الفصل الرابع عشر
كان في باريس محامٍ مشهور يُدعى المسيو نيفلين، نال شهرة واسعة في علم الحقوق على حداثة سنه، ولم يكن يتجاوز الثلاثين من العمر.
وكان فيلكس أو «السيئ البخت» قد اتصلت به شهرة هذا المحامي، فذهب إليه وأخبره بسرِّ مولده وبكل ما عرفه من تاريخ حياته، فدُهش المحامي لما سمعه، وقال له: إن حكايتك عجيبة، ولكن مثل هذه الأمور لا بد فيها من البراهين الدامغة، ومع ذلك فلنبحث في أمرك، فقد ولدت في سانت مرتين، أليس كذلك؟
قال: نعم.
قال: وقد ذُكر في شهادة ولادتك أنك ابن رجل بستاني.
قال: ليس هذه الشهادة شهادة ولادتي أنا، بل إنها شهادة ولادة ابن البستاني الذي مات ليلة تنصيري.
قال: هو ذاك، ولكنك ربيت في بيت ذلك البستاني فَبِتَّ منتسبًا إليه، ثم إن مسجِّل الوفيات في تلك القرية يثبت أن ابن الكونت دي نيفيل مات ودُفن في يوم كذا وعام كذا.
قال: إن ابن البستاني هو الذي دُفن وليس ابن الكونت.
– إني واثق بما تقول ولكن أين البرهان؟ إن برهانك الوحيد هو هذه الخصلة البيضاء في شعرك، وهو برهان قد يقنع العلماء والأطباء ولكنه لا يقنع المحاكم، وفوق ذلك فإن خصمك هو عمك البارون دي نيفيل، وهو خصم غني عنيد قوي، فكيف تثبت أنه نوَّمك بمخدِّر، وأنه شحنك في صندوق كما يشحنون البضائع؟ إن كل ما قلته أكيد، وقد تبينت صدقك من لهجتك ومن عينيك، ولكن رجال القضاء لا يثقون بهذه الأقوال.
قال: ولكني واثق أن أمي إذا رأتني …
لقد أخبرتك بما كان من مصير أمك، فقد ذهب عقلها، وهي الآن في مستشفى المجانين.
قال: قد يمكن شفاؤها.
أجاب: هذا ما يدعيه الأطباء، لكن لنفرض أن هذا الجنون الذي أصابها حين علمت أنك في قيد الحياة، قد يذهب حين تراك، وترى ذلك الشبه العظيم بينك وبين أبيك، أتحسب أنهم يصدقون أقوالها؟ كلا، بل يقولون إنها ازدادت جنونًا، فإن كل حكايتك تشبه الحكايات الموضوعة، ولا تحتمل التصديق.
ثم إنها معقدة؛ إذ يجب في البدء أن يكون هذا البستاني في قيد الحياة، وأن يعترف بالحقيقة أمام المحاكم، وألَّا يكون اشتهر عنه أنه أصيب بالجنون، فأنت ترى أن إثبات حقيقة مولدك ضرب من المحال، وأنك سيئ البخت كما لقبوك.
قال: ولكن إذا وجدتُ بول سالبري الذي شُحِنْتُ في صندوقه، وهو شريك البارون في إثمه؟!
قال: إنك قد تجده، ولكنه ينكر ما حدث.
قال: ولكن ربان السفينة لا ينكر.
قال: دون شك! غير أنه لا يستطيع أن يثبت أن البارون قد وضعك في الصندوق، حتى ولو استطاع هذا الإثبات فإنه لا يُثْبِت غير أمر واحد.
قال: ما هو؟
– هو أنك كنت تحب باكيتا، وقد أراد بذلك إقصاءك عنها لأنها تحبك، وهكذا ترى أن ذلك لا يقوم دليلًا على أنك ابن الكونت دي نيفيل على الإطلاق.
