الحياة
المنزلة البشرية
كيف ستكون خبرة الحجر؟ هذا السؤال من المُستحيلات، لأن الحجر لا يُمكنه معايشة أي خبرات. كيف ستكون خبرة ثمرة البطيخ؟ مرة أخرى، لا يُمكننا أن نضع أنفسنا موضع ثمرة البطيخ مثلما لا نستطيع أن نضع أنفسنا مكان الحجر. كيف ستكون خبرة النحلة؟ أخيرًا هذه مسألة حية، لأن النحل له قدْر من الخبرات، وهذا القدر غريب ومُثير للاهتمام بصورة واضحة. يبذل هايدجر بعض المجهود في محاولة وضع نفسه مكان النحل. فيستفيد من الدراسات البيولوجية وتبادُل المواضع الخبراتي ليستكشف أفق المسألة. وليس هدفه هو فهم حياة النحل في حدِّ ذاتها، بل يريد أن يفهم حياتنا نحن بشكلٍ أفضل من خلال المقارنة. فما الشيء الذي يُميِّز الخبرة البشرية؟ يعرِض هايدجر الفرضيات الثلاث التالية:
عند هذه المرحلة، من المُرجح أن نشعر بالقلق الذي عبَّر عنه عدد من المعاصرين: ألا يُعد هذا التباين بين الإنسان والحيوان نوعًا من «التعصُّب لنوعٍ معين»؟ ففي نهاية المطاف، إن تفلسَفت الكلاب فإنها ستتفلسف وترى أنها تختلف في طبيعتها أو جوهرها عن بقية الحيوانات. لكن هذا الافتراض المُخالف للحقيقة يثبت في واقع الأمر وجهة نظر هايدجر. الكلاب والدلافين وحيوانات الشمبانزي لا تتفلسف، ولا تُمارس العِلم. هي لا تطرح مثل هذه الأسئلة. من الغريب والصحيح أيضًا أن البشر يجدون أنفسهم بمفردهم في عالم الاستقصاء النظري.
ما نوع الاختلاف بين البشر والحيوانات الأخرى؟ الاختلاف في الدرجة يكون عرضيًّا، مجرد تبايُنات بسيطة لا تُغير بشكلٍ جوهري الوضع الحالي للأشياء. فهل هذا اختلاف في الدرجة؟ إن كان كذلك، فلن يكون البشر مُختلفين بهذا الشكل عن الكلاب والدلافين. لكن الاختلاف في الطبيعة أو الجوهر أساسي؛ فنحن بحاجةٍ لمبادئ جديدة لتفسير الأمر. فهل هذا اختلاف في الطبيعة أو الجوهر؟ إن كان كذلك، فسيكون البشر مختلفين بشكلٍ كبير عن الكلاب والدلافين، وسيتعيَّن علينا الاستعانة بمبادئ جديدة لنفهم الإنسان. بين الأحجار والحيوانات، ثمَّة اختلاف في الطبيعة أو الجوهر. هل هناك اختلاف مُماثل بين البشر والحيوانات الأخرى؟
رغم زعم هايدجر بأن الحيوانات عالَمها فقير، فهو يؤكد على أن بيئات الحيوانات ليست بهذا الفقر؛ هي فقيرة فقط حين تُقارن تلك البيئات المتنوعة بالعالم البشري الخاص بالخبرة اللغوية والحقيقة. المقصد هو ثراء العالم البشري وليس فقر عالَم الحيوان. فالنحل يتنقَّل ويجمع الغذاء لخدمة مصلحة الخلية فقط. يلاحظ النحل مصادر الرحيق لكنه لا يتأمَّل قابلية الزهرة للفهم أو جمال تفتُّحها؛ فليس هناك علماء نبات أو شعراء من بين النحل. قد تبدو هذه نقطة تافهة. ففي نهاية المطاف، لا يُوجَد بين البشر يعاسيب ولا خلايا. لكن علماء الظاهراتية لا يلفتون الانتباه إلى الاختلافات العشوائية بين النحل والبشر. بل يُسلطون الضوء على طابع الاختلاف الجوهري الذي يجعل من ملاحظة هذا الاختلاف أمرًا مُمكنًا. إن النحل أو أي حيوانٍ آخر محصور في نطاق بيئةٍ ما. أما البشر فعلى النقيض من ذلك، بإمكانهم تجاوز بيئاتهم والتفاعل مع العالم بطرقٍ أكثر تعقيدًا. ونتيجة لذلك، يُمكنهم مقارنة بيئةٍ بأخرى.
