحل. فيستفيد من الدراسات البيولوجية وتبادُل المواضع الخبراتي ليستكشف أفق المسألة. وليس هدفه هو فهم حياة النحل في حدِّ ذاتها، بل يريد أن يفهم حياتنا نحن بشكلٍ أفضل من خلال المقارنة. فما الشيء الذي يُميِّز الخبرة البشرية؟ يعرِض هايدجر الفرضيات الثلاث التالية:

الحجر (الشيء الجامد) «لا عالم له»؛
الحيوان «عالمه فقير»؛
الإنسان «مشكل للعالم».3

عند هذه المرحلة، من المُرجح أن نشعر بالقلق الذي عبَّر عنه عدد من المعاصرين: ألا يُعد هذا التباين بين الإنسان والحيوان نوعًا من «التعصُّب لنوعٍ معين»؟ ففي نهاية المطاف، إن تفلسَفت الكلاب فإنها ستتفلسف وترى أنها تختلف في طبيعتها أو جوهرها عن بقية الحيوانات. لكن هذا الافتراض المُخالف للحقيقة يثبت في واقع الأمر وجهة نظر هايدجر. الكلاب والدلافين وحيوانات الشمبانزي لا تتفلسف، ولا تُمارس العِلم. هي لا تطرح مثل هذه الأسئلة. من الغريب والصحيح أيضًا أن البشر يجدون أنفسهم بمفردهم في عالم الاستقصاء النظري.

ما نوع الاختلاف بين البشر والحيوانات الأخرى؟ الاختلاف في الدرجة يكون عرضيًّا، مجرد تبايُنات بسيطة لا تُغير بشكلٍ جوهري الوضع الحالي للأشياء. فهل هذا اختلاف في الدرجة؟ إن كان كذلك، فلن يكون البشر مُختلفين بهذا الشكل عن الكلاب والدلافين. لكن الاختلاف في الطبيعة أو الجوهر أساسي؛ فنحن بحاجةٍ لمبادئ جديدة لتفسير الأمر. فهل هذا اختلاف في الطبيعة أو الجوهر؟ إن كان كذلك، فسيكون البشر مختلفين بشكلٍ كبير عن الكلاب والدلافين، وسيتعيَّن علينا الاستعانة بمبادئ جديدة لنفهم الإنسان. بين الأحجار والحيوانات، ثمَّة اختلاف في الطبيعة أو الجوهر. هل هناك اختلاف مُماثل بين البشر والحيوانات الأخرى؟

رغم زعم هايدجر بأن الحيوانات عالَمها فقير، فهو يؤكد على أن بيئات الحيوانات ليست بهذا الفقر؛ هي فقيرة فقط حين تُقارن تلك البيئات المتنوعة بالعالم البشري الخاص بالخبرة اللغوية والحقيقة. المقصد هو ثراء العالم البشري وليس فقر عالَم الحيوان. فالنحل يتنقَّل ويجمع الغذاء لخدمة مصلحة الخلية فقط. يلاحظ النحل مصادر الرحيق لكنه لا يتأمَّل قابلية الزهرة للفهم أو جمال تفتُّحها؛ فليس هناك علماء نبات أو شعراء من بين النحل. قد تبدو هذه نقطة تافهة. ففي نهاية المطاف، لا يُوجَد بين البشر يعاسيب ولا خلايا. لكن علماء الظاهراتية لا يلفتون الانتباه إلى الاختلافات العشوائية بين النحل والبشر. بل يُسلطون الضوء على طابع الاختلاف الجوهري الذي يجعل من ملاحظة هذا الاختلاف أمرًا مُمكنًا. إن النحل أو أي حيوانٍ آخر محصور في نطاق بيئةٍ ما. أما البشر فعلى النقيض من ذلك، بإمكانهم تجاوز بيئاتهم والتفاعل مع العالم بطرقٍ أكثر تعقيدًا. ونتيجة لذلك، يُمكنهم مقارنة بيئةٍ بأخرى.

من الغريب والصحيح أيضًا أن البشر يجدون أنفسهم بمفردهم في عالم الاستقصاء النظري.

