الفصل الخامس
كان هذا الرجل — ولا شك — من الذين ألفوا الدخول في هذا المنزل، وإلا لما تمكن من الوصول إلى هذه الغرفة لكثرة الخدم ولانتشار الكلاب في الحديقة، وكان قد دخل من الحديقة إلى الردهة الكبرى، وصعد السُّلَّم، فانتهى منه إلى قاعة المائدة التي كانت تتألق فيها الأنوار في أول الليل، فوقف عند عتبتها مترددًا، وقد جمد الدم في عروقه وأصيب بدوار.
غير أن هذا الدوار لم يطُل، فمشى إلى قصده وهو يقول في نفسه: إن لهم من ثروتهم عزاء!
وكان قد ستر تحت وشاحه جسمًا لم يظهر للعيون، وجعل يدخل من قاعة إلى قاعة كأنه من أهل المنزل.
حتى إذا وصل الغرفة التي كان فيها الغلام وأمه عاد إلى ما كان عليه من التردد، ثم مشى خطوة وأردفها بأخرى إلى أن انتهى إلى مهد الطفل، وهناك رأى الأم نائمة في سريرها، وقد برزت يدها من تحت الدثار، وامتدت إلى جهة طفلها كأنها تريد أن تحرسه وهي نائمة.
وعند ذلك أخرج الرجل هذا الجسم الذي كان تحت وشاحه، فإذا به جسم طفل ميت، وقد حمله فوضعه في مهد الطفل الحي، وأخرج الحي من مهده بملء الرفق، فلم يستيقظ من رقاده، وخرج به من تلك الغرفة، فسار في الطريق التي جاء منها حتى وصل الحديقة، وكان الليل مشتد الحلك، غير أن الفجر قد بدأ ينبثق كأنه يراقب ذلك اللص ويقول له: اتقِّ الله في سرقة الطفل!
وفيما هو يسير رأى عينين تبرقان، فوجف قلبه من الرعب، وحدَّق إلى العينين، فعلم أنهما عينا الكلب الأسود؛ كلب ذلك الرجل الغريب الذي حسبوه ساحرًا في القصر.
عند ذلك خاف وخطر له أن يرجع الطفل إلى أمه، لكن الكلب ابتعد عنه وتوارى عن نظره، فتشجع واستمر في سيره وهو يضم الطفل إلى صدره ويقول في نفسه: مهما يكن من الأمر، فإني أنقذ امرأتي من الموت؛ لأنها إذا علمت بموت ولدها تموت لا محالة.
ومشى في الحديقة حتى قرب من منزله، وهناك جمد في مكانه من الرعب؛ إذ رأى رجلًا جالسًا على حجر، وكان هذا الرجل صاحب الكلب الأسود الذي دخل بيته في أول الليل وسقاه …
وكان ينظر إليه نظرات لا تشبه في شيء نظرات البشر، فهلع قلبُ حنَّا من الخوف، واستعاذ بالله وقد أطبق عينيه، فلما فتحهما لم يجد الرجل ولا كلبه، ودخل إلى بيته، فوضع ابن سيده الكونت في مكان ولده الميت …
وفي صباح اليوم التالي صحا الطفل وهو يبكي، فحمله حنا إلى امرأته، فأرضعته وهي تحسبه ابنها، وشكرت الله والعذراء وغيرهما لشفائه من مرضه، ثم أخذت تداعبه وتلاعبه، وقد حانت منها التفاتة إلى زوجها، فرأته جالسًا في زاوية الغرفة يبكي، فاضطربت وقالت له: ما هذا البكاء يا حنا؟
قال: إننا نفرح وأسيادنا يبكون.
قالت: ماذا تعني؟!
أجاب: إن ابن الكونت مات في هذه الليلة.
ثم وضع رأسه بين يديه، وجعل يبكي ويقول في نفسه: ويح لنفسي مما جنيت! ويا ويلتاه! فسيعاقبني الله أشد عقاب!