المنهج
منذ فجر الحقبة الحديثة، وجدَت الفلسفة نفسها في وضعٍ حرج بشكل متزايد. فالعلوم المختلفة التي انفصلت عنها الفلسفة حققت نجاحًا مستقلًّا على طريقٍ من إحراز التقدُّم تدريجيًّا، في حين تبدو الفلسفة ذاتها غير قادرة على اتخاذ خطوةٍ واحدة لتجاوز نقطة بدايتها. لذا يبدو أن العلم — وليس الفلسفة — هو ما يُعقَد عليه أكبر الآمال باكتشاف الحقائق المُطلقة. رغم هذا فالعلم ليس عرَّافًا، إنما هو طائفة من الباحِثين والمُحققين الموجودين عبر الزمن والملتزِمين باستراتيجيةٍ عامة لزيادة معرفتنا بالعالم من خلال الخبرة المدروسة. فمن نعومة أظفارنا ونحن نتدرَّب على هذا المنهج — الملاحظة، ووضع الفرضيات، ثم إجراء التجربة. يُشكِّل هذا المنهج أسلوبًا فعَّالًا في توسيع نطاق فَهمنا للعالم الطبيعي. فهل بإمكاننا استخدام المنهج العلمي لفحص الخبرة ذاتها؟
يقع نطاق الحضور في الخبرة محلَّ القلب منها، وهو الموضع الذي يمكن أن نلتقيَ فيه الأشياء. فأنت تجلس في المنزل مُحاطًا بالأشياء العادية، بما في ذلك الأكواب والأرائك وبرامج التلفزيون. وتُقرر أن تذهب إلى حديقة الحيوانات لمشاهدة الحيوانات العجيبة. وفي طريقك إلى هناك، تقع عينك على براميل البناء البرتقالية، ولافتات الإعلانات، والزحام المروري. وفي الحديقة، ترى أفراس النهر وحيوانات الشمبانزي والفهود. خلال ذلك اليوم، ظهرت الكثير من الأشياء في حيِّز الحضور وتراجعت إلى حيز الغياب: الأرائك، ولافتات الإعلانات وأفراس النهر. هذا التفاعُل بين الحضور والغياب هو جوهر الخبرة. فهل يمكن أن هناك علمًا يدرس هذا؟ هل يمكن ملاحظة الحضور في حدِّ ذاته؟ ليس إلى حدٍّ بعيد. يُمكننا أن نلاحظ أن شيئًا ما — ولنفترض أنه فيل — حاضر وموجود، لكن لا يُمكننا ملاحظة الحضور. لماذا لا يُمكن ذلك؟ لأن كل ملاحظة تتطلَّب الحضور كشرطٍ أساسي لها. بإمكاننا ملاحظة سلوك الغوريلا أو الإلكترونات وبإمكاننا ملاحظة أحدهم وهو يلاحظ الغوريلا والإلكترونات، لكن لا يسعُنا ملاحظة نطاق الحضور الذي يجعل هذه الملاحظات مُمكنة؛ بدلًا من ذلك، الحضور شيء نعيش خلاله، وبفضله نحظى بالوصول إلى الغوريلا والإلكترونات والناس من حولنا. الحضور ليس موجودًا لنلاحِظه بالطريقة التي تتواجَد بها الغوريلا أو الإلكترونات أو الآخرين من الناس ونُلاحظهم بها. وإن لم يكن باستطاعتنا ملاحظة الحضور، فهذا يعني أننا لا نستطيع وضع فرضياتٍ بشأنها أو إجراء التجارب عليه. ومع هذا لا يتبيَّن أن الحضور شيءٌ غامض ونِسبي فقط لأن منهج العلوم الطبيعية الحديثة لا يستطيع أن يُحكِم قبضته عليه. فهناك منهج آخر يتمتع بنفس القدْر من القوة لفهم الخبرة، وهذا المنهج هو المنهج الذي ابتكره علماء الظاهراتية بعناية. ففي مكان الأمر الثلاثي للعلم — لاحظ، وافرض، وجرب — هناك الأمر الثلاثي الخاص بالظاهراتية، وهو: أشِر، وعُدَّ، وفسِّر. هذا الأمر الثلاثي يُفعِّل الرد المتعالي، وصفة «متعالي» هنا تُشير إلى الارتباط ببنيةِ الخبرة، ومفهوم «الرد» يتعلق بمسألة الرجوع أو العودة إلى المصادر الكامنة للخبرة، المصادر التي تعمل دائمًا وفي كلِّ مكانٍ رغم أننا لا ننتبِهُ لها في حدِّ ذاتها.