هنا أيضًا نجد أنفسنا نشكُّ في هذا الزعم. ففي النهاية، ألا نستطيع التفاعُل مع الكلاب والدلافين وحيوانات الشمبانزي؟ ألا نستطيع ممارسة لعبة الالتقاط مع الكلب فيدو؟ ألا نتفاعل مع الكرة نفسها؟ الإجابة هي بالطبع أننا نتفاعل مع الكرة نفسها، لكننا نحن البشر من نستطيع التفاعُل مع الكرة «باعتبارها كرة»، نحن من نستطيع أن نفهم ما يجعل اللعبة لعبة، ونحو ذلك. نحن نتعامل مع جوهر الأشياء، مع ماهياتها. إن وسط الحديث وما يُعبر عنه من معقولية ينطويان على بُعدٍ تأمُّلي بعيد المنال عن الكلب فيدو. يكتب هايدجر قائلًا:

المسألة ببساطة ليست مسألة «اختلاف نوعي» لعالم الحيوان بالمقارنة مع عالم البشر، وبخاصة ليست مسألة فروقاتٍ كمية في النطاق والعُمق والعرض — وليست مسألة ما إن كانت الحيوانات تتلقى ما يُعطَى لها بصورة مختلفة أو كيفية ذلك، بل بالأحرى هي مسألة ما إن كانت الحيوانات تستطيع فهم شيء «باعتباره» شيئًا، شيء «باعتباره» كيانًا موجودًا. إن لم يكن بإمكانها ذلك، فهناك هُوَّة هائلة بينها وبين الإنسان.4

لذا، على الرغم من أن بالإمكان تداخل عالم البشر وبيئات الحيوانات بتضمين الأشياء نفسها في كليهما، فإنهما يحتويان على الأشياء نفسها في ظلِّ حيثياتٍ مختلفة. فيظلُّ الحيوان محصورًا داخل نطاقٍ عملي؛ أما البشر فبإمكانهم الارتقاء بين الحين والآخر إلى نطاقٍ تأمُّلي. يكتب عالم النفسي التنموي والمقارن مايكل توماسيلو فيقول:

في أي بيئة كانت، لا توجد قردة عليا تُنتج أفعال إشارة — سواء للقردة العُليا الأخرى أو للبشر — من شأنها أن تؤدي وظيفة أخرى غير وظيفة الأمر. بكلمات أخرى، لا تشير تلك القردة بشكلٍ تصريحي من أجل مشاركة الاهتمام والانتباه تجاه شيءٍ مع فردٍ آخر ببساطة (جوميز ٢٠٠٤)، ولا تُشير كذلك إعلامًا للآخر بشيءٍ قد ترغب فيه أو تريد معرفته — كما يفعل الرُّضَّع من البشر منذ وقتٍ مبكِّر للغاية في مراحل النمو.5

يُشير الرضع لا إلى ما يُريدونه فقط، بل وإلى ما يجدونه هم أو أقرانهم مثيرًا للاهتمام: «طائرة!» على النقيض، تُشير القردة العُليا فقط إلى ما تريد: «موزة!» الإنسان كائن صائغ للعالَم بالمعنى المُحدد المُتمثِّل في أن باستطاعته أن يكون مُتلقيًا ماهيات الأشياء.

الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي نعرفه يدلف إلى نطاق الحقيقة. فما الذي نستفيده من هذا الجانب التأمُّلي من الوجود البشري؟ ما هذا الانفتاح البشري المُميَّز على الحقيقة؟ أحد الأخطاء التي يُمكن ارتكابها في هذا المنعطف هو الاعتقاد أن الانفتاح على الحقيقة سمة بيولوجية لنوع بعينِه من الكائنات، ألا وهو «الإنسان الحديث». إن وجهة نظر عالِم النبات أو الشاعر تجاه الزهرة لا تُعَد أكثر تنويرًا من وجهة نظر النحلة لها؛ فالحقيقة التي يراها عالِم النبات أو الشاعر هي حقيقة مرتبطة بشدةٍ بتكويننا البيولوجي. يعتقد نيتشه أن ما نُطلق عليه حقيقة هو في واقع الأمر لا يتعدَّى تعبيرًا عن البيئة التي تُقدمها لنا طبيعتنا البيولوجية:

