الفصل الثامن

التعجب

ماذا نفعل حين نستطيع أن نفعل كل وأي شيء نريد أن نفعله؟ البشر كلهم بكبيرهم وصغيرهم وغنيِّهم وفقيرهم والمنطوي منهم والمنبسط، يفعلون شيئًا واحدًا فقط: إما أنهم يلعبون أو يُشاهدون غيرهم وهم يلعبون. نحن نُمسك بكرةٍ ونلعب بها، أو نُخرج مجموعة أوراق لعب، أو نعزف على آلة موسيقية ونُغني، أو نشاهد مباراة أو عرضًا مسرحيًّا أو فيلمًا. وحقيقة أن الشاطئ يوفِّر الكثير من السبل لممارسة الألعاب هي ولا شك تُشكِّل قدرًا كبيرًا من قُدرته على جذب الناس. قد يبدو لك مفهوم اللعب طفوليًّا. لكن علماء الظاهراتية يوضِّحون بِنيته الأساسية، وهي بنية تشمل الديناميكيات الداخلية للخبرة.1

على الرغم من أن اللعب ينطوي على غياب النَّصَب، فإنه ليس بلا حركة، بل هو مُفعم بالحركة والنشاط. حين نعمل، نحن نسعى لإنتاج شيءٍ نحتاجه أو تبيَّنت لنا فائدته. فنحن نُعدُّ وجبةً أو نبني منزلًا. أما حين نلعب، فننخرط في نشاطٍ ليس من ورائه طائل. إنه نشاط نختار القيام به لأجله في ذاته، لأننا نستمتع به. (إن مدى قدرتنا على الاستمتاع بالعمل الذي نقوم به يتمثَّل في مدى استطاعتنا تحقيق نوع من التميُّز والحرية من النَّصَب يدنو من اللعب.)

يركِّز علماء الظاهراتية على اللعب لأنه نشاط خارجي؛ فلا يُمكنك أن تفهمه فقط من خلال السلوكيات «الداخلية» للاعبين. ففي نهاية المطاف، يظل اللعب شيئًا منفتحًا على خبرة المُشاهدين، ولا يُحدِّق المشاهدون داخل اللاعبين، بل يرَون عوضًا عن ذلك نشاطهم الخارجي. فاللعب العفوي للطفل يُثير اهتمام والده، كما أن اللعب المنضبط الذي يؤديه الرياضيون أو الموسيقيون يُثير اهتمامنا جميعًا.

إحدى أقدم ذكريات طفولتي تتمثل في الجلوس على قضبان التسلُّق الأفقية ومناداة أمي قائلًا: «انظري إلى ما فعلت!» لقد حققتُ شيئًا، وأردتُ أن ترى أمي فعلتي. وأنشطة الألعاب الأكثر رسميةً مثل الرياضات تبرز إشراك الآخرين هذا. فلماذا نريد أن نشاهد الآخرين وهم يلعبون؟ لماذا يتعطش اللاعبون للاهتمام؟ نحن نريد أن نكون شهودًا على الحقيقة التي رأيناها. جسدت شركة نايكي هذه الفكرة على لوحة إعلانية بطول عشرة طوابق في مدينة كليفلاند والتي كانت مزيَّنة بصورة البطل ابن المدينة ليبرون جيمس وعليها شعار يقول: «كلنا شهود». (أزيل الإعلان على وجه السرعة في عام ٢٠١٠ حين انضم ليبرون جيمس إلى فريق ميامي، ثم أُعيد تنصيبه مرةً أخرى في عام ٢٠١٤ لدى عودته لفريق كليفلاند، إلا أنه أزيل مرةً أخرى في عام ٢٠١٨ حين انضم إلى فريق لوس أنجلوس.) أثناء المباراة، يطمح المشاركون لتحقيق نوع من الظهور يمكن أن نُسمِّيه مجدًا. تخيل أن تُسقط رميةُ لاعب من وسط الملعب في الثانية الأخيرة من المباراة الكرةَ في الشبكة ويُحقق بها النصر للفريق. هذا أمر لا يُصدَّق ومجيد. اللعبة الرائعة تتجاوز اللحظة وتقدِّم لنا ما هو مثالي. نحن نعجب من أن «ما هو واقع» في هذه الحالة يُطابق «ما ينبغي أن يكون»، لأن هذا في كثيرٍ من الأحيان لا يحدُث. إننا نُعيد عيش اللحظة ونتذوَّق روعتها ونُقدِّر بطلها.

في الأعمال الفنية، لا يطمح المشاركون للمجد بل إلى نوعٍ آخر من الظهور، وهو الجمال. يكتب هايدجر فيقول: «ينشأ الجمال من الطريقة التي تكشف بها الحقيقة عن نفسها في العمل ومن خلاله.»2 نحن لا نُشاهد النحَّات وهو ينحت كما نشاهد اللاعب وهو يُسدِّد الكرة. إن ما نشهد على عظمته هو النتيجة لا النشاط نفسه. من المفهوم طبعًا أن مايكل أنجلو نقش اسمه بحروفٍ كبيرة وهو يافع على وشاح السيدة العذراء في منحوتته الشهيرة «بييتا» من أجل أن يعرف الجميع من نحتَها، لكن تركيزنا لا يكون على فعل النحت بل على الشيء المنحوت، تلك القطعة الكبيرة من الرخام التي تخترق قلوبنا بجمالها الفريد والأخَّاذ.

