الفصل السابع

الحب

بين كل القوى اللاعقلانية التي تجتاح الإنسان، لا يبدو أيٌّ منها بمثل قوة وتقلُّب الحب. تحدث الزلازل والعواصف الشديدة وموجات تسونامي في العالم الخارجي، لكن الحب يثور بداخلنا ليهزَّنا ويُغيِّرنا، ويتركنا وقد حوَّلنا. ويتذمَّر نجوم البوب والمفكرون بشأن هذه القوة وكيف أنها تعِد بكلِّ شيءٍ ولا تفي بشيء؛ يبدو الحب مفعمًا بالوهم، ويبدو وكأنه أكثر بقليلٍ من تلك العاطفية المزغبة أو الشهوة المقنعة. ما الحب؟ شاعر بمثل قامة شكسبير يقدِّمه في مسرحيته «حلم ليلة منتصف صيف» باعتباره نوعًا من أنواع الجنون الناجم عن السِّحر والخادع للغاية لدرجة أن يقود امرأة جميلة أن تقع في حُب رجل برأس حمار. يبدو أن الحُب يتعلق بفقدان الصواب والوقوع فريسة للأوهام. يبدو الحب وكأن ظاهره بهاء وباطنه خواء.

لكن في هذا الإطار تقول الظاهراتية شيئًا غريبًا. يكتب هايدجر فيقول: «نحن مُعتادون على قول إن «الحب أعمى». هنا، يُنظر إلى الحب على أنه دافع ومن ثمَّ تحلُّ محله ظاهرة مختلفة تمامًا. وذلك لأن الحب يُمدنا بالرؤية بحق.»1 إن الدافع البيولوجي أو العاطفة الأنانية هو ما يُعمينا؛ أما الحب على النقيض من ذلك فيشكِّل انفتاحًا عميقًا على المحبوب. يسمح لنا الحب أن نرى ما هو موجود؛ يجعلنا نخضع لجوهر المحبوب. الظاهراتية هي التجسيد التام لوجهة النظر الراديكالية التي تقول إن الحُب يسمح لنا باستقبال الأشياء على حقيقتها.
في واقع الأمر، يصف يوحنا بولس الثاني الظاهراتية على نحوٍ ثاقب بأنها «موقف من الخيرية الفكرية».2 الظاهراتية تفتحنا على حقيقة الأشياء وحقيقة الآخرين. ما لا نهتم لأمره لا نتكبَّد عناء اختباره وإدراكه بعُمق. عوضًا عن ذلك، سنقنع بالآراء السطحية والتحيزات. تسمح لنا الظاهراتية باكتشاف حقيقة الحب. وبهذا تُحررنا للتعرف على حقيقة الأشياء.
يُمكننا أن نفوِّت ما يحدث في الحُب حين ننظر إليه كعلاقة بين كيانَين: المُحب والمحبوب. الحب في الواقع طريقة لاستيعاب «العالم بأكمله»، أي رؤية العالم كلِّه من خلال عينَي المحبوب. يُشير هايدجر إلى أن السعادة التي نشعر بها في حضور الآخرين تنبع من خلال الطريقة التي يتكشَّف بها العالم لهم: «أحد الاحتماليات الأخرى لهذا التكشف مُستترة في غبطتنا في حضور الوجود البشري لشخصٍ نُحبه — وليس ببساطة الشخص نفسه.»3 نحن نُقدر مشاعر المحبوب، ليس فقط مظهره الخارجي وإنما أيضًا كيف يبدو العالم له. نظرة المحبوب للأشياء تُعزز من تقديرنا وفهمنا للأشياء. والعالم الذي ينيره حبه هو عالم خالي من الاعتيادية الكئيبة، ومُتكشِّف من جديد في جماله.
في هذا الصدد، تأمَّل تجدُّد الحياة الذي ينجم عن ولادة الأطفال. يعلِّق ميرلو بونتي فيقول: «في المنزل الذي يولَد فيه طفل جديد، تتغيَّر معاني كل الأشياء، إذ تشرع في أن تتوقَّع من هذا الطفل تعاملًا لا يزال مبهمًا؛ ثمة شخص جديد وإضافي، ثمة تاريخ جديد قد نشأ للتو، سواء طال أم قصر، وثمة سجل جديد قد فُتِح.»4 ودهشة الطفل تجاه العالَم تكون مُعدية. وليس الطفل وحدَه هو مصدر البهجة، فهناك أيضًا الاهتمام الجديد تجاه العالم والذي يبرز أثناء وجود فهم جديد ينشأ بطيئًا. إننا نعيد اكتشاف المياه المفعمة بالحياة والتي تجري تحت الجليد متى تحدثنا عن الأشياء وفكَّرنا فيها، لأنه يتعيَّن على الأطفال أن يعرفوا كيف يتعلَّمون الحديث ويفهون الأشياء، وبالفطنة إلى جهودهم نأتي لإدراكٍ مفاده كم هي غريبة الكيفية التي يحدُث بها الكلام، أو أن لمحات الأفكار المنيرة عن الأشياء يمكن أن تحدُث ويمكن مشاركتها.
يقترح نيتشه أن الحب ينهار على نفسه، فنحن نجد الرضا لا في المحبوب بل في شعور الحُب المبهج: «في نهاية المطاف، يُحب المرء رغبته، لا ما يرغب فيه.»5 وتجيب الظاهراتية بأن الحُب يسحب المرء خارج نفسه، مما يدفعه لأن يجد البهجة في مشاركة المحبوب عالَمه. وبينما يستمر المرء في تعلُّم أن يرى العالم من خلال عينَي محبوبه، يكتسب أنماطًا جديدة من التبصُّر. فالمرء لا ينتبه لشيءٍ ما وحسب، مثل السوشي؛ بل يطوِّر طريقة للتفكير فيه وتقييمه والاستمتاع به. إننا لا ننتبِه لسلسلة أفلام «المنتقمون» (أفنجرز) وحسب؛ بل نُدرك ما يميِّز كلًّا منها، والسمات التي تميز الفيلم الأكثر نجاحًا عن الأقل نجاحًا في السلسلة. بهذا الشكل، يجعل الحُب المرءَ منفتحًا على جودة الأشياء وحقيقتها.

