الفصل العاشر
وانصرف المدعوون من عند باكيتا، وكلهم معجبون بحكايتها، وباتفاق وجود الذي تبكيه عندها يسمع حكايتها وهي لا تعلم، أما فيلكس فإنه بقي معها، وقد سألته عن حكايته وعن احتجابه كل هذه المدة الطويلة، فروى لها أمره مفصلًا وهو كما يأتي:
عندما خرج فيلكس من المرسح، ذهب من فوره وهو بملابس التمثيل إلى منزل البارون دي نيفيل، كي يبحث فيه عن باكيتا.
وكانت الساعة الثانية بعد انتصاف الليل والبارون لا يزال ساهرًا وحده، ففتح الباب بنفسه ودُهش حين رآه، وعرفه، فقال له: ماذا تريد؟
قال: أريد أن أكلمك. فأدخله البارون، وسار به إلى القاعة التي كان ساهرًا فيها، فقال له: قل الآن ماذا تريد؟
فقال له: إني آتٍ للبحث عن باكيتا.
فحاول البارون أن يقول له الحقيقة، وهي أنه لم يرَها، ولكنه سكت، فقال له فيلكس: إن سكوتك يدل على أنها عندك.
قال: إنك واهم يا بنيَّ، وإذا شئت طُفْتُ بك جميع غرف المنزل لتعلم أنها ليست هنا.
قال: ولكنها فارقتنا، وقالت إنها ذاهبة إلى فرساي.
قال: ذلك ممكن.
قال: ألا تعلم أين هي؟
أجاب: أرجوك أن تسكن روعك يا بني، فما أنا بسارق ولا بقاتل.
قال: ولكني أريد أن أعلم أين هي؟
أجاب: إني أستطيع أن أعيد عليك اقتراحي، وأقول لك: ابحث عنها في منزلي، ولكني أوثر الوضوح، وأن أقول لك الحقيقة.
قال: إذن أنت تعلم أين هي؟ أجاب: نعم، قال: أترشدني إلى مكانها؟ أجاب: دون شك! وأبدأ فأقول لك إنها في مأمن من كل خطر، وسأخبرك عن مكانها بشرط واحد، هو أن تجيبني على أسئلتي، فماذا تُدعى أنت؟
أجاب: السيئ البخت.
قال: أليس لك اسم غير هذا؟
أجاب: كلا!
قال: ولكنهم يدعونك أيضًا بالفيكونت.
أجاب: ذلك لأن أبي كان مجنونًا، وكان يقول في ساعات جنونه إني ابن كونت، وإنه سرقني منه.
قال: من أي بلد أنت؟
أجاب: من قرية سانت مرتين.
فاصفر وجه البارون وقال: إنها نفس الحكاية التي روتها لي باكيتا.
قال: لعلها كلمتك عني؟
أجاب: نعم.
قال: فأين هي؟
أجاب: سأقول لك إذا وثقت بي، وأوصلك إليها في الحال.
قال: في فرساي؟
أجاب: كلا، بل في باريس.
قال: كيف ذلك، ألم تذهب إلى فرساي؟
أجاب: كلا يا بنيَّ، فإنها لم تبرح باريس، واعلم أني أريد لها الخير كما أريده لك أيضًا، وقد علمت أنكما متحابان، وأنكما ستتزوجان، وسأجعلكما من السعداء.
وقد نظر البارون عند ذلك في ساعته وقال: لقد فات الأوان، ولكن لا بأس، فسأذهب بك إلى باكيتا، وهي توافق على كل ما قلته لك، فهلم معي، ولكن سر رويدًا، فإني لا أحب أن يعلم أحد أنك هنا.
وقد أخذه بيده، وسار به من قاعة إلى قاعة حتى دخل في قاعة المائدة، فأخذ زجاجة من الكونياك، وصب منها في كأسين وقال له: اشرب هذه الكأس.
قال: إني ما تعودت الشرب يا سيدي البارون.