إن الرياضي المجيد والعمل الفني الجميل يأخذوننا من أنفسنا. ويعرضون لنا تميُّزًا مثاليًّا أو حقيقةً عاطفية يتردَّد صداها في طبيعتنا. إننا حين نُشاهد الرياضة أو الفنون، نرى معجزة كوننا بشرًا. ونشعر بحافزٍ لتأمُّل حقيقتنا.

أسئمنا أنفسنا؟

عادة ما نُحدد بسرعةٍ ما إن كان شيءٌ ما مثيرًا للاهتمام أم لا. لكن ماذا نعني بهذه الكلمة؟ يُميِّز هايدجر بين الاهتمام العميق المشحون بالتساؤل، والاهتمام السطحي الذي يؤدي في النهاية إلى الشعور بالملل.

[١] كلمة Interest المُقابل الإنجليزي لكلمة اهتمام تعني أن تكون بين شيئين، أن تقف في مُنتصف الشيء وتظل قريبًا منه.
[٢] لكن اهتمامنا اليوم لا يقبل إلا بالشيء المُثير للاهتمام. والشيء المُثير للاهتمام هو ذلك الشيء الذي يمكن ببساطة اعتباره عديم التأثير في اللحظة التالية، وأن يحلَّ محلَّه شيء آخر يأسِر اهتمامنا قليلًا كما فعل سابقه. في يومِنا هذا، عادة ما يرى المرء أنه يحتفي بالشيء بشكلٍ خاصٍّ حين يجده مُثيرًا للاهتمام. والحقيقة أن هذا الحكم أزاح بالفعل الشيء المُثير للاهتمام إلى منازل الأشياء عديمة التأثير والتي سرعان ما نجدها مملَّة.3

الاهتمام العميق يستحثُّ تلك الإمكانية البشرية نحو أن تأبه لشيءٍ وألا تكون لامباليًا تجاهه. أما الاهتمام السطحي فيعني أن تظلَّ لامباليًا تجاه الشيء محلِّ الكلام؛ إذ يوضع بالفعل على سَيرٍ ناقل سرعان ما سيحمله بعيدًا ليحل محله شيء آخر لن يكون مثيرًا للاهتمام إلا لوقتٍ وجيز.

للوهلة الأولى، قد يبدو أننا ننصرف إلى الملهيات لنتجنَّب ذلك الشيء المدعو الملل. من المنطقي أن نرغب في الهرب من ذلك. لكن يُنبِّهنا هايدجر إلى شيءٍ يحدث على مستوًى أعمق. نحن لا نهرب من الملل بقدْر ما نهرب من أنفسنا، من خوائنا الداخلي:

لماذا لم نعُد نجد لأنفسنا أي معنى؛ أي لا نجد أي إمكانية جوهرية للوجود؟ هل لأن «اللامبالاة» تفغر فاها في وجهنا تجاه كل الأشياء، وهي لامبالاة لا نعرف أساسها؟ ومع ذلك، من الذي يُمكنه أن يتحدث بهذه الطريقة في حين أن التجارة والتكنولوجيا والاقتصاد العالمِيين يُكبِّلون الإنسان ويدفعونه للحركة؟ رغم هذا، «نحن» نسعى لأن نجد «دورًا لأنفسنا». نتساءل من جديد: ما الذي يحدث هنا؟ هل يتحتَّم علينا أولًا أن نجعل أنفسنا مُثيرين لاهتمام أنفسنا مرةً أخرى؟ لماذا «يتحتم» علينا ذلك؟ ربما لأننا أصبحنا «سئمين» من أنفسنا؟4

لقد أعمتنا كل الخيارات والاختيارات الخاصة بنا عن الحقيقة الجوهرية المُتمثلة في أننا فقدنا قُدرتنا على اختبار الأشياء بعُمق. عوضًا عن ذلك، نرى أنفسنا مستهلِكين — كذواتٍ نظل في الأساس لامبالين تجاه ما نختاره ونستهلكه، وغير متأثرين بالمحتوى. في الأصل لم يكن الأمر على هذا النحو. كانت الخبرات تملك قدرةً على التحويل. لم نكن نستهلكها؛ كانت هي التي تستهلكنا. إن كانت الحياة الحديثة مُملة، فهذا لا لشيء إلا لأن الخبرة أصبحت مقلوبةً رأسًا على عقب.

حين نُقحم أنفسنا في هذه الخبرة أو تلك، لا ننفكُّ نجد شيئًا إلا أنفسنا وتفضيلاتنا وأحكامنا: يروق لي هذا، ولا يروق لي ذاك. لكن تبقى هناك إمكانية أخرى، إمكانية من الصعب بل من غاية الصعوبة أن نستوعِبها: أن نتعامل مع الخبرات لا باعتبارنا مارَّة بلداء الحسِّ ولكن باعتبارنا مشاركين فاعِلين، أن نرى أنفسنا حُجاجًا لا سائحين.