فتأوَّه السيئ البخت، ثم ودع المحامي، وخرج من غرفته إلى الردهة الخارجية، وفيما هو سائر إلى الباب أدركه أحد أعوان المحامي وقال له: إنك إذا أصغيت إليَّ أفدْتُكَ أكثر مما يفيدك المحامي.
قال: ماذا تريد أن تقول لي؟ قال: إني خارج معك، وسنتحدث في الطريق، فلا يسمعنا أحد.
وقد ذهب الاثنان إلى حانة قليلة الرواد، فجلس كل منهما بإزاء صاحبه، وبدأ الرجل الحديث فقال: إني أُدعى كاستبليون، ويلقبني إخواني بالطيب الكتوم، فليس بينهم من يكتمني سرًّا من أسراره، وإنما أقول لك ذلك لأبرهن لك أن الفائز بين الناس هو الذي لا يعرض نفسه لحسدهم، انظر إلى هذا المخزن العظيم في الجهة المقابلة من الشارع، فهو من أشهر المخازن وأكثرها عملًا، ومع ذلك فهو على وشك الإفلاس، يحاول صاحبه الاتفاق مع دائنيه.
وانظر إلى هذا الحانوت الصغير في جانبه، فإن الناس يزدرون به، ولكن صاحبه قد أفلح، حتى إنه اشترى البناء نفسه من عهد قريب، وهذه هي حالة الناس يا بنيَّ، فإن من يسير دون أن ينتبه إليه أحد بلغ آخر الطريق الذي يسير فيه، خلافًا لمن تتجه إليه الأنظار، فإنه يقف كثيرًا في الطريق.
أما أنا فإني أشبه صاحب هذا الحانوت الصغير، وقد وقفت عند الباب حين دخلتَ على المحامي، وسمعتُ حكايتك بجملتها كما سمعها المحامي، حتى بِتُّ أعرفها كما تعرفها أنتَ.
قال: إذا كان ذلك، فكيف رأيت؟ أجاب: رأيت أنك صادق في كل ما رويته.
قال: وكذلك رأى المحامي، ولكنك ستكون على رأيه أيضًا في قضيتي.
قال: كلَّا! فإني قد أخالفه؛ لأني لا أفهم معنى القنوط، وما أنا إلا مثل تلك الضفدع التي تسلقت الجبل، فقد كانت بطيئة السير ولكنها وصلت، وهكذا قضيتك، فإن أمرها قد يطول، ولكنك تفوز بها إذا وثقت بي واعتمدت عليَّ، فهل تريد أن تعهد بها إليَّ؟
– دون شك، ولكن انظر إلى ملابسي تعلم أني من الفقراء.
– إننا لا نحتاج في البدء إلى المال، فقل لي: أين تقيم؟
– في شارع مونمارتر، رقم ٣١.
– حسنًا، فعد الآن إلى منزلك واطمئن.
– متى أراك؟
– عندما يحدث ما يضطرني إلى مقابلتك.
وعند ذلك افترقا، فعاد الرجل إلى مكتب المحامي، وذهب فيلكس إلى غرفته؛ حيث التقى فيها بصديقه شارنسون، فصافحه وعلائم البِشْر بادية في وجهه، وقال له: لقد عدت إليك بقلبٍ ملؤه الرجاء.
– قال: هل أتيت بشيء من المال على الأقل؟ أجاب: كلَّا!
– ولكن ألا تعلم أنه ليس لدينا دراهم؟
– هذا أكيد.
– كيف تريد أن نتغدَّى؟
فأطرق فيلكس برأسه ولم يجِب. وعند ذلك سمع شارنسون صوت رجل ينادي في الطريق، وهو من أولئك الذين يشترون الملابس القديمة، فنظر الاثنان نظرة حُزن إلى ملابسهما المعلقة، وقد جال في فكريهما خاطر واحد.