قال: لا بأس في هذه المرة؛ لأني لا أستطيع أن أشرب وحدي.
فخجل فيلكس وشرب كأسه جرعة واحدة، أما البارون فإنه صبر إلى أن شرب فيلكس الكأس، فأدنى كأسه من فمه، ثم رمى بما فيه إلى الأرض مغضبًا وهو يقول: تبًّا لهذا الخادم، فإنه ينسى الزجاجة مفتوحة، فيفسد الهواءُ الشرابَ، ثم أخذ زجاجة أخرى ففتحها وشرب منها، وقال لفيلكس بلهجة تكلَّفَ فيها الحنو: إنك ستتزوج باكيتا يا بني، وسأجعلك وإياها من أسعد الأزواج. فانقلب حقد فيلكس إلى حب، وجعل ينظر إلى البارون نظرات امتنان، وبعد أن شرب البارون كأسين قال له: هلم بنا الآن، فسنجد مركبة في الطريق.
وقد سار فيلكس في إثره، وكان الظلام دامسًا والبرد قارصًا، غير أنه كان يشعر بحرٍّ شديد، كأنه في أشد شهور الصيف، وبعد هنيهة توقف عن السير، فقال له البارون: ما بالك وقفت؟ قال: إني أشعر بصدري يلتهب. قال: ذلك لأنك لم تتعود شرب الخمور. ثم تأبط ذراعه، وسار به حتى لقي مركبة، فصعد وإياه، وأمر السائق أن يذهب بهما إلى «رصيف سلستين».
وكانت قوى فيلكس البدنية تنحط رويدًا، ولكن قواه العقلية لم تتأثر من هذا الانحطاط، فقال للبارون: إذا كانت لم تذهب إلى فرساي، فلماذا قالت إنها ذاهبة إليها؟
أجاب: سأوضح لك الأمر يا بني، فأنا الذي أوعزت إليها بذلك؛ لأني خشيت أن يعترضها مدير جوقها، ويمنعها عن الاتفاق معنا، فذهبت بها إلى منزل أمي، حيث أنت ذاهب الآن.
فقال له بلهجة الحاسد: ألا تزال أمك في قيد الحياة؟
أجاب: نعم، وأنت؟
قال: إن أمي قد ماتت وأنا طفل.
قال: إذن أنت لا تثق بما يشيعون من أنك ابن كونت.
أجاب: لقد تمر بي أوقات أكاد أن أصدق هذه الإشاعة.
قال: متى؟
أجاب: حين أرى تلك الخصلة البيضاء في شعري.
فارتعش البارون، وأدار قبعته إلى جهة صدغه كي يخفي تلك الخصلة البيضاء الموجودة في شعره أيضًا، ثم رآه يضطرب فقال له: ماذا أصابك؟
قال: إن صدري يلتهب.
قال: سنصل قريبًا إلى المنزل، فتسقيك أمي شرابًا مرطبًا.
وبعد هنيهة وقفت المركبة بأمر البارون عند باب منزل، فخرج الاثنان منها، وصرف البارون المركبة، ثم صعد مع فيلكس في السلم وهو يعينه على الصعود؛ إذ لم يكن يستطيعه؛ حتى وصلا إلى الباب فقرعه البارون، ففتح لهما رجل، فلما رأى البارون نزع قبعته، وانحنى أمامه بملء الاحترام، فقال له البارون: إني في حاجة إليك.
قال: تفضل يا مولاي بالدخول.
أما فيلكس فقد عاوده الشك فيما سمعه، ولكنه كان منهوك القوى، ودخل به البارون غرفة متسعة كانت فيها حقائب معدة للسفر، فسأل صاحب المنزل قائلًا: متى عزمت على السفر؟
قال: في قطار الصباح.
فقال فيلكس: ولكن أين باكيتا؟
فأجابه البارون: إنها ستحضر قريبًا.