مجابهة الانفصال

في أحد إعلانات شركة سامسونج، أحد اليافِعين ممن يمتلكون كلبًا يُري صديقه بفخرٍ صورًا لكلبه وهو يؤدي حركة شقلبة خلفية منفردة. كلاهما يركِّز على الصور التي تظهر على شاشة الهاتف. تنجح كاميرا التلفزيون في أن تُري للمشاهد في المنزل أن الكلب نفسه أمامه مباشرة يؤدي بنشاطٍ سلسلةً من الحركات المذهلة أكثر، رغم أن مُستخدمَي الهواتف يظلَّان غافلَين عن ذلك. إن الصور تقف بسهولة كبيرة بيننا وبين الأشياء، حتى تلك الأشياء التي تُصوِّرها هذه الصور. فكيف يمكن أن نكون مُتصلين بكل شيء ومع ذلك منفصلين عما هو أمام أعيُننا مباشرة؟

توفِّر لنا التكنولوجيا قدرة هائلة، قدرة على أن تحمل العالم في جيبك وأن تحمل معك اهتمام وانتباه المئات من زملاء الرحلة التي تُسمَّى الحياة. لكن حتى وبينما تلبي هذه القدرة رغبة كبيرة بداخلنا بحيث لا نتخيَّل حياتنا من دونها، فإن هذه ليست هي القصة بأكملها، لأننا بين الحين والحين نحظى بلمحةٍ أو إشارة تقول إن هناك شيئًا مفقودًا. أولًا، رغم أن كل شيءٍ متاح لنا دائمًا، فإننا نظلُّ بمنأًى عن الأشياء من حولنا بصورة غريبة، ونُسجل هذه الحقيقة بصورةٍ مبهمة، وكأنها شيء على حافة الذاكرة. نحن لا نحظى بأحاسيس الحميمية والألفة التي نريدها. ثانيًا، التكنولوجيا هي سباق تسلُّح حقيقي يهدف إلى إخراج كل شيءٍ آخر من دائرة التركيز؛ فمُصمِّموها يرغبون في أن يُبقوا على انتباهنا واهتمامنا لأطول وقتٍ ممكن. فلا عجب أننا نشعر بأننا لا نستطيع أن نتخلَّى عنها. وبكلمات هايدجر: «نحن نعتمد على الأجهزة التكنولوجية؛ حتى إنها تتحدَّانا لتحقيق تقدُّم أكبر في كل مرة. لكننا فجأة ومِن دون سابق وعيٍ نجد أنفسنا مُرتبطين بشدة بها لدرجة أننا نسقط في عبوديتها.»5 إننا نشعر بأننا مُقيدون وأن هذا ليس صائبًا. ثالثًا، التكنولوجيا لا يمكن أن تفي تمامًا بما تعد به. فكل اتصالاتنا تتركنا غير مُستقرِّين بصورة مُثيرة للغرابة؛ نحن نشعر بالاغتراب والوحدة وغياب التركيز والغضب والتشوُّش والإنهاك الشديد. ومن حينٍ لآخر، نشعر أننا نعيش فيما يُطلِق عليه مارسيل «عالم معطوب»، عالم سطحي يفتقر إلى بهجة الوجود: «الملل القاتل الذي نجده في البلدان التي ضربها هذا السرطان لا ينفصم عن ضعف مناظر في الشعور بالوجود وغياب متزايد للبهجة.»6
والظاهراتية تُميز بين المشكلات والألغاز. فالمشكلة هي شيء يمكن تجسيده (كلمة problema باليونانية لها نفس أصل كلمة objectum باللاتينية: وهي تعني «أن يُلقى أمامنا»). وهي يمكن عزلها لبحثها بشكل متعمق، وبهذا يمكن أن تسمح بوجود حلٍّ لها. أما اللغز على النقيض فهو شيء لا يمكن تجسيده لأنه لا يمكن عزله ومن ثمَّ لا يمكن حلُّه. وسبب أن اللغز لا يمكن أن يكون كالمشكلة هو أن اللغز ينطوي — في أساسه — على الباحث كباحث. حين يتعلق الأمر بموضوعٍ مثل الجسد أو اللغة أو الحقيقة، لا يُمكننا أن نضعه تحت المجهر بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع أي عددٍ من الأشياء الأخرى: ولا يُعد سبب عدم قدرتنا هذه بسبب قصور في هذه الموضوعات أو في أنفسنا، بل لأن هذه الموضوعات منسوجة في كياننا وفي إمكانية البحث والفحص نفسها. فأنا لا أفحص موضوع الجسد لا في اللغة ولا في الحقيقة إلا بينما أستخدِمها. وينبغي أن أجد — ضمن حدود الحياة في هذه الأبعاد — طريقة لتوضيحها وتركيزها. لا بد أن أعيشها كلغزٍ بالمعنى التقني الذي يستخدمه مارسيل وميرلو بونتي.7 واللغز لا يُرادف المعضلة أو المشكلة غير المحلولة. بإمكاننا بالطبع إحراز تقدُّم في إدراك هذه المفاهيم، لكن ليس إلا بطريقةٍ تتيح مزيدًا من البحث والفحص، وبطريقة تجعلنا نظلُّ نحن في موضع تساؤلٍ بشأن أنفسنا.

