الفصل التاسع عشر
وقد صعد كاستيليون وطلب مقابلة البارون، فاستقبله في القاعة العمومية، فحياه كاستيليون وقال له: إني يا سيدي من المحامين أُدْعَى كاستيليون، وقد جئت إليك في شأن خطير؛ فتبين القلق في وجه البارون وقال له: إني مصغٍ إليك.
قال: إني يا سيدي وكيل الفيكونت فيلكس دي نيفيل قريبك.
فأجابه البارون ببرود قائلًا: إني لا أعرف لي قريبًا يُدعى بهذا الاسم، وقد يكون من أحد فروع أسرتنا، فهي كثيرة الفروع.
قال: كلا يا سيدي البارون، فإني أريد به ابن أخيك الكونت من زوجته الكونتيس المقيمة الآن في مستشفى الأمراض العقلية.
– إن أخي لم يخلف بنين، ولست أفهم ما تقول.
– وأنا ما أتيت إلا لأبرهن لك على عكس ما تقول، فإنك تعرف — دون شك — أن الكونت دي نيفيل كان له ولد.
– نعم، ولكنه مات.
– كلَّا، إن لم يمت؛ لأن البستاني حنا الذي كان عند أخيك سرق الطفل ووضع في مكانه طفله الميت.
– لقد رووا لي هذا الخبر الغريب، ولكن لا بد من إقامة البرهان عليه.
قال: برهانه أن البستاني «حنا» رواه.
قال البارون: ولكنه مجنون.
فقال كاستيليون: غير أن كاهن سانت مرتين يوافق على قوله.
أجاب: إن شهادة هذا الكاهن لا قيمة لها لدى المحاكم.
ربما، ولكن يوجد شهادة أخرى لا يمكن للمحاكم إلا أن تتلقاها بالقبول.
قال: شهادة مَنْ؟
قال: شهادة رجل أعانك على إخفاء غلام ممثل يلقب «بالسيئ البخت» وما هو إلا ابن أخيك، الذي أنا وكيله.
قال: إني لا أفهم شيئًا من هذه الحكاية التي ترويها.
قال: إن المسيو بول سالبري يعينك على هذه الذكرى.
قال: إذا لم يكن لديك غير هذه البراهين فقد أزعجتني دون جدوى.
قال: بل لديَّ برهان غير هذا، أتحسب أن الكونتيس مجنونة حقيقة؟
أجاب: هذا الذي أجمع عليه الأطباء.
قال: ولكنها قد تُشفى.
أجاب: كل ذلك ممكن.
قال: وعند ذلك ترجع إليها ثروتها.
أجاب: وهذا طبيعي أيضًا، ولكننا لم نصل إليه بعد.
قال: أظن أنك تعرف خَطَّك؟ ثم أخرج من محفظته ورقة وأراه إياها؛ فذُعر البارون؛ لأنها كانت تلك الورقة نفسها التي استكتبه إياها الخيال، وتعهد فيها أن يخرج الكونتيس من المستشفى، ويرد إليها مالها.
وقد كان ذعر البارون شديدًا؛ حتى إنه لم يجد ما يقوله.
فقال له كاستيليون: لنفرض يا سيدي البارون أن الكونتيس لا تزال مجنونة وأنك عينت وصيًّا شرعيًّا عليها.
قال: هو ذاك، فإني الوصي الرسمي.
قال: ولكنك كثير الشواغل، وإدارة ثروتها تتعبك كثيرًا، وخير ما تفعله أن تتخلى عن هذه الوصاية … لي مثلًا.
قال: ماذا تقول؟
أجاب: أقول ما يجب أن يكون، وقد أخرج من محفظته ورقة مكتوبة مفادها تنازل البارون عن حق الوصاية، وقال له: وقِّع على هذا الصك!
فطاش صواب البارون ولم يجِب، فقال له: وقِّع عليه أو تسوء العاقبة، فأخذ القلم بيد ترتجف وهو لا يجد بُدًّا من الامتثال ووقع على الصك، ولكنه لم يكد يكتب اسمه حتى ندم وحاول تمزيق الورقة، غير أن كاستيليون كان أسرع منه إلى إخفائها في المحفظة. فأنَّ البارون أنين الموجع، ووضع يده على عينيه، فلما فتحمها كان كاستيليون قد توارى عن الأنظار.
وعند ذلك دخل عليه ميشيل فقال له وهو يبتسم: هل جاءك هذا الرجل بنبأ سارٍّ؟
قال: أتعلم من هذا؟
أجاب: كلَّا!
