الفصل العشرون

لقد تركنا الثلاثة نائمين، وكان السيئ البخت بينهم نائمًا وهو يبتسم، فقد كان يحلم حلمًا يسره؛ ذلك أنه رأى نفسه في محترف جميل يتشوق إلى مثله كل حفار مبتدئ بهذا الفن الجميل، وقد وُضِعَت فيه الرسوم البديعة والتماثيل المتقنة، وازدحم الناس حول صاحب هذا المحترف ينظرون إليه نظرات الإعجاب والإجلال، وكلهم من أصحاب الوسامات، وكان هذا الحفار الذي يعجبون به واقفًا بينهم، فحانت منه التفاتة إلى المرآة، فرأى أن هذا الحفار إنما هو فيلكس نفسه الملقب بالسيئ البخت، ورأى في عروة ثوبه زرًّا أحمر يدل على أنه قد بات هو أيضًا من أصحاب الوسامات كهؤلاء المحدقين به.

ولم يكن هذا كل ما رآه في حلمه، فقد رأى أيضًا في إحدى زوايا القاعة صاحب الكلب الأسود — الذي تقدم ذكره في بدء هذه الرواية — وأمامه كلبه، وقد سقط ميتًا وهو ينظر إليه نظرات تشف عن اليأس، ثم إنه رأى أيضًا على مقعد بجانبه امرأتين تبتسمان وهما لا تنظران إلى التمثال الذي صنعه، واستحق به الوسام وإعجاب الناس، بل إلى طفل صغير كان يلعب أمامهما على البساط، وكانت إحدى هاتين المرأتين بيضاء الشعر، ولكن وجهها يدل على أنها لا تزال في عهد الشباب، فأحبها دون أن يعرفها، وحدثه قلبه أنها أمه، أما المرأة الثانية فقد عرفها لأول وهلة، فإنها كانت باكيتا، وكانت أم هذا الطفل ولكن من أبوه؟

وهنا استفاق فيلكس من رقاده لصوت كاستيليون قبل أن يعرف والد الطفل وقال: لقد نمت نومًا لذيذًا.

وقال شارنسون: وأنا صحوت خائفًا.

قال فيلكس: وأنا رأيت حلمًا جعلني من السعداء، ثم قص عليهم حلمه وختمه بقوله، ولكنها أضغاث أحلام وا أسفاه!

فقال شارنسون: أما أنا فإني أعتقد بصحة الأحلام، وإني أنبئك بذهاب نحسك بعد موت الكلب الأسود.

قال: لا شك أن النحس سيفارقني بقوة إرادتي، ولكن متى وفي أي حين، وعند ذلك دخل عليهم السجان، وقال لهم: أبشروا فقد جئتكم بخبر سارٍّ فإن سيدة حسناء جاءت من باريس وهي مهتمة في شأنكم، فصاح فيلكس صيحة سرور وقال: إنها باكيتا لا محالة، قال: لا أعرف اسمها فإنها أرادت في البدء أن تقابل قاضي التحقيق، فامتنع عن مقابلتها، فأرسلت بطاقة زيارتها إلى النائب العام، فاستقبلها بالترحاب والإكرام.

فقال كاستيليون: إن صاحبنا جائع، فهل تريد أن تأتيه بطعام؟ قال: بل أأتيكم جميعكم بكل ما تشتهونه، فقد ثبت لي الآن أنكم من كرام الناس.

ولنعد الآن إلى بول سالبري الذي أهملنا ذكره لاهتمامنا بسواه، فقد كان هذا الرجل كما عرفه القراء لا أدب له ولا ذمة، وكان قد انضم إلى فيلكس ورفيقه ووعدهما بمعاونتهما في مشروعهما لسببين؛ أحدهما الانتقام من البارون، والثاني الطمع بالكسب، فقد وعدوه بمبلغ جزيل إذا اعترف لدى المحكمة بما كان بينه وبين البارون.

ويذكر القرَّاء أنه حين حاول ميشيل تخدير الثلاثة بالخمر التي جاء بها من القصر خلا ببول فأعطاه ألف فرنك وقال له: اذهب ونَم، فإننا مسافرون عند الفجر وأنت محتاج إلى الرقاد.

ومثل هذا الشقي يبلغون منه ما يريد حين ينفحونه بمثل هذا المبلغ، فقبض المال وذهب إلى سريره دون أنْ يفوه بكلمة.

وكان الشراب قد تمكن منه فنام من فوره، وبعد ساعة؛ أي بعد أن زال الخُمار صحا من رقاده وقد سمع لغبًا، فوثب من سريره وأطلَّ من النافذة فرأى ميشيل يحمل الثلاثة إلى المركبة وهم كالأموات، فأسرع بالنزول ودنا من ميشيل فوضع يده على كتفه، فالتفت ورأى بول فقال له: أهذا أنت؟

قال: نعم، فماذا تصنع؟

قال: كما ترى فإني أتأهب للسفر، فهل تأتي معي؟

قال: إلى أين؟

أجاب: إلى مسافة ميل من هذه الخمَّارة حيث نوصِّل أصحابنا.

قال: لعلهم مسافرون؟

أجاب: نعم.

قال: إني أحب أنْ أقف على حقيقة هذا السر.

أجاب: إنَّ السر واضح فإن المياه قد تغيرت مجاريها.

قال: لم أفهم ما تقول.

أجاب: مع أن الأمر جلي لا إبهام فيه، فإن البارون كان يأبى بالأمس أن يعطيني مائة ألف فرنك.

قال: واليوم؟

أجاب: واليوم أعطاني إياها، وهذا هو كل السر.

قال: أيكون المال لك وحدك؟

أجاب: من تريد أنْ يكون شريكي فيه؟

قال: لا بُدَّ لنا من زيادة في الإيضاح؛ فإني لا أحب الغموض.