الخبرة لا يمكن التعامل معها كمشكلةٍ يجب حلها بالطريقة التي يمكن بها التغلُّب على العقبات النظرية أو العملية من خلال التفكير الحسابي. فليس هناك تطبيق أو أداة أو برنامج أو بروتوكول لإرشادنا إلى انخراطٍ تأمُّلي أكثر مع ألغاز الحياة. ولا يُمثِّل مثل هذا التأمُّل انسحابًا إلى غير المنطقي أو الروحي. بل بالأحرى، هو مسألة اكتساب الوعي بمعالم الخبرات والالتزام بمشاركة حقيقة العالم عبر الحديث والجسد. بالتأكيد هناك أبعاد أعمق للخبرة البشرية، أبعاد دينية، يمكن أن تُصبح متاحةً بالتالي، لكن انصراف الظاهراتية إلى التفكير التأمُّلي لا يحمل طابعًا روحيًّا أو دينيًّا بصفةٍ خاصة. عوضًا عن ذلك، هي مسألة عودة من المُلهيات إلى التفكير بعُمق أكثر بشأن ما سيُحقق لنا شعور الإشباع وما لن يفعل.

التعجب الخاص بالأشياء

يتضمن التعجُّب درجات.8 تخضع مراحله الأولى لجاذبية الملل، لكن مع زيادة شدته ينفلِت منها. في البداية، وفي الأنماط اليومية للتعجب، يظهر شيء غريب أو مُثير للفضول وسط الأشياء العادية. إذ يُدهشنا حدوث تطوُّر غير متوقَّع في الحبكة في نهاية الفيلم أو الصيحة الجديدة في عالم الأزياء. هذه الدهشة بالطبع عابرة، وغير مفاجئة — بالنظر إليها في وقت لاحِق. أما شكله الأكثر عمقًا فيحدث حين يبرُز شيء غير عادي بتفرُّده. هنا يكمن افتتاننا بمشاهير هوليوود، لكن هذا الافتتان يظلُّ محاطًا بالنميمة عنهم؛ فهم لا يُخرجوننا من أنفسنا. أتُصدِّق أنها تُواعده؟ أما الشكل الأعمق من التعُّجب اليومي فيحدُث أمام الأبطال والأيقونات الرياضية. هنا نجد أنفسنا في مواجهة شيءٍ لا يُعَدُّ غير عادي وحسب، بل وخارقًا للعادة، فنقف مُندهشين ومغمورين بعظمة الشخص محل الكلام. مثلًا، نقول في أنفسنا، لا يسعنا أن نُصدق أن تشيسلي بورنيت «سولي» سولينبرجر الثالث حطَّ بالطائرة التي عطب مُحركاها على نهر هدسون وأنقذ حياة كلِّ مَن على متنِها. هذا الأمر لا يُعد مفاجئًا لفترةٍ وجيزة من الوقت، ولا يُعد شيئًا يمكننا تقويضه بالنميمة. ومهما حاولت تبسيط الأمر، فإنه يمثِّل إنجازًا خارقًا للعادة.
يشير هايدجر إلى أننا كثيرًا ما نسعى خلف الأشياء المثيرة لأننا مُتحيرون بشأن ما هو مُهم بحق. ويضيف: «مع ذلك، نحن معرَّضون بشكلٍ متساوٍ لتجاهل ما هو ضروري، لا لشيء إلا لأننا نادرًا ما نملك القدرة على الإعجاب الأصيل، ومن ثمَّ نادرًا ما نتمكن من أن يجعل بعضُنا بعضًا مُنفتِحين على ما يستحق إعجابنا بحق، فنظلُّ مُتمسِّكين بهذا الإعجاب.»9 وفيما يتجاوز الأنماط العادية للتعجُّب هناك أنماط فلسفية أكثر. فهناك تعجُّب العالِم الذي يسعى لكشف أسباب وجود الأنماط المُخططة على جلد الحمار الوحشي. لقد تبيَّن أن هذه الأنماط لا علاقة لها بالقُدرة على التخفي، بل ربما كانت لها علاقة باستراتيجية لتشتيت مهارات الهبوط لدى ذباب الخيل.10 هذا التبايُن بين سمة الخطوط الفعلية هذه وكل السمات المُمكنة الأخرى التي كان بإمكان الحمار الوحشي الحصول عليها (نقط البولكا والتربيعات والبُقَع ونحو ذلك) هو ما يُثير التعجُّب والتساؤل. لو كان باستطاعتنا تفسير ما هو فعلي، لما كان هناك تعجُّب، ولما استطعنا أن نسأل عن الأسباب. عوضًا عن ذلك، كنا سنصطدم بالحقائق عن الأشياء الواحدة تلوَ الأخرى. لكن لأننا نستطيع أن نفهم في ضوء ما كان يمكن أن يكون لكنه لم يكن، يظهر ما هو فعلي كشيءٍ لم يتعيَّن أن يكون ومن ثمَّ كشيء يستحق تفسيرًا لحقيقته.11 كيف يكون الاستقصاء العلمي بشأن الأسباب ممكنًا؟ هذا الاستقصاء مُمكن بسبب تعالِينا أو تجاوزنا البشري، حقيقة أننا لا نرى الحقائق وحسْب بل ونراها على حقيقتها في مقابل ما كان يمكن ألا تكون عليه. هذا الاختلاف بين الفعلي والمُمكن هو ما يُثير تعجُّبنا: لماذا الأمر على هذا النحو وليس على نحوٍ آخر؟ إن الاستقصاء العلمي هو ثمرة التعالي البشري، وهي الحقيقة التي تسعى الظاهراتية لفهمها وتسليط الضوء عليها.

إن الاستقصاء العلمي هو ثمرة التعالي البشري، وهي الحقيقة التي تسعى الظاهراتية لفهمها وتسليط الضوء عليها.

