الفصل الثامن عشر

والآن فلنقل كلمة عن هذه الصورة التي يخافها البارون هذا الخوف الشديد، فإنه بعد أن نُقِلت الكونتيس إلى مستشفى المجانين استولى البارون على منزلها، وكانت فيه صورة زوجها الكونت في شبابه وهو يشبه «السيئ البخت» أتم الشبه، فأبقى الصورة في إطارها والإطار في الجدار، وفي تلك الليلة حلم حلمًا عجيبًا؛ إذ مُثِّلَ له أن الكونت خرج من ذلك الإطار وسرت فيه الحياة، فدنا منه وقال له: أيها البارون إنك لص سارق!

وقد صاح لهذا الحلم صيحة منكرة، فأسرع إليه خادمه ميشيل، ونظر البارون إلى الجدار فوجد الصور لا تزال في موضعها، وقال كلمات متقطعة لاضطرابه سمعها الخادم، فقال في نفسه: لا شك أن مولاي البارون قد ارتكب جريمة، ولا بد لي أن أعرفها.

وفي الليلة التالية رأى البارون نفس الحلم، ولكن الكونت تَمَثَّلَ له بشكل المتوعد، فصحا من رقاده منذعرًا، فلبس ملابسه وعاد من فوره إلى باريس.

وقد مضت ثمانية أيام دون أن يعاوده هذا الحلم، فنسي الصورة واطمأن، ولكنه في الليلة التاسعة رأي الحلم نفسه، فذُعر ذُعرًا شديدًا ونادى خادمه، وقال له إنه رأى الصورة.

وكان الرعب متمكنًا منه حتى إنه باح بسره لميشيل، فقال له الخادم: إن الأموات لا يحيون يا سيدي، والصور لا تتجسَّم، وخير ما أشير به عليك أن تعود إلى قصر الكونتيس في فرساي غدًا، فتحرق هذه الصورة.

وقد عمل البارون بنصحه، وأحرق الصورة في اليوم التالي، ولكنه كان مضطربًا، وكاد يُصاب بما أُصيبت به الكونتيس من الجنون، فأشار عليه الأطباء بالسفر، وسافر يصحبه ميشيل، فسافر في البدء إلى بروكسل — عاصمة بلجيكا — وصحا في ليلته منذعرًا من رقاده؛ إذ تمثلت له الصورة، وقد لبثت هذه الصورة تطاره في كل مدة سفره منذ عامين، فعاد إلى فرنسا وهو يشبه الشيوخ بكثرة همه، وهناك ذهب إلى أراضيه في بريتانيا، واعتكف في الريف فأصبح من البخلاء بعد هذه العزلة، ولم يكن يفرج همه غير الصيد، فبات شاغله الوحيد.

وقد عادت الصورة إلى الظهور له، فكانت تظهر مرة في الشهر، ثم توالى ظهورها، فباتَ مرة في الأسبوع إلى أن ظهرت له أخيرًا فاشتدت مخاوفه، وقال لميشيل: لقد عوَّلت على أن لا أنام في الليل، وهذه خير طريقة أأمن فيها ظهور الصورة.

وبات ليلته في غرفته وميشيل في غرفة أخرى متصلة بها، وقد نزع كل الصور عن الجدران، وأخذ كتابًا يطالع فيه على نور شمعة.

ثم ملَّ القراءة فأغلق الكتاب وصعد إلى سريره، ولكنه أبقى الشمعة مضاءة؛ إذ لم يكن في نيته النوم لخوفه حتى يشرق الصباح، وقد تاه في مهامة التفكير والشمعة تذوب وهو لا يفطن لها، إلى أن ذابت بجملتها وانطفأت، فساد الظلام الدامس في الغرفة، وهمَّ بأن ينادي ميشيل كي يأتيه بشمعة، ولكن صوته حُبس في حلقه؛ إذ ظهر له فجأة نور أزرق كأنه قد شقَّ بطن الأرض وانبعث منها، فوثب عن سريره مضطربًا منذعرًا لا يعلم من أين جاء هذا النور، ثم صاح صيحة هائلة مزَّقت حجاب السكون؛ إذ تمثلت له صورة الكونت بالشكل الذي تعوَّد أن يراه.

وعند ذلك انطفأ النور، وركض ميشيل إلى البارون، فوجده مضطرب الأنفاس، يكاد يُغْمَى عليه من الرعب، فقال له: ما هذا الصياح، وما أصابك؟

قال: لقد رأيتها يا ميشيل … رأيت الصورة.