قال: ما هو برجل، بل هو شيطان رجيم.
قال: أكان ذا قرون؟
قال: أتمزح أيها الوقح، وأنا على ما أنا من الاضطراب؟
قال: لا أمزح يا سيدي، ولكني أخاف أن يكون هذا الشيطان أغواك، فكتبت له ما أراد.
أجاب: الأمر ما قلتَ.
قال: هذا الذي كنت أخشاه، وقد خطر لي أن أدخل عليك حين كان عندك.
قال: لماذا؟
أجاب: لأمنعك عن أن تكتب، فإن الكتابة تبقى.
قال: وهل يعود بها الشياطين من العالم الأخير؟
أجاب: ولو لم يذهبوا إليه.
قال: ماذا تعني؟
أجاب: أعني أنك ارتكبت خطأ لا يرتكبه غير أهل البلاهة، فأعطيت هذا الرجل الذي تحسبه شيطانًا — وما هو إلا من المحامين — عهدًا نزعت به من الوصاية على الكونتيس من يدك وأعطيتها لسواك فتكون قد وهبت له أو لها بضعة ملايين.
قال: نعم وا أسفاه، وهو خطأ لا يمكن إصلاحه!
قال: كل شيء ممكن في هذا الوجود، فإنك لو أردت لما حدث شيء من هذا.
قال: من الذي كان يمنع حدوثه؟
أجاب: أنا، ولكن ذلك كان يكلفك مائة ألف فرنك فقط، فضننت بها عليَّ، وتنازلت عن عشرة ملايين لغيري، ومع ذلك فإني لا أيأس من ردها إليك.
قال: لعلك تهزأ بي.
– كلَّا، فإني أقول الجد، وإني قادر على إنفاذ ما قلته لك، ولكن …
قال: ولكن ماذا؟
– ولكن ذلك يكلف مائة ألف فرنك لا تنقص درهمًا.
– وإذا أعطيت ما سألت؟
– رددت إليك ما كتبت.
– ولكن من يضمن لي ألَّا يخرج الكونت ثانية من قبره، ويكرهني على إعادة الكتابة؟
– أنا أمنعه، فإن الذي رأيته لم يكن الكونت نفسه بل ولده.
قال: ماذا تقول؟
أجاب: أقول الحقيقة، فإن التشابه بينهما عظيم، ومن رأى السيئ البخت بجانب صورة الكونت لا يسعه أن يقول إلا إنها صورته.
قال: إذن إن الذي رأيته …
أجاب: إنما هو السيئ البخت ابن الكونت دي نيفيل وابن الكونتيس.
قال: أهو حي؟
أجاب: ولا يخطر له الآن أن يموت.
– ولكن كيف دخل هذا الموضع؟
– بطريقة بسيطة؛ وهي أني فتحت له الباب فدخل.
– ويحك! أأنت أدخلته عليَّ …؟ فأخرج ميشيل ورقة مكتوبة وقال له: هذه حوالة بمائة ألف فرنك، فإذا وقعت عليها ضمنت لك النجاح التام.
– لكن هذه الصورة التي أحرقتها بيدي، ثم كنت أراها معلقة في الجدار؟
– لقد نسختُ صورة عنها قبل إحراقها.
– أأنت فعلت ذلك أيها الشقي؟
– إني أشير عليك أن توقِّع على هذه الحوالة، فذلك خير لك من الغضب. فاحتدم البارون غيظًا، وهجم عليه يريد خنقه، ولكنه هرب إلى الغرفة المجاورة، وجعل يكلمه ويفاوضه من وراء الباب.
•••
ولنذهب الآن إلى تلك الخمارة التي ذهب إليها ميشيل قبل الحادثة، فقد تم الاتفاق في تلك الخمارة على تمثيل الرواية التي تقدم بيانها.
وقد كان السيئ البخت وشارنسون وكاستيليون وبول سالبري وصلوا إليها عند الغروب؛ فاستقبلتهم صاحبة الخمارة بملء الترحيب، وهي أرملة كان ميشيل قد وعدها بأن يتزوجها، فوافقته على تدبير تلك المكيدة في خمارتها.
وكان ميشيل قد جاء في النهار بملابس تشبه الملابس التي كان الكونت مصورًا بها؛ كي يلبسها السيئ البخت، فتتم مشابهته بأبيه، ويزيد اعتقاد البارون رسوخًا أن الصورة قد تجسمت، فلبس السيئ البخت تلك الملابس، وسار مع ميشيل إلى القصر، فمثَّل تلك الرواية التي بسطناها، ثم عاد إلى الخمارة، ودفع ذلك الصك الذي أخذه من البارون إلى كاستيليون.