أنا أحب، إذن أنا أفكِّر

العبارة الأشهر في الفلسفة كلها هي عبارة ديكارت التي اشتهر بها «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وفي حين تعتز الظاهراتية براديكالية تعامُل ديكارت مع الفلسفة، فإنها تقدم نقدًا شاملًا لنقطة انطلاقه، بادئة بمفهوم «أنا أفكر». يُعبِّر شيلر عن هذا النقد بكلماتٍ قوية قائلًا: «قبل أن يكون الإنسان كائنًا مفكرًا أو مريدًا، هو كائن مُحب.»6 أن تكون كائنًا مُحبًّا يعني أن تكون منفتحًا على الأشياء في العالم، الأشياء التي يمكن معرفتها أو اختيارها فيما بعد. الحُب هو ما يجعل العلاقات المقصودة ممكنة؛ إنه المنبع في قلب الخبرة الذي تسعى الظاهراتية لتحديده وإطلاقه:
هكذا كان الحب دائمًا في رأينا هو الفعل الأساسي الذي يتخلَّى من خلاله الكائن عن نفسه بشكلٍ مقصود — دون أن يتوقف عن كونه هذا الكائن المُحدَّد — من أجل التواصل مع كائن آخر والاندماج فيه. ويكون هذا الاندماج بدرجةٍ لا تجعل كلًّا منهما بأي حالٍ جزءًا حقيقيًّا من الآخر. ما نقول عليه نحن «المعرفة» — والتي هي علاقة أنطولوجية — دائمًا ما تفترض مسبقًا هذا الفعل الأساسي المُتمثِّل في هجر الذات وحالاتها — أي، «محتويات الوعي» الخاصة بها — وتجاوزها من أجل الوصول إلى اتصالٍ خبراتي مع العالَم بقدْر الإمكان … ومن ثمَّ، يُصبح «الحب» دومًا هو ما يوقِظ كلًّا من المعرفة والإرادة؛ في الواقع، إنه أساس الروح والفكر نفسيهما.7
الحب يرشدنا في هذا العالم ويسمح لبعض الأشياء أن تكون مثيرةً للاهتمام وللبعض الآخر ألا يكون كذلك.8 يظهر الواقع إلى الحُب بطرقٍ متنوعة، كلها ملوَّنة بذلك الحب. تُعرف تلك الرؤية الفريدة للواقع باسم «ترتيب الحب». يُمكننا أن نصف ما يُحبه أحدهم، وما يبدي اهتمامًا تجاهه، لكن يُمكننا أيضًا مقارنة هذا الوصف ﺑ «ما يجب» على المرء أن يُحبه ويبدي اهتمامًا به. هناك أنواع مختلفة من الأوهام بانتظارنا في هذا الصدد. أولًا، هناك احتمالية أن تُحب شيئًا ذا قيمةٍ نسبية وكأنه ذا قيمة مُطلقة. انظر مثلًا إلى جامع القمامة الذي يهتمُّ بجمع أغطية الزجاجات وكأنها أفضل شيءٍ موجود في العالم. هذا هو «الحُب الأعمى». ثانيًا، هناك احتمالية أن تُحب شيئًا ذا قيمة أدنى أكثر من حُبك لشيء ذي قيمة أعلى. هنا يُمكننا أن نفكر في المدير التنفيذي الذي يُثمِّن المكسب النقدي على الوطنية، فيُغلق مصنعًا محليًّا مربحًا في سبيل كسب المزيد من المال خارج البلاد. هذا هو «الحب المقلوب». ثالثًا، هناك إمكانية أن تُحب شيئًا على نحوٍ لا يتناسب مع قيمته. هنا نجد مثالًا في التقدير المجرد لدى الكثيرين تجاه الثقافة الرفيعة والعلم والشِّعر والفلسفة والعلوم الإنسانية. هذا هو «الحُب غير الكافي».9 إذن «ترتيب الحب» لا يُعَد وصفيًّا وحسب، بل وتوجيهيًّا أيضًا. إحدى العلامات على التبصُّر هو ألا تسأل وحسب «ماذا أحب؟» بل وأن تسأل كذلك «ما هو القابل للحُب (بحق)؟» وأن تأخذ الإرشاد من أناسٍ مُلهمين لتُوسِّع أفق الحب الذي ترى وتفكِّر وتختار في نطاقه. إن تأمُّل الأبطال أو القديسين يكشف لنا آفاقًا جديدة من الحب. هذا هو هنري ديفيد ثورو يطلب من الأمريكيين المُستعبَدين أن يُبسِّطوا رغباتهم ويستقوا الإلهام من جمال الإيقاعات الطبيعية الهادئة. وها هي الأم تريزا بجسدها الضئيل الذي لا يكاد يُرى خلف منصَّة الأمم المتحدة في نيويورك، تُجسِّد بجرأة أمام أنظار أمم العالَم الحب تجاه المُهمشِين والمغلوبين على أمرهم. إن مواجهة شخصٍ مثل ثورو أو الأم تريزا لهي مواجهة مُرعبة لأن حُبهما يُهدد بتحويل حبِّنا الآمن والذي هو في نفس الوقت غير كافٍ، أو مقلوب أو أعمى.
وحين نفكِّر في ترتيب الحب، من الطبيعي أن نعتقد أن الحب هو حب الآخرين. يُقال إن الحب في جوهره إيثار؛ اكتراث وعناية بالآخرين وتقديمهم على أنفسنا. وبقدْر ما تتطلَّب كل الأفعال الإنسانية حافزًا، فإننا نرتاب حتى فيما إن كان الحب ممكنًا، لأن الأحبَّة — كما نُخبر أنفسنا — دائمًا ما يحصلون على بعض الرضا في الحب، وإلا لما أحبُّوا من الأساس. إن الحالة النموذجية المُتمثِّلة في جندي في خندق يلقي بنفسه على قنبلة يدوية ليُنقذ رفاقه تبدو موصومة بعض الشيء؛ ففي نهاية المطاف، حتمًا شعر هذا الجندي بأن هذا من نُبل الأفعال ومن ثمَّ حظي بالرضا الذاتي النابع من الموت ميتةً نبيلة. لكن علماء الظاهراتية يرفضون الإيثار جملةً وتفصيلًا ويرَون أنه شيء سلبي لا إيجابي. من العفوي أن تؤثر الآخر على نفسك، لا لأيِّ سببٍ آخر سوى أن هذا الآخر ليس أنت؛ إنه الجانب الآخر من الأنانية، التي تعني إيثار نفسك بصورةٍ عفوية. يكتب شيلر فيقول: «إن كنت أنا نفسي لا أستحق الحُب، فلِمَ قد يستحقُّه «الآخر»؟ وكأنه ليس «ذاتًا» — بالنسبة إلى نفسه، وأنا «آخر» — بالنسبة إليه!»10 أن تؤثِر الآخر لكونه آخَر هو تعبير عن نفور من الذات. لكن حُب الآخر ليس مبنيًّا على النفور. ومن ثمَّ، لا يُعَد الإيثار حبًّا. عوضًا عن ذلك، يُعبِّر الإيثار عن شيءٍ غير قويم، يؤدي بنا إلى الانشغال بشئون الآخرين من أجل أن نتجنَّب ذواتنا غير المرغوب فيها. يقول شيلر على الإيثار إنه «حاجة عدمية تدمِّر كل الحيوية وتفسد بحقٍّ بنية الوجود!»11 إن ترتيب الحُب لا يتطلَّب تفضيلًا للآخر باعتباره آخر. ولا يتطلَّب الحُب أن يُنكر المرء مصلحته في مساعدة المحبوب. الحب ينحِّي جانبًا كل البواعث الخفية، لكن من الضروري أن تُحب الشعور بالبهجة في الحب. ولا يُقوِّض الرضا الذاتي من الحب، رغم أنه يبين أن «الإيثار» مثالية زائفة. إن الصديق يُضحي من أجل صديقه بدافع الحب، لأنه يرغب أن يُنقذ صديقه ولأنه يطمح لأن يكون من تلك النوعية من الأصدقاء الذين يُحبون حتى النهاية. أن تُحب شخصًا آخر أمر يتطلَّب أن تُحب نفسك، وأن يكون لديك تقدير لذاتك.

