فركبت البحر من هُرْمُز في ريح رُخاء زجَّتْ مركبَنا إلى البحرين فأطراف العراق أهنأ
تزجية، فلما حاذينا الساحل مما يلي البَصْرة طلعتْ علينا ريحٌ عاصفة، وانحدر بنا الموج
إلى
منعرج في البر كله رمال ومهاوي ماء، فبتْنا ليلتنا فيه على أشدِّ ما يكون من الخوف إلى
أن
طلع الفجر، فأقبلتْ علينا من صدر البحر سفينة حملتنا إلى عَبَّادان، وأرسلت بنا على مُطَلٍّ
من خشبات تنتهي المراكب إليها ولا تتجاوزها خوفًا من الجزر؛
٢ لئلا تلحق بالأرض وتغوص في الطين الذي يأتي دِجلةُ به
٣ في انسيابه، وهذا البحر في مُسامَتَةِ العراق شديدٌ على السَّفْر، ولا يُحْمَد
منه إلا عُمران سواحله بالناس لما فيها من مغاصات
٤ الدر والياقوت والعقيق وغير ذلك، وهي باب واسع لطلاب الرزق، وللغواصين عليها
أخبار غريبة فيما سمعت، حتى قيل: إنهم يشقون آذانهم للتنفس، ويجعلون في آنافهم القطن،
ويصطنعون وجوهًا من الذَّبُل كالمشاقيص، ويدهنون أبدانهم بالسواد خوفًا من أن تبتلعهم
دواب
البحر، ويصيحون عند الغوص مثل الكلاب لتنفيرها عنهم، فإذا بلغوا القعر عصروا دهنًا يضيء
منه
البحر ليروا الأصداف التي يتولد فيها اللؤلؤ، وتكون مدفونة في أرض البحر رملًا كانت أو
طينًا، ومما يزعمون
٥ في هذا اللؤلؤ أن تولُّده من مطر نيسان إذ تكون الصدفة مفتوحة على وجه الماء
فتقع عليها القطرات فتتربى فيها دررًا رائقة الصفاء.
ولما أخذت نصيبًا من الاستراحة انتقلت على سفين إلى البصرة، ونزلت بها في موضع
٦ يُعرف بسكة بني سمرة بإزاء دار الهيثم بن معاوية أميرها، وقد طاب لي فيها
المقام بما وجدت من ائتناس أهلها إلى الغريب حتى ينسى في جوارهم أهله
٧ بما يأنس عندهم من مظاهر الأنس والمودة، ووجدت لهم صبرًا على طلب العلم، يتخذون المكاتب
٨ لأولادهم، وحلق العلم لأدبائهم، وتشد إليهم رحال الطلب من جميع الوجوه؛ لأن لهم
من الأدب المكان الذي لا يُرقَى، غير أني لم أرَ فيهم إلا وَهِن البنية سقيمَها وأصفر
اللون كاسفه؛
٩ وذلك ناشئ فيهم من عفونة الماء ووقوع إقليمهم في مهاب الرياح المختلفة التي
تتبدل في اليوم الواحد ألوانًا وضروبًا؛ فيجبرون على لبس القمصان مرة والمبطنات أخرى؛
ولذلك
سميت مدينتهم بالرعناء، أنشد الفرزدق:
١٠
وقد لقيت فيها جماعة كثيرة من الأدباء مثل عبد الكريم بن أبي العوجاء والمؤرَّجِ
السدوسي
الرواية، والحسن بن هانئ الشاعر،
١١ والنضرِ بن شميل تلميذ الخليل بن أحمد، وواصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن
البصري لمخالفة في المذهب ثم سمى الناس من ذهب مذهبه بالمعتزلة
١٢ لذلك، وشهدت حَلْقة عُتْبةَ القحوي، وأبي زيد الأنصاري، ويونس النحوي، وله أعظم
١٣ حلقة في البصرة من حلق علمائها، وسمعت الحديث عن سفيان بن شعبة الثَّوْريِّ،
وشعبة بن الحجاج العَتكِّي، غير أني ما اصطفيت منهم لمحادثات الأدب إلا الخليل بن أحمد،
لأني وجدتُه أوسعهم عقلًا،
١٤ وأحضرَهم رواية، لا يُساميه في علوِّ الخاطر إلا صالح بن عبد القدوس الشاعر،
ولكني تحاميت مجلسه لما يتهم به من الانحراف عن السنة،
١٥ وإن كنت لا أبخس عقله حقه من التعظيم، وقد سمعت أنه يُجهِد نفسه في طلب الدنيا
والتماس السعة منها ثم لا يحصل على القليل إلا بعد عَصْب الريق وفي قوله:
إشارة إلى ما هو فيه، وأن النعمة تصيب غير أهلها، بخلاف الخليل بن أحمد فإنه متقلل
من
الدنيا راضٍ منا باليسير، والملوك تبذُل له المال
١٦ ولا يقبل منهم شيئًا مع مكانه من الحاجة إليه، وقد اشتهر فضله بين الناس بعلم
العروض، وضعه على دوائر خمس تتجزأ منها الأبحر الخمسة عشر، غير أن سُمُوَّه في العلم
لا
ينفرد بأدب الشعر وحده، إذ له في اللغة كتاب سمَّاه: العين وأودعه من عيون العلم
١٧ ما هو زينة وفخر لدولة الإسلام.
