الفصل الثاني عشر
كان يأس فيلكس عظيمًا في البدء، ولكنه ما لبث أن فكَّر في الأمر حتى استحال ذلك اليأس إلى رجاء، فقد كان شبه ميت في صندوق، وهو الآن مكبل بالقيود، فلا تُذكر هذه القيود بجانب ذلك القيد الرهيب، وكانوا يريدون أن يذهبوا به إلى البلاد الأمريكية، وهم الآن يريدون إرجاعه إلى باريس، نعم إنهم سيرجعونه إليها بتهمة عقابها الإعدام، ولكن ليس أسهل عليه من نفي هذه التهمة عنه متى صار في باريس.
وفوق ذلك فقد عرف الآن كل أمره بالتفصيل، واستيقن أنه حقيقة ابن الكونتيس، وأن البارون دي نيفيل يريد إبعاده؛ كي يخلو له الجو، ولا يبقى له مزاحم في إرث الكونتيس، فكأنما تقييده وإرجاعه إلى باريس إنما كانا لخيره.
وبعد ذلك بثلاثة أيام نزل إليه الربان وهو سجين في عنبر السفينة، فحل قيوده وهو منذهل أشد الانذهال، وقال له: اتبعني، وقد صعد به إلى غرفته، وقال له: هل تعرف القراءة يا بنيَّ؟
قال: نعم.
إن الفتى البهلوان الذي قتل خليلته بعد أن طعنها بخنجره إحدى عشرة طعنة، قد قُبض عليه في هذا الصباح في إحدى خمارات الضواحي، واعترف بجريمته.
فأبرقت أسِرَّة فيلكس، وقال له: أرأيت الآن أني بريء؟
قال: هو ذاك، ولكن ذلك لا يوضح لي كيف أمكن وجودك في سفينتي ضمن صندوق.
فنظر إليه نظرة تدل على التناهي في الصدق والإخلاص، وقال له: إني لم أكذب في حياتي يا سيدي.
قال: هذا ممكن، فإن نظراتك تدل على صدق ما تقول، فما اسمك؟ أجاب: «أبو النحوس» أو «المنحوس» أو «السيئ الحظ»، أو ما يبدو لك أن تطلقه عليَّ من هذه الأسماء.
قال: إنه لقب في غير موضعه، فلو كنت حقيقة كما يلقبونك لوجب أن تكون الآن طعامًا للأسماك. فهز رأسه وقال: ولكني لقيت من مناوأة الأقدار ما يدل على أن هذا اللقب قد حلَّ محله.
قال: اروِ لي حكايتك يا بني، عساي أستطيع نفعك في شيء، فشرح له قصته منذ مولده إلى تلك الساعة، حتى إذا أتمها قال الربان: إذن يظهر أنك ابن كونتيس، أجاب: لم يبقَ عندي الآن ريب في ذلك.
قال: ومتى عُدْتَ إلى باريس تجتمع بباكيتا فتجمعك بأمك.
أجاب: هذا الذي أرجوه.
إذن سأهتم بك، فاعلم الآن أنه يوجد في ميناء بريتون سفينة فرنساوية تُسافِر غدًا إلى بولونيا، وربانها من أصحابي، فسأعهد إليه أن يوجهك إلى باريس، ويوصي بك بعض أهل النفوذ، فتستطيع بوساطتهم مقاومة البارون دي نيفيل.
قال: إنك شريف كريم يا سيدي، وإني لا أنسى جميلك ما حييتُ.
قال: إننا لا نستطيع أن نبيت هذه الليلة في السفينة، وسوف ندخلها في الحوض لإصلاحها، وأنا سوف أبيت عند أحد أصحابي، أما أنت فتبيت في فندق، وعند الصباح نجتمع على رصيف الميناء، فأذهب بك إلى السفينة المسافرة إلى بولونيا. ثم أعطاه دينارين وخرج الاثنان إلى البر، فذهب الربان في شأنه وذهب فيلكس إلى أول حانة لقيها وهو يكاد يقتله الجوع، وكانت هذه الحانة غاصة بالبحارة، فطلب طعامًا وشرابًا، وجعل يأكل غير مكترث لأحد، وهو لو انتبه لَرَأَى رجلين جالسين على مائدة بجواره وقد جعلا يتحدثان همسًا حين رأياه، ولكنه كان في شاغل من أكله عن كل ما عداه.
