الفصل الخامس والعشرون
يوجد في مدينة باي في سويسرا فندق يُعرف باسم «فندق الملوك الثلاثة»، واشتهر أنه خير فنادق سويسرا، ولا سيما بردهته المتسعة التي كانت مياه الرين تنساب تحتها انسياب الأفاعي، وتظهر من يمينها الجبال المعممة بالثلوج البيضاء، ومن اليسار بُسط الخضرة الزمردية؛ ولذلك كان يكثر اختلاف الناس إليه، وكلهم من الأغنياء وأصحاب المقامات العالية.
ففي أواخر شهر يونيو سنة ١٨٦٠ كان بين زوار هذا الفندق رجل تدل نضارة وجهه على أنه لم يبلغ بعد حد الكهولة، ولكن بياض شعره، وانحناء قامته، وضعف همته، كل ذلك كان يدل على أنه بلغ مبالغ الشيوخ، وكان جميع المقيمين في هذا الفندق من الفرنسيين والإنكليز والألمانيين يهربون منه مذعورين حين يخرج من غرفته بعد الطعام، ويجلس بينهم في الردهة.
وكانت ملابس هذا الرجل تدل على أنه من النبلاء، وقد جاء في مركبة من مركبات البريد يصحبه خادمان، كانا يدعوانه بلقب البارون، وفي أصبعه خاتم من الماس يبلغ حجم فصه حجم البندقة الكبيرة، ولا يقل ثمنه عن مائتي ألف فرنك.
وهو في هذا الفندق منذ ثمانية أيام، لا يظهر لأحد في النهار، يقيم كل يومه في غرفته ويأكل فيها، حتى إذا أقبل الليل خرج إلى الردهة، يستنشق النسيم البليل. ومن عجيب أمره أن الناس كانوا يتشاءمون من وجوده، فإذا جاء بينهم أو ظهر لهم في الردهة انقطعوا عن الضحك، وتفرقوا كأنهم رأوا الشيطان الرجيم، وهو ينشغل عنهم بما فيه لا ينتبه إلى شيء مما يحدثه وجوده بينهم.
وقد قال عنه كونت من الإيطاليين حين رآه أول مرة: إن لهذا الرجل عينًا شريرة، فاتخذوا تعويذة للوقاية من عينه أو اهربوا؛ فذلك خير لكم، وبعد العَشاء ترك الفندق بعد أن قال: إنه ما زال هذا البارون يقيم فيه، فإن البلايا ستنقضُّ على رءوس المقيمين فيه، وكأنما الأقدار أرادت أن تصح نبوءة هذا الإيطالي، فإنه في اليوم التالي مات رجل من زوار الفندق فجأة حال خروجه من قاعة الطعام، وفي اليوم الذي تلاه اختصم سائح فرنسي مع ضابط نمساوي وهما في الردهة، فأدى خصامهما إلى مبارزة أدت إلى قتل النمساوي؛ فأخذ الأكثرون يميلون إلى تصديق نبوءة الإيطالي، وجعلوا يبرحون هذا الفندق إلى سواه.
أما صاحب الفندق فقد رأى أن وجود هذا البارون عنده سيكون السبب في خرابه، ولكنه لا حيلة له به، فليس في قوانين البلاد شريعة تسري على أصحاب العيون الشريرة، فصبر على مصيبته، وسأل البارون مرة كي يطمئن فقال له: هل في نية سيدي البارون أن يقيم طويلًا عندنا؟
فغضب البارون لسؤاله وقال له: سأقيم ما زلت مرتاحًا، وأنا مرتاح على ما أفتكر.
وبعد ذلك بيومين جاء إلى هذا الفندق زائر غريب، وسمع حديث الزائرين عن هذا البارون، فضحك وقال: إني أريد أن أوازن بين قوة عيني وقوة عينه.
فأحدقت الأبصار بهذا الزائر الجديد، ولم يكن قد انتبه إليه أحد من قبل، ودخل قاعة الطعام، فجعلوا ينظرون إليه نظرات تشفُّ عن الرعب، وقد اعترف من نفسه أنه من أصحاب العيون الشريرة؛ أي إنهم كانوا بواحد فأصبحوا باثنين …
كان هذا الرجل الذي دخل طويل القامة، براق العينين، يلبس الملابس السوداء وعليه دلائل العظمة، وكانت نظراته تشبه السهام النارية، وهو قليل الضحك، ولكنه ضحك الهازئ المتهكم. وكان حين دخل، دخل في إثره كلبه، وهو يستلفت الأنظار بسواده وبريق عينيه، فانزوى حين دخوله في زاوية الغرفة.
وقد دخلت بعد دخوله فتاة إنجليزية، فرعبت من بريق عينيه، ثم ما لبثت أن علمت أنه كلب حتى اطمأنت وهدأ روعها.
