الفصل السابع
وعند ذلك صاح الصحافي قائلًا: لقد أحسنتِ يا باكيتا، فإنك تقصين علينا أحسن القصص.
قالت: إن خير القصص ما كان حقيقة كهذه الرواية، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: وما زلنا نسير حتى تجاوزنا منزل أبيه فسكن رعبه، وَعُدْت إلى محادثته فقلت له: لماذا لقبك أهل القرية بالمنحوس؟
قال: لأني منكود الطالع منذ خُلقت، فقد ماتت أمي وأنا لا أزال طفلًا، وأبي يضربني في كل حين، وما تسلقت شجرة إلا وسقطت عنها، وما وثبت من فوق حفرة إلا وقعت فيها؛ مع أني أمهر أترابي في الوثوب، ولكني منكود الطالع — كما قلت لك — وكل ذلك بسبب «صاحب الكلب الأسود.»
قلت: من هو صاحب الكلب الأسود؟
قال: هو رجل رآني يوم مولدي، فكتب لي الشقاء في هذه الدنيا، وهذا الذي يقوله أبي حين يكون غاضبًا، وكذلك أهل القرية، فلا حديث لهم إلا عن صاحب الكلب الأسود.
وقد لبث الغلام يحدثني بهذه الأحاديث البسيطة إلى أن وصلنا إلى منزل خَوْلي المزرعة، فأحسن الرجل استقبالنا، وأعدَّ لنا فرشًا من القش وذبح لنا أوزَّة، وبعد الطعام أخذنا نتحدث عن الغلام.
فتنهد الخولي مظهرًا تأسفه عليه، وقال: من أعظم مصائب هذا المنحوس أن أباه لا يحبه، ولو لم يلجأ إلينا لما بقي إلى الآن في قيد الحياة. قلنا: لماذا؟
قال: إن لهذا الرجل حكاية غريبة لا تحتمل التصديق، ولكنه مختل العقل بدليل أنه أقام في مستشفى الأمراض العقلية مدة عامين، فلما خرج منه كان صوابه قد رجع إليه، ولكن نوبات الجنون كانت تعاوده أيضًا، ومع ذلك فقد لبث هادئًا ساكتًا إلى أن ماتت امرأته، وكان اسمها مادلين، فظهر كرهه لولده، وجعل يقول: إنه ليس بولده بل هو ابن الكونت، فذهلنا لما سمعناه وقلنا: كيف ذلك؟
قال: إن حنا — والد هذا الغلام — وامرأته مادلين كانا بستانيين في حديقة الكونت، وقد ولدت الكونتيس ومادلين غلامين في يوم واحد، ففي ليلة العماد مات ابن الكونت، فاشتد وقع ذلك على حنا، وفي الليلة التالية احترق قصر الكونت، فأصيب حنا على أثر هذه الحوادث بالجنون، ونُقل إلى المستشفى، وبعد أن خرج منه جعل يروي حكاية غريبة محصلها أن ابن الكونت لا يزال حيًّا، وأن ولده هو الذي مات، فاستبدله بولد الكونت الحي؛ كي لا يقتل الحزن زوجته مادلين. ولم يثق أحد بهذه الرواية بالطبع؛ لأن الرجل كان مجنونًا …
وكان الكونت قد باع قصره والأرض الملحقة به بعد نكبته، وسافر إلى باريس. فاشتدت نكبة حنا وامرأته؛ إذ لم يعد لهما عمل يرتزقان منه، ومرضت مادلين مرضًا مبرحًا أفضى إلى موتها، فبدأ كره حنا لولده من ذلك اليوم لاعتقاده أنه سبب كل مصائبه، وجعل يضربه دون رحمة كلما التقى به، إلى أن هرب يومًا من عنده ولجأ إلينا فآويناه، ومع ذلك فهو يصاب كل يوم بأشد ما يصاب به الإحداث حتى لقَّبه الناس بالسيئ البخت، مع أنه يدعى ضد لقبه أي «فليكس» ومعناه «السعيد».