من الغريب والصحيح أيضًا أن البشر يجدون أنفسهم بمفردهم في عالم الاستقصاء النظري.
هنا أيضًا نجد أنفسنا نشكُّ في هذا الزعم. ففي النهاية، ألا نستطيع التفاعُل مع الكلاب والدلافين وحيوانات الشمبانزي؟ ألا نستطيع ممارسة لعبة الالتقاط مع الكلب فيدو؟ ألا نتفاعل مع الكرة نفسها؟ الإجابة هي بالطبع أننا نتفاعل مع الكرة نفسها، لكننا نحن البشر من نستطيع التفاعُل مع الكرة «باعتبارها كرة»، نحن من نستطيع أن نفهم ما يجعل اللعبة لعبة، ونحو ذلك. نحن نتعامل مع جوهر الأشياء، مع ماهياتها. إن وسط الحديث وما يُعبر عنه من معقولية ينطويان على بُعدٍ تأمُّلي بعيد المنال عن الكلب فيدو. يكتب هايدجر قائلًا:
لذا، على الرغم من أن بالإمكان تداخل عالم البشر وبيئات الحيوانات بتضمين الأشياء نفسها في كليهما، فإنهما يحتويان على الأشياء نفسها في ظلِّ حيثياتٍ مختلفة. فيظلُّ الحيوان محصورًا داخل نطاقٍ عملي؛ أما البشر فبإمكانهم الارتقاء بين الحين والآخر إلى نطاقٍ تأمُّلي. يكتب عالم النفسي التنموي والمقارن مايكل توماسيلو فيقول:
يُشير الرضع لا إلى ما يُريدونه فقط، بل وإلى ما يجدونه هم أو أقرانهم مثيرًا للاهتمام: «طائرة!» على النقيض، تُشير القردة العُليا فقط إلى ما تريد: «موزة!» الإنسان كائن صائغ للعالَم بالمعنى المُحدد المُتمثِّل في أن باستطاعته أن يكون مُتلقيًا ماهيات الأشياء.
الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي نعرفه يدلف إلى نطاق الحقيقة. فما الذي نستفيده من هذا الجانب التأمُّلي من الوجود البشري؟ ما هذا الانفتاح البشري المُميَّز على الحقيقة؟ أحد الأخطاء التي يُمكن ارتكابها في هذا المنعطف هو الاعتقاد أن الانفتاح على الحقيقة سمة بيولوجية لنوع بعينِه من الكائنات، ألا وهو «الإنسان الحديث». إن وجهة نظر عالِم النبات أو الشاعر تجاه الزهرة لا تُعَد أكثر تنويرًا من وجهة نظر النحلة لها؛ فالحقيقة التي يراها عالِم النبات أو الشاعر هي حقيقة مرتبطة بشدةٍ بتكويننا البيولوجي. يعتقد نيتشه أن ما نُطلق عليه حقيقة هو في واقع الأمر لا يتعدَّى تعبيرًا عن البيئة التي تُقدمها لنا طبيعتنا البيولوجية:
هنا يقترب نيتشه بشدة من الرؤية الظاهراتية التي ترى أن الحقيقة هي المظهر الكافي، لكنه يرى عوضًا عن ذلك أن المظاهر لا تتعدَّى كونها وظيفة من وظائف طبيعتنا البيولوجية. على النقيض من ذلك، تربط الظاهراتية المظاهر بالحقيقة عن طريق التفريق بين الانفتاح على الحقيقة والطبيعة البيولوجية. بالفعل يمكن للأشياء أن تظهر على حقيقتها؛ حين يحدُث هذا نحظى نحن بالحقيقة. وينحاز مُنظِّر ما بعد الحداثة جاك دريدا إلى نيتشه في مواجهة الظاهراتية فيقول:
طبقًا لكلٍّ من نيتشه ودريدا إذن، ليس هناك شيء مُميز بشأن البشر ومن ثمَّ لا شيء متجاوز بشأن الحقيقة. مَن المُحقُّ إذن بشأن الحقيقة؟ تلك حالة من الحالات التي يجد فيها علماء الظاهراتية من المُفيد استخدام أسلوب الجدل دفاعًا عن واقع الخبرة. فرضية كل من نيتشه ودريدا تنتج عنها نتيجة عبثية وهي تدمير الحقيقة ومن ثمَّ تدمير أساس هذه الفرضية باعتبارها سعيًا من أجل الحقيقة. ويكون التاريخ التطوُّري للإنسان الحديث حقيقيًّا بشكلٍ عرضي فقط؛ فالأمر يتعلق بالسمات العجيبة للسافانا الأفريقية وانتقاء الطفرات العارضة على أساس ميزة التكيُّف. رغم ذلك، حقيقة الماهيات لا تكون صحيحةً بشكل عرضي؛ فحقائق مثل ٢ + ٢ = ٤ أو أن الماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين أو أن القيادة تختلف عن الإدارة هي كلها حقائق لا علاقة لها بالبيولوجيا البشرية والتفاصيل العارضة التي تتخلَّل تاريخنا الطبيعي. كان بإمكاننا أن نتطوَّر لنُصبح برمائيات مجنَّحة على ضفاف نهر الأمازون وكانت ستظلُّ تلك الحقائق صحيحة. ومن ثمَّ، وبالمقابلة مع كلام نيتشه ودريدا، ينبغي أن نقرَّ أننا نحن البشر ندلف إلى شيءٍ يتجاوز خواص طبيعتنا البيولوجية وبيئتنا حين ندلف إلى الحقيقة.
