إلمامة في النحل
«قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية، ليكون مرجعًا للمدرس في تدريس قصة النحلة العاملة.»
أقسام النحل
ينقسم النحل إلى الأقسام التالية: ذكور وإناث وعاملات، وهي كاملة الأجنحة طول حياتها. وللإناث والعاملات إبر قوية على الأغلب الأعم، وإن كان بعضها ضعيفًا. وأجنحتها تنبسط على جسمها في أثناء الراحة. وتنطوي الأجنحة العليا تبعًا للمحور الأكبر. أما شفاه النحل وفكوكه، فهي طويلة، تشبه — في طولها — الخرطوم. وتقل مرونة الشفة السفلى واتصالها بالطرف الحريري. وتبدو سوقها الأمامية شائكة الأطراف. وهي — عند العاملات — ذات عرض والتواء، كأنها معلقة عقفاء.
وترى الفقرة الأولى من أجزاء النحلات العاملة الأمامية كبيرة جدًّا. وشكلها مربع، أو مثلث مقلوب. وقد تتصل أحيانًا بالزاوية الخارجية لقاعدتها فتشبه أذنًا صغيرة.
أما بطن النحل فهو مؤلف من سبع عقد للذكور، وست عقد للإناث العاملات.
خواص النحل وأنواعه
ويمكن تلخيص أهم خواص النحل التي تميزه فيما يلي: أن جسمه مغطى بالشعر، وهو أكثر ما يكون كثافة ووضوحًا على السلسلة الفقرية.
وفي رأسه ثلاثة ثقوب، أو — على الأصح — ثلاث عيون تبدو على شكل مثلث. أما تركيبه الجسمي فهو متماثل. وتتكوَّن فصيلته من اثني عشر نوعًا موزعة كلها على الأقاليم المعتدلة أو الحارة. وأهم هذه الأنواع هي النحلة المنزلية، وقد أطلق عليها أسماء عدة، وعرفها العبرانيون واليونان، منذ أقدم العصور. ولعل أصلها من اليونان، أو من آسيا الصغرى، ثم تنقلت — بالتدريج — إلى جميع أنحاء أوروبا.
وقد زاد عدد النحل المنزلي — في هذا العصر — لانتشار الزراعة في أغلب أنحاء الأرض. وهو كثير في شمال إفريقية كله، وبخاصة في الجزائر، لا سيما المنطقة التي في شرقها.
وترى النحلة المنزلية في جزائر «كناريا» أيضًا، وجزائر «ماديرا». كما تراها في بلاد السنغال، ورأس الرجاء الصالح. وقد نقلت إلى أمريكا، وما إن حلت بها حتى ألفت مناخها، وانطبعت بطابع أقاليمها في الشمال والجنوب، وانتشرت في الأرجاء الحارة، وحلت محل غيرها من النحل القديم. ولم يمض زمن يسير حتى أدخلت في جزائر «الأنتيل» وبخاصة في «هافانا» و «هايتي» و«جاميكا» و«مارتنيك»، ثم أدخلت«أستراليا» وجزائر «سندويتش»، كما أنها توجد في جزائر «أوكلند» على التحقيق.
ويوجد من هذا النحل أنواع عدة، وهو شائع في جنوب أوروبة، لا سيما «توسكانيا» و«صقلية» و«كريت» و«اليونان».
وقد تغنى «فرجيل» بهذه النحلة في الكتاب الرابع من «جورجيانه». وليس أيسر من تعرفها لأول وهلة، لأن لونها الحريري يميز الأجزاء الثلاثة الأولى من بطنها. وقد أطلقوا عليها اسم: النحلة الصفراء (في لغتهم الدارجة) ليميزوها من النحلة السوداء، المألوفة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، وروسيا.
وقد نقلت إلى فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا، والسويد، والدانيمرك، وبخاصة الولايات المتحدة حيث تعمل الآن دائمًا مع النحلة المحلية.