وكنت جالسة بجانب الغلام حين كان خوْلي المزرعة يروي لنا حكايته، وقد أخذ الغلام قطعة من الخشب، وجعل يتلهى بحفر رسم نقشه عليها، فأخذتُ الخشبة من يده، وقلت له: من الذي علمك صناعة النقش على الخشب؟
قال: تعلمتها من تلقاء نفسي؛ إذ لا يوجد هنا معلمون.
وقال الخولي: إن له ميلًا شديدًا إلى هذه الصناعة، وقد نقش رسومًا كثيرة تدل على صفاء ذهنه.
وقد تمعَّن كوكليش بهذه الرسوم وقال: إنه سيخرج نقَّاشًا ماهرًا لا محالة إذا مارس النقش.
أما أنا فقد فرحت به فرحًا عظيمًا حتى إني لم أتمالك نفسي عن معانقته، فقبلني كما قبلته، وقال لي: ألا تريدين أن تكوني أختي؟
قلت: دون شك، قال: إنك تقولين هذا القول اليوم، ثم تسافرين في الغد، فلا أعود أراكِ مدى الحياة، ألم أُلقَّب بالسيئ البخت؟!
وقد رأيت عند ذلك دمعتين سالتا من عينيه الزرقاوين، وأطرق إطراق الحزين، فأخذتني به رأفة عظيمة ونكَفْتُ — مسحت عن خدَّي — دمعتيه بشفتيَّ. وصمتت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث فقالت: وأقمنا في منزل الشيخ نتحدث في أمور مختلفة إلى أن سَأَلَنَا عن مهنتنا، ولما علم ما هي اقترح علينا أن نلعب في اليوم التالي، وأجبناه إلى سؤاله، فلما كان اليوم التالي ورآني الغلام أمشي على الحبل، هجم عليَّ بعد نزولي، فعانقني وقال لي: إني أريد أن أفعل كما فعلتِ، قلت: ذلك صعب لا تستطيعه، قال: بل أتعلمه في أقرب حين إذا نويت، وكان أحد غلمان المزرعة واقفًا فقال متهكمًا: إنك لا تستطيع تسلق الشجرة دون أن تقع، فكيف تستطيع المشي على الحبل؟! فاحمر وجهه من هذا الهزء، وبرقت عيناه ببارق دل على «قوة إرادة لا تُغلب»، وقال: إني أريد أن أجرِّب.
ثم صعد السُلَّم إلى الحبل الذي كان مشدودًا بين شجرتين ووقف على الحبل بتوازن عجيب، فتمكن من الوقوف بضع ثوانٍ، ثم تمكن من المشي خطوتين، فانقطع الناس عن الضحك، وأخذت أنا أشجعه، وقد أعجبتُ به إعجابًا عظيمًا، فمشى أيضًا خطوتين، ثم اختل توازنه، فوثب إلى الأرض دون أن يُصاب بأذى. وعند ذلك صفق له الجمهور، وقال خولي المزرعة وهو يضحك: هذه أول مرة لم يسقط فيها على أنفه.
أما الغلام فإنه دنا مني، وقال لي بصوت منخفض: لقد رأيت كيف أني سأتعلم في أقرب حين، فإذا أذنوا لي أن أكون معكِ أصبحت مثلكِ في زمن قريب.
وفيما هو يكلمني اضطرب وجهه، وتبين الذعر في عينيه، فصاح قائلًا: هو ذا أبي وقد أتى ليضربني.
فالتفتُّ فرأيت حنا البستاني وهو يناهز الأربعين من العمر، وله وجه جميل غير أن الجنون ذهب بجماله.
وقد تقدم من ولده وهو يهدده بقبضتيه، ويقول: لقد أصبحت الآن بهلوانًا أيها الشقي، فلو رآك أبوك الكونت على هذه الحال لقال ما يقوله جميع الناس أنك ابن بستاني، ولَمَا صدق أنك فيكونت ابن كونت، وهجم عليه يريد ضربه، ولكن كوكليش حال دون قصده، فنظر إليه حنا وقال: أأنت هو مدير الجوق؟ قال: نعم.
قال: إذا كان الأمر كذلك، فإني أبيعك هذا الغلام، فتعلِّمه صناعتك، وتربح منه ربحًا طائلًا. فاشمأزَّ كوكليش من هذا الاقتراح، وقال له: لست من الذين يسرقون، وليس هذا الغلام بسلعة فيباع ويُشترى، فاذهب من هنا أيها الشقي، واعلم أنك إذا ضربت ولدك بعد الآن شكوتك إلى الحكام.