وكان فيلكس متعودًا على شرب الخمر البيضاء كسائر أبناء اللوار، فلما شرب من شراب الإنكليز حدثت له نشوة دعته إلى الاستزادة من هذا الشراب، وكان الرجلان اللذان بجواره ينظران إليه، ويتحدثان بصوت منخفض، وكلاهما بملابس البحارة، فكان أحدهما يقول لرفيقه: إني أرى هذا الفتى خيرًا من ثلاثة من بحارتنا، وهو بحار دون شك، ولولا ذلك لما دخل إلى هذه الخمارة الخاصة بالبحارة.
– هو ذاك، ولكن كيف السبيل إليه؟
– بالويسكي، وسوف ترى.
ثم التفت إلى فيلكس وقال له: أتأذن لنا أيها الرفيق أن نشرب معك كأسًا من الويسكي؟
فرحب فيلكس به، وهو يكاد ينعقد لسانه من السُّكْر، وشرب الثلاثة كئوسهم، ثم بدأ يحادثه فقال له: متى أتيتم إلى برايتُن؟
– لقد وصلنا في هذا المساء.
– ماذا تدعي سفينتكم؟
– مرغريتا الحسناء.
– إذن هي تلك السفينة التي كانت تحطمها العاصفة، وصبَّ له كأسًا، وقال له: هل تحب ربان هذه السفينة؟
– دون شك، فإنه من أطيب الناس قلبًا.
– وسَتَبيتَ الليلة في البر، فإن سفينتكم دخلت الحوض؟
– هو ذاك.
– في أي فندق ستنام؟
– لا أعرف بعد.
– إذن تنام في فندقنا، فهو من خير الفنادق، وأسرعها جريًا، وكان الشراب قد نال من فيلكس وأوشك أن يصرعه، ومع ذلك فقد دهش من قول البحار، وقال له: كيف ذلك؟ أيوجد فنادق تتحرك وتسير؟
قال: بل إن فندقنا يسير، ويطوف حول الأرض.
فضحك رفيقه وقال له: إن صاحبنا يداعبك، فإن الفندق الذي يعنيه إنما هو سفينتنا، ثم صبَّ له كأسًا أخرى، فشربها فيلكس وقال له: إذن ستنامان في البر؟
– كلا، بل في السفينة.
– ولكني لا أستطيع المبيت معكم فيها.
– لماذا؟ أجاب: لأني اتفقت مع الربان على أن نلتقي صباحًا على الرصيف، قال: ذلك لا يمنعك أن تبيت عندنا، فإننا سنقيم في هذه الميناء شهرًا أيضًا لنتم شحنتنا، وأنا أفطر كل صباح في قهوة الرصيف فتأتي معي.
فتمتم فيلكس كلمات لا تُفهم؛ لأن السكر كان قد عقد لسانه، وخيل له أن الخمارة ومن فيها تدور به وحوله، وعند ذلك دفع الرجلان ثمن الشراب وخرجا بفيلكس من هذه الخمارة، وهما يتأبطان ذراعه، وهو لا يعلم إلى أين يسير.
وفي الصباح صحا من رقاده، وهو يشعر باهتزاز عنيف، ففرك عينيه، ونظر إلى ما حواليه، فوجد أنه كان نائمًا على حصير في غرفة كان بابها مفتوحًا، فخرج من الغرفة فوجد نفسه على ظهر سفينة، وأن هذه السفينة قد توغلت في عُرض البحر، وأن المياه تكتنفها من كل جانب، فلا أثر للبر.