كيف يمكن أن نُميِّز بين غايات الحب الوضيعة والرفيعة؟ ينشأ هذا التمييز في نطاق الخبرة. الغايات الوضيعة هي الغايات التي تتركنا فارغين بعد أن نلتمِسها ونطلُبها وكأنها غايات رفيعة؛ والغايات الرفيعة هي الغايات التي تتركنا راضين حين نطلُبها من المُنطلَق نفسه. فحين نعظِّم المتعة الجسدية فوق كل شيءٍ على سبيل المثال، نُصبح يائسين أكثر وأكثر.

يندهش الشهواني من استمرار قلَّة شعوره بالرضا والإشباع من المتعة التي يلتمِسها في مواضع مُتعته بينما يظلُّ الباعث المحرك له قويًّا كما هو أو يزداد قوةً أثناء تنقُّله بسرعة بين تلك المواضع. لأن تلك المياه تزيد شعورك بالعطش كلما شربت منها أكثر.12

تأمَّل نوع الخواء الذي نشعر به من الإفراط في مشاهدة البرامج التليفزيونية أو الاسترسال في قضاء الوقت على الإنترنت. الغايات الدنيا تترك المرء سئمًا وقلوقًا؛ أما الغايات الأسمى فتفتح أعماقًا جديدة للإشباع. تأمَّل الإشباع الذي ينجم عن الانتهاء من مهمةٍ ما على النحو الواجب، مثل تركيب سلكٍ لمروحة السقف أو إعداد وجبةٍ شهية لصديق.