أما الغلام فإنه طوَّق عنقي بذراعيه وقال لي: لماذا لا يريد أبوكِ أن يشتريني؟ فإني أسير معكِ بملء الرضى والسرور إلى حيث تذهبين، فقلت له: إن ذلك لا يجيزه الشرع، فابقَ هنا سيحميكَ شيخ القرية، وعسى أن يقدِّر الله لنا اللقاء.
وقد سافرنا في اليوم التالي، ولكننا ما اجتزنا بضع مراحل حتى رأيت غلامًا يسير راكضًا إلينا، فخفق قلبي، وقلت لرفاقي: هذا هو المنحوس قد أدركنا، ولما وصل إلينا جعل يقبلني ويقول: لقد قدَّر الله لنا اللقاء كما قلتِ، وإني لا أفارقكِ بعد الآن.
وكانت يده اليسرى مربوطة إلى صدره بمنديل، فقلت له: ما أصاب يديك؟ قال: فقد ضربني أبي فكسرها.
وقد كان جوقنا فقيرًا لا يستطيع القيام بأود الغلام، فاختلفت الآراء فيه، وقاموا ينوون إرجاعه إلى القرية، غير أني تعهدت بتعليمه وتدريبه على مهنتنا، فرضوا بعد أخذ وَرَدٍّ أن يكون معنا، وسافر وإيانا، فلم يمر به شهر حتى تمرن، وبات عضوًا عاملًا في الجوق.
•••
مضى على ذلك ستة أعوام فترعرع الغلام حتى كاد يبلغ مبالغ الشباب، وكبرت أنا، فباتوا يحسبونني من جميلات النساء، فقد كنت في الثامنة عشرة من عمري، وكان هو في الرابعة عشرة.
وقد ارتقينا في المهنة حتى صرنا من الممثلين، وعرف مدير الجوقة رخامة صوتي، فكنت أغني في فترات الفصول أناشيد، كان يطرب لها الحضور، ويأتون في كل ليلة لسماعها.
فبينما كنت أغني ذات ليلة، دخل دار التمثيل فتى جميل الطلعة حسن الهندام، يدل كل ما فيه على أنه من طبقة أرقى من طبقة الحاضرين، ولست أدري أهو صوتي أم هو جمالي الذي جذبه إلى حضور تمثيلنا دون تمثيل الأجواق الشهيرة، ولكني أعلم أنه كان ينظر إليَّ نظرات منكرة، فلما انتهيت من الغناء دخلت في المكان الخاص بالممثلين، وتواريت عن أنظاره بين الكواليس، غير أنه لم يحفل باحتجابي، فاخترق صفوف الناس ودخل إليَّ.
وهنا استراحت باكيتا هنيهة، ثم عادت إلى الحديث، فقالت: لا بد لي قبل الخوض في تتمة الحديث أن أذكر لكم ما كان بيني وبين فيلكس في خلال هذه الأعوام التي مرت بنا، فقد كان يدعوني أخته العزيزة، ولم نكن نفترق لحظة، فإذا خلونا عطف عليَّ دون كلفة، وقبَّلني بلهف وحنو، فلم أكن أدري أكان ذلك منه حب إخاء أم حب غرام، غير أن رفاقنا الممثلين رأوه مرات ينظر إليَّ ساهمًا نظرات غرام، لا تخفى على أحد من الناقدين، حتى إن مدير الجوق قال له مرة وقد رآه ينظر إليَّ هذه النظرات: أسرع يا بني بالنمو والكد إذا أردت أن تصير باكيتا امرأتك.
فاحمر وجهه خجلًا، وبلغ منه الحياء أنه لم يعد يقبلني حين نختلي، غير أنه كان حين نفرغ من التمثيل يجلس إليَّ، فيروي لي حكاية الكلب الأسود وصاحبه، وكل ما كان يرويه حنا البستاني في ساعات جنونه، وينتهي من ذلك إلى قوله: إني ما خُلِقت لأكون سعيدًا.
