الفصل السابع والعشرون
مما يزيد في جمال سويسرا، ويجعلها من أبدع بلاد المعمور، تلك البحيرة العظيمة التي طالما هاجت قرائح الشعراء، والتي يعدها أهل سويسرا أرض الموعد وجنة عدن.
وكانت باخرة فاخرة تسير في تلك البحيرة، وقد ظهرت على يمينها جبال «أريت» التي كانت تشبه — بالثلوج المتراكمة على قممها — رأس شيخ معمم بالبياض، وإلى يسارها القصور الفخمة والرياض الغَنَّاء، وقد صفا لون السماء، كأنها امتزجت بمياه البحيرة الساكنة الزرقاء.
وكان جميع المسافرين والمتنزهين واقفين على ظهر تلك السفينة يمتعون أنظارهم بجمال الطبيعة، ويتحدثون فرحين بما كان يتجلَّى لهم من هذه المناظر البديعة التي تسحر العقول، وبينهم ثلاثة رجال هم فيلكس وصاحباه، قد أحدقوا بامرأة حسناء هي باكيتا.
وكانت علائم السرور بادية على جميع الوجوه ما خلا شارنسون، فقد كان منقبض الصدر كئيب السَّحْنة؛ لأنه كان علل النفس بالثروة، فإذا بهذا الرجاء حُلم استفاق منه، فوجده أضغاث أحلام، وألفى نفسه أكثر إفلاسًا مما كان عندما حاول الربح من وراء المائدة الخضراء.
أما فيلكس فقد كان يستنشق نسيم الصباح بملء رئتيه، ويبتسم لامرأته، ويضغط على يد صديقه الأمير الروسي الكريم، كأنه يشير بهذا الضغط إلى أنه بات من أسعد الناس.
وقد سمع البرنس من يقول لباكيتا: أظن أنه شُفِيَ.
فابتسم فيلكس وقال: نعم، لقد شُفيت لأني أردت، ومن أراد فقد قدر.
وفيما كانت الباخرة تسير رأت باكيتا على الضفة اليسرى منزلًا أنيقًا، فقالت: انظروا، ما أجمل هذا المنزل!
فنظر البرنس وفيلكس إلى المكان الذي أشارت إليه، فرأيا منزلًا جميلًا تحيط به الأشجار الباسقة، وتتكسر أمواج البحيرة الزرقاء على جوانبه، وتنهدت باكيتا وقالت: كم كنت أود أن أعيش هنا ولو شهرين.
فقال البرنس: أتريدين أن تشتري هذا المنزل؟ وكان واقفًا وراءه رجل من أهل سويسرا، سمع قول البرنس الأخير فقال له: لقد فات الأوان يا سيدي، فإن هذا المنزل قد اشتراه منذ ثلاثة أيام شيخ يظنون أنه فرنسي ولا يصحبه غير خادمين، ولكنه مريض جدًّا، والظاهر أنه على وشك الموت.
قال: كيف عرفت ذلك؟
وبينما الباخرة تسير إذ وقفت فجأةً، فإن قاربًا خرج من الشاطئ، وسار إليها وهو يلوِّح براية، وكان في هذا القارب اثنان أحدهما راكب والآخر بحار، وقد خطر لباكيتا خاطر حين وقوف السفينة، فسألت السويسري قائلة: هل يوجد بين البيوت الصغيرة التي نراها في هذه القرية بيوتًا معدة للتأجير؟
قال: نعم يا سيدتي.
فقالت لرفاقها: أتريدون أن ننتهز فرصة قدوم هذا القارب إلينا، فنسير فيه إلى هذه القرية؟ فقال البرنس: أتريدين أن ننتظر فيها وفاة صاحب المنزل الذي أُعْجَبْتِ به.
أجابت: كلَّا، ولكن هذه البراري أعجبتني، وأظن أن فيلكس يرغب في تمضية بعض الوقت هنا، ولست أعلم لماذا؟ فقال لها فيلكس: ألا تعلمين السبب؟
أجابت: كلَّا.
– إنه واعدني على اللقاء هنا.
– من ذا الذي واعدك؟
– صاحب الكلب الأسود. فجمد الدم في عروق باكيتا من الرعب وحسبت أن الجنون قد عاد إليه، غير أن فيلكس قال لها بملء السكينة: لا تجزعي فإنكم لا ترونه، أما أنا فإني أراه ماثلًا أمامي.