فهز ميشيل كتفيه وقال: إنك ستقتل نفسك بهذه التصورات، فَنَمْ مطمئنًّا، فإن الصورة لا تعود إليك في هذه الليلة لأني سأسهر بجانبك.

وعند الفجر ركب ميشيل جوادًا، وسار في طريق سانت مرتين وهو يقول في نفسه: ما دام بول سالبري قد ذهب إلى هذه القرية فلا بدَّ لي أنا أيضًا من الذهاب إليها، وإن قلبي يحدثني بأني خطوت خطوة كبيرة إلى المائة ألف فرنك التي كَبُرَ على البارون أن يجود عليَّ بها.

•••

لندع الآن البارون عرضة لتصوراته المخيفة، وفيلكس ورفيقيه يتقابلان مع بول سابري، ولنذهب بذهن القارئ إلى ذلك المستشفى الذي كانت فيها الكونتيس، فقد كانت سجينة هناك منذ سبعة أعوام، وقد ابيضَّ شعرها وهي لم تبلغ بعد مبالغ الكهول، فإنها لم تكن مجنونة، ولكن البارون وصمها بالجنون ووافقه مدير المستشفى؛ لأنها كانت لا تفتأ تدَّعي أن ولدها في قيد الحياة وهو في عُرف الحكومة دفين كما تثبته السجلات الرسمية، فكان قولها هذا من الأدلة المعقولة التي كان يستند إليها البارون والطبيب في إثبات جنونها.

ثم جاء يوم انقطعت فيه فجأة عن ذكر ولدها والطعن على البارون دي نيفيل، واعترفت أن ولدها ميت، وأنهم أصابوا بسجنها في المستشفى حتى لا تتعرض لهزء الناس؛ لأنها كانت مجنونة حقًّا.

أما السبب في هذا الانقلاب الفجائي فهو أنه اتفق يومًا أن إدارة المستشفى عيَّنت طبيبًا جديدًا، واجتمعت به الكونتيس في اليوم التالي لتعيينه، فقالت له: أأنت الطبيب الجديد؟

– نعم يا سيدتي.

– إنك ستثبت جنوني كما أثبته بقية الأطباء؟

فأجابها بلهجة دلت على تأثره قائلًا: لم يكن يخطر لي يا سيدتي أن أقبل هذا المنصب في المستشفى إلى أن سمعتُ بحكايتك.

– من الذي رواها لك؟ لعله البارون الخائن؟

– كلا يا سيدتي، بل فتاة عرفتكِ وزارتكِ منذ سبعة أعوام، إذا كنتِ تذكرين.

– نعم أذكرها، فقد جاءت تقول لي إن ولدي لم يمُت.

– هو ذاك.

– ولكنها ذهبت فلم أَعُد أراها، واختفى ولدي من باريس.

– هذه هي الحقيقة بعينها.

– أهي هذه الفتاة التي أرسلتكَ إليَّ؟

أجاب: نعم يا سيدتي.

قالت: وولدي؟!

أجاب: لا يزال حيًّا! فإذا كنتِ تريدين أن ترينه فلا بد لكِ من الخروج من هذا المستشفى.

قالت: رباه كيف السبيل إلى ذلك؟

أجاب: يجب أن يكون لكِ بي ملء الثقة، والآن فاصغي إليَّ، فإن أول من يجب إقناعه بشفائكِ هو مدير هذا المستشفى.

قالت: ماذا يجب أن أصنع؟

أجاب: لا تصنعي شيئًا، وسأخبركِ بما يجب أن تفعليه بعد بضعة أيام.

قالت: ولكنك إذا تمكنت من إقناع المدير فلا سبيل إلى إقناع البارون، فإن فائدته في أن أبقى سجينة.

قال: سنتفق معه، فاطمئني!

فاتقدت عيناها ببارق رجاء، وقالت: إذن لقد أتيتَ إلى هنا من أجلي؟

أجاب: نعم يا سيدتي.

وقالت: وهذه الفتاة التي أرسلتكَ؟

أجاب: إنها من أشرف الفتيات، وباتت الآن من شهيرات الممثلات، وهي قد وجدت ولدكِ، ولا تزال تحبه أصدق حب.

قالت: إذن سيتزوج بها؟

أجاب: إنها تكون أسعد فتاة حين تسمع منكِ هذه الكلمة وهي جاثية على ركبتيها.