التعجب الخاص بالمعرفة الأساسية

في خطاب تقاعُدها من البحرية الأمريكية في عام ١٩٨٦، قدمت اللواء البحري جريس هوبر، عالمة الرياضيات ومبرمجة الكمبيوتر البارزة، فارقًا استراتيجيًّا. كانت تدعو إلى توفير المزيد من القيادة في مجال الأبحاث الحكومية، فقالت: «الأشياء تُدار والناس يُقادون.»12 فما الذي تقصده بتفريقها بين الإدارة والقيادة؟ ففي نهاية المطاف، من عادتنا أن نُشير إلى موظفي المستوى المتوسط بالمُديرين، وليس القادة. لاحظ في إبرازها لهذا الفارق أنها تتأمل الشئون البشرية؛ فهي لا تعيش هذا الفارق في الوقت الراهن. فهي لا تقود ولا تُدير، بل تتأمَّل. لقد أخذت خطوة للخلف وأوقفت عيش الحياة إن جاز التعبير، من أجل أن تفهم بعُمق أكبر بعض المفاهيم التي يعيش البشر حياتهم معًا وفقًا لها. وتأمُّلها هذا لا يستنزف من الحياة أهميتها؛ بل على العكس من ذلك يُعززها.

كيف وصلت إلى هذا التفريق؟ فكِّر بشأن ما يَعنيه أن تدير؛ ينطوي الأمر على ممارسة العناية من جانب الشخص الذي يُدير. فنحن نقول: «يُمكننا تدبُّر الأمر» أو «كل شيء تحت السيطرة». في الإدارة، تكمن الحرية فيمن يضع الأمور في نصابها. لكن حين يتعلق الأمر بالناس الآخرين — في مقابل الأشياء — تكون هناك حريات أخرى مطروحة، ومصادر أخرى للتنظيم والإبداع. وتضمين مصادر الحرية هذه يكدِّر المعنى الأصلي للإدارة؛ فثمة شعور بالنشاط المُشترك الآن في ظل وجود أناسٍ آخرين. إذن تضمين الأناس الآخرين ينسف حدود ما يَعنيه فعل «الإدارة» ويُصبح شيئًا آخر. ما هذا الشيء؟ في الواقع، حرية الشخص المسئول لا بد أن تشجع حرية الآخرين؛ فهي حرية ملهِمة أو مُعزِّزة. تُطلق هوبر على هذا القيادة. لا يمكن للمرء أن يقود شئونه، لأن الأشياء لا يُمكنها القيام بنشاط مُشترك، لأنها لا تتمتع بالحرية؛ ولا يمكن للمرء كذلك أن يُدير الناس، لأن الناس قادرون على النشاط المشترك لأنهم يتمتعون بالحرية. وبهذا يدير المرء الأشياء ويقود الناس. ما تُشير إليه هوبر هو أن خلط الإدارة بالقيادة يعوق الإبداع الضروري لتحقيق الابتكار المثمر.

الفلسفة هي تكثيف شديد للتأمُّل العادي، والظاهراتية هي تجديد للفلسفة. إننا حين نتأمَّل، نأخذ خطوةً للخلف لنتأمَّل ما نفعله من أجل أن نكتسب عنه المنظور الذي نحتاجه. وأخْذُ خطوةٍ للخلف يفتح نوعًا جديدًا من البُعد بيننا وبين المسألة التي بين أيدينا، وبفتح هذه المسافة، نجعل من الممكن تقريب هذا الشيء في ضوءٍ جديد. وحينها يُمكننا اللحاق به فكرًا. على سبيل المثال، إحدى الكلمات الأكثر بحثًا على موقع قاموس «ميريام ويبستر» هي المقابل الإنجليزي لكلمة «الحُب».13 ليس هذا بالطبع لأن الناس يبحثون عن التعريف اللغوي للكلمة؛ وإنما لأن الحُب يمكن أن يكون مُحيرًا بصورة كبيرة حين نكون في خضمِّه. فنحن نأخذ خطوة للخلف بشأن علاقةٍ ما ونسأل عن طبيعة العلاقات من أجل أن نعود إلى تلك العلاقة — أو إلى علاقاتٍ مستقبلية — بشكل أعمق أو مدروس أكثر.
منذ عهد سقراط تخصصت الفلسفة في القدرة البشرية الطبيعية المُتمثلة في أخذ الإنسان خطوةً للخلف عن شئونه ليستوضح المفاهيم الفاعلة في الحياة حتى يتسنَّى له أن يعيش، مع رفاقه من البشر، الحياةَ باستمتاعٍ أكبر وبتمعُّن. وبالنسبة إلى سقراط، فإنها مسألة صياغة تعريفات لا تتعارَض مع نفسها أو مع حقائق الأمر. تُجدِّد الظاهراتية طريقة سقراط في صياغة التعريفات وذلك عن طريق ربطها بالخبرات؛ فصياغة التعريفات هي مسألة توضيح أو شرح الخبرة الأصلية عن الموضوع محلِّ البحث. يتعيَّن علينا أن «نتصور» جوهر الشيء من أجل أن نفهم ماهيته. يُطلق هوسرل على ذلك «الحدس الماهوي»، لأنه شكلٌ من أشكال فهم ماهية (باليونانية eidos) شيءٍ ما. كيف يعمل هذا؟