ومن الأنواع المعروفة ما يسمونه بالنحل المصري، وقد عاش في مصر منذ أقدم الأزمنة. ويوجد هذا النوع في بلاد العرب وآسية الصغرى. وهو أدكن، يضرب إلى السواد. والجزءان الأولان من البطن أصفران مشوبان باحمرار. أما الأجزاء الباقية من البطن فرمادية دكن. وأجنحة هذا النحل صفر، وهو مصور على الآثار المصرية.
ويعيش النحل جماعات عدة مؤتلفة. ويستوي في ذلك النحل البري، والنحل المنزلي. ويعيش الأول في فجوات الأرض، وثغرات الأشجار، والصخور، وغيرها. ويصبح شبه منزلي حين يعيش في البيوت التي يصنعها له الإنسان، ويطلق عليها اسم: الخلايا.
أسرة النحل
وتتألف كل جماعة — أو: ثول — من ذكور وإناث. مخصبة وغير مخصبة، يطلق عليها اسم: العاملات. ويختلف بعض هذه الأنواع الثلاثة عن بعض في أشكالها الخارجية وأعمالها التي تؤديها في مملكة النحل.
والنحلة المنزلية هي أجدر أنواع النحل بالشرح والتوضيح، وهي التي تحوي اليمخور، أو — كما يسمونه — الطنان الزائف. وإنما أطلقوا عليه ذلك لأنه يحدث ضجيجًا وطنينًا في أثناء الطيران. وهو أكبر حجمًا من العاملات وأكثر شعرًا.
النحلة المنزلية
وليس للنحلة المنزلية من عمل غير إخصاب الإناث. وهي تمتاز عن غيرها بأدنى تأمل، لأن رأسها كبير مستدير، وعينيها في الخلف، وسوقها كلها سود، وبطنها منفرج في نهايته، ومنحنٍ في الجزء الأسفل. ولها إبرة، وأرجلها الأمامية أقصر من أرجل النحلات العاملة. وهي محدودبة من الخارج، وبها شعر. وليس لها أسنان بارزة في الجزء الأعلى.
والنحلات المخصبة، ولا يوجد منها عادة إلا واحدة في كل خلية، وتسمى: «اليعسوب»، أو: ملكة النحل. ورأسها مثلث الشكل، وترى عينيها إلى جانبها، وأجنحتها أقصر من بطنها. وليس لهذه النحلة المخصبة من عمل في خليتها إلا أن تبيض، أي أنها جادة دائبة على إنماء عدد نحلات الخلية وزيادة جنسها. وهي مسلحة بإبرة منحنية أكبر من إبرة النحلة العاملة.
أما النحلات العاملات فهي أكثر نحال الخلية عددًا. وهي تضطلع بالأعمال الهامة كلها. وهي عماد الخلية، ومصدر بقائها، وسر سعادتها ورقيها، ولها مميزاتها وخواصها العامة التي تمتاز بها عن النحلات المخصبة. وأخص ما تعرف له حجمها الصغير، ولسانها الطويل، ومنظر أرجلها الأمامية، وما عليها من الشعر. كما تمتاز بأن في طرفها شيئًا أشبه بسلاح مربع أملس من الخارج، ولكنه مغطى — من الداخل — بشعر ناعم مضموم على هيئة صفوف متقاطعة منتظمة، هي أشبه ما تكون بفرجون. وحافتها العليا عريضة من الخارج، فإذا هبطت إلى الحافة السفلى رأيت شيئًا أشبه بمقبض، تجني به قطع الشمع التي تفرزها حلقات البطن.
إعداد الخلية
ومتى حلَّ ثول مكانًا، أو خلية، رأيت النحلات العاملات تبدأ قبل كل شيء بسد الثقوب والعيون، حتى لا يتسرب الضوء أو الهواء البارد إلى داخل البيت الذي اتخذته لها دارًا. ثم لا تدع غير ثقب صغير ضيق ليكون باب خليتها، إذا أرادت الدخول أو الخروج. وهي تعمل دائبة على سد تلك الثقوب بما تأتي به من المواد اللزجة، التي تحصل عليها من أوراق الأشجار.
