الفصل الحادي عشر
كان من خاصة هذا المخدر الذي شربه «أبو النُّحوس» أنه يخمد كل الحواس ما خلا حاسة السمع؛ أي إن المخدَّر به يصبح شبه ميت، ولكنه يسمع ويفهم كل ما يُقال حوله.
وقد كان كل ما علمه هذا المنكود أنهم يشحنونه إلى الهافر كما يشحنون البضائع، وأنهم يصعدون به إلى سفينة، وأن السفينة مسافرة إلى البلاد الأميركية؛ أي إنه لن يرى بعد الآن كوكليش ولا باكيتا، فكان يبذل كل مجهوداته للتخلص مما وقع فيه، ولكنه لم يستطع أن يأتي بحركة؛ إذ لم يكن يفرق بشيء عن الأموات إلا بما قدمناه.
وقد سمع رئيس المحطة يسأل «بول سالبري»؛ وهو الرجل الذي عهد إليه البارون بشحن الصندوق عما يتضمن هذا الصندوق، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ورجا النجاة من ورطته، غير أن بول أجاب رئيس المحطة قائلًا: إن الصندوق يحتوي تمثالًا من الشمع أريد أن أعرضه في أمريكا، وأنت ترى كيف أني شددته بالحبال، فهل تريد أن أفتحه كي تراه؟
قال: لا حاجة إلى ذلك. فهلع قلب فيلكس، ثم نقلوا الصندوق الذي كان فيه إلى قارب ليوصله إلى السفينة.
وفي الطريق جعل البحار يحدث بول، فقال له: يظهر أنه حدثت جناية قتل أمس في باريس، وأن القتيلة فتاة في ريعان الشباب أصيبت بإحدى عشرة طعنة.
فقال له بول: هل قبضوا على القاتل؟
قال: كلا، ويقال أنه فتى أيضًا، وأنه برح باريس في قطار إلى الهافر، ففتشوا اليوم جميع السفن الراسية هنا تفتيشًا دقيقًا.
قال: هل فتشوا السفينة التي سنسافر فيها؟
أجاب: دون شك.
وكان فيلكس يسمع هذا الحديث، فقال في نفسه: رباه ألا يمكن أن يخطر لهم فتح هذا الصندوق الذي أنا فيه؟
وأتم البحار حديثه فقال: إن البحر ساكن اليوم، ولكن لا يجب الركون إليه، فإنني أرى بوادر الزوبعة، وقد أخطأ ربان سفينتكم بعزمه على السفر اليوم، وربما رجع عن هذا العزم، فعاود فيلكس الرجاء.
وقال في نفسه: إنها إذا أخرت سفرها إلى الغد تنتهي مدة تخديري وأستفيق فأستنجد.
ووصل القارب إلى السفينة، ونُقل الصندوق إليها، وأمر الربان بالسفر؛ فرفعت المراسي، ونشرت القلوع، وخرجت السفينة من الميناء، وبعد أن اجتازت نحو عشرين ميلًا في عُرْض البحر، تحققت نبوءة بحار القارب، وبدأت العاصفة، وهاجت الأمواج هياجًا عظيمًا حتى خُشي على السفينة من الغرق، فأمر الربان بإلقاء الشحن إلى البحر حسب العادة في مثل هذه الأحوال، مبتدئين بالبراميل ثم بالصناديق.
فأخذ البحارة يصعدون بالبراميل من عَنْبَر السفينة، ويلقونها إلى المياه، وفيلكس يسمع أصواتهم، ويعلم أنه لم يبقَ له شيء من الرجاء فسيأتي دوره قريبًا.
وكان الخطر يزيد في كل لحظة والربان يصيح ببحارته، ويأمرهم بالإسراع في إلقاء البضائع وهم يمتثلون إلى أن جاء دور صندوق فيلكس، وشعر أن رجلين حملاه من العنبر، وأنهما صعدا به في السلم إلى ظهر السفينة، وأنهما يدنوان به من حافتها كي يلقياه، فتبتلعه الأمواج.
ولم يكن «بول سابري» من أهل الشر، وهو لم يوافق البارون على ما أراده إلا مضطرًّا بعد أن تهدده بالقبض عليه كما تقدم.
فلما رأى البحارة عازمين على إلقاء الصندوق في البحر نسي تعهده وموقفه من الحرج، وهاله إلقاء هذا المنكود في البحر وقتله غرقًا، فصاح بالبحارة قائلًا: احذروا أن تفعلوا، فإن في هذا الصندوق إنسانًا حيًّا!
فذُهل البحارة والربان، وأسرع بول، فقطع حبال الصندوق بسكين وفتحه، فصحا فيلكس لدخول الهواء في رئتيه ولانتهاء مدة التخدير، وتنهد تنهدًا طويلًا، ثم خرج من الصندوق، وهو لا يزال بملابس البهلوان.