ذكر البصرة وأماكنها المشهورة
ولقد ظننتُ البصرة لأول وهلة ليست بالمفرطة الكِبر، فلما طفت في ساحاتها، وجُلْتُ
في
أرباضها ومَحَلَّاتها، بدا لي أنها متسعة البقعة كثيرة العمران، قلَّ أن يكون بها موضع
غُفْلٌ من العمارة خِلْوٌ من السكان، ومبانيها — على الغالب — من اللَّبِن إلا ما كان
من المسجد الجامع فإنه مبني بالصخر والجِصِّ على أتمِّ إحكام وأبدع صناعة، وأول من بناه
عُتْبة بن غَزْوان، أقامه من القَصْباء؛ لأجل أن ينزعه متى شاء ثم يعيد إقامته، فلما
جاء أبو موسى الأشعري بناه باللبِن وطلى جدرانه بالأصباغ، ثم جاء زياد فزاد فيه السقيفة
التي في مقدَّم المسجد،
١٨ وحمل إليه العَمَد المزخرفة من الأهواز، ورفع جدرانه بالحجر والجِص،
١٩ ثم لم تزل عناية الولاة به من بعده إلى أن تمَّت زينته وكثرت له الوقوف
الواسعة، وفيه اليوم قاضٍ يفرض النفقات ويحكم في مائتي درهم وعشرين دينارًا فما دونها
٢٠ تخفيفًا عن الدواوين التي تنظر فيما هو فوق ذلك من قضايا الناس.
ثم سرت من هذا الجامع إلى مسجد عليٍّ — عليه السلام — وإذا صحنه مفروش بالحصباء
الحمراء، وله أوقاف جزيلة مما وقف له الفرس ومَن يقول بخلافة أهل البيت، وهم يجتمعون
فيه ويتبرَّكون بمزاره، كأنَّ وعيد أبي جعفر لم يجد منهم نفوسًا راجعة إلى غرضه فيما
أوجد من الفرقة بين العلوية والعباسية، ووجدت في بعض مقاصيره مصحفًا عليه أثر دابغ مثل
الدم الجاف، يقال: إنه المصحف الذي كان يقرأ فيه عثمان حين قُتل،
٢١ وبعد أن قضيت زيارته المباركة جُلتُ في أسواق المدينة فرأيت التجارة فيها
على أحسن ما يكون من الرواج؛ ولا غرو فإنْ هي إلا فُرْضَةُ العراق والشام وخُراسان وما
إليها من البلدان العالية مما يكسبها حسن الموقع، بحيث لا يصدر شيء من هذه البلدان ولا
يرد إليها إلا من البصرة؛
٢٢ ولذلك استفحل فيها العمران وكثرت بها المصانع والصنائع إلى أن صارت واسطة
عقد بلاد العرب وقبة الإسلام.
ومما يُذكر عن بنائها ما حدثني به الهَيْثَم أميرها أنَّ المسلمين افتقروا في صدر
الدولة إلى منزل ينزلون به وإذا دهمهم عدو لجئوا إليه واعتصموا به، فبعث عمر — رضي الله
عنه — عتبة بن غزوان المقدَّمَ ذكرُهُ وأوعز إليه أنِ ارْتَدْ لنا موضعًا في جهة العراق
قريبًا من المرعى والماء والمحتطب؛ فكتب له من البصرة: إني وجدت أرضًا كثيرة القضة في
طرف البر إلى الريف، ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء
٢٣ فكتب إليه عمر أن ينزلها بمن معه، فوقع تمصيرها في السنة الخامسة عشرة من
هجرة النبي
ﷺ.