ومتى أتمت هذه العمل، وأحكمت سد المنافذ والثقوب، اجتمعت في بيتها طائفة من العاملات لبناء النخاريب، وإعداد أقراص العسل التي تهيئها، لتكون عشاشًا وبيوتًا للنحل الصغير متى تم فقسه من البيض. ويكون هو في ذلك الوقت دودًا صغيرًا يتدرج في النماء، حتى يصبح نحلًا.
ثم تنشئ مستودعات لخزن الطعام في خليتها، وتكون هذه الأقراص في قبة الخلية عادة، وهي على أشكال متوازية غالبًا، وبين كل قرص وآخر فراغ بمقدار سنتيمتر، ليمر النحل من خلاله، ويتألف كل قرص من عدد كبير من الثقوب ذات الشكل المسدس، موضوع بعضها فوق بعض، تتصل نهايتها بأوسطها. ولكن الخلايا التي على وجهي القرص لا تتعارض إحداها مع الأخرى تعارضًا تامًّا، لأن كل واحدة منها تنتهي بأخرى هرمية الشكل، تنتج من اجتماع ثلاثة معينات متساوية، بحيث يكون أول الخلية مواجهًا لآخر الخليات الثلاث التي في الجهة المقابلة.
ولا ريب في أن هذه الطريقة هي أمثل الطرق إلى الاقتصاد في الوقت والمكان والمادة، فإنها تقتصد في الشمع الذي تبني به، وفي المكان الذي تحتله. فلا عجب إذا قلنا مع المسيو «لالان» في مذكراته عن إنشاءات النحل: «لقد حلت النحل بذلك الأسلوب الهندسي — الذي ابتدعته في بناء مساكنها — مسألة الأقلية. وقد وضعت جدران منشآتها البديعة على أحسن طريقة اقتصادية، فقد عرفت كيف تقتصد — ما وسعها الاقتصاد — في المادة والعمل والحجم الذي تحل فيه.»
ولهذه الخلايا المسدسة حجمان، فالصغيرة منها خاصة بصغار العاملات، ومن سوادها تتكون الأقراص، وهي تحتل وسط الخلية كله تقريبًا، أما الكبرى فخاصة بصغار الذكور، وهذان النوعان من الخلايا يصلحان أيضًا لخزن منتوج العسل والرحيق.
وقد يتألف القرص الواحد — في نفس الوقت — من عيون كبيرة، وعيون صغيرة، سواء على الوجهات المتعارضة أو على الوجهة الواحدة، فإذا كانت الأخرى استطاعت العاملات أن تصل بين الأولى والثانية عن طريق بعض خلايا أخرى كبيرة مستديرة على شكل إناء، تحمل جدرانه الكثيفة ثقلًا تزيد زنته مائة مرة عن الشمع الذي تراه في خلية عاملة.
وهذه الخليات الهائلة التي يسمونها بالخلايا الملوكية العادية أو — الطبيعية — هي وقف على الديدان التي اختصت بأن تنتج نحلات مخصبة، يطلقون عليها — بغير حق — اسم: «الملكات». وهي موضوعة غالبًا على حافة الأقراص، وأكثرها يهدم بعد أن تخرج منها أُمَّاتُ النحل.
وربما وجدت أقراص وخلايا أخرى ذات شكل مماثل في الداخل، وإن كانت أحجامها صغيرة، وهي التي يطلقون عليها اسم: الخلايا الملوكية الصناعية، وهي لا تتألف إلا بعد أن تدمر النحل كثيرًا من خلايا العاملات، عندما تكون النحل في حاجة إلى فقس نحلات جديدة مخصبة، لتحل إحداها محل ملكته — بعد موتها — من تلك الأمات الجديدة.
إبرة النحل
وترى — على جانب الأمعاء — في القسم الأسفل من البطن: آلة السم، وليس لها وجود عند الذكور، وإن وجدت عند العاملات واليعاسيب. وهي مؤلفة من غدة سمية، وإبرة محددة يسري فيها السم.