كيف يتفاعل انفتاحنا على الحقيقة مع الجانب الحيواني والبيولوجي فينا؟ تُكرِّر الظاهراتية التفريق الكلاسيكي لسقراط بين الظروف أو الشروط والأسباب، وتتبع أرسطو في الاعتقاد بأن الأسباب تُغير معنى الظروف.
-
(١)
السبب: هو ما يُحدد معنى الشيء؛
-
(٢)
الظرف: هو ما يُمكِّن السبب لكنه لا يُحدده.10
يمكن أن تكون هناك ظروف بيولوجية متشابهة للغاية، ولنقل بين قرد البونوبو وبين الإنسان، لكن ما دامت هذه الظروف موجَّهة لخدمة غاياتٍ مختلفة، فإن بيولوجيا كل منهما ستحمِل معنًى مختلفًا. السمة المميِّزة لنا باعتبارنا بشرًا هي انفتاحنا على العالم أو الحقيقة، وهذا يعني مثلًا أن أيدينا نفسها حتى ليست مجرَّد أدواتٍ للإمساك بالأشياء فحسب، بل للإشارة إليها أيضًا.
ما كنا لنتمكن من دراسة علم الأحياء والاستماع إلى الموسيقى إذا لم نكن نتمتع بالكثير من الوظائف البيولوجية التي تحدث في الخلفية. ما كنا لنستطيع التفلسف والجدال لو لم تكن هناك عمليات تمثيل غذائي وتنفُّس تحدث، ولو لم تكن هناك خلايا عصبية مُتقدة، ولو لم يجد أسلافنا قبل وقتٍ طويل طريقة للعيش في السافانا الأفريقية. لكنَّ أيًّا من هذه الظروف لا يشكِّل «السبب» في طريقة تفلسُفنا ولا في العمليات الحيوية التي تجري فينا؛ لا شيء من هذه الأشياء يُفسِّر قُدراتنا ولا اهتمامنا ولا انفتاحنا المُثيرين للعجب تجاه الحقائق التي تتجاوز بيئتنا لأنها تُميِّز العالم. لولا التطوُّر، ما كنا لنصل هنا. لكن الفضل لا يعود إلى التطور بل إلى ارتباطنا بنطاق الحقيقة الذي يُتيح لنا تأكيد هذه الحقيقة — أو أي حقيقة أخرى غيرها. الجانب البيولوجي ضروري ولكنه ليس ظرفًا كافيًا لتفسير قُدرتنا على دراسة الأحياء باعتبارها علمًا.
العيش في عالم الحياة
والآن تأمَّل الفرق بين اختبار الطاولة بالشكل المذكور أعلاه وبين التناول العلمي للطاولة نفسها. ما هو حقيقي بشأن الطاولة هو فقط ما يُمكننا قياسه، أي، أبعادها وكتلتها. لاحظ إرنست راذرفورد أن رقائق الذهب رفضت نسبةً صغيرة فقط من جُسيمات ألفا، واستنتج أن الذرات في معظمها فارغة إلا من أنويتِها الكثيفة وإلكتروناتها الدوَّارة. وقد حل نموذجه «الكوكبي» للذرة محل نموذج «بودنج البرقوق» الخاص بالسير جيه جيه تومسون. الطاولة القوية التي تُبقي الشوكة التي أتناول بها الطعام على مسافةٍ قريبة منِّي حين أمدُّ يدي نحو كوب الماء في واقع الأمر تُمثِّل مساحة فارغة في أغلبها. وطبقًا للتناول العلمي، الطاولة في معظمها جسم رياضي أجوف.