أما الحضور فإنهم بعد أن رعبوا من صاحب الكلب الأسود، جعلوا يحدقون في الكلب، وينظرون إلى صاحبه نظرات المستطلع الفاحص، فقال لهم وهو يبتسم: أحق أن هذا البارون بلغ بعينيه الشريرة هذا الحد؟
فأجابه أحد الفرنساويين قائلًا: هذا الذي يروونه عنه، أما أنا فلا أصدق شيئًا مما يقولونه عن تأثير العين.
قال: ولكنك مخطئ، ثم حدجه ببصره، فارتعش الفرنساوي، وحبس لسانه عن الكلام.
وكان أحد الإنكليز حاضرًا، فخطر له أن يقاوم نظرات صاحب الكلب الأسود، وبعد هنيهة صاح قائلًا: لعل عينك شريرة أيضًا؟
فأجابه بملء السكينة قائلًا: نعم! وعند ذلك ابتعد عنه الذين كانوا يجاورونه على المائدة مسرعين، فقال لهم وهو يبتسم: لقد أخطأتم بخوفكم مني، فإن نظراتي لا تصيب الناس بالسوء إلا حين أريد أن أسيء إليهم، فاطمئنوا ولا تخافوا، فإني حسن النية، ولا أريد أن أسيء إليكم في شيء.
فاطمأن الحاضرون بعض الاطمئنان، وعاد إلى الحديث فقال: إن لي نظرات ممغنطة ولها قوة خفية عجيبة أبلغ بها ما أشاء، وأنوِّم من أشاء، فإذا كان هذا البارون يسيء إليكم بوجوده بينكم فإني أنقذكم منه.
قالوا: ولكن كيف؟
أجاب: بنظرة.
وقد عاد إلى الفرنساوي زهوه وذكاؤه بعد اطمئنانه، فقال له وهو يضحك: إنك تنقذنا منه، وبعد ذلك؟!
فضحك صاحب الكلب الأسود أيضًا، وقال: تريد أن تقول ومن ينقذكم مني بعد ذلك؟! أجاب: هو ذاك.
– أنا أنقذكم من نفسي، فإني مسافر بعد غدٍ صباحًا.
– ومن الآن إلى هذا العهد؟
– أخلصكم من صاحبكم، فأين يمكن أن أراه.
– في الردهة عند المساء.
– حسنًا! فاعتمدوا عليَّ. ولم يَفُهْ بعد ذلك بكلمة، وأتم طعامه بملء الشهوة، ثم خرج من القاعة يتبعه كلبه.
وقد أراد الإنكليزي أن يداعب الكلب من قبيل المجاملة والتودد لصاحبه، ولكنه لم يكد يضع يده على فروته حتى جذبها، وقد اهتز وانتفض، كأنه قد أصيب بهزة من تيار كهربائي، أو كأن يده قد لمست النار.
وتوالت الساعات بعد طعام الغداء، وذهب جميع المقيمين في الفندق إلى الردهة، وبلغت الساعة الثامنة من المساء دون أن يحضر صاحب الكلب الأسود، وعند ذلك نهضت الفتاة الإنكليزية التي كانت قد ذُعرت من الكلب، ومشت بضع خطوات في الردهة، فتعثرت بذيل ثوبها، وسقطت على الأرض سقوطًا لم تكن تتوقعه ولا يتوقعه أحد، فعاود الناس الرعب، وانقطعوا عن الأحاديث، وقد بلغ الخوف منهم أشد مبالغه، ولم يعلموا أكان سقوط الفتاة من عين البارون، أم من عين هذا الزائر الجديد.
ثم ظهر لهم أن صاحب الكلب الأسود كان يختار قاعة الطعام، حين نهوض الفتاة، فأيقنوا حين دخل إلى الردهة أن هذا السقوط إنما كان منه لا من البارون. أما صاحب الكلب الأسود فإنه دخل غير مكترث لما رآه من رعبهم، ومشى إلى منضدة، فنادى الخادم وسأله أن يأتيه بزجاجة من البيرا وبسيكار هافاني، فجعل يشرب ويدخن.
وعند ذلك دخل البارون يصحبه أحد خدمه، فجلس أيضًا في تلك الردهة، وهو يبتسم ابتسامًا يشف عن الكبرياء؛ إذ كان يعتقد أن جميع الحضور سيهربون حين دخوله كعادتهم، ولكنهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل لبثوا في مجالسهم كأنهم باتوا واثقين من أن صاحب الكلب أسود سوف يحميهم من عينه الشريرة.
وكان صاحب الكلب الأسود ينظر إلى الحضور دون أن يلتفت إلى البارون، فلما استقر به المقام نهض صاحب الكلب من مجلسه، ودنا منه وسيكاره في يده، فقال له: أتأذن لي أيها البارون أن أشعل سيكاري من سيكارك؟ فانتفض البارون كأن قوة كهربية قد هزته، وصاح صيحة رعب، ثم تراجع منذعرًا، فإن نظراته التقت بنظراته، فانتفض هذا الانتفاض، وأصيب بهذا الرعب الذي لا يوصف.