وهذه الغدد أشبه بأنابيب طويلة ببعض بسيطة التركيب، ينتهي طرفاها المنتفخان قليلًا بمخزن صغير يماثل الأنابيب الدقيقة، ويسمى: خزان السم. وليس له لون، وهو شفاف عند العاملات، ولبني اللون عند اليعاسيب. وليس لهذا الخزان غشاء عضوي، كذلك الغشاء الذي تراه في الزنابير وغيرها من الحشرات التي من هذا النوع.
وهذا السم الذي يحويه هو دائمًا حمضي، يأتلف من سائلين، أحدهما حمضي شديد، والثاني قولي ضعيف. وليس لذلك السم من أثر أو عمل إلا إذا كان مؤلفًا من هذين السائلين.
ويفتح في الطرف الثاني من الخزان مجرى إفرازي ضيق ينتهي بآلة دقيقة، قائمة على الجسم، مركزة على أربع عضلات مؤلفة من قطع صغيرة تشدها خيوط قوية، ولها كيس كأنه ساق مقرن أسطواني يتناقص بالتدرج في سمكه، حتى يصل إلى الطرف الحاد، ثم ترى الإبرة آخر الأمر، وهي مكونة من خنجرين طويلين رفيعين، يرتكز أحدهما على الآخر في وجههما المنبسط، وبها خط محفور ضيق.
وينتهي هذان الخنجران بسنين حادين، بهما أسنان غاية في الدقة، وهي — على دقتها — شائكة متجهة إلى الخلف، وعددها تسع عند العاملات، وخمس عند اليعاسيب.
وخنجرا الإبرة يتحركان معًا — في بعض الأحايين — ويتحركان مفترقين في أحايين أخرى. وفي كلتا الحالتين ترى أن كل دفعة يدفعها الضاغط نقطة من السم تندفع داخل الجرح، ثم يحل محلها سائل جديد عند قاعدة الكيس. وثم ترى أن آلة نفث السم عند النحل — وما يماثلها من الحشرات — هي في نفس الوقت آلة جاذبة وحاقنة معًا. وشكلها يماثل حقنة مثقوبة، لها ضاغطان يضغطان ويهبطان. وهي تقذف السائل في مجرى الأنبوبة، وتسحبه من قاع الوعاء. ولك أن تقول: إنها أنبوبة ذات مجرى مثقوب، تعبأ وتفرغ عند كل حركة من الضاغط.
والإبرة هي — قبل كل شيء — آلة للدفاع، ولا يبعد أن تكون مساعدة للنحلة في وضع البيض. وهذه الإبرة تختبئ في بطن النحلة وقت الراحة دائمًا.
تلقيح النحل
ولا تحتاج النحلة إلى أكثر من مرة واحدة تلقح فيها، وهذه المرة تكفيها للإخصاب ووضع البيض ثلاث سنوات أو أربع: أي مدة حياتها. فإن هذا القدر من السنين هو متوسط عمر اليعسوب.
ويتم تلقيح النحل في الهواء على ارتفاع كبير. وقد اختلف رأي العلماء — قبل أن يهتدوا إلى حقيقة هذا الأمر — فذهب أحدهم إلى أن الرائحة القوية المنبعثة من الذكور — أحيانًا — هي كافية للتلقيح، لأنها تحل سريعًا في جسم اليعسوب، وذهب آخر إلى أن سر الإخصاب في التماس بين الزوجين ولكنه لم يستطع إقامة الدليل على ذلك. وحقق ثالث أن تلقيح النحل يجري على نفس الطريقة التي يلقح بها بعض الأسماك لتبيض.
ثم جاء «موفيه»، فقرر أخيرًا — وهو أول من قرر هذه الحقيقة — أن اليعسوب تعود إلى الخلية — بعد عملية الإخصاب — وفي عضوها الجنسي خيط رفيع أبيض، هو نتيجة عضو التذكير الجنسي.