فكرة أن قيمة الحقيقة تتجاوز قيمة المظهر هي فكرة لا تتجاوز كونها انحيازًا أخلاقيًّا؛ بل هي حتى الفرضية الأسوأ في العالَم على صعيد إثباتها. لنعترف بهذا القدر على الأقل: لن تكون هناك حياة على الإطلاق لو لم تقُم على أساس التقديرات والمظاهر؛ وإذا ما أراد أحد — انطلاقًا من الحماسة الحسنة النية والحمقاء في نفس الوقت التي يتمتع بها بعض الفلاسفة — أن يُلغي «العالم الظاهري» تمامًا — في الواقع، بافتراض أنك تستطيع فعل ذلك — على الأقل لن يتبقى شيء من «حقيقتك» أيضًا.6

هنا يقترب نيتشه بشدة من الرؤية الظاهراتية التي ترى أن الحقيقة هي المظهر الكافي، لكنه يرى عوضًا عن ذلك أن المظاهر لا تتعدَّى كونها وظيفة من وظائف طبيعتنا البيولوجية. على النقيض من ذلك، تربط الظاهراتية المظاهر بالحقيقة عن طريق التفريق بين الانفتاح على الحقيقة والطبيعة البيولوجية. بالفعل يمكن للأشياء أن تظهر على حقيقتها؛ حين يحدُث هذا نحظى نحن بالحقيقة. وينحاز مُنظِّر ما بعد الحداثة جاك دريدا إلى نيتشه في مواجهة الظاهراتية فيقول:

من الواضح أن الفرق بين نيتشه وهايدجر هو أن نيتشه كان ليقول لا: كل شيء يُنظر إليه عبر منظور؛ العلاقة تجاه كيان — حتى لو كانت هي «الأصدق» والأكثر «موضوعية» وتحترم بشدة الماهية التي هو عليها — هي جزء دائمًا من حركة سنُطلق عليها هنا أنها حركة الأحياء وحركة الحياة، ومن وجهة النظر تلك، أيًّا كان الاختلاف بين الحيوانات تظل تلك العلاقة «حيوانية».7

طبقًا لكلٍّ من نيتشه ودريدا إذن، ليس هناك شيء مُميز بشأن البشر ومن ثمَّ لا شيء متجاوز بشأن الحقيقة. مَن المُحقُّ إذن بشأن الحقيقة؟ تلك حالة من الحالات التي يجد فيها علماء الظاهراتية من المُفيد استخدام أسلوب الجدل دفاعًا عن واقع الخبرة. فرضية كل من نيتشه ودريدا تنتج عنها نتيجة عبثية وهي تدمير الحقيقة ومن ثمَّ تدمير أساس هذه الفرضية باعتبارها سعيًا من أجل الحقيقة. ويكون التاريخ التطوُّري للإنسان الحديث حقيقيًّا بشكلٍ عرضي فقط؛ فالأمر يتعلق بالسمات العجيبة للسافانا الأفريقية وانتقاء الطفرات العارضة على أساس ميزة التكيُّف. رغم ذلك، حقيقة الماهيات لا تكون صحيحةً بشكل عرضي؛ فحقائق مثل ٢ + ٢ = ٤ أو أن الماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين أو أن القيادة تختلف عن الإدارة هي كلها حقائق لا علاقة لها بالبيولوجيا البشرية والتفاصيل العارضة التي تتخلَّل تاريخنا الطبيعي. كان بإمكاننا أن نتطوَّر لنُصبح برمائيات مجنَّحة على ضفاف نهر الأمازون وكانت ستظلُّ تلك الحقائق صحيحة. ومن ثمَّ، وبالمقابلة مع كلام نيتشه ودريدا، ينبغي أن نقرَّ أننا نحن البشر ندلف إلى شيءٍ يتجاوز خواص طبيعتنا البيولوجية وبيئتنا حين ندلف إلى الحقيقة.