فكِّر في الشيء محلِّ الاهتمام، وضع أمامك فهمًا مبدئيًّا لسماته الأساسية، تلك السمات التي تبدو ضرورية له. والآن استخدم قدرتك على التخيُّل. خُذ كل سمة، الواحدة تلوَ الأخرى، وألغِها، أي، احذفها، أو أخرجها من الصورة. هل يبقى الشيء هو نفسه بعد أن تفعل ذلك؟ إن ظلَّ على حاله فهذه السمة لم تكن أساسية؛ بالتالي، فعليك أن تُخرجها من اعتبارك. هل يتغيَّر الشيء ليُصبح شيئًا آخر حين تفعل ذلك؟ إن فعل، فهذه السمة أساسية؛ أعِدْها وانتقل إلى التالية. الحدس الماهوي يسمح لنا بترسيم الحدود بين الأشياء. ولاحظ أنه يُحضر إلى الخبرة نفس الطبيعة غير المُتناقِضة التي كان سقراط أول من أيَّدها باعتبارها السمةَ المميِّزة للماهيات.

تأمَّل شيئًا كالصداقة. اجمع كل سمات الصداقة ثم اشرع في فحصها. يبدو أن الصداقة تتطلَّب وجود معاملةٍ بالمثل. أهذا صحيح؟ حسنًا، تخيَّل صداقةً من دون معاملة بالمِثل. جاك يصادق جيل لكنها لا تُبادله الصداقة. هذه ليست صداقة حقًّا، أليس كذلك؟ ومن ثمَّ فإن المعاملة بالمِثل تُعَد سمة أساسية. ماذا بشأن المعاملة بالمِثل هذه؟ هل يكفي أن تكون هناك منفعة متبادلة بين الطرفين؟ هل هذا كافٍ لتقوم علاقة صداقة؟ جاك طبيب الأسنان الخاص بجيل، وجيل هي مُحاسبة جاك. ينتفع كلاهما من العلاقة، لكن هل هذا التبادُل كافٍ حقًّا ليُشكِّل صداقة؟ هنا جاك يهتم لأمر جيل من أجل مصلحته فقط، وجيل مُهتمة لأمر جاك لأجل مصلحتها هي وحسب. فهذه علاقة منفعة، لكنها ليست من النوع الذي يُحتفى به بأن نُطلِق عليها اسم «صداقة». إذن الصداقة تتطلب قدرًا أعمق من تبادُل المنفعة، قدرًا يجعل الاهتمام بأمر الناس لأجلهم هم أنفسهم وليس لأجل ما نحصل عليه منهم. لنُطلق على هذا التبادل الأعمق اسم حُسن النية المتبادل؛ كلُّ شخصٍ يتمنى الخير للآخر. هل يمكننا أن نتصور علاقة صداقة لا تنطوي على حُسن النية المتبادل؟ هل بإمكان جاك وجيل أن يكونا صديقَين إن لم يكن كلٌّ منهما يتمنَّى الخير للآخر؟ بالطبع لا. إذن حُسن النية المتبادل سمة أساسية في علاقات الصداقة. إن كنا سنقدِّم لأنفسنا علاقة صداقة، يتعيَّن أن تنطوي تلك العلاقة على حُسن النية المتبادل؛ هذه النقطة لا جدال فيها بالنسبة إلى كل علاقات الصداقة.14 يُحدِّد الحدس الماهوي هذه السمة باعتبارها أساسية لعلاقات الصداقة. وبقدْر ما يستطيع الناس أن يستخدموا المنطق من دون دراسة علم المنطق، بإمكانهم كذلك أن يكونوا متبصِّرين من دون أن يدرسوا الأداة الظاهرية الخاصة بتصوُّر الماهيات. وبالمثل، كما يمكن لدراسة علم المنطق تعزيز مستوى الذكاء الفطري لدى المرء، فإن ممارسة تصوُّر الماهيات يمكن أن تُعزز من قدرة المرء على فهم السمات الأساسية للأشياء مع تمييزها عن السمات الأخرى التي لا تنتمي إليها.

التعجب الخاص بالخبرة الظاهراتية

إلى جانب تعزيز الظاهراتية لقدرتنا على التفكير بتبصُّر بشأن الأشياء، ثمة نوع ظاهراتي بشكلٍ خاص للتعجب، يلمحه الفلاسفة هنا وهناك ولم يتحقَّق للمرة الأولى إلا على يد الظاهراتية. يمكن للتعجُّب أن يتخذ اتجاهاتٍ أخرى؛ على سبيل المثال، تساءل الكثير من الفلاسفة لماذا يوجد أي شيء من الأساس. لكن التعجب الظاهراتي يظل مَعنيًّا حصرًا بالطبيعة العجيبة للخبرة. الشكل الأول من التعجُّب الظاهراتي يحدث أمام اعتيادية المعتاد، حيث تظهر السمة المألوفة للخبرة اليومية بغرابتها. الأشياء التي في نطاق الخبرة تظهر في التعجُّب النابع من ظهورها. فنحن نقول لأنفسنا: كم هو مُذهل أن تحدث الخبرات، أن تكون الأشياء حاضرة! وهناك شكلٌ آخر من التعجُّب أكثر عمقًا من الأول ووثيق به، وهو يهتم بالغياب الذي ينطوي عليه كل حضور. إن كنت سأتعجب من حضور الأشياء، فينبغي أيضًا أن أتعجب من الغياب الذي يجعل هذا ممكنًا؛ إن كانت واجهة الخبرة مدهشة، فينبغي أن أسمح لنفسي أن تُغيِّرني خلفية الخبرة التي تمكِّن الواجهة من الظهور. وعوضًا عن أن نتعجَّب يوميًّا بشأن ما هو غير معتاد أمام المعتاد، تدعونا الظاهراتية أن نتعجَّب بشأن اعتيادية المُعتاد نفسه. وثمة شيء مُذهل ومدهش وغريب بشكلٍ دائم بشأن نطاق الخبرة وما يُقدِّمه لنا.