الاغتراب والشعور بالخزي

يحاجج جان لوك ماريون بأن السؤال الوحيد الذي يُهمنا بحق في واقع الأمر هو: «هل يُحبني أحد؟»13 ويا له من سؤالٍ بالنسبة إلينا لأننا عادة ما نُعاني من اعتداءات (بغيضة) على أشخاصنا — من خلال الخيانة أو التجاهل أو العداء. تأمَّل إن شئتَ الخبرة التقليدية من المدرسة الابتدائية المُتمثِّلة في الشعور بالعار المذلِّ حين يعترض المعلم ورقةً تمرُّ في الصف ويقرؤها على مسامع الطلاب ويكون فيها إفشاء لأمرٍ ما، ربما كان تعليقًا قاسيًا أو اعترافًا ببعض مشاعر الإعجاب. إن مشاركة أفكار المرء الخاصة أو صوره مع جمهورٍ شرِهٍ ومُتكالب عليها باعتبارها أشياءً مُثيرة للفضول والنميمة والسخرية لهي خبرة شائعة جدًّا في عصرنا الإلكتروني هذا. ماذا وراء اهتمامنا اليوم بمسألة الخصوصية وغضبنا من التسريبات العلنية العارضة؟ نحن نريد أن نكون معروفين، أليس كذلك؟ لماذا إذن ننزعِج حين تُعرَف خصوصياتنا في إطار يتجاوز المُقربين منَّا؟ ما البغيض لهذه الدرجة بشأن هذه الخبرة لدرجة أنه يمكن أن يُدمِّرنا شعورنا بالخزي؟
يقول جان بول سارتر إن الشعور بالخزي سببُه خبرة أن يعتبرك الآخرون موضوعًا بطريقةٍ تجعل وجهات نظرهم مُهدِّدة لوجهة نظرك. أنا ذاتٌ تراكَ كموضوع؛ وبالعكس، أنت ذاتٌ تراني كموضوع.14 تلك المحاولة المتبادلة لجعل الآخر موضوعًا تفضي إلى توتُّر جدلي عقيم، إلى نوع من التدمير المؤكد المتبادل للذاتية ومعه خسارة الحرية والكرامة: «سقوطي الأصلي هو وجود الآخر.»15 أثناء الشعور بالخزي، أولئك غير المُبالين لوجودنا يتعاملون معنا لا كذواتٍ أخرى بل كعيناتٍ أو حالات للتعليق عليها وتوجيه النقد لها. ويقدِّم سارتر المثال الشهير المُتمثل في النظر من ثُقب المفتاح بالباب للتجسُّس على أحدهم، ثم، الشعور بالخزي حين نسمع صوت خطوات أقدام، لأننا ضُبِطنا ونحن نفعل شيئًا غير مُهذَّب ومُستهجَن بشدة؛ يُصبح المتلصِّص الذي يعتبر الآخر موضوعًا هو نفسه موضوعًا. إن كان الحُب يسمح لنا بأن نرى المحبوب كوجهة نظر على الواقع، فإن الخزي يُكبِّل مَن يشعر به ويجعله لا شيء سوى جزء (قبيح) من الواقع.
ويشير علماء ظاهراتية آخرون مثل شيلر إلى أن الشعور بالخزي يمكن أن يكون له جانب إيجابي. بفعلهم هذا هم يتحدَّثون لا عن الشعور بالذنب أو الخزي الذي يُحس به الفرد عندما يضبطه الآخرون وهو يقوم بفعل شائن — كما في حالة المُتلصِّص في مثال سارتر — ولكن عن خبرة أن تُعتبر موضوعًا على نحو خاطئ — أي، أن تُعامل كموضوع مثل المُتلصِّص. هذه الخبرة سلبية، لكن سلبيتها هذه تشهد على حقيقةٍ من حقائق الإنسان، بالتحديد أننا لا ينبغي أن نُعتبر موضوعات؛ فنحن أكثر مما قد يراه الآخرون فينا حين يُحوِّلوننا إلى موضوعات. «إن الخزي «شعور واقٍ للفرد» ولقيمته أمام ما هو عام وموضوعي.»16 الشعور بالخزي لا ينشأ إلا لأن الشخص له