ماذا يحدث في الحقيقة؟ يُشير علماء الظاهراتية إلى أن كلًّا منَّا يستجيب للحقيقة التي تنشأ في الخبرة. ويتبع هايدجر سبيل أوغسطينوس في اقتراح أننا في أعماقنا لدينا «اهتمام» أو انشغال بالحقيقة.8 الأشياء مهمة بالنسبة إلينا: حياتنا وحيوات الآخرين والأشياء ذاتها. نحن نجد أنفسنا مَدينين لحقيقتها. أن تكون إنسانًا يعني أن تكون مقيَّدًا بالحقيقة، أن تكون كائنًا يملك حُرية استكشاف الأشياء على حقيقتها. يُمضي هايدجر وقتًا طويلًا في الكشف عن ديناميكيات هذا الاهتمام وكذلك جذوره في البِنية الزمنية للخبرة؛ التفاعل بين الحضور والغياب يسمح للحقيقة بأن تتبيَّن لنا.9 يمكننا بالطبع تجنُّب السعي وراء حقيقة الأشياء وأنفسنا، فنتعامل بضيقِ فكرٍ وسطحية مع شئون حياتنا. أو بإمكاننا مواجهة حقيقة الأشياء وحقيقة أنفسنا، فنتعامل مع الأشياء بتمعُّن مقصود. ويصف علماء الظاهراتية ذلك الشكل الضحل من الحياة بأنه «غير أصيل»، ويصفون الشكل العميق منها بأنه «أصيل». إن هذا التمعُّن هو السبيل لوصولنا إلى ذواتنا ومعرفة حقيقتها. بالمقابل، حين نعيش بأسلوبٍ غير أصيل، يكتب تفاصيل قصتنا الآخرون، مثل وسائل الإعلام أو الاتجاهات على شبكات التواصل الاجتماعي. فأن تعيش حياةً بشرية يعني أن تختار باستمرارٍ بين أن تكون وفيًّا للحقيقة التي رأيناها وألا تكون كذلك.

كيف يتفاعل انفتاحنا على الحقيقة مع الجانب الحيواني والبيولوجي فينا؟ تُكرِّر الظاهراتية التفريق الكلاسيكي لسقراط بين الظروف أو الشروط والأسباب، وتتبع أرسطو في الاعتقاد بأن الأسباب تُغير معنى الظروف.

  • (١)

    السبب: هو ما يُحدد معنى الشيء؛

  • (٢)
    الظرف: هو ما يُمكِّن السبب لكنه لا يُحدده.10

يمكن أن تكون هناك ظروف بيولوجية متشابهة للغاية، ولنقل بين قرد البونوبو وبين الإنسان، لكن ما دامت هذه الظروف موجَّهة لخدمة غاياتٍ مختلفة، فإن بيولوجيا كل منهما ستحمِل معنًى مختلفًا. السمة المميِّزة لنا باعتبارنا بشرًا هي انفتاحنا على العالم أو الحقيقة، وهذا يعني مثلًا أن أيدينا نفسها حتى ليست مجرَّد أدواتٍ للإمساك بالأشياء فحسب، بل للإشارة إليها أيضًا.

ما كنا لنتمكن من دراسة علم الأحياء والاستماع إلى الموسيقى إذا لم نكن نتمتع بالكثير من الوظائف البيولوجية التي تحدث في الخلفية. ما كنا لنستطيع التفلسف والجدال لو لم تكن هناك عمليات تمثيل غذائي وتنفُّس تحدث، ولو لم تكن هناك خلايا عصبية مُتقدة، ولو لم يجد أسلافنا قبل وقتٍ طويل طريقة للعيش في السافانا الأفريقية. لكنَّ أيًّا من هذه الظروف لا يشكِّل «السبب» في طريقة تفلسُفنا ولا في العمليات الحيوية التي تجري فينا؛ لا شيء من هذه الأشياء يُفسِّر قُدراتنا ولا اهتمامنا ولا انفتاحنا المُثيرين للعجب تجاه الحقائق التي تتجاوز بيئتنا لأنها تُميِّز العالم. لولا التطوُّر، ما كنا لنصل هنا. لكن الفضل لا يعود إلى التطور بل إلى ارتباطنا بنطاق الحقيقة الذي يُتيح لنا تأكيد هذه الحقيقة — أو أي حقيقة أخرى غيرها. الجانب البيولوجي ضروري ولكنه ليس ظرفًا كافيًا لتفسير قُدرتنا على دراسة الأحياء باعتبارها علمًا.