ولما جلست إلى الخليل العالم الأمثل ودار بيننا الحديث على أيام الناس الأول، أخبرني
أن البصرة إنما اختطَّها العرب نِكاية بالفرس لتحويل التجارة من سواحلهم إليها؛ وذلك
أنهم لما صالت منهم الأجناد، واتسعت بين أيديهم أحبوا أن يبينوا هذه المدينة فُرْضَةً
لجميع المشرق؛ ففشت العمارة فيها في برهة يسيرة حتى غَصَّتْ بالناس على ما رحُبت
أرجاؤها. يقال: إنه كان فيها من مقاتلة العرب لأيام زياد ثمانون ألفًا،
٢٤ وأخبرني الهيثم أن أهلها يبلغون اليوم خمسمائة ألف من الرجال، بدليل المال
الذي فرقه فيهم أبو جعفر، وكان ألف ألف درهم فلم يُصب الرأس منهم إلا درهمين.
٢٥
وتبتعد البصرة عن عَبَّادان حيث الشاطئ نحو ساعة زمانية، وعندها تختلط مياه دجلة
والفرات
٢٦ وتصب في البحر المالح بعد أن تفقد عذوبتها؛ لأن المدَّ يأتي إلى ما فوق
البصرة بأميال، فإذا امتزج به ماء دجلة صار ملحًا،
٢٧ ولقد يَخال الرائي لأول وقوع المدِّ أن البلاد صارت غديرًا، كما وقع لحمزة
بن عبد الله أمير البصرة لعهد ابن الزبير، وقد ركب يومًا إلى الفيض، فقال: إن هذا
الغدير إن رفقوا به يكفِهم صيفتهم هذه، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرًا؛ فقال:
قد رأيته ذات يوم فظننت أن لن يكفيهم؛ فقال له الأحنف بن قيس: أيها الأمير، إن هذا
الماء يأتينا ثم يغيض عنا ثم يعود؛ فخجل حمزة، وعاب عليه الشعراء ذلك في أبيات لهم
يعرفها عامة الناس.
ولقد تصفحت في البصرة كثيرًا من قصورها المشرفة، واستقريت أماكنها المشهورة بما وعيتُ
عنها من الأنباء، وأحسن ما استظرفتُ منها قصر لمحمد بن سليمان الهاشمي،
٢٨ وهو أوفر بني العباس مالًا وأعطاهم لشاعرٍ نوالًا، تُغِلُّ ضِيَاعُه كل يوم
مائة ألف درهم،
٢٩ وقد بناه على بعض الأنهار واستفرغ في زينته جهده، واتخذ في جنانه المها
والغزلان والنعام وأنواع السباع والطيور المغردة، فجمع فيه محاسن الحضارة والبداوة،
وفيه يقول الشعراء:
زُرْ واديَ القصر نِعْمَ القصرُ والوادي
في منزلٍ حاضرٍ إنْ شئتَ أو بادي
ترقى به السفن والظُّلْمان حاضرة
والضبُّ والنون والملَّاح والحادي
إلى آخر الأبيات.
وأما القصور التي بقيت بعد أربابها فإنها لكثيرة في البصرة، شاهدت منها قصرًا لأوس
بن ثعلبة
٣٠ الذي ولي العراق وخراسان في دولة الأمويين، وهو قريب من المربد،
٣١ وعليه قباب مرفوعة يَغَصُّ الجوُّ بها صعودًا، ومن حوله خمائل وارفة، كأن
الأيام تزيدها جِدَّة ونضارة، وتُلبسها من الخضرة حُلَّة قَشِيبة.
ولله ابن أبي عُيَيْنَة حيث يقول في وصفها هذه الأبيات:
بغرسٍ كأبْكارِ الجواري وتربةٍ
كأن ثراها ماء ورد على مسك
يذكرني الفِردوسَ طورًا فأرعوي
وطورًا يواتيني إلى القصف والهتك
وسِربٍ من الغِزلان يرتعْنَ حوله
كما استُلَّ منظوم من الدر من سلك
وورقاءَ تحكي الموصليَّ إذا غدت
بتغريدها أحبب بها وبمَن تحكي
فيا طيبَ ذاك القصرِ قصرًا ونزهة
بأفيَحِ سَهْلٍ غيرِ وَعْرٍ ولا ضَنْك
وشاهدت قصر الأحنف بن قيس
٣٢ المقدَّمِ ذكره في رحبة المنجاب،
٣٣ ودارًا لأنس بن مالك
٣٤ خادم النبي
ﷺ، وإبوانا للزبير بن العوام
٣٥ تنزله التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهات من البحرين وغيرهم، وآخر
لعُبَيْد الله بن زياد يُسمَّى: البيضاء،
٣٦ وهو بمقرُبة من الموضع الذي خطب فيه أبوه خطبته البتراء
٣٧ التي أخذتْ بقلوب البصريين، وقد تداعت جدرانه فلم يبقَ منه إلا أثر دارس
ورسم شاخص.