قالت: من هو؟
– صاحب الكلب الأسود. وقد دل بأصبعه على صاحب الكلب الذي كان يراه حقيقة، ولكنه لم يكن يراه هذه المرة كما تعود أن يراه من قبل، إذ تمثل له واقفًا على سطح ذلك المنزل الجميل الذي رأته باكيتا، وقد تعاظم فبلغ أربعة أضعاف حجمه العادي، حتى بان كأنه تمثال «غليوم تِلْ» المشرف على مصب الرين، وكذلك كلبه فقد كان نائمًا عند قدميه، وقد كبر حجمه على نسبة كبر حجم سيده، وبسط يده إلى فيلكس، كأنه يقول له: احضر لأخدمك الخدمة التي وعدتك بها.
•••
وانقضى فصل الصيف، وعاد السياح إلى بلادهم، وتراكمت الثلوج على القمم، واربدَّ وجه السماء بعد ذلك الصفاء، فلم تعد تسمع بعد حفيف الأشجار غير هزيم الرعود وبكاء الأمطار، وقد خلت الفنادق من الزائرين وأقفلت أبوابها، وأخذ الجبليون يتأهبون للقاء عدوهم الهائل وهو الشتاء.
ومع ذلك فقد بقي في قرية «فنتري» بعض الغرباء وهم البرنس ورفاقه.
وكانت باكيتا قد نزلت من الباخرة إلى القارب مع رفاقها، فأوصلهم إلى البر، وذهبوا إلى تلك القرية التي شاق منظرها باكيتا، فاستأجروا منزلًا فيها، وهم لا يزالون هناك منذ ثلاثة أشهر، فكانوا يقيمون بجوار ذلك المنزل الجميل الذي لم يكن يخرج صاحبه المريض منه، فيعلمون من هو. وقد جاء زمن البرد القارص، ومع ذلك فلم يُظهِر فيلكس رغبته في العودة إلى باريس، وأشار البرنس وباكيتا مرتين بالعودة، فكان يجيبهما أنه يريد البقاء هنا، فلم يلحَّا عليه؛ لأنهما كانا يريانه يثوب إلى العافية، ولم يعد يذكر الكلب الأسود ولا صاحبه، فلم يجدا بُدًّا من الامتثال لرغبته. إلى أن اتفق ليلة أن شارنسون عاد إلى ذكر العودة إلى باريس، فقد كان ذلك اليوم مظلمًا، لم يبصروا فيه نور الشمس، وكانت السماء غائمة منذ الصباح، ولكن فيلكس امتنع عن الموافقة، فقال له شارنسون: ما هذا الجنون؟! فقد أصبحنا أسرى في هذا المنزل.
– ذلك سيان عندي.
– ولكن لماذا هذا العناد؟
– لأن عدوي أصبح صديقي، وهو لا يريد أن أسافر. فصاحوا جميعهم قائلين: ماذا تقول؟ وأي عدو تعني؟
– صاحب الكلب الأسود. فأطرقت امرأته برأسها حزينة، إذ أيقنت أنه لا يزال عنده شيء من الجنون.
فأدرك فيلكس ما جال في خاطرها، وقال لها وهو يبتسم: كلا لست مجنونًا، ولكني أعتقد بصاحب الكلب الأسود؛ لأني أراه في كل يوم. وانظروا إلى هذه النافذة فإننا نرى منها المنزل المقيم فيه ذلك الرجل الفرنسي الذي لا يعرف أحد اسمه، ففي كل مرة أنوي السفر كنت أرى من هذه النافذة صاحب الكلب واقفًا على سطح المنزل يشير إليَّ بالبقاء، فأبقى.
قالوا: ولكنك تعلم يقينًا أنه رسول الشر.
أجاب: إن شره لا يصيبني أنا الآن، بل يصيب صاحب هذا المنزل.
قالوا: وأية فائدة لك من ذلك؟
أجاب: هذا أمر لا أستطيع أن أبوح به، ثم انقطع عن الحديث.
وفيما هم على ذلك سمعوا دويًّا هائلًا لا يقاس به دوي الرعود القاصفة، فتكسر زجاج النوافذ، واهتز المنزل اهتزازًا عنيفًا، وتشوه وجه البحيرة بالزبد، وأخذت أجراس الكنائس تدق، فجزعوا جزعًا شديدًا، ما خلا فيلكس فإنه ابتسم ابتسام المطمئن، وقال: لقد وفى صاحب الكلب الأسود بما وعد.
أما هذا الدوي فقد كان سببه أن قطعة عظيمة من الثلج انهارت من قمة الجبل، فكسرت ما كان في طريقها من أشجار الغابة، وهبطت على المنازل فدمرتها.