العيش في عالم الحياة

أن تكون بشرًا يعني أن تُقيم في عالم الحياة، وهو عالم الأشياء اليومية والإدراك العادي.11 انظر إلى خبرتنا مع طاولة المطبخ، المُنتصبة على استعدادٍ لأن تكون موضع الكثير من الوجبات، فتجمع حولها البشر ليتناولوا الطعام وتحمل هي الطعام الذي يأكلونه. الطاولة المصنوعة من مواد متينة تنتمي إلى شبكة من المعاني: تصميمها يعكس الوضع المُستقيم لأُطر أجسادنا، وسهولة الوصول للطعام وقربه من اليد والفم، وكذلك المسافة، جزئيًّا لأغراض الصحة وجزئيًّا لفهمنا لذاتنا، بين أقدامِنا التي نجوب بها الأرض وأيدينا التي تحمل الطعام إلى أفواهنا. لكنها تعكس أيضًا أننا في حاجةٍ للغذاء كحاجة بيولوجية، وفي حاجة لتناوله مع الآخرين كحاجةٍ شخصية. الطاولة تشي بفقرنا وباحتياجاتنا، لكنها تشي كذلك بتطلعاتنا وآمالنا. لهذا فهي شاهدة على ذلك الاندماج الغريب الذي يرى هانس يوناس أنه علامة على الحياة بصفةٍ عامة وعلى الحياة البشرية بصفةٍ خاصة، وعلى وجه التحديد «حريتنا التي لا غِنى عنها».12 الطاولة — التي هي السطح المنتصب والمستوي الذي الغرض منه إبقاء الأشياء على مسافة قريبةٍ منا — تظل كما هي في ضوء ما نحن عليه.

والآن تأمَّل الفرق بين اختبار الطاولة بالشكل المذكور أعلاه وبين التناول العلمي للطاولة نفسها. ما هو حقيقي بشأن الطاولة هو فقط ما يُمكننا قياسه، أي، أبعادها وكتلتها. لاحظ إرنست راذرفورد أن رقائق الذهب رفضت نسبةً صغيرة فقط من جُسيمات ألفا، واستنتج أن الذرات في معظمها فارغة إلا من أنويتِها الكثيفة وإلكتروناتها الدوَّارة. وقد حل نموذجه «الكوكبي» للذرة محل نموذج «بودنج البرقوق» الخاص بالسير جيه جيه تومسون. الطاولة القوية التي تُبقي الشوكة التي أتناول بها الطعام على مسافةٍ قريبة منِّي حين أمدُّ يدي نحو كوب الماء في واقع الأمر تُمثِّل مساحة فارغة في أغلبها. وطبقًا للتناول العلمي، الطاولة في معظمها جسم رياضي أجوف.

إذن، من ناحية، تبدو الطاولة قطعةً صلبة من الأثاث لها مغزًى في إطار الحياة البشرية؛ ومن ناحية أخرى، تبدو الطاولة شيئًا فارغًا في معظمه له خصائص رياضية مُحددة. فإذا ما قارنا الطاولة التي نجتمع حولها لنتناول الطعام مع الطاولة التي درسها العلم، قد نطرح عددًا كبيرًا من التساؤلات. هل صلابة الطاولة وهْم؟ هل المغزى من الطاولة إسقاط شخصي على شيء مجرد جوهريًّا من المعنى؟

لننظر إلى التأكيد التالي: «الطاولات ليست صلبة بحق». بإطلاقنا لهذا التأكيد نحن نُشير إلى «الطاولات» ونحن نعلَم ما نُشير إليه لأننا نعرفها ونُدركها. لذا، ومن أجل أن تكون الجملة «عن» أي شيء، علينا أن نفترِض مسبقًا موثوقية الإدراك في منحنا فهمًا للأشياء الموجودة حولنا. لكن لاحظ أيضًا أننا حين ندرس الطاولات بشكلٍ علمي، فإننا لا ندرُس طاولات بعينِها وإنما شيئًا عامًّا أكثر. ما يُخبرنا به العلم عن الطاولات هو ما يُخبرنا به عن أي شيءٍ مادي مُشابه — كان ذلك كرسيًّا أو إطار سرير، أو منضدة زينة، أو حطب وقود أو أيًّا كان. الكيان العلمي لا يُخبرنا عن الصفات الخاصة التي تتمتع بها الطاولة فتجعلها طاولة، بل يُخبرنا عن الشيء الذي صُنعت منه تلك الطاولة، أي، أساسه المادي. ومن ثمَّ إن قلنا «هذه الطاولة ليست صلبة بحق»، فإننا نسيء فهم مفهوم الصلابة. الطاولة صلبة، لكن صلابتها ترتبط على المستوى الذري مع أساسٍ يحتوي في معظمه على مساحة فارغة، مثل كرة تنس الطاولة أو بيضة عيد الفصح. لا ينبغي أن تُصيبنا الحيرة هنا، لأن الشيء لا يتعيَّن عليه أن يتمتع بنفس الخصائص التي يتمتع بها أساسه المادي. فليس هناك أمريكي عضو في الأمم المتحدة، لكن الولايات المتحدة نفسها عضو في تلك المنظمة، كما أن جسم الإنسان لا يحتوي على أي خلية تستطيع التنزُّه، لكن بإمكان الشخص بكامله أن يتنزَّه. يمكن للطاولة أن تتمتَّع بخصائص مختلفة عن خصائص المادة التي صُنعت منها.