وقد قابل كاستيليون البارون، وكان ما ذكرناه بينهما، ثم عاد إلى رفاقه، واتفقوا على أن يسافروا في صباح اليوم التالي إلى أوكسر، وفيما هم جالسون إلى مائدة جاءهم ميشيل وجلس معهم، فكان أول ما فعله أنه قال لبول سالبري: إن الشراب قد أخذ منك ويكاد يصرعك، فاذهب إلى سريرك كي تستريح بالرقاد فإننا مسافرون عند الفجر، ثم أعطاه خلسة ورقة مالية بألف فرنك فأخذها وانصرف، فجاءتهم صاحبة الخمارة وقالت لهم: هل أجيئكم بشيء من الخمر؟ فقال لها ميشيل: لا حاجة بنا إلى خمرك فقد جئت بخمر معتقة.
وكان قد أحضر معه أربع زجاجات، ففضَّ أختامها بيده، وصب في كئوسهم وفي كأسه، فجعلوا يشربون من تلك الخمر، وهم لا يرون أنه كان يسكب ما في كأسه إلى الأرض ويوهمهم أنه يشرب.
وبعد ساعة كان الثلاثة صرعى لا حراك بهم، فنادى ميشيل صاحبة الخمارة وقال لها: لقد حاول البارون خنقي، ولكن عاد إليه رشاده بعد ذلك، ووافق على كل ما أروم، والآن لم يبقَ علينا إلا نقل هؤلاء المصروعين، قالت: ألا تخشى أن يستفيقوا؟
قال: كلَّا، فإن المخدر سينومهم عشر ساعات على الأقل، فأسرعي بإحضار مركبة النقل.
فذهبت ممتثلة، ومد ميشيل يده إلى جيب كاستيليون، فأخرج منها ذلك الصك الذي كتبه البارون وخبأه بجيبه، ثم جاءت المرأة بالمركبة فعاونته على نقل الثلاثة إليها، وسار ميشيل بها وهم عليها، فأوقفها على قارعة الطريق على بُعد غلوة من الفندق ثم تركهم هناك وعاد إلى القصر.
وعند الصباح أفاق الثلاثة، فوجدوا أنفسهم على مركبة نقل في الخلاء، وجعل كل منهم ينظر إلى صاحبه وهو يحسب نفسه في حُلم، فبدءوا يتساءلون عما أصابهم، ويفكرون في ليلتهم الماضية إلى أن اتفق رأيهم على أن جانيًا أثيمًا دسَّ لهم المخدر في الشراب، لا سيما حين بحث كاستيليون على الصك فلم يجده. فقال شارنسون: من الذي تتهمه يا كاستيليون بهذه الفعلة؟
قال: إني أتهم ميشيل فهو الذي جاءنا بالشراب المخدر دون شك.
قال: ولكنا وعدناه بمائة ألف فرنك إذا صدق في خدمتنا.
أجاب: قد يكون البارون أعطاه أكثر من ذلك نقدًا فآثر خدمته.
قال: إذن أنت تعتقد أنه هو الذي خاننا؟
أجاب: بل هو الذي عَبِثَ بنا، فقد مهَّد لنا سبيل الحصول على الصك، ثم سرقه منا كي ينال به بغيته من البارون، في حين أنه لا يقبض منا شيئًا إلا بعد حصولنا على الإذن.
قال: والآن ماذا نصنع؟
أجاب: نذهب إلى أقرب قرية، ونتمعَّن في أمرنا عسانا نهتدي إلى طريقة تضمن لنا الفوز على هؤلاء المنافقين.
فوافقوه على اقتراحه وهمُّوا بالمسير، وعند ذلك وصل جنديان، فسألهم واحد منهما قائلًا: ألا يوجد بينكم فتى يلقب «بالسيئ البخت»؟ فقال له فيلكس: لعلك تعرفني؟
قال: نعم، فقد عرفتك من هذه الخصلة البيضاء في شعرك.