ثم قبَّل يد الكونتيس، وخرج من عندها بعد أن أوصاها بالكتمان.

وحكاية هذا الطبيب؛ أنه كان في عداد المفتونين بباكيتا، وقد أفرغ مجهوده في سبيل التقرب منها، وباح لها بحبه فأخبرته أنها مقيدة القلب، وسألته أن يستبدل الحب بالصداقة، فوافقها على ما أرادت، واشتد احترامها عنده حين روت له حكايتها، فعاهدها على أن يخدمها بإخلاص، وسعى فتعين طبيبًا في المستشفى بُغية إخراج الكونتيس منها.

وقد عرف القراء الآن السبب في انقلاب الكونتيس، وفي هذا الكتاب الذي أرسله المدير إلى البارون.

أما البارون فإنه لم يجِب المدير إلا بعد أسبوع، فكتب إليه ما يأتي:

لقد سرَّني كثيرًا ما كتبته لي عن شفاء الكونتيس، وأنا عائد إلى باريس بعد ثلاثة أيام فأزورك، وإذا كانت قد شُفِيَتْ — كما تقول — فإني موافق على كل اقتراحاتها.

البارون دي نيفيل

مضى على البارون ستة أيام كان يتلهى في خلالها بالصيد، حتى كاد ينسى ذلك الخيال الذي كان يعرض له. فبينما هو ذات ليلة يتعشى دخل عليه ميشيل فقال له: ألم تكتب بعد يا سيدي البارون إلى مدير المستشفى؟

قال: كلا! فإني أرى أن الكونتيس لا يطول عمرها، وعندي أنه خير لي أن تبقى في المستشفى.

قال: إذن أنت لا توافقني على رأيي؟ أجاب: كلَّا!

قال: ألا تزال تريد أن تقتصد مائة ألف فرنك؟ أجاب: الأمر ما قلت.

قال: ولكني أرجو أن تذكر …

أجاب: ماذا؟

قال: المائة ألف فرنك التي طلبتها منك، فإن هذا المبلغ لا ينقص من ثروتك، ولكنه يمهد لك سبل السكينة والسلام.

قال: لقد سألتني هذا السؤال وأجبتك عنه، أما الآن فأقول لك: إنه إذا كانت الخدمة على شروطي لا توافقك فلك أن تتنحي وتعتزل، فلم يجِبه بكلمة، وأوصله إلى غرفة رقاده، وهناك تركه وخرج من القصر من باب خفيٍّ إلى خمارة، فأقام فيها ساعة مختليًا مع صاحبها، ثم عاد ودخل الغرفة المجاورة لغرفة البارون، وهي الغرفة التي تعوَّد أن يبيت فيها كي يكون قريبًا من سيده حين يدعوه.

أما البارون فإنه لبث ساهرًا إلى انتصاف الليل، وهو يفكر تارة في الكونتيس ولا يعلم على ماذا يقر بشأنها، وتارة في السيئ البخت، ولا يعلم إذا كان ميتًا أم لا يزال في قيد الحياة، وطورًا في بول سالبري فيندم لإساءته إليه، حتى إذا انتصف الليل، وأطفأ الشمعة عادت إليه هواجس الخيال، وجعل يفكر في تلك الصورة التي لم يكن يعذبه سواها. وفيما هو على ذلك سطعت الأنوار الزرقاء فجأة، فهلع قلبه من الخوف، ونظر نظرات ملؤها الرعب إلى الجدار فرأى صورة الكونت دي نيفيل قد ارتسمت في إطارها على الجدار، فكاد يذهب عقله من الذعر.

ولكن هذه الرؤيا لم تطُل أكثر من بضع ثوانٍ؛ إذ انطفأت وعاد الظلام، ولبث البارون في سريره ينتفض من الرعب، وهو يحسب أن الرؤيا قد انتهت حسب عادتها.

وقد عوَّل على أن لا ينام، وكيف يستطيع الرقاد وهو يعتقد الآن اعتقادًا راسخًا أن هذه الصورة لم تظهر له بشكل حلم، فقد رآها وهو يقظان، غير أن زمن سكينته لم يطُل، فإنه بينما كان يفكر في أمره عادت تلك الأنوار إلى التآلف بشكل يخطف الأبصار، فصاح صيحة هائلة وتراجع إلى الجدار؛ ذلك أنه لم ير الصورة هذه المرة، ولكنه رأى الكونت دي نيفيل قد خرج من إطار الصورة وأصبح جسمًا حيًّا، ثم رآه يمشي إليه وعيناه محدقتان فيه تنظران إليه نظرات نارية.