قيمة داخلية كبيرة بحق. فالشعور بالخزي هو ««قلق» الفرد من أن يقع فريسة سمعةٍ سيئة عامة عنه ومن أن تُنتَقَص قيمته».17 الشعور بالخزي يَحمينا من أن نكون موضوعات في نظر الناس، وبهذا الشكل يكون مرتبطًا بشدة بالحاجة إلى الخصوصية. نحن مكشوفون على نحوٍ صحيح وتامٍّ أمام من نُحب، وليس أمام من لا يضعون مصالحنا في بؤرة الاهتمام. لهذا يؤكد كبير القضاة الأمريكيين جون روبرتس على نحوٍ صحيح أن شركة مثل إيه تي آند تي لا تملك أدنى حقٍّ في الخصوصية. فالشركة شيء وليست شخصًا؛ أي لا يمكن أن نعتبرها موضوعًا بصورةٍ خاطئة أو أن نُحبها على نحوٍ سليم. وقال مازحًا: «نحن على ثقةٍ أن شركة إيه تي آند تي لن تأخذ هذا الأمر على مَحملٍ شخصي.»18 يشهد الخزي بصورةٍ سلبية على ما يُقره الحُب بصورة إيجابية، ألا وهو أنَّ الشخص لا يُعد مجرد جزءٍ من العالم فحسب بل ويوفر أيضًا وجهة نظر عليه.
وتشهد خبرة الشعور بالخزي أيضًا على توتُّر محفور في طبيعتنا ككيانات مُتجسِّدة، فنحن نتلقى عالم الخبرة بينما في الوقت نفسه نحن جزءٌ منه. هذا الطابع المزدوج يفتح إمكانية أن نُختزل في أعين الآخرين إلى مجموعةٍ من الأجزاء الجسدية المبهمة.19 لكن الشعور بالخزي يكشف أن أجسادنا ليست مجرد كُتل من اللحم. عوضًا عن ذلك، أجسادنا هي الوجه الخارجي لبواطننا، وهي محملة بالدلالات الشخصية.20 ينشأ الشعور بالخزي الجنسي بسبب أن الحُب يوجِّهنا نحو الشخص لكن الرغبة توجِّهنا نحو الاستمتاع الجسدي. هذا الفارق بين أن تقصد الشخصَ وأن تقصد الاستمتاع الجسدي يجعل من الضروري أن يُخبِّئ المرء أكثر مناطق جسده حميمية أمام الشهوة ولا يكشفها إلا لأجل الحُب. فكرة الحب في كنف الزواج هو أن المُحب لا يشتهي حبيبه وحسب بل ويُحبه كذلك، ومن ثمَّ لا يقوض الاستمتاع الطابع المزدوج للجسد؛ فباسم الحب، يمكن للشعور بالخزي أن يختفي.21
إحدى الخبرات السلبية الأخرى التي تحمِل معنًى إيجابيًّا هي الانعزال. فبينما أنت واقف في صف، أو كنت تحضر حفلًا، أو حتى إن كنت في غرفتك الخاصة، يمكن أن تشعر بشدة أنك بمفردك. هذا يختلف تمامًا عن الشعور بالوحدة، الذي هو خبرة انعزالية سَمتُها القلق والاضطراب؛ عوضًا عن ذلك، يمكن للشعور بالانعزال أن يكون شعورًا مُسالمًا تمامًا. في تلك الخبرة الانعزالية، يختبر المرء ذاته ويُدرك ميلها للآخرين. هذا الانعزال لا يُعَد شيئًا سلبيًّا؛ بل هو خبرة إيجابية بشدة وهي تُعد أساسية للتواصل الحقيقي مع الآخرين. في الانعزال، نُدرك نحن أنفسنا كذوات منفردة؛ وأثناء الاختلاط بالآخرين نُدرك أنفسنا كذواتٍ مع آخرين.22 فالتواصل يُلغي الغياب الذي هو سِمة الانعزال عن طريق استدعاء حضور الآخرين. من يستطيع أن يكون منعزلًا دون أن يكون وحيدًا هو فقط من يستطيع أن يُحب الآخر عن سابق تصميم وقرار — لا كترياق للوحدة — بل كحضورٍ مرغوب ومرحَّب به بحق.