-
(١)
«أشر وتساءل»: تتقدَّم الظاهراتية بهدي الدلائل، كلمات مثل «الحقيقة» و«الخبرة» و«الزمن» والتي تظهر في الخطاب اليومي لكن يتعذَّر شرحها من حيث أُفق هذا الخطاب. في هذا الإطار، يقول أوغسطينوس عبارته الشهيرة: «ما الزمن إذن؟ أنا أعرف الإجابة شريطة ألا يسألني عنها أحد. فإن أردتُ أن أشرح الإجابة لسائل، أُصبح لا أعرفها.»1 كلنا يعرف معاني هذه الكلمات لكن من الصعب جدًّا أن ننظُر فيها. فهذه المصطلحات المراوغة هي علامات تُوجِّهنا بما يتجاوز الملاحظة إلى مستوًى من الخبرة أكثر أصالة. وبالمِثل، يقدِّم لنا التراث الفلسفي اقتراحات للحقائق التي قد نكتشفها بأنفسنا. فنضع علامة استفهام إلى جوار تلك المواقف ثم نلتفت لنرى ما إن كانت تُعبِّر عن حقيقة الأشياء أم لا.
-
(٢)
«عُد»: عوضًا عن ملاحظة ما يظهر في الخبرة، يتعيَّن أن نعود إلى السياق الذي يمكن للأشياء أن تظهر فيه. وعلى النقيض من المناهج غير المباشرة للعلوم — المناهج المُلائمة للوصول إلى تلك الأشياء التي تظهر «في» الخبرات — تُقدِّم الظاهراتية منهجًا مباشرًا للوصول إلى الخبرة ذاتها وصولًا مباشرًا. ومن ثمَّ لا يُوجَد مجال للفرضيات والإقرار أو الإنكار غير المباشر من جانب التجارب. عوضًا عن ذلك، هناك ظهور مباشر للخبرة بحيث تكون إما ظاهرةً بنجاح أو لا. يكتب هوسرل قائلًا:
لأن، في العلوم الحديثة، خاصة في المجالات الرياضية والفيزيائية، يُنجَز الجانب الأكبر من العمل من خلال المناهج غير المباشرة للبحث، نميل إلى الإفراط في تقدير تلك المناهج وبَخْسِ أهمية الفهم المباشر. لكن لأن الفلسفة تسعى نحو الأصول الجوهرية للأشياء، فلا بد أن تعتمِد في عملِها على الحدس المباشر.2والمغزى من هذا الكلام بسيط. المناهج غير المباشرة تفترض مسبقًا وصولًا مباشرًا إلى الخبرة؛ وفقًا لذلك، ينبغي بالمنهج الذي يؤدِّي إلى هذا الوصول المباشر أن يكون مباشرًا أيضًا. بعبارة أخرى، كل نموذجٍ سببي يتطلَّب خبرةً كأساس له، بحيث لا يمكن صياغة هذا الأساس الخبراتي نفسه على نحوٍ سببي. عوضًا عن ذلك، هناك حاجة لأن يظهر بصورة مباشرة. والظاهراتية هي تلك الطريقة المباشرة التي تضعُنا وجهًا لوجه مع المستوى الأساسي للخبرة، وبالقُرب منه وعلى نحوٍ فردي معه؛ ذلك المستوى الذي يفترضه العلم والحياة اليومية افتراضًا مُسبقًا.
-
(٣)
«فسِّر»: تُواجهنا الظاهراتية ببِنًى خبراتية جوهرية حتى يمكن بيانها. فهي تُعيدنا إلى الظواهر لا لكي نحدق فيها باندهاش، ولكن لكي ينطلق لساننا بلغةٍ تُبيِّن منطقها الكامن. تدرك الظاهراتية وجود رابطةٍ داخلية بين الخبرة واللغة؛ فتحقق الظواهر المعروضة نوعًا من الاكتمال حين يجري التعبير عنها. ويكمن التحدِّي في أن تجد طريقةً للحديث تأخذ توجهاتها من الظواهر ذاتها وبهذه الطريقة تسمح لها أن تظهر بشكلٍ مباشر ويجري تذكُّرها على حقيقتها.