وقد أقر هذا الرأي جمهرة من العلماء.
ولا تنقضي على الإخصاب أيام ثلاثة حتى تبدأ بيضها، بعد أن تفحص جميع الحجرات. أما طريقة الفحص، فهي أن تمد رأسها في كل واحدة منها، لتتفقدها بنفسها وتسيرها من جميع أنحائها.
فإذا وثقت من سلامة الغرف، واطمأنت إلى صلاحيتها، أدخلت طرف بطنها في الغرفة، وألقت فيها أول بيضة تستقر في نهايتها بفضل المادة اللزجة التي تحيط بها.
أما لون البيضة، فهو أبيض كلون اللؤلؤة، وهو يميل إلى الزرقة. ولا تزال النحلة مكبة على عملها حتى تملأ الخلية بيضًا. وهي دائبة لا تتوانى عن أن تبيض طوال الفصل، ثم تكف عن البيض حوالي نصف أكتوبر، حين يبدأ البرد، فلا تستأنف عملها إلا في الربيع القادم.
وعملية البيض تسير — في الخلية — في يسر وانتظام، وتخرج اليعسوب البيض الأول في العشرة الأشهر الأولى من حياتها، فلا ينتج إلا نحلات عاملات. ثم تبيض بعد ذلك بيضًا لا يخرج منه إلا ذكور النحل. ويترواح عدد البيض بين ١٥٠٠ و٣٠٠٠ بيضة، ثم يجيء دور بيض العاملات. وبعد عشرة أيام من ذلك البيض الذي يحتوي عددًا مما يخرج ذكور النحل، يبدأ بيض الخلايا الملوكية. ولكن ذلك لا يكون إلا بين يوم ويومين، حتى لا تفقس تلك الأم الفتية البيض كله في وقت واحد.
وإذا تعجلت اليعسوب في وضع البيض فإنها تضع — في كل عين واحدة — أكثر من بيضة، فتتبعها النحلات العاملات وتراقبها، ثم تتلفن البيض الزائد وتدمرنه من فورهن.
وبعد أيام ثلاثة تخرج من البيضة (ويستوي في ذلك الذكور واليعاسيب والعاملات) دودة بيضاوية الشكل بيضاء، تلتف على نفسها في آخر الغرفة، فتبدأ بعض العاملات في العناية بهذه الديدان، ويسهرن على تربيتها وتغذيتها. ويسمين: المربيات. وهذه المربيات غير العاملات التي تنقطع لصنع أقراص العسل.
وتزور المربيات الخلية مرات عدة في كل يوم، وتلقي للأطفال الناشئات من النحل ما تحتاج إليه من غذاء لتقويتها. وهي تقدم إليها — حينئذٍ — نوعًا من المرق مركبًا من عسل وماء ورحيق. ولا تقدم للذكر من الديدان والعاملات منه سوى هذا المرق، بأقدار متساوية تكفي لحفظ حياتها.
أما يعاسيب الديدان، فيقدم لها العاملات مرقًا من نوع آخر، لتكوين أجسامها وأعضائها النسوية. ويسمون هذا الغذاء: بالفطيرة الملوكية. وهو مادة متجمدة شيئًا ما، ويحتوي على قليل من الشمع والسكر، وتسعة أعشاره من الزلال وغيره. وهذا اللون من الغذاء هو الخاص بتكوين الإناث تمامًا، وهذا يفسر لنا كيف يمكن العاملات التي فقدت أمها اليعسوب أن تستعيض عنها — متى شاءت — بإنجاب يعسوب أخرى تحل مكانها، وتؤدي علمها في البيض والفقس.
ومن خصائص هذا الغذاء أنه إذا سقطت منه بضع ذرات على بيض العاملات الذي يكتنف الغرف الملوكية تغير نوعها متى تغذت ديدانها منه. ولكن النحلة التي تخرج من ذلك البيض لا تبيض بعد ذلك إلا بيضًا يفقس اليمخور فقط (أو الطنان الزائف كما يسمونه). وثمة يطلقون على تلك النحلة — إذا تكونت — اسم الأم الطنانة.
