الفصل الثامن
وقد استقبلني البارون بملء الاحتفاء، وكان عنده مدير المرسح، فعرَّفني به، وقال له: هذه هي الفتاة التي حدثتك عنها، ثم نظر إليَّ بكل احترام وقال: تفضلي بالجلوس أيتها الآنسة، فإننا على وَشْك الدخول في غرفة المائدة، وستأكلين معنا، والآن فلنبحث في شأنك، فقد دلني قدومك على الإذعان لنصيحتي، وسيكون لكِ في فن الموسيقى أعظم شأن، فكم لكِ من العمر؟ قلت: تسعة عشر عامًا، قال: إنكِ لا تزالين قاصرة، فمن هو وليُّ أمركِ؟ قلت: مدير الجوق الذي أشتغل فيه.
قال: إذن هو الذي سيتولى التوقيع عنكِ على عقد اتفاقنا، فاعلمي الآن أني من أهل الشغف بالموسيقى، حتى إني ألَّفْتُ جوقًا لا للطمع بالربح، بل لغيرتي على هذا الفن الجميل، وقد أعجبني جمال صوتك الرخيم، ولكنكِ في حاجة إلى درس قواعد هذا الفن، فسأعيِّن لكِ أستاذًا يدرِّسك عامين، وأعقد معكِ اتفاقًا لمدة خمسة أعوام، فيكون راتبكِ عشرين ألف فرنك في العام مدة الأعوام كلها؛ أي في مدة التدريس والعمل، فما اسمكِ؟
قلت: باستنكيت، قال: إنه اسم لا يوافق المراسح الكبرى، وسيكون اسمكِ بعد الآن باكيتا، ولكن ما بالك تنظرين إليَّ هذه النظرات؟
وكنت شاخصة كل مدة الحديث إلى الشعر الأبيض في رأسه، فقلت: لا أجسر يا سيدي البارون على أن أذكر السبب.
قال: بل قولي ما تشائين فلا جناح عليكِ.
قلت: ألا تستاء مما سأقوله؟
أجاب: كلَّا!
قلت: كم لك من العمر سيدي؟
أجاب: ثمانية وعشرون عامًا.
قلت: إنك لا تزال في مقتبل الشباب، فما هذا الشيب في رأسك؟
فقهقه ضاحكًا وقال: ليس هذا بشيب يا ابنتي، بل هو إرث يرثه كل أعضاء أسرتنا.
قلت: كان أبوك مثلك؟
أجاب: نعم، وكذلك عمي.
قلت: ألكَ عمٌّ؟
أجاب: إنه مات، وترك ثروته لامرأته، ولكن يُحتمل أن أرثها قريبًا؛ لأن المسكينة لا تعيش طويلًا.
قلت: أهي مريضة؟ وقد سألته هذا السؤال بلهف خجلت بعده، فقلت له: أسألك المعذرة يا سيدي لما تراه من فضولي، وعلى ذلك ستغدو كثير الثروة بعد وفاتها؟
قال: هو ذاك، فلا وارث لها سواي، فإن هذه المنكودة فُجعت بولدها الوحيد، حين كانت تقيم في أرضها في «سانت مرتين»، ومن جملة مصائبها أن قصرها احترق يوم تشييع جنازة ولدها، فاعتزلت الناس أجمعين، وهي الآن تقيم في قصر لها يُدعى قصر بليمور قرب فرساي، وقد سجنت نفسها فيه سجن الراهبات في الدير.
وبعد أن فرغنا من هذه الأحاديث، وعرفت كل ما أردت أن أعرفه استأذنت بالانصراف، وقد وعدت البارون أني سأخابر مدير جوقتي في شأن اقتراحه، وأعود إليه بعد غد بحقيقة ما أنويه.
ولما عدت إلى الجوقة، وجدتهم قد شُغلوا بغيابي، وتباينت أقوالهم، حتى لقد اتهمني بعضهم بالميل إلى هذا الفتى الجميل الذي زارني — أي البارون — وكانت علائم الحزن الشديد بادية في وجه فيلكس، فضحكت وأخبرتهم بكل ما جرى، فَسُرَّ الجميع لنجاحي، ولا سيما صاحب الجوقة وامرأته عدا فيلكس، فقد رأيت الدمع يجول في عينيه، فدنوت منه، وهمست في أذنه قائلة: طِبْ نفسًا يا عزيزي، فلا تفرق الثروة بيني وبينك، وسأكون لك ما حييت.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى فرساي بغية مقابلة الكونتيس المعتزلة في قصرها، ولقيت عناءً شديدًا حتى أذِنت لي بمقابلتها، فأدخلوني قاعة عظيمة، وأقمت فيها أنتظر قدوم الكونتيس.
وكان في تلك القاعة خمس صور كبيرة، لا شك أنها كانت صور أعضاء أسرة الكونتيس، فوقفت أنظر إلى هذه الصور، وأنا معجبة بما أراه، فقد كان في رأس كل صورة من هذه الصور خصلة بيضاء كخصلة فيلكس، حتى إذا انتهيت إلى آخر صورة صحت صيحة دَهْش عالية، فقد خيل لي أني أرى رسم فيلكس نفسه ممثلًا بهذا الرسم، وعند ذلك فُتِح الباب، ودخلت امرأة بملابس السواد، وهي الكونتيس.