أشِر وتساءل
يمكن للآخرين أن يمارسوا علم الأحياء لأجلك ويُعلِموك بالنتائج. ولن يضيع على القارئ إلا القليل لأنه لم يقم بالبحث. لكن الأمر على النقيض من ذلك فيما يتعلَّق بالظاهراتية. ولكي يستطيعوا توضيح طبيعة هذا الموقف، يقول الظاهراتيون إن المصطلحات الظاهراتية تُعَد مؤشراتٍ أو دلائل. هذا يعني أن قراءتها بصورةٍ سلبية لن تُحقق لك شيئًا تقريبًا. عوضًا عن ذلك، عليك أن تقرأها بشكلٍ نشط، فتعتبرها دعوات لعمليات بحثٍ يتحتم أن تُجريها أنت ولا أحد غيرك. أنت وحدك من تستطيع أن تتحول بنفسك إلى نشاط معايشة الخبرة والذي يُزودك باستمرارٍ بعالمٍ من الأشياء المُختبرة. وكل المصطلحات التي يستخدِمها الظاهراتيون سيُساء فهمها إن جرى فهمها وفقًا لطريقتنا المُعتادة في التفكير بشأن الأشياء المُختبرة. إن وظيفة الإشارة ليس أن تُعلِمك بشيء (أي، «هذا هو مُسمَّاها») بل أن توجه بحثك (أي، «هنا يُمكن أن تجد ذلك»).
هب أنك خرجت في نزهة في الغابة وضللت طريقك وتبحث عن طريق للخروج. ثم أتيت إلى سهمٍ معلَّق على شجرة عليه كلمات تقول: «المُخيَّم الرئيسي». أنت لن تصِل إلى هذا المُخيم بفضل قراءتك لهذه اللافتة. ولن تصل كذلك إليه بتجاهلها. ستصل فقط إذا ما التزمتَ بما جاء في اللافتة واتَّجهت إلى حيث تُوجِّهك. هكذا هو الحال مع الظاهراتية. إن كتب الظاهراتية علامات على الدرب، وهي تضطلع بمعناها المناسب فقط لأولئك الذين يسعون إلى قطع الرحلة بأنفسهم. فمصطلحات مثل العالم والجسد والحقيقة والحياة والحب تضطلع بمعانٍ جديدة في أي سياقٍ ظاهراتي. ومعاني هذه الكلمات ترتبط بالتحليلات الظاهراتية التي تُوفرها.
نحن لا نجد توجيهات لدخول الظاهراتية في الحياة اليومية وحسب. إذ يرى هوسرل أن تاريخ الفلسفة مصدر غني بالإلهام. ويمكن أن يُصبح نافعًا لنا إن نحن أبعدنا أنفسنا أولًا عن روايات الحقيقة التي تلقيناها. فنحول الزعم إلى سؤالٍ نجري عليه أبحاثنا الخاصة. ويُسمي هوسرل هذا الابتعاد باستخدام كلمة يونانية هي «الإبوخية» وهي تعني تعليق الحكم.
لن نقبل بأي شيءٍ قيل في تاريخ الفلسفة ذاتها على أنه حقيقة إلا إن استطعنا أن نرى بأنفسنا أنه حقيقي، وحينها لن نقبله لأنه قيل إنه حقيقي، بل لأنه حقيقي بالفعل. إن شعار الظاهراتية — الذي هو العودة من الكلمات والنظريات إلى الأشياء بذاتها — يوحي بأننا ينبغي أن نفهم تاريخ الفلسفة باعتبار أنه يقدِّم الكثير من الاقتراحات لنُجري عليها البحث.