أما الربان فقد ذُهل لهذه الحادثة، فوضع يده على كتفه وقال له: من أنت؟ قال: أنا فتى منحوس، يريدون إرساله بالرغم عنه إلى أمريكا، ونظر الربان عند ذلك إلى بول، وأشار إلى الفتى وقال: لقد عرفت هذا الرجل فهو شقيٌّ سفَّاك، فَهَمَّ فيلكس أن يهجم عليه، ولكن البحارة حالوا دون قصده، وقال الربان: سوف ننظر في أمرك أيها الفتى، فنحن الآن في شاغل عنك بإنقاذ السفينة، وأخذ الربان يصدر أوامره إلى البحارة، فألقوا أكثر البضائع المشحونة إلى المياه، وما زال يكافح الأمواج إلى أن هدأ ثائر العاصفة عند الفجر، وسكن اضطراب الأمواج، ولما اطمأن باله جاء ببول وفيلكس كي يتم معهما التحقيق.
وكان بول قد رأى أنه بات في موقف حرج، فإن الفتى كان في صندوقه، وكان يعلم أنه فيه، فأخذ يُعمل الفكرة حتى اهتدى إلى حيلة تنقذه من موقفه، فسأل الربان قائلًا: ألم يفتش البوليس سفينتك قبل سفرها؟
قال: نعم.
قال: ألم يكن يبحث فيها عن فتى بهلوان متهم بقتل خليلته؟
أجاب: هو ذاك.
قال: إذن فاعلم أن القاتل هو هذا الفتى الذي وجدته في الصندوق. فضج البحارة لهذه التهمة، وأشفقوا بجملتهم على فيلكس؛ إذ لم يكن وجهه الجميل يدل على شيء من الشر.
أما فيلكس فإنه اشمأز من هذه التهمة الكاذبة، وقال: لقد كذب فيما ادعاه، فما أنا من القاتلين.
فابتسم بول وقال: بل إني لم أقل غير الحق، فقد أردت إنقاذ هذا المنكود من المشنقة، فانظروا كيف يكافئني، وقد ندمت الآن؛ لأني لم أدعكم تطرحونه في البحر، فهذا أقل ما يستحق.
فاعترضه فيلكس قائلًا: بل إنك رجل سفَّاك أثيم. فمنعه الربان عن الكلام، وقال لبول: أوضح لنا الآن كيف اتفق وجود هذا الفتى في صندوق من صناديق أمتعتك؟
قال: ذلك سهل إيضاحه، فإن الفتى يشتغل بهلوانًا، وهو يقيم في الدور السادس من المنزل الذي أقيم فيه.
قال فيلكس: لقد كذب والله!
فانتهره الربان قائلًا: اسكت! ومضى بول في حديثه فقال: بينما كنت صباح أمس في منزلي إذ دخل عليَّ هذا الفتى وهو مخضب بالدم، والخنجر في يده، فقال لي: بربك أنقذني، وقد باح بسره، وقال لي: إن الغيرة دفعته إلى قتل خليلته، وجعل يبكي ويعضُّ يده من اليأس لخوفه من الشنق، فأشفقت عليه، وأنقذته بالحيلة التي رأيتها.
فقال فيلكس: كل ذلك كذب واختلاق يا سيدي.
فقال الربان: سنعلم الحقيقة قريبًا، فقد أرسلوا إليَّ أمس رسالة برقية لعلمهم أني مسافر، وهذه الرسالة تتضمن أوصاف القاتل.
ثم ذهب إلى غرفته، فجاء بذلك النبأ البرقي، وكانت أوصاف القاتل المذكورة فيه تدل على أنه في الثامنة عشرة من العمر، وأنه معتدل القامة، كستنيُّ الشعر، أزرق العينين، مهنته بهلوان، فكان من عجائب الاتفاق أن هذه الأوصاف تنطبق على فيلكس، لا سيما وأنه كان لا يزال بملابس البهلوان، فغطى المنحوس وجهه بيديه وقال: رباه! إنهم لم يلقبوني عبثًا «بالسيئ البخت».
أما الربان فإنه اعتبر انطباق الأوصاف برهانًا جليًّا على صدق التهمة، فقال له: يعزُّ عليَّ أن تكون قاتلًا، فإن عينيك لا تدلان على الإثم، ولكن التهمة ثابتة عليك على ما يظهر.
ثم نادى نائبه وقال له: كبِّلْه إلى أن نبلغ أول ميناء في إنكلترا نصلح فيه سفينتنا، وهناك نسلمه إلى إحدى السفن الفرنساوية العائدة إلى فرنسا، فتعيده إلى الهافر، فجاءوا بالأصفاد، وكبَّلوه وهو يبلل الأرض بدموعه.