قال الفيزيائي ستيفن هوكينج هذا عن أولاده الثلاثة وأحفاده الثلاثة: «لقد علَّموني أن العلم وحدَه ليس كافيًا. أنا في حاجة إلى دفء الحياة الأسرية.»13 حياة الأسرة — وهي الحياة التي نعيشها حول طاولة المطبخ من بين أشياء أخرى — تبدو كدفءٍ مُرحَّب به في مقابل برودة العلم. إن العلم المُعتمد على القياس والنمذجة منفصل عن الحياة البشرية؛ أما على النقيض، عالم الحياة الذي يحوي أمور الحياة اليومية عالم نستطيع بحقٍّ أن نقطنه، إذ في هذا العالم، لدَينا الجسد الذي بفضله نكون حاضرِين أمام أحبائنا عوضًا عن أن نكون فقط متجاورين في الزمان والمكان؛ في عالم الحياة لدينا الحديث الذي بفضله نستطيع التكلُّم عن الأشياء المهمة بحق — كالعشاء الذي نتشاركه أو الحياة التي سنُجددها؛ في عالم الحياة، هناك إدراك الحقيقة الذي ننبري له ويُفعمنا بالحيوية؛ في عالم الحياة، هناك الحُب الذي يمكننا من رؤية ما هو جيد بحق؛ في عالم الحياة أيضًا، هناك التساؤل الذي يفسح المجال لظهور العلم والشِّعر والفلسفة. الفرق بين عالم الحياة والعلم ليس هو الفرق بين العاطفة والحقيقة العلمية، بل هو الفرق بين الخبرة والتجربة العلمية، بين عالَم الحياة المدرك مباشرةً وعالم القياسات والكتلة الذي تمَّت نمذجته بصورة غير مباشرة.

نحن لا نجمع أجزاء عالم الحياة معًا من الكيانات العلمية؛ بل بالأحرى أن الكيانات العلمية تُصنع من عالم الحياة؛ فهي تمثيلات مثالية ومُنمذجة رياضيًّا توصَّل إليها الباحثون البشريون في مقابل الخلفية غير الملحوظة للعيش في عالم الحياة. والعلماء يتوصلون إلى اكتشافاتهم وهم محاطون بالأدوات وبغيرهم من البشر. وعملهم في المُختبر يتكامل بسلاسةٍ مع محادثات استراحة الغداء التي يحظون بها مع زملائهم. في المختبر، قد يذهبون إلى طاولة ليفحصوا شيئًا تحت المجهر الإلكتروني. إنهم يُدركون الأداة وعناصر التحكُّم فيها، وينظرون إلى شاشتها ليرَوا الصور التي تنتجها. وحتى وهم يتوصلون بفضل قياساتهم إلى اكتشافات مذهلة عن المادة التي تتكوَّن منها الأشياء، يتعيَّن عليهم أن يرتبطوا بأدواتهم ويرتبط بعضهم ببعض من خلال عالَم الحياة الخاص بالإدراك. بهذا الشكل، يُصبح الجانب الظاهراتي والجانب العلمي مُكمِّلَين بعضهما لبعض، باعتبارهما نهجَين متجذِّرَين إما في البِنى المُختبَرة بصورة مباشرة أو في الأساسات المادية المُنمذجة بصورةٍ غير مباشرة.

الفرق بين عالم الحياة والعلم ليس هو الفرق بين العاطفة والحقيقة العلمية، بل هو الفارق بين الخبرة والتجربة العلمية.