يطوِّر هايدجر هذه العلاقة مع التراث الفلسفي ويدفع بأن بإمكان الظاهراتية إحراز تقدُّمٍ فقط عن طريق تفكيك التراث الفلسفي. إن التدمير أسهل من البناء، لكن من الصعب جدًّا هندسة شيءٍ ما هندسةً عكسية؛ أن نُفكِّكه بحيث يتسنى لنا فهم الكيفية التي صُنِع بها. فالهندسة العكسية تتطلَّب فهم الكيفية التي فكَّر بها شخص آخر بشأن شيءٍ ما؛ إنها تعني الولوج إلى عقل الآخر، إذ يكون هذا العقل معروضًا في الشيء الذي صنعه. هي إذن عمل في غاية الصعوبة. لكن بفعله تتَّسع آفاق المرء وتُصبح أكثر عمقًا. إذ يرى المرء المزيد، ويرى مسارًا لإحراز تقدُّم؛ يفهم المرء كيف فُعِل شيءٌ ما ومن ثمَّ تتاح له إمكانية القيام بشيء على نفس القدْر من الجودة، وأفضل في كثيرٍ من الأحيان. وقد ابتدع هايدجر فكرة هندسة الفلسفات السابقة عكسيًّا من أجل إيجاد الحقيقة الحيَّة التي رأتها تلك الفلسفات والتعبير عنها بأنفسنا بأصالةٍ أكبر.
قد يعترض أحدهم ويقول إن فكرة التفكيك تبدو سلبية. والإجابة على ذلك أنها فكرة إيجابية بشكلٍ عميق. فهي تنظر إلى تاريخ الفلسفة كمصدرٍ خصب للاقتراحات عن حقيقة العالم؛ ونحن لن نكون في موقف يُمكِّننا من الحكم على حقيقة هذه المزاعم إلا بالعودة إليها وإعادة إحيائها بأنفسنا.
يرغب أي فيلسوف في أن تتم قراءته لا كمرجعيةٍ ولكن كشاهد؛ الفلسفة هي تجاوز الفيلسوف إلى العالم الذي يرغب هو في فهمه.
ومنهج هايدجر في التفكيك يقوم على أخذ طبيعة الفلسفة بجدية باعتبارها نشاطًا تعاونيًّا ينطوي على خطواتٍ خاطئة يتعذَّر اجتنابها. فنحن لا نستطيع وضع الأمور في النصاب الصحيح تمامًا لها طوال الوقت، لكن بالانتباه إلى محاولات الآخرين لوضع الأمور في نصابها الصحيح، يُمكننا أن نضع أشياء أكثر في نصابها الصحيح مما كنا لنفعل بغير ذلك.
تُعيد الظاهراتية الآراء إلى الحياة عن طريق إعادة معايشة حقيقة نشأتها.
عُدَّ
هب أنك متأخر على أمرٍ من أمورك وعلقت في الزحام المروري. في الظروف الطبيعية، نستغرق نحن في هذه التجربة بحيث نتمتم سرًّا بالألفاظ النابية ونلعن حظَّنا. فيظلُّ انتباهُنا منصبًّا بصورة مباشرة على جوانب هذا الوضع: السيارات المُتوقِّفة، والموعد الوشيك، وفشلنا المُعتاد في تخصيص ما يكفي من الوقت قبل المواعيد للتعامُل مع مثل هذا الزحام، وغير ذلك. لكن لاحظ أنه من أجل أن تكون كل ملامح الموقف هذه موجودة، ينبغي أن نُعايشها: نلاحظ الأمور، ونفهم المشكلة، ونشعر بالإحباط، وما إلى ذلك. ويظلُّ من المُمكن — بينما لا نزال نعايش الخبرة — أن نُحوِّل انتباهنا عن الشيء الذي نُعايشه نحو الخبرة ذاتها. إن ما نختبره يمارس علينا سلطة جذب، لكن بإمكاننا مقاومة هذه السلطة عن قصدٍ والانسحاب نحو أفق الخبرة نفسها: ماذا يعني انتباهنا إلى الزحام المروري؛ ما معنى فهمنا للأضواء الحمراء وإشارات الانعطاف في الحركة المرورية التي تتَّسم بالوقوف المتكرر؛ ماذا يعني أن نشعر بالإحباط الشديد من الأمر برمَّته؛ علاوة على ذلك، ماذا يعني أن تكون فردًا يمرُّ بكل هذه التجارب؟ طرحُنا لهذه الأسئلة يعني أن نقوم بالتحول المتعالي، بالتحول من الشيء الذي نُعايشه نحو نشاط الخبرة.
