الفصل الخامس عشر
أما شارنسون فإنه عاد بالطعام، وجلس يأكل وهو لا يلوي على شيء، حتى إذا فرغ من أكله قال لفيلكس: لم أرَك حزينًا قانطًا إلا في باريس، ومع ذلك فقد اجتمعت بباكيتا.
قال: نعم، وا أسفاه! ولكنها باتت أكثر بُعدًا عني من قبل.
قال: لماذا؟
أجاب: ألم أقل لك إن التباين عظيم بيننا؟
قال: ولكننا في بلادنا لا نبالي بهذه الفروق، ومتى سرى الحب إلى قلبَيْ رجل وامرأة تزوجا دون انتظار، فإذا كان الرجل غنيًّا، أو كانت المرأة غنية كانت الثروة للاثنين؛ إذ كلاهما يصبحان واحدًا بعد الزواج.
قال: أما أنا فلست على هذا المذهب، ولا أحب أن أبحث في هذا الموضوع، وقد قام يشتغل في الحفر. واضطجع شارنسون فتاه في فيافي التفكير، وفيما هو على ذلك طُرِقَ الباب ففتحه فيلكس وظهرت على وجهه علائم السرور، فقد كان الطارق كوستيلون تلميذ المحامي الذي وعده بالنظر في قضيته، وقد بادره بقوله: إني ما أسرعت بالقدوم إليك إلا لأني أتيتك بأنباء طيبة.
فارتعش فيلكس، ورآه ينظر إلى شارنسون نظرةَ ارتياب، فقال له: لك أن تقول ما تشاء أمامه فإننا واحد.
قال: إني بدأت الاشتغال في قضيتك منذ الصباح، فاكتشفت أمورًا كثيرة.
قال: أحقٌّ ما تقول؟
أجاب: نعم، فأصغِ إليَّ، ألم يقل لك المحامي إنه لا يوجد غير رجل واحد يستطيع أن يثبت أنك ابن الكونت، وأن هذا الرجل يُحْتَمَل أن يكون قد مات؟
قال: الأمر ما تقول.
قال: إن هذا الرجل مات حقيقة، ولكنه اعترف بجريمته قبل الموت.
قال: لمن؟
– لكاهن قرية سانت مرتين، وقد علمت أن هذا الكاهن لا يزال حيًّا.
قال: أيجب أن أكتب إليه؟
أجاب: كلَّا! فاصبر الآن إلى أن نعلم ماذا جرى للبارون دي نيفيل.
أجاب: إنه يقيم في باريس على ما أعلم.
قال: بل إنه مقيم الآن في أرض له في نيفرلي قرب سانت مرتين، ولا يأتي إلى باريس إلا في القليل النادر، وعندي أنه يجب أن نذهب إلى تلك الناحية فنقيم فيها بضعة أيام، فإن ذلك يفيدنا.
قال: نعم، غير أن السفر يحتاج إلى مال.
قال: هذا لا ريب فيه، غير أني أملك مائتي فرنك، ولا أدري إذا كان هذا المبلغ يكفي.
فقال له شارنسون: أتحسب أن هذا السفر لا بد منه؟ وأية فائدة ترجوها؟
قال: إذا كان صاحبك ابن الكونت دي نيفيل كما تدل القرائن، فلا بد أن يوجد في القرية من ينتبه إلى الشبه بينه وبين أبيه، وقد اتصل إليَّ أن الشبه تام، وأن البارون دي نيفيل قد نقل جميع رسوم أعضاء العائلة التي كانت في قصر الكونتيس إلى قصره، فسفرنا لا بد منه، وثلاثمائة فرنك تكفي.
فقال له شارنسون: إن هذا المبلغ موجود عندي.
فدهش فيلكس وقال: عندك أنت؟!
– نعم، فلا تهتم لذلك.
– أريد أن أعلم كيف أتاك هذا المال؟
– سوف تعلم.