العرب البادية ونُتَفٌ من أخبارهم
ولقد أتيت مربد البصرة عن طريق المهالبة
٣٨ فسكة المربد،
٣٩ فإذا هو ساحة كبيرة تُنوَّخ فيها الجِمال، وتُحطُّ بها الرحال، وتعلق فيها
الأشعار التي يتناشدها العربُ في أيام من الشهر معلومة يكون لهم بها مجالس ويبيعون ويشترون،
٤٠ وهناك موضع يقال له: شمس الوزانين، وفيه مسجد صغير يُعرف بمسجد الأنصار،
٤١ قد طلي بالأصباغ ولم تُرفع صوامعه إلا قليلًا، ووجدت صحراء البصرة من وراء
المربد وَعْرة مرملة لا يغرد عليها طير ولا ينبت فيها شجر غير النخيل؛ لفقدان الماء
فيها، وخيراتُ البصرة تَرِدُها من الأبُلَّة، وهي مدينة عامرة بالناس خصبة الجناب كريمة
البقعة، يشقها جدول من دِجلة، ولا تخترق أشعة الشمس أرضها لالتفاف شجرها بعضِه على بعض،
وفي مُرساها مجتمع كثير من مراكب الهند والصين؛ لأن الربح فيها واسع لأهل التجارة، وأما
التخيل المتصل فيما بينها إلى البصرة؛ فأعلى الصحراء فإنه كسب وافر للناس، يقال: إن
ثمنه يعدل
٤٢ ما يُحمل إلى بيت المال من الأقاليم كافة.
وإلى ما وراء المربد في ظاهر البصرة عرب من عامرٍ
٤٣ وقيس عَيْلان، كنت أختلف إلى أحيائهم، وأبيت ليالي عندهم، وآكل من ثريدهم،
وأشرب من ألبان نوقهم، وأجلس على الوبر والأنطاع، وأعي أحاديثهم بإقبال واستمتاع، وأشهد
حلق القُصَّاص فيما يتحدثون به من أيام العرب وأخبارهم، فوجدتهم يتفاخرون بتأليف الخطب
وقول الشعر والسيف والضيف، ولا يُهنِّئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس
تُنْتَج، وعلمت من أخبارهم أنهم لا يأتون الفحشاء، بل يعاقبون الزناة بالقتل
٤٤ وذكر هؤلاء القصاص أن جميلًا لما سأله خُلَّانه أنْ: ما عملتَ مع بُثَيْنة
طول تلك الأيام؟ قال: كنت أمتع عيني من وجهها وسمعي من حديثها، ولم أمدَّ إليها يدًا
غير مرة واحدة، أخذت يدها ورفعتها إلى صدري لتشعر بخفقان قلبي،
٤٥ وهذا خبر ينقلونه عن أكابر الرواة فأحببت أن أكتبه إليك؛ ليدلك على ما وضعه
الله في صدورهم من نبل الهِمَّة وعفاف النفس.