والتحوُّل من الملل إلى التعجُّب عبر الاهتمام الأصيل هو التحوُّل من الأشياء إلى تجسيدها الذاتي. ويرى هوسرل — مثل هايدجر تمامًا — أن الفلسفة تنشأ من التعجُّب الذي هو ثمرة عيش الحياة بأقصى حيوية ومرح:

من الواضح أن الاهتمام النظري الأوَّلي، مثل التعجب، هو شكل من الفضول يحتل مكانة أصيلة في الحياة الطبيعية بصفته اقتحامًا لمسار «الحياة الجادة»، إما كنتيجةٍ لاهتمام حياتي اكتُسِب في الأصل أو كنظرة مرحة حين جرت تلبية الاحتياجات الحيوية والمباشرة للمرء أو حين تنتهي ساعات العمل. والفضول (الذي لا يُفهم هنا على أنه «رذيلة» معتادة) هو أيضًا شكل آخر، فهو اهتمامٌ فصَلَ نفسه عن الاهتمامات الحياتية وتركها تسقط عنه.15

يقول هوسرل إن نوعًا من هذا التعجُّب هو أصل الظاهراتية:

الارتباط بين العالم (العالم الذي نتحدث عنه دومًا) وأنماطه الذاتية للظهور لم يستحضر أبدًا التعجب الفلسفي (أي قبل التطوُّر الأول ﻟ «الظاهراتية المُتعالية» في كتاب «مباحث منطقية») رغم حقيقة أنها جعلت نفسها محسوسة حتى في الرؤى الفلسفية السابقة بين سقراط وبين السفسطائيين — وإن كانت هنا فقط كدافعٍ للجدل التشكُّكي. هذا الارتباط لم يُثِر أبدًا اهتمامًا فلسفيًّا أصيلًا يُلهم ظهور توجُّهٍ علمي لدراسته.16

الظاهراتية إذن شهدت تقديم نوعٍ جديد من التعجب، وهو التعجب أمام حقيقة الخبرة. ويتناول هايدجر هذا التعجب عبر مجموعةٍ من الخبرات ذات الصلة: القلق والبهجة وحتى الذُّعر؛ ما يحدث هنا هو تحوُّل من الأشياء إلى عالم الحضور الذي تظهر فيه الأشياء.

ولم يغِب عن بال الفلاسفة الكلاسيكيين أن الأصدقاء يُعززون من خبراتنا. فهذا أرسطو يوضِّح فضل الأصدقاء الصالِحين كما يلي: حضور صلاحهم يُساعدنا في إدراك حلاوة الوجود.17 يكتب أرسطو فيقول: «في الواقع، العلامة الأولى على الحُب دومًا هي، إضافة إلى الاستمتاع بحضور أي شخص، أن نتذكَّره بعد أن يرحل، فنشعر بالألم والسعادة، لأنه لم يعُد موجودًا.»18 ويتحدث أوغسطينوس أيضًا عن الطريقة التي يصبو بها الأصدقاء لحضور بعضهم إلى بعض وبُغضهم لغيابهم بعضهم عن بعض.19 ليس ذلك برغبةٍ في الحضور كحضورٍ أو في الغياب كغياب، إنما هي رغبة في حضور الصديق. إن أحبابنا يكشفون لنا عن قيمة الوجود ويُرشدوننا إلى الفرق بين الحضور والغياب. فالحُب يتجاوز بنا حدود اللامبالاة والملل بأن يقودنا إلى التعجُّب، وهذا التعجب هو عتبة التحليل الظاهراتي. إن الظاهراتية تستدعي أفكار أرسطو وأوغسطينوس الكلاسيكية التي تجد صدًى لها في خبرات كلٍّ منَّا: من الجيد أن نكون حاضرين مع الأصدقاء. ومن ثم هناك مسار إلى الظاهراتية عبر الحُب. والظاهراتية تبدأ بالتفريق بين الصديق ونطاق الخبرة الأوسع.

الظاهراتية شهدت تقديم نوعٍ جديد من التعجُّب، وهو التعجب أمام حقيقة الخبرة.

مراحل التعجُّب الظاهراتي

ينطوي الدلوف إلى الظاهراتية على التعاطي مع مفردات غريبة ومزاعم غير مألوفة. وهذه الطريقة في الحديث لا تتبلور إلا تدريجيًّا، فتنتقل من كونها شيئًا غريبًا إلى أسلوبٍ للحديث، ثم إلى أسلوبٍ في التفكير، وفي نهاية المطاف أسلوب في إظهار حقائق الأشياء.