أجاب: ماذا تريد أنْ تعلم بعد؟

قال: إنك كنت تخدم بالأمس السيئ البخت.

أجاب: واليوم أخدم البارون؛ لأنه أعطاني ما طلبت.

قال: وأنا من تريد أن أخدم الآن؟

قال: كم وعد «السيئ البخت» أنْ يعطيك مقابل إقرارك.

أجاب: خمسون ألف فرنك.

قال: ولكنك لا تقبضها إلَّا بعد استيلائه على الإرث؟

أجاب: هو ذاك؟

قال: أتريد أنْ تقبض نصفها وتتخلى عن خدمته؟

قال: متى؟

قال: الآن.

أجاب: لقد رضيت. فأخرج ميشيل محفظته من جيبه، وهي مكتظة بالأوراق المالية، وأعطاه خمسة وعشرين ألف فرنك، ثم قال له: هلم بنا الآن فقد أصبحتَ من أعواني.

وقد عرف القرَّاء ما كان من السيئ البخت ورفاقه، أما الشقيان فقد انصرف كل منهما في شأنه، فعاد ميشيل إلى قصر البارون، وبحث بول في جيوب الثلاثة، فأخذ كل ما كان لديهم من المال، وسار في طريق أوكسر؛ كي يذهب منها إلى باريس حسب اتفاقه مع ميشيل.

ولكنه كان يعرج على كل خمارة يلقاها في طريقه، فلما وصل إلى أوكسر كان السكر قد أخذ كل مأخذ، فاضطر على أن يبيت في الفندق، وأن يسافر في اليوم التالي.

وفي صباح ذلك اليوم الذي قُبض فيه على الثلاثة، وسافر بول سالبري إلى أوكسر، صحا الناس المجاورون للخمارة على صياح صاحبتها.

وذلك أن هذه المنافقة — شريكة ميشيل في آثامه — هبَّت في ذلك الصباح، وجعلت تبكي وتُعْوِل وتستنجد بالناس، فأسرع الناس إلى نجدتها، وسألوها عن سبب عويلها فلم تجبهم بشيء، ولكنها سارت بهم إلى خزانتها، وأرتهم إياها فرأوا قُفْلها مكسورًا.

وكانوا جميعهم يعلمون أنها باعت منذ يومين أرضًا لها بتسعمائة فرنك، ثم علموا منها أنها أودعت المال في هذه الخزانة، وأنها أصبحت اليوم فإذا به مسروق، وقد اتهمت بالسرقة الثلاثة الذين كانوا عندها؛ أي فيلكس ورفيقيه، دون أن تشير إلى بول سالبري، فهاج أهل القرية، وساروا بجملتهم إلى قاضي التحقيق ينتصرون للمرأة، ويسألونه القبض على هؤلاء الثلاثة، فأصدر القاضي أمره بالقبض عليهم، وأرسل الجنود للبحث عنهم، فأدركوهم وساقوهم إلى السجن كما تقدَّم.

وفي اليوم التالي بينما كان النائب العام في غرفته وصلته بطاقة زيارة، كُتبَ عليها اسم باكيتا الممثلة الأولى في المرسح الإيطالي في باريس، فدُهش لهذه الزيارة، وأمر بإدخالها عليه في الحال، وقد دخلت يصحبها كوكليش، فحكت له شيئًا من حكاية السيئ البخت، واستطردت منها إلى الثناء على أخلاقه وأدبه، وأنه لا يمكن أن يكون من مرتكبي الجرائم.

فأجابها قائلًا: إن قاضي التحقيق لم يسمع أقواله بعد، حتى أقف منها على حقيقة أمره، ولكني واثق ثقتك من أنه بريء من هذه التهمة مع رفيقيه، غير أن الإفراج عنه الآن محال؛ لأن التحقيق لم يَبْتدئ بعد.

قالت: ولكن ألا يؤذن لي بأن أراهم؟

قال: هذا محال يا سيدتي أيضًا، فإني لم أستنطقهم بعد.

قالت: ومتى تريد سؤالهم؟

أجاب: الآن، إكرامًا لخاطرك.

قالت: إذن سترى يا سيدي أنهم بعيدون عن مواقف التهم، فحاول أن يجيبها، غير أنه سمع ضجيجًا شديدًا قرب غرفته، وسمع قائلًا يقول لحاجب غرفته: لا بد لي من مقابلة النائب العام فإني من رجال الأمن ويحق لي الدخول عليه حين أشاء.

فقام النائب وفتح الباب بيده، فوجد جنديًّا قابضًا على رجل، وكان ذلك الجندي هو الذي عهد إليه كاستيليون أن يرسل النبأ البرقي إلى باكيتا.

أما الجندي فإنه حين رأى النائب العام قال له: هذا هو السارق يا سيدي وهو سكران كما تراه.

ثم دفعه إلى وسط الغرفة فسأله النائب قائلًا: ماذا تُدعى أيها الرجل؟ قال: إني أدعى بول سالبري على ما أظن؛ لأني سكران، وإني لا أكذب مطلقًا في حال السكر، ولا أكتم أمرًا من أموري.

وقد كان يقول الحقيقة، فإنه حين ذهب إلى أوكسر وصل إليها سكران — كما تقدم ودخل الفندق — وهنا طلب أيضًا زجاجة من الخمر فزادته سكرًا على سكره.

وقد اتفق أن هذا الجندي كان ساعتئذ في تلك الخمارة، فدعاه بول إلى الجلوس معه، وانطلق لسانه بالكلام كعادة أغلب السكارى فأخبره بكل ما حدث فقبض عليه الجندي وجاء به إلى النائب العام كما بسطناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