الفصل الثامن والعشرون
في تلك الليلة قبل انهيار جبل الثلج بقليل، كان رجلان يتحدثان في ذلك المنزل الذي يقيم فيه الرجل المريض، والذي كان يظهر صاحب الكلب الأسود فوق سطحه.
أما هذان الرجلان فقد كانا ميشيل خادم البارون دي نيفيل وبول سالبري، وأما الرجل المريض فقد كان البارون دي نيفيل نفسه، ذلك الرجل صاحب العين الشريرة الذي ألقى الرعب في قلوب المقيمين في فندق الملوك الثلاثة، ولم يكن مرضه إلا من تقريع ضميره؛ لذلك الجرم الذي ارتكبه ولشدة خوفه من الموت.
فكان ملازمًا الفراش منذ شهرين، وقد خلا طبيبه الذي كان يعوده كل يوم بخادمه ميشيل في ذلك الصباح، وقال له: إذا كان لسيدك أهل في فرنسا، فيجب أن تكتب إليهم؛ كي يحضروا إليه، فإنه لا يتم هذا الشهر.
وبعد ذهاب الطبيب أصيب البارون بذهول شديد، ذهب بصوابه وأعقبه هذيان، فكانت تتراءى له أشباح مختلفة، ويردد ذكر اليوم الأخير، وعقاب الله الرهيب.
وقد كان ميشيل وبول سالبري يتحدثان في غرفة مجاورة لغرفة المريض، فقال بول: هل أنت واثق مما تقوله لي؟
– كل الثقة.
– ألم يكتب البارون وصيته؟
– كلا، ولمن يوصي بثروته وهو لا أهل له؟
– يوصي بها لي ولك.
– هذا الذي أرتئيه، ولكنه لم يكتب وصيته بعد.
– ولكنك تعلم مع ذلك ما قاله لنا الطبيب.
– دون شك.
– إذن إن الوقت غير متسع.
– بل لدينا نحو شهر.
– إن الإسراع محمود في هذا الموقف.
– هو ذاك، ولكننا سنظفر بالمال على أي حال، فإني أعرف أين وضع محفظته، وكل ما فيها أوراق مالية تبلغ قيمتها نحو نصف مليون فرنك.
– والعقارات لمن تكون؟
– ستكون لك، إنما لا أحب أن ألح عليه بكتابة وصيته.
– لماذا؟
– ألم تعلم أنه يوجد في هذه القرية قوم من الباريسيين؟
– نعم.
– أتعلم من هم؟
– كلا.
– إذن، فاعلم أن واحدًا منهم يدعى فيلكس، وهو صاحبنا الملقب «بأبي النحوس»، فذُعر بول وقال: ابن البارون؟ أهذا ممكن؟
– هذه هي الحقيقة.
– لقد كانت تمر ساعات بالبارون يشتد عنده تقريع الضمير، فيظهر ميله إلى إرجاع الثروة إلى ابن أخيه.
– كلا، فإن هذا لن يكون!
– وقد اتفق لي أني رأيت فيلكس وأصحابه يمرون بالقرب من هنا.
– إنك ترعبني بهذه الأقوال.
– ولكن فصل الشتاء قد هجم، وسيعودون إلى باريس.
– لا يهدأ لي بال إلا بعد سفرهم.
وهنا سمعا صوت البارون يصيح وينادي: ميشيل! فأسرع ميشيل إليه، فسأله البارون قائلًا: ماذا قال لك الطبيب في هذا الصباح؟
– ولكن … يا سيدي …
– قُل ماذا قال ولا تُخْفِ عني شيئًا، فإني أريد أن أعرف كل شيء بالتمام. فسكت ميشيل، وقال البارون: لقد قال إني على وشك الموت، أليس كذلك؟
فأطرق ميشيل برأسه ولم يجِب، فقال البارون: إني مستسلم إلى الأقدار، ولكني أريد أن أكتب وصيتي … أريد أن أرجع إلى ابن أخي وأمه المال الذي سرقته منهما. فارتعش ميشيل، ودخل عند ذلك بول فطمأنه بنظرة مفادها: اطمئن، فلا يزال في الوقت متسعًا لإخفاء هذه الوصية.
ولكن ساءَ فأله، فإن قطعة الثلج الهائلة قد انفصلت في تلك اللحظة عن قمة الجبل، وسقطت على المنزل فدمرته.