قال: نعم، أنا هو، فماذا تريد مني؟
أجاب: أريد القبض عليكم، فإنكم متهمون بسرقة الفندق الذي كنتم فيه أمس، وقد ترجل عن جواده من فوره وبيده الأصفاد يريد أن يكبِّل بها هذا المنكود الذي لم يلقب حقًّا بالسيئ البخت، وحاول الثلاثة أن يعترضوا، فقال لهم: لا فائدة من اعتراضكم على الإطلاق، فقد صدر إليَّ أمر قاضي التحقيق بالقبض عليكم والإتيان بكم إلى أوكسر.
قال أحدهم: ولكن بماذا يتهموننا؟
أجاب: أما قلت لكم إنهم يتهمونكم بسرقة الخمارة التي كنتم فيها؟
قال فيلكس: ولكن هم الذين سرقونا.
أجاب الشرطي: ستقول هذه الأقوال أمام قاضي التحقيق.
قال فيلكس: دعنا نأكل على الأقل، فإننا لم نأكل شيئًا بعد.
قال: ستجدون في السجن ما يكفيكم من الطعام، والآن هلموا بنا فلا فائدة من الاعتراض.
وقد كبَّل أيادي الثلاثة، وسار بهم في طريق أوكسر، فجعل شارنسون يتأوه ويعاكس فيلكس فيقول: إنك لو تزوجت باكيتا لكنت الآن من الأغنياء ولما أصبت بهذا الشقاء.
قال: إن الأقدار لا تزال تناوئني، ولكن لا بد لي من الفوز؛ لأن لكل شيء نهاية.
قال: بماذا تفوز؟
أجاب: بقوة الإرادة؛ فهي أمضى سلاح.
قال: أما أنا فلا أتمنى الآن إلا أن يحلُّوا قيدي.
وقال كاستيليون: وأنا لا أتمنى إلا أن يأذنوا لي بالكتابة.
قال فيلكس: لماذا؟
أجاب: لأكتب إلى رئيسي المحامي في باريس، فينقذنا من هذا الموقف.
وقال أحدهم: ولكنا متهمون بسرقة!
أجاب كاستيليون: [سنتمكن] منها، وعسى أن يكون ذلك لخيرنا بإذن الله.
وبعد ساعة وصلوا إلى السجن، فبينما كان الجندي يطرق بابه دنا الجندي الآخر من كاستيليون وقال له: ألا تعرف أحدًا هنا يكفلك؟
أجاب: كلا!
قال: وصاحباك؟
أجاب: كذلك، فإننا جميعنا من باريس.
قال: إذا رُمْتَ أن ترسل برقية إلى رئيسك المحامي تعهدت لك بإرسالها.
قال: أشكرك، ولكني أؤثر إرسال هذا النبأ إلى ممثلة شهيرة تدعى باكيتا، وهي تقيم في شارع سانت لازار نمرة ٨٩.
أجاب: ليكن ما تريد، فماذا تريد أن أكتب لها؟
قال: اكتب لها هذه الكلمات: «احضري إلى أوكسر، فإن السيئ البخت في السجن.»
قال: سأفعل، فاطمئن! وقد دخلوا جميعهم إلى السجن، وجاءهم السجان بخبز أسود جاف كان طعامهم، ورأى ما كان من نفورهم.
فقال لهم: إني آتيكم بما تشتهون من الطعام بشرط أن تدفعوا ثمنه.
فقال كاستيليون: ليس لنا درهم.
قال: ومع ذلك فإنكم متهمون بالسرقة.
أجاب: هذا خير دليل يثبت براءتنا، فإن كنا سرقنا في هذه الليلة كما يدعون، فأين ذهب ما سرقناه؟
قال: أليس لكم أحد هنا يمدكم بما تحتاجون إليه؟
أجاب: كلَّا، ولكنا ننتظر الإعانة غدًا من باريس.
قال: إذا كان ذلك فسآتيكم بطعام شهيٍّ؛ على أن تنقدوني ثمنه متى وردكم المال، فإني لا أرى منكم ما يدل على أنكم من أهل الشر، وأنا رجل فقير، قالوا: سنرد لك مالك مضاعفًا فاطمئن.
فذهب السجان، وعاد إليهم بعد حين باللحم والخمر والفاكهة والخبز الأبيض، فأكلوا وشربوا، ثم ناموا من فورهم لفرط ما لقوه من العناء.
أما باكيتا فقد وصلها التلغراف بعد ساعة من إرساله، فجزعت جزعًا شديدًا، وأسرعت إلى كوكليش مدير جوقها القديم، فقالت له والدموع تجول في عينيها: تأهب للسفر إلى أوكسر في قطار نصف الليل، فإن فيلكس مسجون هناك.