من يشعر بالوحدة يلتفت للآخرين باعتبارهم مصدرًا لتجنُّب الذات؛ أما من يختبر الانعزال الأصيل فيتواصل مع الآخرين باعتبارهم تتمَّةً لذاته.

من يستطيع أن يكون منعزلًا دون أن يكون وحيدًا هو فقط من يستطيع أن يُحب الآخر عن سابق تصميمٍ وقرار — لا كترياق للوحدة — بل كحضورٍ مرغوب ومرحَّب به بحق.

المشاركة والحوار

نظرة الغريب لا تُمثل تهديدًا وحسب، فهي تُمثِّل أيضًا دعوة وترحابًا وإقرارًا. يُخفق سارتر في رؤية الإمكانية الإيجابية للحب، ومن ثمَّ يرى أن حضور الآخرين خطر. والإمكانية الوحيدة للتلاقي هي الاغتراب الذي يخطف فيه الآخرون عالَمِي مني، وذلك عن طريق تأويله بما يتناسَب مع وجهات نظرهم. وهناك علماء ظاهراتية آخرون — أكثر اهتمامًا بأنماط الخبرة البشرية — يؤكِّدون على الإمكانات الإيجابية للتلاقي البشري. وأنماط الحب هذه لا تنطوي فقط على الحب الأسري والحب بين الأزواج والحب بين الأصدقاء، بل تنطوي أيضًا على التضامن؛ وهي أنماط تُعبر عن التفاعل مع الآخرين ومشاركتنا إيَّاهم العالم. نحن ندرك معنى أن نكون جزءًا من كل.