المسئولية عن حياة الآخرين

في رواية «التميمة»، يروي أليكس كورزيم قصةً حقيقية لا تُصدَّق عن صبيٍّ يهودي يُصبح طفلًا مُدللًا لدى النازيين. يأتي التحول المشئوم للأحداث حين يلقى جنود ألمانيون الصبي بطريق الصدفة حيث كان يختبئ في مدرسةٍ قديمة. ينظر الصبي إلى قائد مجموعة الجنود ويصيح «أنا جائع».14 فيمسُّ نداء الاستعطاف هذا قلب العسكري. فيأخذ الصبي للداخل وحين يخرج بعد لحظات، يحافظ على الكرامة الإنسانية للصبيِّ ويكذب على زملائه من الجنود النازيين؛ فيُخبرهم أن الصبي غير مختون وأنه ليس عدوًّا. ونتيجة لذلك، لا يُقتل الصبي وتتبناه الكتيبة كتميمةٍ لها. ويظهر الصبي في أفلام الدِّعاية النازية كنموذج على الفتية الألمان.
لقد عانى عالِم الظاهراتية اليهودي إيمانويل ليفيناس من الحرب نفسها في أحد معتقلات الأسرى الروسية. وقد جعلته تلك الخبرة وتلك الحرب مهمومًا بالمسألة الفظيعة المتعلقة بالطريقة غير الإنسانية التي يُعامل بها البشر بعضهم بعضًا وتناقُضها مع الطريقة التي من المُفترض أن يتعاملوا بها معًا. وباعتباره عالمًا للظاهراتية، يريد ليفيناس أن يُحدد الديناميكيات الفاعلة في خبرتنا لالتزاماتنا نحو الآخرين. فهو يريد أن يأخذنا إلى داخل الخبرة التي يعايشها الجندي الألماني الذي يكتشف مسئوليته عن الصبي اليهودي، والذي رقَّ قلبه فخاطر بحياته من أجل حماية حياة ذلك الطفل. يُسمي ليفيناس تلك التجربة الخاصة باستحقاق الآخر المُطلق ﺑ «الوجه». عند معايشة الحالة العاطفية لأحدهم، ثمة خبرة لوجهٍ ينظر إليَّ. هذا الوعي بضعف الآخر هو ما يستدرُّ مسئوليتي غير المشروطة تجاهه. «الوجه هو ما لا يستطيع المرء أن يقتله، أو على الأقل هو الذي يتمثَّل «معناه» في القول: «لا تقتل».»15 ويشير جابريل مارسيل إلى خبرة مشابهة والتي تتمثل في مشاهدة طفلٍ نائم والذي يولِّد ضعفُه التام مسئوليةً كاملة تجاهه يشعر بها كل والد عطوف: «قد نقول إن بسبب كون هذا الكائن مكشوفًا تمامًا على الأخطار ولأنه يقع تحت مُطلق رحمتنا، أنه أيضًا حصين أو مقدَّس. ولا يمكن أن يكون هناك شك على الإطلاق أن أقوى العلامات التي نستطيع تخيُّلها وأكثرها وضوحًا على البربرية المُطلقة هي رفض الاعتراف بهذه الحصانة الغامضة والمبهمة.»16 في وجه الآخر، يُعايش كل منَّا خبرة مسئوليته الخاصة التي لا تتزعزع. وعوضًا عن أن تكون عبئًا على كاهلنا، تُحررنا هذه الخبرة لنتصرَّف بطريقة مفعمة بالغاية والمعنى.
يقول ليفيناس معلقًا: «الكائن الذي يفرض نفسه لا يُعرقل حريتي بل يُعززها، وذلك بإثارة الخير والصلاح بداخلي.»17 إدراك ضعف الآخر ومسئوليتي المُترتبة على ذلك يُضفِيان معنًى على القوة التي أشعر بها بداخلي ويُحفِّزاني على استغلالها لأقصى حد. الجندي الذي يُنقذ الصبي يشعر بإثارة أن يكون المرء مرتبطًا بحقيقة القيمة المُطلقة للطفل وأن يتصرَّف وفقًا لذلك. إن الحياة التي نختبرها شعوريًّا، تلك الموجودة في كل خبرة، تلك التي نراها فيمن نلقاهم، هي حياة متجاوبة مع الحقيقة، حياة متجاوبة مع حقيقة الأشياء والالتزامات التي تفرضها علينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