ومن شأن الرعب متى تمكن من قلب صاحبه، وبلغ أقصى حدوده، أن يقيده ويمنعه من كل حركة، وهذا ما أصاب البارون، فإنه حين ظهر له هذا الخيال المجسَّم حاول أن يصيح صيحة ثانية، فوقف الصوت في حلقه وجمد الدم في عروقه؛ لأنه رأى رجلًا حقيقيًّا هذه المرة لا صورته.

ولكنه بذل جهدًا عنيفًا فتمكن من الكلام، وقال يخاطب الخيال بصوت متقطع: … رحماك …! اصفح عني، فسأصلح ما أفسدتُ.

فتراجع الخيال بملء الجلال خطوة إلى الوراء وأشار إلى البارون إشارة الآمِر أن انهض!

فامتثل وهو لا يعلم ما يريد منه، أما الخيال فإنه أخذ ينير الشمعة، فعاود البارون الرجاء، وحسب أنه سيختفي متى أضاء النور، غير أن الأمر جاء على عكس ما يتوقع، فإن الخيال بعدما أضاء الشمعة أخذ ورقًا وقلمًا ووضعهما على المائدة، ثم أشار إلى البارون أن يكتب، فاصطكت أسنانه من الرعب وسأله قائلًا: ماذا تريد أن أكتب؟ فأشار الخيال إشارة مفادها «إنك تعلم ما يجب أن تكتبه.»

قال: أتريد أن أخرج الكونتيس من المستشفى؟ فأشار الخيال برأسه إشارة إيجاب.

فأخذ البارون القلم، وقال له وهو ينظر إليه نظرات لا توصف من ذعره: ماذا تريد أن أكتب أيضًا؟

فأشار إليه الخيال إشارة بمنتهى الفصاحة فهمها البارون وقال له: أتريد أن أرد لها مالها أيضًا؟ فأحنى رأسه إشارة إلى الإيجاب، وأخذ البارون القلم فكتب ما يأتي: «أوافق على خروج الكونتيس دي نيفيل من المستشفى؛ لأنها ليست مجنونة، وأتعهد بإرجاع كل أموالها إليها.»

ثم وقَّع على ما كتب، فأخذ الخيال الورقة، وخرج بعد أن أشار إشارة وداع إلى البارون، وعند ذلك أطفِئت الشمعة، وعادت الأنوار الزرقاء إلى التألق واختفى الخيال، فضاق تنفس البارون من شدة تأثره، وسقط على الأرض مغشيًّا عليه.

وعندما أفاق من إغمائه كانت الشمس قد بزغت، ففتح عينيه وتنفس الصعداء، وقام إلى الغرفة التي كان فيها ميشيل فوجده ينظف ملابسه كأنه لا علم له بشيء مما حدث، فقال له البارون: ألم تسمع شيئًا يا ميشيل؟ قال: ماذا تريد أن أسمع؟

قال: الخيال.

أجاب: أعاد أيضًا؟!

– نعم، نعم، ولكنه خرج من إطار الصورة هذه المرة.

– ماذا تقول يا سيدي، لعلك فقدت صوابك؟

– قلت لك إني رأيته بعيني وهو من لحم ودم.

– لم ينقصك إلا أن تقول لي بأنه كلمك.

– نعم لقد كلمني بالإشارة.

– أحق ما تقول؟

أجاب: بل إنه استكتبني أيضًا، ثم قصَّ عليه كل ما جرى. فكان ميشيل يسمعه ويهز رأسه حتى انتهى من قصته، فقال له: من حسن طالع البشر أن الأموات لا علاقة لهم بالأحياء.

قال: ماذا تعني؟

أجاب: أعني أن هذا الميت المنشور سيعود إلى ضريحه، ومعه تلك الورقة التي كتبتها فتُدفن معه، وعند ذلك طرق الباب الخارجي، وأطل ميشيل من النافذة، فقال له البارون: من هذا؟

قال: لا أعرفه فهو رجل في مقتبل الشباب دخل في الحديقة وهو يصعد السلم الآن، وعليه الملابس السوداء شأن المحامين.

أما هذا الزائر فقد كان كاستيليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