إذن، من ناحية، تبدو الطاولة قطعةً صلبة من الأثاث لها مغزًى في إطار الحياة البشرية؛ ومن ناحية أخرى، تبدو الطاولة شيئًا فارغًا في معظمه له خصائص رياضية مُحددة. فإذا ما قارنا الطاولة التي نجتمع حولها لنتناول الطعام مع الطاولة التي درسها العلم، قد نطرح عددًا كبيرًا من التساؤلات. هل صلابة الطاولة وهْم؟ هل المغزى من الطاولة إسقاط شخصي على شيء مجرد جوهريًّا من المعنى؟
لننظر إلى التأكيد التالي: «الطاولات ليست صلبة بحق». بإطلاقنا لهذا التأكيد نحن نُشير إلى «الطاولات» ونحن نعلَم ما نُشير إليه لأننا نعرفها ونُدركها. لذا، ومن أجل أن تكون الجملة «عن» أي شيء، علينا أن نفترِض مسبقًا موثوقية الإدراك في منحنا فهمًا للأشياء الموجودة حولنا. لكن لاحظ أيضًا أننا حين ندرس الطاولات بشكلٍ علمي، فإننا لا ندرُس طاولات بعينِها وإنما شيئًا عامًّا أكثر. ما يُخبرنا به العلم عن الطاولات هو ما يُخبرنا به عن أي شيءٍ مادي مُشابه — كان ذلك كرسيًّا أو إطار سرير، أو منضدة زينة، أو حطب وقود أو أيًّا كان. الكيان العلمي لا يُخبرنا عن الصفات الخاصة التي تتمتع بها الطاولة فتجعلها طاولة، بل يُخبرنا عن الشيء الذي صُنعت منه تلك الطاولة، أي، أساسه المادي. ومن ثمَّ إن قلنا «هذه الطاولة ليست صلبة بحق»، فإننا نسيء فهم مفهوم الصلابة. الطاولة صلبة، لكن صلابتها ترتبط على المستوى الذري مع أساسٍ يحتوي في معظمه على مساحة فارغة، مثل كرة تنس الطاولة أو بيضة عيد الفصح. لا ينبغي أن تُصيبنا الحيرة هنا، لأن الشيء لا يتعيَّن عليه أن يتمتع بنفس الخصائص التي يتمتع بها أساسه المادي. فليس هناك أمريكي عضو في الأمم المتحدة، لكن الولايات المتحدة نفسها عضو في تلك المنظمة، كما أن جسم الإنسان لا يحتوي على أي خلية تستطيع التنزُّه، لكن بإمكان الشخص بكامله أن يتنزَّه. يمكن للطاولة أن تتمتَّع بخصائص مختلفة عن خصائص المادة التي صُنعت منها.
نحن لا نجمع أجزاء عالم الحياة معًا من الكيانات العلمية؛ بل بالأحرى أن الكيانات العلمية تُصنع من عالم الحياة؛ فهي تمثيلات مثالية ومُنمذجة رياضيًّا توصَّل إليها الباحثون البشريون في مقابل الخلفية غير الملحوظة للعيش في عالم الحياة. والعلماء يتوصلون إلى اكتشافاتهم وهم محاطون بالأدوات وبغيرهم من البشر. وعملهم في المُختبر يتكامل بسلاسةٍ مع محادثات استراحة الغداء التي يحظون بها مع زملائهم. في المختبر، قد يذهبون إلى طاولة ليفحصوا شيئًا تحت المجهر الإلكتروني. إنهم يُدركون الأداة وعناصر التحكُّم فيها، وينظرون إلى شاشتها ليرَوا الصور التي تنتجها. وحتى وهم يتوصلون بفضل قياساتهم إلى اكتشافات مذهلة عن المادة التي تتكوَّن منها الأشياء، يتعيَّن عليهم أن يرتبطوا بأدواتهم ويرتبط بعضهم ببعض من خلال عالَم الحياة الخاص بالإدراك. بهذا الشكل، يُصبح الجانب الظاهراتي والجانب العلمي مُكمِّلَين بعضهما لبعض، باعتبارهما نهجَين متجذِّرَين إما في البِنى المُختبَرة بصورة مباشرة أو في الأساسات المادية المُنمذجة بصورةٍ غير مباشرة.
الفرق بين عالم الحياة والعلم ليس هو الفرق بين العاطفة والحقيقة العلمية، بل هو الفارق بين الخبرة والتجربة العلمية.