وقد عارضته مرارًا في استنتاجه هذا، فكان يقول لي: كلا، فإني لا أنسى يوم ماتت أمي، ولم يكن لي من العمر غير خمسة أعوام، فدخل إليها أبي وهي على فراش النزع، فقال لها: إني عائد الآن من الكنيسة، وقد نذرت إلى الله إذا شفاكِ أن أرد الغلام إلى أهله … لا تنظري إليَّ هذه النظرات، فما أنا بمجنون كما يتوهمون، ولكن وخز الضمير يكاد يفقدني صوابي، فاعلمي الحقيقة يا امرأتي العزيزة، وهي أن هذا الغلام الذي تحبينه وتحسبينه ولدك إنما هو ابن الكونت، عرفته يوم جاءنا صاحب الكلب الأسود، ووضعته مكان ولدنا الميت شفقة وإشفاقًا عليكِ، فلم تجبه أمي بكلمة لاعتقادها أن ذلك هذيان مجنون، وضمتني إلى صدرها، فما أفلتتني حتى فاضت روحها، فلما رأى أنها ماتت غضب غضبًا شديدًا، واختطفني من يدها وهو يقول: أنتَ السبب في كل نكبتنا، ثم طرحني بعنف إلى الأرض فأغمي عليَّ، فلما استفقت وجدت المنزل غاصًّا بالناس، وقد أناروا شمعة عند سرير أمي الميتة، وأخذ أبي يغني، فقد بلغ به الجنون أبعد مراميه، ومن ذلك العهد بدأ يضربني، ويتهمني تُهمًا غريبة، على أني بتُّ أعتقد اعتقادًا راسخًا أن حكاية هذا المجنون صادقة، وأني ابن الكونت فعلًا، ولكن كيف السبيل إلى إثبات ذلك؟ وا أسفاه!
وكنت أرى في شعره خُصْلةً وخطها الشيب، وقد سألته مرة عنها فقال: كذا خُلِقْت، فقلت: إن هذه الخُصْلة البيضاء في شعرك ستثبت نسبك، فإنها تكون عادة إرثًا في العائلات، فأطرق برأسه ولم يجِب، فطوقت عنقه بذراعيَّ وقبَّلته، فارتعد ثم جعل ينظر إليَّ ويبكي.
فقال واحد من الحاضرين: أراكِ نسيتِ يا باكيتا ذلك الرجل الذي دخل بعد انتهائك من الغناء ليلقاكِ بين الكواليس.
قالت: كلَّا، لم أنسه، وإليكم حكايته فاسمعوها. فإنه حين دخل سألته عما يريد فقال لي: لقد أعجبني صوتك، فهل تعلمتِ فن الغناء على يد أساتذة؟ قلت: كلَّا! قال: إذن فاعلمي أني غني، ولي اتصال بأحد المراسح الكبرى، فإذا شئتِ دفعتكِ إلى موسيقيٍّ ماهر تتعلمي عنه الغناء على أصوله، ثم أدخلك ذلك المرسح براتب ألفي دينار في العام، ونحن نكون من الرابحين.
فدُهشت لقوله ولفداحة هذا المبلغ الذي لم يكن يخطر لي في بال، حتى حسبته هازئًا فقلت له: ولكني لا أريد أن أتخلى عن هذا الجوق الذي ربيت فيه، فقد بات أصحابه بمنزلة أهلي، وأنا قوام هذا الجوق.
البارون دي نيڤيل، شارع ميرمونستيل، رقم ١٣.
ولم أخبر فيلكس بشيء من ذلك غير أني لم أنَم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي سألته عن اسم القرية التي وُلد فيها، فقال لي: اسمها سانت چرمين.
قلت: ألا تعرف القصر الذي كان فيها واسم صاحبه؟ قال: نعم، فقد كانوا يدعونه القصر المحروق، ويقولون إن صاحبه كونت، وهذا كل ما أعرفه.
ولم يكترث لسؤالي، أما أنا فقد صبرت يومين على رجاء أن يعود إليَّ ذلك البارون، فلما رأيته لم يعد خرجت في صباح يوم وجميع الرفاق نيام، فذهبت توًّا إلى قصره في شارع «ميرمونسيل».