وقد بحث شارنسون في هذه الملابس، واختار رداءً يُلبس فوق الثياب (معطف)، فقال لفيلكس: إننا الآن في غنًى عن هذا الرداء، فنحن في شهر أبريل، فتنهد فيلكس وقال له: افعل ما تشاء، وأطَلَّ شارنسون من النافذة ونادى الرجل، ثم قال لصاحبه: إنه سيصعد مائة وثلاثين درجة قبل وصوله إلينا، فلنتباحث في شأن هذا الرداء، فكم تطلب ثمنًا له؟
أجاب: لا أعلم؟
قال: أأطلب عشرين فرنكًا؟
أجاب: لا شك أنك مجنون.
قال: إنه إذا نقدنا هذه القيمة عشنا بها أربعة أيام إلى أن يتم اتفاقي مع بائع الخمور، فقد وعدني أن يستخدمني بماية فرنك في الشهر.
فابتسم فيلكس ابتسامة حزن وقال: لا يضحكني غير قولهم: إني سأغدو غنيًّا، فمتى تأتي هذه الثروة وأنا أبيع ثيابي كي أحتفظ بروحي في بدني.
– إنك تستطيع أن تكون من الأغنياء حين تريد.
أجاب: وأنا أعلم ماذا تعني، ولكني لا أريد أن ترِد إليَّ الثروة من هذا الطريق.
قال: ما هذا الحمق؟! ألا تعلم أن باكيتا تهواك، وأنها تريد أن تكون امرأتك.
أجاب: نعم أعلم، ولا بد لنا من الزواج.
– إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تتزوج بها الآن؟
أجاب: لأنها تكسب أربعين ألف فرنك في الشهر، ولأني لا أكسب شيئًا، ولا أريد أن آخذ درهمًا منها، ألا ترى كيف أني أبذل الجهد العنيف لإخفاء فقري عنها؟
فهز شارنسون كتفيه، وطرق المتجول الباب عند ذلك ففتح له، وبعد المساومة الطويلة باعه الرداء بثمانية فرنكات، فقبضها شارنسون وذهب بها لإحضار الطعام.
أما المتجول فإنه أخذ الرداء فوضعه في كيسه وانصرف، فلما وصل إلى الشارع رأى مركبة واقفة وفيها امرأة حسناء أطلت من المركبة، وأشارت إليه أن يدنو منها، فعجب لأمرها واقترب منها، فقالت له: ألم تصعد إلى هذه الغرفة العليا في هذا المنزل؟
قال: نعم يا سيدتي.
قالت: عند من؟
أجاب: عند اثنين من الفتيان.
قالت: ألم تجد في تلك الغرفة آلات تدل على أن صاحبها يشتغل بالنقش أو الحفر؟
قال: نعم!
قالت: هل اشتريت منهما ملابس؟
أجاب: نعم يا سيدتي.
– إذن قل لي: أتريد أن تكسب مائة فرنك؟
– وَمَنْ يأبى الكسْب أيتها الحسناء؟!
– أليس لك حانوت؟
– نعم، وهو في شارع لامرتين.
قالت: اصعد بجانبي، وهلمَّ إلى دكانك.
وقد أعطته من فورها ورقة مالية بمائة فرنك؛ كي يثق أنها غير هازلة، وسارت وإياه إلى ذلك الشارع، وسألته في الطريق قائلة: أحقٌّ أن هذين الغلامين فقيران؟
قال: ماذا يكون حال من يبيع ثيابه ليأكل؟
وكانت هذه الفتاة باكيتا، فمسحت دمعة سالت على خدها وقالت: مسكين يا فيلكس! وعندما وصلت إلى الحانوت أمرت المتكسب أن يفتق بطانة الرداء الذي اشتراه، وقالت له: خذ هذه الورقات المالية وقدرها أربعمائة فرنك، وقل لهما إنك وجدتها في بطانة الثوب الذي اشتريته منهما، وإني أرى أنك شريف، وأنك ستوصل المال إليهما لا محالة، وفوق ذلك فإني لا أعدم وسيلة أتثبت بها من الحقيقة.
قال: اطمئني يا سيدتي، فإني شريف على فقري، وسيكون ما تريدين.