نشأة النحلة
ومتى ظفرت الديدان بحظها الكامل من الغذاء كف العاملات عن تقديم شيء من الطعام إليها. وثمة يغلقن الحجرات عليها، ويحكمن سدادها بالشمع، ويجعلن غطاءها كالقباب الصغيرة على حجرات العاملة، والطنان الزائف. أما حجرة اليعسوب فيكون غطاؤها على شكل جرس.
وثم ترى أن جسم كل دودة قد غُطي بشعر رقيق حريري، واكتسى تلك الحلة التي يمتاز بها النحل. ثم لا تلبث كل دودة أن تصبح عذراء، ثم تتدرج في نمائها، فتصبح نحلة تامة التكوين.
وتختلف مدد التكوين تبعًا لاختلاف الأنواع، فالعاملات يلبثن سبعة أيام أو ثمانية في دور العذارى، وفي اليوم العشرين الذي انقضى على فقس البيضة، يمزقن ذلك الغلاف الحريري الذي يكسوهن، ويقرضن غطاء الحجرات ويخرجن مجنحات. وفي هذه السن يبقين على حافة الأقراص، لأن الرطوبة والرخاوة لم تزايلاها بعد. ثم تجيء عاملات أخريات، فيحطن بهن، ويلحسنهن، ويشربن ما في أجسادهن من رطوبة، ويقدمن لهن غذاءهن من العسل، ولا يمر عليهن أربع وعشرون ساعة — بعد خروجهن من الخلايا — حتى يذهبن إلى الخلاء لامتصاص الزهر، وورق الشجر.
أما الذكور فلا تصير نحلًا تامة التكوين، إلا بعد أربعة وعشرين يومًا، منذ تفقس بيضاتها، ولا تعيش إلا زهاء شهرين أو ثلاثة، لأن العاملات لا تلبث أن تقتلها أو يطردنها خارج الخلية، لتتخلص من عبئها الثقيل، بعد أن تضع اليعسوب بيضها، لأنهن يرونها عديمة الجدوى قليلة الغناء. أما اليعاسيب فإن الغلاف الذي ينسجنه حولها — وهن عذارى — لا يغطي من أجسامهن إلا جزءًا، ثم يتركن بطونهن عارية. وهي تسجنهن في اليوم السادس عشر منذ وضع البيض.
وإذا ظلت اليعسوب في الخلية بقيت النحلات الصغيرات في حجراتهن سجينات تحت نظرها، ولا تلبث العاملات أن تضيق عليهن، وتقوي غطاء الحجرات بنطاق من الشمع ليس فيه إلا ثقب واحد صغير ينفثن منه العسل لتلك الإناث الصغيرات في سجنهن، ولا يطلقن سراح واحدة منهن إلا إذا تركت اليعسوب خليتها. ومتى بدأ الدود يخرج من الخلايا فإن الفقس يظل متواصلًا تبعًا لحالة الجو، وتراه سريعًا في وقت الحر، بطيئًا في زمن البرد.
وفي كل يوم يتكاثر عدد النحل ويزداد، فلا يمر يوم حتى يظهر للوجود جمهرة من النحلات العاملة واليماخير (الطنانة الزائفة). أما اليعاسيب الصغيرات فتظل حيث هي سجينة تترقب حريتها يومًا بعد يوم.
ثم يأتي يوم يتضاعف فيه عدد النحل ويزداد حتى تضيق به الخلية، فيضطر جماعة منه إلى البقاء خارجها، وهكذا تكثر الخلايا ويتكون الثول.
ثورة النحل
ولا يتم ذلك إلا بثورة عنيفة، تبدأ بطنين النحل في أثناء الليل، — في فترات متقطعة — ويجتمع سواد النحل أمام الخلية، فإذا عادت نحلة من الخارج مثقلة بما جنته من الرحيق، لم تفرغه في الخلية كما كانت تفعل من قبل — وآثرت أن تنضم إلى رفاقها من الطوائف الأخرى.