  • «مرحلة الاندهاش»: في هذه المرحلة، يكون هناك استفزاز سببه سماع ما تنطوي عليه الظاهراتية من صِيَغ نفيٍ مُحيرة ومناقضة للبديهة، صِيَغ نفيٍ مُربكة ومثيرة للقلاقل لكنها تَعِد أيضًا بشيءٍ مُحرِّر، شيء يخالف الصورة الفكرية القياسية عن أنفسنا وعن العالم. ماذا يعني أن الخبرات لا تحدُث في عقولنا؟ هل يمكن أن يكون ذلك صحيحًا حقًّا؟ يبدو هذا خاطئًا بصورةٍ واضحة. ومع ذلك، ليته كان صحيحًا. تبدو الظاهراتية وكأنها تعِد بما كنتُ أنتظره تمامًا. فتكشف توترًا بين ما قيل لي دومًا وما ظننتُ أنه صحيح. بهذا الشكل، تقع المزاعم الظاهراتية تحت حُكمٍ مزدوج: أنها «لا يمكن» أن تكون صحيحة، وأنها «لا بد» أن تكون صحيحة. فإن لم أستقر على الأول وسمحتُ لنفسي أن أنجذب إلى الثاني، فإنني أرجو أن ما تعِد به الظاهراتية يمكن أن تثبُتَ حقيقته. لذا، أنا في حاجةٍ لقراءة المزيد. فأقرأ كتبًا عن الظاهراتية بإعجابٍ ولكن بتشوُّش شديد أيضًا.
  • «مرحلة التحدُّث»: في المرحلة الثانية يكون هناك تقليد متحمس للغة الظاهراتية، مع وجود الكثير من الأخطاء. هذا هو الشائع في العمل الأكاديمي المبكر. أنا متحدث هاوٍ عن اللعبة اللغوية، وأتخذ توجُّهاتي من أجرأ المزاعم التي يُقدمها علماء الظاهراتية. وبالقبض على هذا الزعم أو تلك الكلمة الجديدة وإدخالها في إدراكي للواقع ومُفرداتي التي أستخدِمها، أُصبِح معتادًا على نمط التفكير والتحدُّث الظاهراتي. بهذا الشكل، أبدأ في فَهم معاني المزاعم الظاهراتية ويظلُّ فهمي سطحيًّا. أنا أعرف ما يكفي لأن أريد أن أعرف المزيد وأن أعتقد أنني أعرف أكثر مما أعرف.
  • «مرحلة التفكير»: في هذه المرحلة الثالثة أُصبح متحدثًا خبيرًا في هذه اللعبة اللغوية الجديدة. يُمكنني ترديد مفرداتها دون خطأ وإلى مالا نهاية. لقد حمَّلت، إن جاز القول، منطق الطريقة الظاهراتية في التفكير في ذهني. وهذه هي مرحلة معظم الأطروحات. أقرأ النصوص الظاهراتية بارتياح: ها هي الطريقة التي «ينبغي» أن يتحدَّث بها المرء عن الأمر. تتمتع الظاهراتية بالتماسُك، لكنه تماسُك نموذج؛ إنها طريقة للحديث الدقيق، لكنني لستُ بعدُ في موقفٍ يمكِّنني من رؤية أنها ترقى إلى مستوى الحقيقة.
  • «مرحلة التحقق»: أُحقق الطلاقة في المرحلة الأخيرة. الظاهراتية ليست مجرد أسلوبٍ في الحديث أو في التفكير. إنما هي أسلوب للوصول إلى فئةٍ كاملة من الحقائق. في هذه المرحلة، أُصبح متكلِّمًا ينتقد بالضرورة وهو يتمتع بالفهم؛ النقد قبل هذه المرحلة يفتقر إلى غايته؛ ثمة اختلاف بين الطلاقة في لغةٍ أجنبية والطلاقة في اللغة الأم — فالأخيرة تنطوي على القدرة على معارضة ما يقال، والحديث بصورة أفضل وبالتأكيد الحديث بكلمات ومفردات غير تلك التي سمعتها. أقرأ النصوص الظاهراتية كفُرَص كثيرة للإقرار بصحة الأشياء أو خطئها، وكفُرَص كثيرة لاستيضاح حقيقة الأشياء. وباستطاعتي إنتاج نصوصٍ ظاهراتية جديدة وأفعل هذا بالفعل؛ لا يسعني سوى أن أفعل هذا، لأن الكلمات نفسها تنشأ في حضور الظواهر المُحيِّرة. أرغب في — كلَّا، بل أنا في حاجةٍ إلى — الاستيضاح والاستبيان وممارسة الظاهراتية.
إن الظاهراتية شيء نتعلَّمه بالممارسة؛ شيء نختبره أولًا قبل أن نفهمه. يكتب هايدجر قائلًا: «لكن الأكثر أهمية هو أن نكون أولًا قد قطعنا المسار كلَّه مرة واحدة، أولًا، لكي نتعلم التعجُّب بصورة علمية بشأن سر الأشياء، وثانيًا لكي نطرد كل الأوهام التي تستقر وتُعشِّش بعنادٍ في الفلسفة على وجه الخصوص.»20 «أن نتعلم التعجب بصورةٍ علمية بشأن سر الأشياء» — لا توجد صيغة مُمكنة أفضل من هذه للتعبير عن مسعى الظاهراتية العجيب، والذي يهدف إلى توضيح التفاعل بين الخبرات والأشياء بكل دقة، وهو التفاعل الغامض بالضرورة لكن ليس بشكلٍ مُخيِّب للآمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