يبدأ الحُب بإدراك قيمة المحبوب. ويبلغ منتهاه بأن نجعل أنفسنا هبةً مراعية تسعى لتعزيز خير المحبوب وصالحه. يحدث هذا من خلال مشاركة لا الأفكار والجهد والوقت وحسب، لكن أيضًا مشاركة بعضنا أجساد بعض، بما في ذلك نزعاتنا الحيوانية. أحد الأفعال المُميزة للأصدقاء هي مشاركة وجبة، حيث يشبعون لا لحاجتهم للطعام والأيض وحسب ولكن أيضًا رغبتهم في الرفقة والتحدُّث بشأن الحياة. سماع أفكار الآخر ومُتابعتها يتطلَّبان جهدًا، لكننا نبذل هذا الجهد عن طِيب خاطر للأصدقاء، الذين أصبح عالمهم امتدادًا لعالمنا. حتى إن هايدجر يتحدَّث بصورة مُبهمة ولكن صحيحة عن الكيفية التي نحمِل بها أصوات أصدقائنا معنا، فنكون على استعدادٍ لأن نستمع لما يقولون متى كانوا موجودين معنا.23 إن تربية الأطفال تعني أن نُعرِّفهم بأعمال الحب، وكذلك القدرة — من بين أشياء أخرى — على إجراء محادثة جيدة أثناء تناول الطعام أو المشاركة باستمرار ومن دون طلب في أعمال الحُب التي تُساهم في حياة الأسرة. إن الأصدقاء وأفراد الأسرة يتشاركون الحياة، الحياة التي تنطوي على رغباتنا وحاجاتنا الجسدية وأكبر طموحاتنا نحو الحقيقة والخير.
يطوِّر عالم الظاهراتية البولندي كارول فويتيوا فكرة ثرية عن المشاركة، في أطروحته بعنوان «الشخص الفاعل»، والتي كتبَها بينما يُعاني من القوى الشيوعية القامعة.24 يقول فويتيوا: إن المشاركة تعني أن تساهم مع أشخاصٍ آخرين في نشاطٍ مشترك كمجموعةٍ من الأشخاص. وتتناقض المشاركة بشدة مع كلِّ وجهة نظر ترى الإنسان ترسًا مجهولًا في عجلة، أو ترى الإنسان باعتباره «موردًا» وليس مُساهمًا، أو تختزل الشخص إلى مجرد وظيفةٍ ميكانيكية يقوم بها، مثل الساعي في نظامٍ بيروقراطي. يرى المشاركون أنفسهم باعتبارهم أجزاءً ذات معنًى من الكل. ويجدون سرورًا في العمل من أجل الصالح العام ومن ثمَّ يختبرون مشاعر التضامن. ويشير فويتيوا إلى أن المشاركين يمكن أن يحتاجوا أحيانًا إلى الاعتراض على الكل تعبيرًا عن الولاء للصالح العام؛ تحديدًا لأنني أنتمي أيضًا إلى الكل، فأنا في حاجة لمشاركة إعراضي المدروس عن العقلية المسيطرة. لا شك أن كاشفي المُخالفات الذين يكشفون ثقافة الفساد سيتسببون في اضطراب، لكن سيتبيَّن أن هذه المعارضة هي الإسهام الأعلى والأكبر في صالح المجموع وصالح أولئك الذين من المفترَض أن تُلبَّى احتياجاتهم. إن التفاعل بين التضامن والمعارضة يُعزز الحوار الصحي الضروري للحياة الاجتماعية والسياسية. وهذه المواقف الأصيلة تقف على طرف النقيض من الإذعان والتهرُّب، اللذَين يتجنَّبان المواجهة وإمكانية أن تجري مشاركة الحقيقة. وحين أصبح فويتيوا في وقتٍ لاحق البابا يوحنا بولس الثاني، عاد في عام ١٩٧٩ إلى بولندا في رحلة تاريخية تحاشى فيها المواقف غير الأصيلة المُتمثلة في الإذعان والتهرب، وعارض عوضًا عن ذلك إلحاد النظام الشيوعي: فأعاد التأكيد على أن الدين ينتمي إلى الخطاب البولندي العام. وبهذا أنعش حركة التضامن البولندية التي قوَّضت قبضة الشيوعية على البلاد.