•••
وعندما أشرق الصباح، وأخذ الناس يرفعون أنقاض المنزل، وفي طليعتهم فيلكس وشارنسون والأمير الروسي، وجدوا بين أنقاض ذلك المنزل الخشبي جثتين ورجلًا لا يزال على قيد الحياة، فإن جسرًا من الخشب سقط عليه فكسر ذراعه وساقه، فكان من عجائب الاتفاق أن الرجلين السليمين وهما ميشيل وبول قُتلا، والرجل المحتضر وهو البارون سلم من الموت، وكان أول من أخرجه من بين الأنقاض فيلكس، فلما رآه البارون عرفه من فوره، وقال له: سأرد إليك مالك، فلا يزال أمامي بضع ساعات أعيشها لعمل ما يجب عمله، والحمد لله!
•••
في ليلة من ليالي الشتاء — وقد مضى على الحادثة المتقدمة عامان — وقفت مركبة فخمة عند باب قصر جميل في شارع فتراندري، وخرج منها رجل وامرأة بملابس الحفلات الراقصة، وهما الكونت والكونتيس دي نيفيل؛ ذلك أن الكونت فيلكس دي نيفيل الذي كان يلقب من قبل «بأبي النحوس» كان قد تمكن بواسطة عمه البارون الذي كان موشكًا على الموت، وصديقه الأمير الروسي، وأمه، وكاهن قرية سانت مرتين من إثبات حقيقة مولده بحكم أصدرته المحكمة، وكان البارون قد رد إليه أموال أبيه، وأوصى له بكل ماله الخاص، ومات بعد أن غفر له فيلكس كل إساءته الماضية.
وكان فيلكس قد قضى هذين العامين دائبًا في التصوير، وصنع تمثاله القديم أبدع صنع، فأنعمت عليه الحكومة بوسام، قلده إياه وزير المعارف بيده في حفلة حافلة.
وكانت أمه لا تزال في قيد الحياة، وقد عاد إليها شبابها بعد أن عاد إليها ولدها، ففي تلك الليلة عاد فيلكس مع امرأته باكيتا من أحد المراقص بعد انتصاف الليل، وكانت باكيتا قد اعتزلت المراسح، ولم يعودوا يدعونها إلا بالكونتيس، فلما عادا إلى المنزل وجدا الكونتيس — والدة فيلكس — لا تزال ساهرة وهي تداعب ولدهما، فقد كاد يبلغ عامًا من العمر، وهو يشبه والده أتم الشبه كما يشبه فيلكس أباه.
وقد لقي فيلكس من هناء العيش ما لقيته أمه وامرأته وجميع أصدقائه، فإنه بعد استيلائه على ثروة أبيه أنعم على كوكليش صاحب المرسح القديم بمبلغ جزيل، فعاش من ريعه إلى آخر العمر. وعيَّن رأسمال كبيرًا لشارنسون، فاشتغل بالتجارة، وفاز فوزًا باهرًا حتى كاد يصبح من كبار الأغنياء، وأعان باستيليون فاشترى مكتب رئيسه المحامي.
أما الأمير الروسي فإنه تزوج أميرة من أميرات موسكو، وكان في كل عام يزور فيلكس، فيقيم معه ردحًا من الزمن.
وقد زالت هواجس فيلكس، ولم يكن يلذ له غير التصوير الذي يقضي فيه عدة ساعات كل يوم.
فبينما هو ذات يوم يشتغل في معمله إذ رأى ضبابًا كثيفًا قد تلبد في المعمل، ثم رأى في وسط ذلك الضباب رجلًا جالسًا على كرسي وبين رجليه كلب، فرجع خطوة منذعرًا إذ علم أنه صاحب الكلب الأسود، ولكنه لم يلبث أن سكن روعه عندما رآه يبتسم، فقال له: أهذا أنت؟ فإني لم أَرَكَ من زمن بعيد.
قال: ألم أقل لك إني سأراك لأخبرك مَن أنا قبلما أفارقك الفراق الأبدي؟ فاعلم الآن أني لست من الإنس ولا من الجن، بل إني روح الفأل والشؤم، لا يراني غير من أحِلُّ فيه، ولا أحِلُّ إلا في العقول الكبيرة الناضجة، فقل لمن لا يعتقد بالنحوس والسعود أنه ليس من أصحاب العقول، وهذا آخر العهد بيني وبينك، وعليك سلام الله!
وعند ذلك انقشع الضباب، واختفى الشبح، فنظر فيلكس إلى ما حواليه، فرأى لوحة كُتِبَ عليها بحروف كبيرة المبدأ الذي تغلَّب به على النحس ألا وهو «قوة الإرادة».
وعاش فيلكس مع امرأته وولده أهنأ عيش، وظل أصحابه يداعبونه ويذكِّرونه بلقبه القديم «أبو النحوس» إلى أن فكر في اختيار لقب جديد هو «أبو السعود».