فوضع فيلكس يده على صدره وقال: أغثني بشربة ماء!
فأشار البارون إشارة خفية إلى الرجل، فجاءه بكأس ماء، ولم يلبث أن شربها حتى صاح صيحة منكرة، وسقط على الأرض لا يعي كأنه من الأموات.
فالتفت البارون إلى الرجل وقال له: لنتحدث الآن.
وعند ذلك قال له البارون: أَصْغِ إليَّ الآن، فإن هذا الغلام يبقى يومين على ما تراه وهو شبه الأموات.
– غير أنه سيحيى.
أجاب: نعم، ولكن بعد يومين.
– ما كنت أحسب أن كأسًا من الماء تفعل به هذا الفعل، فإن الماء كان صافيًا نقيًّا لم يشُبه شيء.
– إنك تقول هذا القول لأنك لست كيماويًّا.
أجاب: كيف ذلك؟
قال: ذلك أني سقيته منذ ساعة جرعة من الكونياك، وقد أضفت إلى هذا الكونياك عصير حشيشة هندية، اكتشفها الهنود قبل أن يكتشف أهل الطب الحديث عندنا الكلورفورم، فكانوا إذا أرادوا بتر عضو مريض سقوا صاحب هذا العضو من هذا العصير، وقطعوا العضو دون أن يشعر صاحبه بألم، غير أن لهذا العصير خاصة عجيبة، وهو أنه لا يسري في الدم إلا حين يشرب شاربه شيئًا من الماء بعده؛ ولذلك سقط كما رأيته حين شرب الماء.
قال: ولكن ماذا تريد أن تصنع بهذا الغلام يا سيدي البارون، وبأي أمر تحتاج إليَّ؟
فنزع البارون القبعة عن رأس «السيئ البخت»، وأدنى المصباح من رأسه، وقال للرجل: تعال وانظر!
فذهل الرجل وقال: الخصلة البيضاء …! إذن إنه هو!
قال: نعم، إنه هو، فإن ذلك الكاهن الذي كتب إلى امرأة عمي كتب إليَّ أيضًا، ولولا ذلك لعبثوا بي كما يعبثون بالأطفال، وإن هذه الفتاة التي جاءت إليَّ أرادت أن تمثل دورًا هامًّا في هذه الحادثة، فإنها ذهبت إلى امرأة عمي في فرساي، ولكن الغيرة دفعت هذا الغلام إلى المجيء إليَّ لمخاصمتي، فسكنت جأشه، وانتهيت بأن سقيته المخدر، وجئت به إلى هنا بحجة أنه سيجد باكيتا، أفهمت الآن ما أريد؟
– كلا، لم أفهم بعد.
– إني أحب الصراحة، وسأبسط لك اقتراحي، فأنت مدين لي بعشرين ألف فرنك، وإنك مسافر إلى أمريكا لتشتغل فيها، ونعم إني قاضيتك، وحكمت عليك، وبِتُّ قادرًا على تنفيذ الحكم حين أشاء ولكن تراني لم أستصدر الحكم بغية تنفيذه، فهل تريد أن أعطيك وصولًا بالدين؟
قال: ذلك متعلق بما تريده مني.
فضحك البارون وقال: أظنك تحسب أني أقترح عليك ارتكاب جريمة، فإذا كان ذلك؛ فإنك مخطئ لأني شريف، وفوق ذلك فلا يجمل بالبارون دي نيفل أن يُذكر اسمه في محاكم الجنايات، ولكن هذا الغلام سيحرمني إرثًا عظيمًا، فرأيت أن أقصيه عن طريقي.
– وأنت تعتمد عليَّ في ذلك؟
أجاب: دون شك، فإنك مسافر غدًا.
قال: هو ذاك.
– وستذهب إلى الهافر، وتركب الباخرة منها في ساعة وصولك، فلا يستفيق الغلام إلا بعد أن تكون الباخرة قد اجتازت ثلاثين عقدة، فلا تعود إلى البر لإرجاع الغلام.