إن مِثل هذه الشهادة ليست مُهمة لوجهات النظر المعارضة وحسب. فقبل عام واحد فقط من عودة البابا يوحنا بولس الثاني لبولندا، استغل ألكسندر سولجنيتسين — الذي كان مَنفيًّا في الولايات المتحدة الأمريكية لأنه عارض النظام الشيوعي القمعي في بلده الأم روسيا — مناسبةً للحديث في جامعة هارفارد في عام ١٩٧٨ ليتحدى الروح الأمريكية المعاصرة. فزعم بكلِّ جرأة أن الأمريكيين فقدوا الشجاعة لمواجهة الأخطار، وأنهم استبدلوا مسعًى مريحًا ولكن غير مَرضيٍّ في نهاية المطاف يتمثَّل في النزعة الاستهلاكية بمسعاهم نحو الغايات النبيلة. فهل كان الرجل ببساطة مُحبًّا للخصام وجاحدًا في حق مُضيِّفيه؟ أم أنه كان يقدِّم أقصى ما يُمكنه من هبات — بالتحديد، تذكيره بالغايات الأسمى للروح البشرية بأكملها — كتسديدٍ لدَين استضافة أمريكا له؟

في بيئة إعلامية طائفية بشكلٍ مطَّرد تقوم على الخطاب الاستقطابي المُتطرف، تُعَد الظاهراتية تذكيرًا مواتيًا بأن الحوار النزيه — الذي يتميز بالانفتاح على الحقيقة — ضروري لصالحنا جميعًا. فبالمشاركة، أقدِّم نفسي لخدمة الكلِّ حتى لا أسمح للحقيقة التي أراها أن تضيع أو تُخفى. عوضًا عن ذلك، يتحتم عليَّ أن أعرضها على الآخرين وأن أرحِّب بادعاءات الآخرين للحقيقة، خاصة حين تكون تلك الادعاءات مُتناقضة مع ادِّعائي. إننا لن نستطيع أن نُعايش ما يعايشه الآخرون إلا إن استمعنا لشهاداتهم ومن ثمَّ نصل — معًا — لحقيقة المسألة. قد يكون كلٌّ منَّا مخطئًا، لكننا لن نستطيع أن نُحدِّد المخطئ إلا إن بحثنا معًا حقيقة الشيء محلَّ النظر. والمشاركة الصادقة هي الإسهام الذي نُقدِّمه كأشخاص، كمُستكشفين للحقيقة في محادثة مشتركة عن صالح مجتمعاتنا على تنوُّعها. ويتطلَّب الخطاب العام انفتاحًا على الحقيقة بُغية تفادي التحوُّل إلى خطاب السلطة والترهيب المُتمثل في «نحن مقابلهم» والذي يهدف إلى إرضاخ المجتمع. إن الظاهراتية تدعونا لأن نرى حياتنا السياسية معًا باعتبارها منفتحةً على الحقيقة، الحقيقة التي يمكن مشاركتها بفضل حوار حول المفاهيم المتنافسة لما هو محبوب وصالح بحق.

الحب يبيِّن جودة الحياة ويشجع على الأعمال التي تصونها وتُثريها وتحتفي بها. وبهذا، يربط الحب بين عوالمنا، ويصوغ واقعًا يَحمينا من القوى التغريبية الساعية لتحويلنا إلى مجردِ موضوعاتٍ وليس ذوات. إنه يوفِّر السياق لمشاركة الحقيقة — حتى ما هو صعب منها — لأجل أن يتسنى لنا من خلال الحديث بعضنا مع بعض أن تزداد تدريجيًّا معرفتنا بحقيقة الأشياء. هذا الشكل من الجهد — الحياة التي نحياها معًا في كنف الحقيقة — يتطلَّب شجاعةً وصبرًا. كما يتطلَّب تفانيًا وتركيزًا. إنه يتطلَّب أن نقاوم الجاذبية المُخدِّرة لما هو سطحي حتى نتعاون بعضنا مع بعضٍ من أجل سبر أغوار الخبرة بهدف الوقوف على حقيقة الأمر.

إن الظاهراتية تدعونا لأن نرى حياتنا السياسية معًا باعتبارها منفتحةً على الحقيقة، الحقيقة التي يمكن مشاركتها بفضل حوارٍ حول المفاهيم المتنافسة لما هو محبوب وصالح بحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