بدعوتنا للقيام بهذا التحول، تريد الظاهراتية أن تقدِّم توضيحًا أساسيًّا. فمِن أجل أن نتبع الظاهراتية، علينا أن نتخلَّى مرةً أخرى عن الإغراء الذي يُقحم نفسه في هذه المرحلة. فنحن حين نقوم بهذا التحول نحو الخبرة ذاتها نكون عرضةً لأن نعتقد أن هدفنا هو إنشاء نموذج عن كيفية حدوث الخبرة؛ ففي نهاية المطاف، النماذج هي الطريقة القياسية التي نسعى من خلالها إلى الارتقاء بما نختبِره إلى مجال المعرفة. إلا أن الظاهراتية تكافح هذا الضغط وتُصدِر تحذيرًا مفاده أن إنشاء نموذج في هذا السياق سيكون خطأً قاتلًا. فنحن لا نُنشئ النماذج إلا لتلك الأشياء التي لا نستطيع اختبارها بصورةٍ مباشرة. نحن نصنع نماذج لحركة الكواكب حول الشمس، لأننا — كوننا على أحد تلك الكواكب — نفتقر إلى وجهة النظر المثالية في مكانٍ ما فوق النظام الشمسي لرؤية كيف تتحرك مختلف الكواكب في مدارات بيضاوية حول الشمس. ونصنع نموذجًا لحركة الإلكترونات حول نواتها والتي تتخذ شكل لطخات، لأننا لا نحظى إلا بتجربةٍ غير مباشرة لمِثل هذه الأشياء ذات الحجم الصغير. لكن النشاط الذي يجعل الخبرة شيئًا مُمكنًا هو في نهاية المطاف شيء نختبره. لا يتعيَّن علينا أن نستنتِجه أو نستدل عليه أو نصنع له نموذجًا. بإمكاننا إظهاره مباشرة. وبينما نحن نُتابع أمور حياتنا، نكون مُستغرِقين في شئوننا ومشاريعنا. وبإمكاننا استخدام الأشياء أو بنائها أو دراستها. لكن بإمكاننا أيضًا العودة إلى السياق الذي تكون فيه كل هذه الأنشطة متاحة. إن الوضع الافتراضي للوجود اليومي المعتاد — ذلك المُوغِل في الأشياء والمشاريع — يُسمى ﺑ «الموقف الطبيعي» أو «الموقف اليومي». وهو ليس بموقف — الأمر الذي يوحي بسمْت سطحي — بقدْر ما هو الطريقة التي تظهر بها الأشياء في الغالِب في خبرتنا. وعلى هوامش هذا الوضع الإدراكي للخبرة هناك وضع آخر، ألا وهو «الموقف الفلسفي». وهنا أتبع بواعث التعجُّب، فأتَّجه عن قصدٍ إلى هوامش الخبرة العادية، وأصبح مُتمرِّسًا في وضعٍ جديد من أوضاع الخبرة — وضع ليس موجهًا إلى الأشياء والمشاريع بل إلى الخبرة ذاتها. بهذا أدخل إلى نطاق الردِّ المتعالي لأصِلَ إلى لبِّ الظاهراتية.
في الموقف الفلسفي، أنا لا أهتمُّ بالأشياء والمشاريع فقط، بل أهتم بالكيفية التي تكون الأشياء والمشاريع متاحةً من خلالها في الخبرة. فأنا لا أسأل «إن كانت» الأشياء متاحة؛ بل أشك في توافرها. ولا أحاول أن أستبدل بالجسر الطبيعي المُتأصِّل في الخبرة جسرًا زائفًا نحو الأشياء. بالأحرى، أنتبه إلى «الكيفية» التي تكون بها الأشياء متاحة، و«الكيفية» التي تنشأ بها في نطاق الخبرة. حينَها، تُصبح النماذج المختلفة للخبرة متاحةً للاستقصاء الصريح. وتتطلَّب بِنَى نطاق الخبرة، وهي البِنى الموجودة دائمًا لتُوفِّر لي الأشياء، التفسير.