ويسود الاضطراب، ويشتد الهياج داخل الخلية، ويستولي الذعر والخوف على اليعسوب حين ترى تذمر اليعاسيب الصغيرة وجريها متمردة حول الأقراص، مندفعة حانقة إلى المنافذ، باذلة جهدها في اقتحام عرش مليكتها وتهب النحلات العاملات إلى تلك الثائرات — من اليعاسيب — فتحول بينها وبين ما تريد، وتقسرها على البقاء حيث هي، فتعود مهمومة حزينة كاسفة البال، شاكية إلى أخواتها ما تلقاه من هم وألم.
ويسود الاضطراب والهرج، فلا تُعنى النحلات بالديدان أقل عناية، ولا تشغل بالها بتقديم الغذاء إليها.
ثم تعود النحلات الجانيات إلى الخلية حاملات ما جنينه من الأزهار، فلا يكدن يقتربن منها حتى يشركن الثائرات في تمردهن ويشاطرنهن ذلك الشعور العام، ويطرن حول الخلايا دون أن يفرغن ما معهن من الزاد.
وترتفع درجة الحرارة في الخلية إلى ٣١، وربما بلغت ٣٣، فيشتد الهياج والصخب، وتنتقض الأمور كلها، فلا ترى النحل بدًّا من هجر الخلية. وثم يطير عدد من النحلات العاملات إلى الخارج، تتبعها اليعسوب، ومعها جمهرة قليلة من اليماخير. وهكذا يتألف الثول، فيطير في الهواء وهو يملأ الجو طنينًا، ثم يقر — بعد لحظات — على فرع شجرة، ويزداد عدده بين دقيقة وأخرى، ولا يلبث النحل المتأخر في الخارج أن ينضم إليه.
ثم يستولي السكون على تلك الجمهرة الكبيرة، ويبقى ذلك الثول دون حراك، ولا تلبث حيرته زمنًا طويلًا حتى لا يضل طريقه. ولا يتشتت شمله، وسرعان ما يهتدي إلى ثقب في شجرة، أو ثغرة في صخرة، أو حفرة في بعض النباتات القديمة، أو سطح منزل مهجور.
وثمة يستقر في بيته الجديد، بعد أن هجر خليته القديمة
صراع اليعاسيب
ويبقى بالخلية القديمة — بعد أن هجرها سواد النحل — فراغ كبير، وبعد قليل تعود النحلات العاملات التي كانت في الخارج، ولم تشترك مع الثوار في الهجرة. ولا تكاد تعود إلى خليتها حتى يدهشها ذلك الفراغ، فلا تني عن الفقس — من جديد — حتى تعمر الخلية بعد أيام قليلة بأهلها الجدد من النحل.
ولا ترى العاملات فائدة من سجن اليعاسيب الصغيرات كلها، فتطلق سراح أول يعسوب قادرة على الفقس، ثم يلقحها بعض اليماخير. ويكون أول ما تبدأ به الملكة أعمالها هو أن تقتل اليعاسيب السجينة في الخلية كلها، بلا شفقة ولا رحمة. فليس من المستطاع أن تبقى في خلية واحدة ملكتان في آنٍ واحد، لأن العاملات لا يقدرن على أن يخدمن يعسوبين معًا.
أما سلطان اليعسوب الجديدة فلا يثبت ويستقر بين سواد النحل بسرعة، فربما يحدث عقب الثورة السابقة التي ثارها النحل أن تخرج يعسوبان متكافئتان من سجنهما، في وقت واحد، فلا تطيق إحداهما بقاء الأخرى معها، ولا تلبثان أن تشتبكا معًا في صراع طاحن، وقتال مميت، ينتهي بفوز إحداهما على الأخرى، فإذا قتلتها بإبرتها تثبت لها الإمارة واستتب لها الملك.