الفصل السادس
كان الاجتماع في قاعة فَخْمة في باريس عند مغنية نالت شهرة عظيمة في عهد قريب، بل إنها نالتها فجأة، فدُهشَ الباريسيون لأمرها، ولم يعلموا من أين جاءتهم، كأنها هبطت إليهم من السماء، فكان بعضهم يقولون إنها إيطالية، ويؤكد آخرون أنها إسبانية، والحقيقة أنه لم يكن يعلم حقيقة أمرها أحد …
وكانت هذه الفتاة قد أعدت في منزلها حفلة راقصة، وانتهت الحفلة، وتفرق المدعوون، فلم يبقَ منهم غير الأخصَّاء، وكانت هذه الممثلة — واسمها باكيتا — تحادثهم، فكان آخر خطابها قولها: «هذه هي حالتي أيتها السيدات والسادة، فقد كنت بهلوانة، أرقص على الحبل براتب لا يتجاوز فرنكين في اليوم قبل أن صِرتُ مغنية في المراسح، وراتبي مائة ألف فرنك في العام!»
فصاح الرجال قائلين: هذا محال … وقال النساء: إذن كم يبلغ عمرك؟
أجابت: خمسة وعشرين عامًا، فقد بدأت بالرقص على الحبل، والغناء عند أبواب الحانات في التاسعة من عمري، إلى أن أتيح لي أن أتعلم فن الغناء على قواعده، فبلغت هذا المبلغ.
وكان بين الحضور رجل من الصحافيين فقال لها: لقد أصبح الناس عندنا يترنمون باسمك يا «باكيتا المقدسة»، ولو عملت برأيي، ونشرت مذكراتك تباعًا في جريدتي …
فقاطعته الفتاة بابتسامة تشفُّ عن السُّوَيْداء وقالت: أية فائدة من نشر مذكراتي، وحوادثي لا تختلف كثيرًا عن حوادث سواد الناس المألوفة؟! فقد شَقِيتُ، وَأَحْبَبْتُ، وَجُعْتُ وَبَرَدْتُ، وَرَجَوْتُ وَيَئِسْتُ، وَفَرِحْتُ وَحَزِنْتُ، وليس في كل ذلك ما يثير لجدته، ولكن إذا شئتم ذكرت لكم مقدمة عن أيام حداثتي … فهتف الصحافي لها، وأخرج من جيبه دفتر مذكراته؛ كي يكتب ما يروقه من حوادثها.
وقد التفَّ الناس حولها شبه دائرة، ولم يخرج عن هذه الدائرة غير فتًى في مقتبل الشباب يُدعى چوفر، كان منزويًا في القاعة يسمع الحديث ولا يشترك مع المتحدثين.
أما باكيتا فإنها قالت لهم: إني سأبدأ حديثي، فأروي لكم حكاية فتى يُلقَّب بالسيئ البخت. فقال الصحافي: من هو هذا الفتى يا سيدتي؟ قالت: سوف تعلم، فاسمع!
لقد تقدم لي القول أني كنت أشتغل بهلوانة في أحد الأجواق المتنقلة، وقد سافرت مرة مع هذا الجوق إلى الرين، ولم يكن لي من العمر غير اثنتي عشرة سنة، فكنا إذا أعيانا التعب جلسنا للاستراحة في الحقول التي كنا نمر بها، فتشتغل امرأة صاحب الجوق بإعداد الطعام، ويربط زوجها حبلًا بين شجرتين، فيمرنني على الرقص عليه، وكان هذا الرجل كريم الأخلاق، وجدني طفلة فرباني، وعلمني صناعته حتى أصبحت عماد جوقه، وكان يُدعى كوكليش، فكان يدعوني ابنته وأنا أدعوه أبي، وكذلك امرأته؛ فقد كانت تحسن إليَّ كثيرًا.
وقد غابت الشمس يومًا ونحن في الطريق، فلقينا غلامًا صغيرًا عائدًا إلى القرية من الحقول فاستوقفناه، وسألناه إذا كانت القرية لا تزال بعيدة، فقال: إنها تبعد مرحلة أيضًا — فرْكَة كعب — وذلك يعني عشر مراحل في اصطلاح القرويين. قلنا: ألا يوجد منزل قريب أو مزرعة قبل القرية؟ قال: نعم، فإن منزل أبي يبعد ربع ساعة، وهو وراء هذه القمة.
فابتسمتُ له وسألته قائلة: هل لك أن تذهب بنا إلى منزل أبيك؟ فظهرت عليه علائم الخوف الشديد وقال: كلَّا!
فوضعتُ يدي على رأسه وعبثتُ بشعره وقلت: لماذا؟
قال: لأنه يضربك إذا ذهبتِ إليه، كما يضربني لأني أخذتك إلى منزله.
فأشفقت عليه، وجعلت أتمعَّن في وجهه الجميل، فرأيت في جبينه أثر جُرح، فقلت له: من أين هذا الجرح؟ أجاب: لقد سقطت من فوق شجرة عالية أمس.
قلت: ولماذا يضربك أبوك، لعله شرير؟ فعاوده الرعب وقال: احذري يا سيدتي أن تذهبي إليه، فقد قلت لك إنه يضربك.
فسأله كوكليش قائلًا: ماذا يشتغل أبوك يا بني؟ قال: إنه يعمل في الأرض، قال: وهل المواشي التي يحرث بها الأرض ملكًا له؟ أجاب: كلَّا! بل هي لصاحب المزرعة، وأنا أشتغل عنده مع أبي.
قال: هل يضربك صاحب المزرعة أيضًا؟
أجاب: كلَّا، ولكن أبي يضربني دائمًا أبدًا وبقسوة.
فاشتدت شفقتي عليه، وقلت له: ألا تدافع عنك أمك؟!
قال: إن أمي ماتت، ثم أخي يبكي، فجعلنا نلاطفه حتى انقطع عن البكاء.
فسأله كوكليش: أين هي المزرعة يا بنيَّ؟ أجاب: إنها تبعد قليلًا عن بيت أبي. قال: أتريد أن ترشدنا إليها؟
أجاب: بكل سرور فإني ذاهب إليها. وأخذ يركض أمامنا، وأنا أركض في أثره، فأعجبت به كل الإعجاب.
وفيما هو يقمز قمزات الغزلان عثرت رجله، فوقع على الأرض منبطحًا، وسال الدم من جرحه القديم، فَصِحْت صيحة ذعر، وأخذت أبكي لما أصابه، ولكنه ابتسم لي وقال: لا تبكي يا سيدتي، فليس هذا بشيء بالقياس إلى ما يصيبني كل يوم، ولم يلقبني أهل القرية عبثًا بالسيئ البخت أحيانًا، وبالمنحوس أحيانًا.