وفي هذا النمط الجديد والمُبهر من الخبرة، ينفتح أمامي عالم جديد، وهو جديد لا بمعنى أنَّ نظرتي هي ما تُنشئه، بل بمعنى أنَّ ما كان موجودًا أمامي دائمًا لكني لم أنتبِه إليه أصبح الآن جليًّا وواضحًا أمامي. وفعل العودة الذي أطلقَه التعجُّب واخترته أنا يوفِّر لي عددًا غير محدودٍ من عمليات الاستكشاف. فهذا مجال بحث جديد، ومساحة مُستحدثة للاستقصاء. وهذا الموطئ هو حقُّنا الطبيعي، ويحسُن بنا أن نعود إليه ونحرثه وندعه يؤتي ثماره. ذلك أنَّ نطاق الخبرة حين يتجدَّد ويستعيد نشاطه يُجدد تقديرنا لكل تلك الأشياء والمشاريع التي تنشأ في حدوده.
فسِّر
وبفضل العودة، يُصبح هذا النطاق واضحًا. ومن ثمَّ يُصبح بإمكان الظاهراتية استقصاء السمات الأساسية للنطاق. ماذا تجد؟ تجد مواضيع هذا الكتاب: «العالم» باعتباره مكان حدوث الخبرة؛ و«الجسد» باعتباره الوسيط المتجسد لوجهات النظر المختلفة في هذا النطاق؛ و«الحديث» باعتباره طريقةً لتبيُّن الأشياء في هذا النطاق أو الكلام عن ذلك النطاق نفسه؛ و«الحقيقة» باعتبارها ظهور شيءٍ ما في ذلك النطاق تمامًا كما يُبيِّنه الحديث؛ و«الحياة» كمهمةٍ للخوض في الانفتاح على الحقيقة؛ و«الحب» كمشاركةٍ صريحة لهذا النطاق مع شخصٍ آخر؛ و«التعجب» باعتباره الانتباه لهذا النطاق في حدِّ ذاته. والتحليلات المختلفة في الفصول السابقة تُمثل تفسيرات أولية مختلفة لهذا النطاق الشديد الخصوبة للحضور. غير أن هذه التحليلات تشكِّل مجرد عيِّنة للظواهر التي تحظى بجلِّ اهتمام الظاهراتيين وهم يستقصون بِنى الحضور. فثمة استقصاءات ظاهراتية للزمان والمكان باعتبارهما ما يُوفِّران الحضور، وكذلك استقصاءات لظواهر مثل نشأة المنطق والرياضيات والعلوم من عالم الحياة للخبرة المشتركة.
إن الهيكل الثلاثي للاهتمام يجِد دعمًا في الهيكل الثلاثي للزمن. فنحن نتجاوز الأشياء من خلال الاهتمام بأنفسنا والآخرين. نحن نُخطط ونضع تلك الخطط قيد التنفيذ. بهذا الشكل نتطلَّع للمستقبل. لكن كل هذه المشاريع تتشكل من خلال حقيقة أننا نجد أنفسنا بالفعل في موقفٍ مُعيَّن تُقدم فيه مجموعة من الأشياء. بهذا الشكل يتحدَّد وجودنا المستقبلي المفتوح بمقتضى ما كان بالفعل. وفي ضوء هذا التفاعل بين التطلُّعات المستقبلية والأحوال الماضية، بإمكاننا جعل الأشياء حاضرةً على حقيقتها؛ فبتجاوز الأشياء نصطدم بتفرُّدها.
إن الحركة الثلاثية المتمثِّلة في الإشارة والعودة والتفسير تحمل في طياتها قوة خفية لفتح أعماق الخبرة التي لا يُسبَر غورها والتي بفضلها يتشارك كل منَّا عالمًا من الأشياء. وقد استخدمت الفصول السابقة هذه الطريقة استخدامًا صامتًا. بهذا الشكل، تنقل هذه الفصول شيئًا من ثمار الاستقصاء الظاهراتي لجوهر الخبرة. وباعتبارنا مشاهِدين لهذه الخبرة، تقع علينا مهمة إدراك حقيقة بِنى عالم الخبرة. إن الرد المتعالي الخاص بالظاهراتية يقودنا إلى حيازةٍ صريحة للمصطلحات — العالم، والجسد والحديث والحقيقة والحياة والحب والتعجب — التي تضعنا على اتصالٍ بالأشياء ذاتها.