– إذن أنت تريد أن أصحبه معي؟
أجاب: نعم، فإني أرى عندك هذا الصندوق الطويل وهو يفي المراد، فنضع الغلام فيه، وتشحنه في قطار سكة الحديد كصناديق البضاعة.
قال: وبعد ذلك؟
– وبعد ذلك، لا يهمك أمره، فإنه سيصحو من تخديره، ويجد نفسه في الصندوق، فيصيح مستنجدًا، ويبادرون لنجدته فيخرجونه.
قال: ولكنه سيعرفني، فإنه رآني.
قال: كلا! فإنه حين رآك كان التخدير قد بدأ به؛ فهو لا يذكرك.
– كل ذلك معقول، ويمكنني فعله، ولكني أعترف لك بأني …
– لا تعترف بشيء، أتريد أن أنفذ الحكم فيك، فيقبضون عليك في هذا الصباح؟
أجاب: كلا!
– إذن امتثل لما أقوله لك.
– أتعطيني وصلًا بما لك عليَّ من الدين؟
أجاب: نعم.
قال: ولكنك لا تعلم ما يوجد في هذا الصندوق؟
أجاب: كلَّا.
– إذن فانتظر. وقد فتح الصندوق، فتراجع البارون مذعورًا إذ وجد فيه جثة، فضحك الرجل وقال له: اطمئن يا سيدي البارون، فهذا مثال مجوف من الشمع، أريد عرضه في الولايات المتحدة، فإن الأميركيين يعجبون بهذه الأشياء.
– كم كلفك هذا؟
أجاب: عشرين ليرة.
– إليك مائة ليرة أجرة اغتسالك.
– أنا أغتسل؟ ولماذا؟
– سِر وتعلم، فإنك ستنقل هذا المثال الشمعي إلى مكان آخر، وهو سيفيدك حين يعود هذا الغلام إلى هواه.
– لا أفهم شيئًا مما تقول.
– أقول: إن هذا الفتى يمثِّل، ويلعب ألعابًا بهلوانية كما تدل ملابسه، فإذا سُئلت عنه بعد استفاقته تقول: إنه أتاك وسألك أن تأخذه معك إلى أمريكا فأبيت، فذهب وعاد إلى منزلك في غيابك، واختبأ في الصندوق المُعد للتمثال الشمعي.
– كل ذلك معقول وسليم، ولكني لم أفهم بعد كيف تريد أن أغتسل؟
– ذلك أنك ستلبس قبعة هذا الغلام ووشاحه الخارجي، وتذهب إلى جسر النهر، فتسير عليه حتى تستلفت أنظار أحد رجال البوليس، وعند ذلك تخلع الوشاح والقبعة، فتضعهما على جدار — سور — الجسر، وتلقي بنفسك في النهر، وأنت من الماهرين في السباحة، فتغوص في المياه، وتخرج منها إلى شاطئ بعيد، بحيث توهم البوليس أنك غرقت.
– ولكن أية فائدة من كل هذا؟
أجاب: أريد أن يأخذوا قبعة الغلام ووشاحه إلى إدارة البوليس كي يعرفوا صاحبهما ويثقوا أنه مات غرقًا.
قال: ولكنا في أشهر الشتاء والبرد شديد.
أجاب: لا بأس، فسأعد لك كل وسائل التدفئة، وانتظر هنا، فأخذ القبعة والوشاح وانصرف، وبعد ساعة عاد، فقال للبارون: لقد قُضِيَ الأمر على ما أردت.
قال: وأنا أعددت الصناديق في أثناء غيابك، ووضعت الفتى في الصندوق الطويل بحيث لم يبقَ ما يحول دون سفرك.
وبعد ساعتين ركب الرجل القطار المؤدي إلى الهافر ومعه «أبو النُّحوس» بداخل الصندوق، وعاد البارون إلى منزله.