في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي كثر اللجب في فندق الملوك الثلاثة، فقد كان خادما البارون يذهبان ويجيئان، وهما تارة يجيئان عن مركبة الأومنيبوس وتارة يطلبان بيان الحساب، وعلى الجملة فقد كان كل ما يفعلانه يدل على تأهبهما للرحيل، وقد جلس كل زائر من المقيمين في الفندق في نافذة غرفته، وأقام ينتظر رحيل البارون بذاهب الصبر، إلى أن أتت مركبة الأومنيبوس، وحملت صناديق البارون إليها، فكان أشد الناس سرورًا بهذا الرحيل صاحب الفندق.
ثم ظهر البارون مستندًا إلى كتف أحد خادميه، وهو منحني القامة، وقد تدلت شفته السفلى من الضعف وخمد نور عينيه، فكان من رآه يحسب أنه بلغ مائة عام من العمر، وهو لم يتجاوز الأربعين بعد، ولكن الهم والخوف صيراه إلى هذه الحال.
وقد صعد إلى المركبة وقال لسائقها: أسرع بالابتعاد عن هذا الفندق، فإن كل ما فيه مجلبة للشر، وكان الكلب الأسود واقفًا هناك كأنه كان ينتظر مرور المركبة، فلما مرت به نبح مرتين بشكل يختلف عن نباح الكلاب المعروف، فأجفلت الجياد وجمحت.
وكان صاحبه واقفًا في ردهة الفندق، وبجانبه ذلك الفرنسي الذي أنكر تأثير العين، فقال له: هل صرت تؤمن بتأثير العين؟
فأجابه بصوت يضطرب قائلًا: شهد الله أنني أول من آمن!
قال: أحق ما تقول؟
أجاب: دون شك، وإن من ينكر قدرتك يكون من المجانين.
– لقد صدقت.
– ولكني لم أطمئن بعد كل الاطمئنان.
– لماذا؟
– لأني لا أزال خائفًا منك، وقد تكون حللت محل البارون، فنكون قد استبدلنا شرًّا بشرٍّ، فابتسم وقال له: ولكني قلت لك: إني لا أسيئ إلا حين أريد.
قال: أي إنك لا تسيء إلا إلى الذين تكرههم.
أجاب: هو ذاك.
– إذن أرجو ألَّا أكون من المغضوب عليهم في عرفك؟
– لماذا تريد أن أغضب عليك، وأنت من أهل الظرف والكياسة كما أرى.
قال: وزوار هذا الفندق ألا تكره أحدًا منهم؟
أجاب: على الإطلاق.
قال: ولكني كنت أود أن يكون أمرنا معك على خلاف ذلك.
قال: لعلك كنت تود أن أسافر؟
– هو ذاك.
– طب نفسًا، فإني سأسافر بعد الظهر في القطار الذاهب إلى لوسرن.
– أأنت ذاهب إلى لوسرن؟
أجاب: وبعد ذلك إلى ريت.
قال: إني أدعو لك بالسلامة، ولكن بقي لي سؤال، أتأذن لي أن أسألك إياه.
أجاب: سَلْ ما تشاء.
قال: لقد رأيت منك أنك أكرهتَ البارون على السفر بنظرة واحدة نظرتها إليه، فهل انتهى ضرره عند هذا الحد؟
أجاب: كلَّا!
قال: لعله يصاب بعد ذلك بمصاب؟
أجاب: دون شك، فهو سيموت موتًا عجيبًا.
وكان بعض الناس قد دنوا منهما، وسمعوا الحديث، وكان بينهم السائح الإنكليزي، فقال لصاحب الكلب الأسود: إني لو عرفت ذلك من قبل لتبعت البارون، فابتسم وقال له: إنك تستطيع اللحاق به أيها اللورد، فإنه سيكون بعد ثمانية أيام عند «معبد الدين»، فإذا أردت أن تدركه فلك ذلك، ولكني أحذرك من أمر لا بد أن تحذر منه؛ هو ألَّا تدعه ينظر إليك حين موته.
قال: وإذا نظر إليَّ ماذا يكون؟
أجاب: يكون أنك تموت أيضًا في العام نفسه.
قال: لا أبالي بالموت فقد كنت عازمًا على الانتحار في هذا العام؛ لأني مللت الحياة.
وعند ذلك وقفت مركبة سفر عند باب الفندق، وخرج منها رجلان وامرأة، وكانت المرأة بارعة الجمال غير أن وجهها كان يدل على الهم والقلق، وهي لا تفتأ تنظر إلى أحد الرجلين نظرات إشفاق، فإنه كان يمشي مشيًا بطيئًا يدل على ضعفه، وعلى أنه ناقه من مرض.
أما هؤلاء الثلاثة المسافرون فقد كانوا باكيتا والأمير الروسي وفيلكس الذي حطم تمثاله؛ لأنه لا يريد أن يموت.
وقد عرفهم صاحب الكلب الأسود، وأسرع إلى الاختباء كي لا يروه.