وقد بقي في خاطري ذكر عذب لاجتماعي بهؤلاء العرب، وقد طاب لي الجلوس إلى قيس عَيْلان
أكثر منه إلى بني عامر؛ لأني وجدت فيهم بيانًا وفصاحة
٤٦ غير أنهم لم يلبثوا في البصرة إلا قليلًا حتى شالتْ نعامتُهم، فصرت أتوجَّه
إلى بني عامر، وعَرَفتُ بالمُقام بينهم كثيرًا من خلال العرب المحمودة، وقد أعظمت رواج
الأدب بينهم، والكتابةُ عندهم مفقودة
٤٧ غير أنهم يَجرون على قواعد اللغة في أشعارهم ومحاوراتهم بما ليس في الإمكان
أصحُّ منه، ولهم في كلامهم من الأمثال الحكيمة ما لم نجده في كثير من أمم العلم
والحضارة، فيمرق الكلام من أفواههم مروق السهم من الوتر كما يقولون، وهم أصحُّ الناس
أبدانًا؛ لأن الظعن كفيل لهم بطيب الرياح التي لا تخبُث إلا مع القرار والسكنى وكثرة
الفضلات
٤٨ ولأن طعامهم اللَّبَن والتمر والقليل من اللحم، وما يمارسون من الرياضة
بَعِيدٌ عن أن يجلب إلى أبدانهم العِلَل،
٤٩ وأكثرهم من صلابة الجسم والنشاط بحيث يَلحقون الخيل والحُمُرَ الوحشية
عَدْوًا، فلقد سمعت مَن يُحدِّث عن تأبَّط شرًّا أنه كان إذا جاع نظر في السهل إلى
الظباء فانتقى لنفسه أسمنها، ثم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه ويذبحه بسيفه،
٥٠ وربما حدَّث الرواة بكثير من أمثال هذا الخبر عن الشَّنْفَرَى وعمرو بن
برَّاق وغيرهما من العدَّائين.
ووجدت لهم من الصفات الحسان التي تُحدِثها فيهم شهامة النفس ما ليس يجتمع في غيرهم
من
الأمم اجتماعه فيهم، فهم يَحمون الذمار، ويمنعون الجار، ولا يُغْمضون على الذل كما هو
معروف عنهم في الأشعار، فلَأن يموتوا قتلًا تحت ظلال السيوف، أحبُّ إليهم من البقاء في
رِبْقة الذل والجنوف. يقول عمرو بن كلثوم من أصحاب المعلقات:
إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خَسْفًا
أبَيْنا أن نُقِرَّ الخسفَ فِينا
إلى غير ذلك من الأبيات المعروفة، وهم يَفُون بالقول من غير أن يكتبوا على نفوسهم
العهود، ويأخذون بثأرهم أخذًا شديدًا، وذلك ناشئ فيهم من بعدهم عن القضاء؛ لأنهم لو
كانوا يعانون الأحكام؛ لفسد البأس فيهم، وذهبت المنعة منهم،
٥١ ولكن ذلك قد يدعوهم إلى التفاني على غير علة إلا الحصول على الرخيص مما
يبذلون في سبيله من النفيس، كإثارتهم لأجل امرأة أو فرس أو بعير قتالًا يستمر أعوامًا
طوالًا بين عشائرهم، حتى إذا أراد الله — تعالى — أن يُدرِكهم بلطفه الشامل نهاهم عن
القتال في الأشهر الحرم فنقص فيهم من القتل ما يقع في أربعة شهور من القتال، والله رءوف
بالمؤمنين، وهو العليم الحكيم، لا رب سواه.
وأكرم ما وجدت فيهم من المحامد الموصوفة الكرمُ والسماحة، حتى إنهم ليضيفون نزلاءهم
ضيافة يوجبونها على أنفسهم، ولو كان النزلاء قَتَلَة آبائهم،
٥٢ وربما توسعوا في أدب الضيافة إلى أن يكون بهم بشاشة عند قدوم الضيف وغُصَّة
عند ارتحاله، كما يقول عاصم بن وائل من شعرائهم:
وإنا لنَقْرِي الضيفَ قبلَ نزوله
ونُشبعه بالبِشْر من وجه ضاحك
ولقد كنت أسمع عن كرمهم أحاديث لم أنقلها عن جانب الثقة والاعتبار، فلما نزلت بجوارهم
تحققتها بالمشاهدة والاختبار، ووجدت أن كلهم كريم، حتى لقد يكون السخاء تسعة فيهم
وواحدًا في الناس،
٥٣ ومَن زعم أن حاتمًا الطائي أكرم العرب فقد ظلمهم جميعًا، وظني بأخذهم في
هذه الضيافة الواجبة أنه أمر طبيعي عندهم؛ لأن الراحل منهم قد يُفوَّز في الفلاة أيامًا
طوالًا على جَهْد من العطش وسُعار من الجوع، فإذا انتهى إلى خباء مضروب ورآه أهلُه
بمكانه من العناء والإعياء؛ قَرَوْه وعَلَفوا مطيَّته وأوقدوا له نارًا يصطلي بها من
كَلَب البرد كما يقولون، حتى إذا أصابهم في ظعنهم مثل هذا العنت الشديد يتلقاهم أهل
الخيام على السَّعة من الضيافة.