وكان شارنسون واثقًا من الحصول عليه؛ لأنه كان ينوي أن يقترضه من باكيتا دون أن يخبر صاحبه. وعند ذلك طرق الباب ودخل المتجول الذي اشترى المعْطَف، فالتفت إلى فيلكس وقال له: لقد وجدت يا سيدي في بطانة الثوب الذي اشتريته منك هذه الأوراق المالية، فخذها فهي مالك. فصاح فيلكس صيحة دهش، ومسح شارنسون عينيه كأنه يحسب نفسه في حلم.
وقد أخرج الرجل الأوراق من جيبه ودفعها إلى فيلكس، فنظر إليه فيلكس نظرة المنذهل، وقال له: إني لا أفهم ما تقول!
وسأله كاستيليون في ذلك، فأجابه المتجول قائلًا: إن الأمر بسيط يا سيدي، فقد اشتريت في هذا الصباح رداءً قديمًا منهما، وذهبتُ به إلى الحانوت وفتقتُ بطانته كي أنظفه وأصبغه وأصيِّره جديدًا، فوجدتُ بين البطانة والظِهارة أربع ورقات مالية، فقضت عليَّ الذمة برد المال إلى صاحبه.
فقال فيلكس: ولكني ما خبأت في حياتي مالًا على هذا الشكل، فهذا المال ليس لي.
فقال المتجول: ولا لي أنا أيضًا، ثم ترك الأوراق على منضدة وانصرف، فحاول فيلكس أن يدركه، ولكن كاستيليون منعه، فقال له: ماذا تريد أن تصنع؟
قال: أريد أن أرد إليه المال فما هو بمالي.
قال: وليس هو ماله كذلك.
قال: إذن هو للذي اشتريت منه المعْطَف، ولكن كيف السبيل إليه؛ فقد اشتريته في رأس الرجاء الصالح من حانوت لا أذكر اسم صاحبه، ولا أعرف عنوانه.
ولكن الأوراق المالية الفرنساوية يندر وجودها في رأس الرجاء الصالح.
هذا أكيد، ولكن الذي أعلمه أن هذه الأوراق ليست لي، وخير ما أصنعه هو أن أضعها في غلاف وأرسلها إلى ملجأ خيري.
فقال شارنسون: ما هذه البلاهة التي لا تخطر في بال عاقل؟! أتهبط علينا النعمة من السماء ونحن نكاد نموت جوعًا ثم نجود بها على البؤساء؟! أيوجد في الأرض أشد بؤسًا منَّا؟!
قال: نعم! فهي للفقراء، ولا أأخذ مالًا لا حقَّ لي فيه.
فتداخل كاستيليون في الأمر، وقال: خير ما تصنعه يا بنيَّ أن تعتبر هذا المال عاريةً، وأنك اقترضته من الفقراء، وسترده إليهم مضاعفًا متى حسنت حالك واسترجعت ثروتك.
فأسرع شارنسون واستولى على الأوراق، فقال له فيلكس: ماذا تصنع؟ قال: اقترضها بالنيابة عنك.
وقال كاستيليون: حسنًا فعلت! فإنها مهدت لنا أسباب السفر، أنسافر في هذا المساء؟
فقال شارنسون: إني مسافر معكما، ثم نظر إلى فيلكس، فرآه لا يزال مترددًا فقال له: ألا تريد أن تخطو خطوة في سبيل التقرب من باكيتا؟ وقد فعلت هذه الكلمة به فعل السحر، فبطل تردده، واتفقوا على تعيين موعد السفر.
أما شارنسون فإنه ذهب توًّا إلى باكيتا وقال لها: إني قادم لأشكرك يا سيدتي لهبتك. فحاولت الإنكار، ولكنه أفحمها بقوله: إني رأيتك في المركبة إذ كنتُ واقفًا في النافذة، ورأيت المتجول صاعدًا إلى مركبتك، فلم يبقَ لديَّ شك حين عودته بأنكِ أنتِ صاحبة هذه اليد البيضاء.
قالت: لعله أدرك سر الحيلة؟
قال: كلَّا! فلو أدركها لما قبل المال بوجه من الوجوه.
ثم أخبرها بكل ما اتفقا عليه مع كاستيليون. وبعد ساعة عاد إلى فيلكس فوجد كاستيليون هناك. وسافر الثلاثة في قطار المساء إلى أوكسر.