قال حسان بن ثابت يتهلل بذكر المكرمات:
وإني لمُعطٍ ما وجدتُ وقائل
لموقد ناري ليلةَ الريح: أوقدِ
وكان الكرم ينتهي بهم إلى أن يقوم لعشائرهم منادٍ في الأسواق ينادي في الناس: هل
مِن
جائع فنطعمَه، أو خائفٍ فنؤمنَه، أو راحلٍ فنحملَه؟ وهذا أحسن ما يكون من محامد النفس
الكريمة، ولست أقول إلا أنه كانت لهم في مناقضة هذه المحاسن مساوئ كثيرة في الجاهلية،
فلما نزل كتاب الله روَّض أخلاقهم المستهجنة، وصرف عنهم المكروه من العادات، فقد نقلت
الأخبار السالفة أنهم كانوا في جاهليتهم يتزوجون بنساء آبائهم
٥٤ ويُكْرهون إماءهم على البِغاء
٥٥ ويألفون غير ذلك من العادات الخشنة التي ذهبت بمجيء الإسلام.
وإنما اضطُّر العرب إلى سكنى البادية وتخير بقاعها على الأيام بحسب أحوالها من
الصلاح؛ لأنهم وُجِدوا في قِفار قد تراكمت عليها الرمال المحرقة، وما كانت تُنبِت لهم
حبًّا ولا بقلًا، وكانت آبارهم تَغيض في حمارَّة القيظ على بُعد قعرها، فكانوا يظعنون
لوُرود غيرها من المناهل في أصقاع يكون بها خضرة من الكلأ، وتظهر للعين بين ما حولها
من
الرمال المنبسطة كأنها جزر في بحر تسير في مناحيه الجمال كما تسير السفن على ظهر الماء،
ولكن ليس ذلك إلا القليل في جانب الكثير من رمالهم المحرقة، ثم إن الله — تعالى — أوجد
لهم الإبل
٥٦ والسائمة فكانوا يرتادون لها الماء فيما اتسع لهم من مجالات البادية، فكانت
سكناهم في الوبر لما تقدَّم من الأسباب أمرًا طبيعيًّا، ولو أنهم نزلوا الأمصار ورفعوا
بيوتهم من الحجارة ما اتسعت من حولهم المزارع والمسارح لحيواناتهم،
٥٧ فضلًا عن كونهم يرون الأبنية والتحويط حصرًا لهمم الرجال
٥٨ وحبسًا لما في الغرائز من حب الاستقلال فهم لا يصبرون على الضيم، والحريةُ
عندهم أفضل ما أعطاهم الله، يبذُلون نفوسهم ونفائسهم دون تقريرها لأنفسهم، فإنا لا نجد
في أحاديث النقلة أن أمة استعبدتْهم في غابر الدهر قط، فهذه الكلدان والسريان واليونان
والروم والفرس وآل ساسان قد ملكوا العالَم إلا العرب، وكان من أمانيِّ الإسكندر الرومي
أن يدعوهم إلى طاعته بعد أن تمَّ له الغَلَب على المشرق، غير أن المنية عاجلتْه قبل
الإقدام على التغرير، فرُزِق بموته سلامة من الإخفاق، حتى لا يقال عنه، وهو الملك
المنصور: إنه توجهتْ عليه هزيمة؛ إذ لست أشك أنه لو أقدم على العرب ما ثبت له جند عليهم
في تلك المجالات التي يتوغلون فيها ويبيتون في أمن من العدوِّ وإن كثُر.
ولقد لقيت من هؤلاء العرب فتًى تلوح عليه النجابة والفطانة، فذكرت له أن في لقائه
الملوكَ سبيلًا إلى نيل العلا فأخبرني أنه نزل الزَّوْراء لأول ما بناها أبو جعفر ولكن
لم يمضِ إلا القليل حتى ملَّ العمران ومال به الشوق إلى ربوع العرب، وأنشدني وهو
منصرف:
لَبيتٌ تخفِق الأرواح فيه
أحبُّ إليَّ من قصر مُنِيف
ولُبسُ عباءةٍ وتَقرَّ عيني
أحبُّ إلي من لُبْس الشُّفوف
والأبيات لفتاة من العرب صارت إلى معاوية بن أبي سفيان، ثم لم تَطِبْ نفسًا بالمُقام
عنده، فرجعتْ إلى البادية بعدما أنشأت الأبيات التي أنشدنيها هذا الغلام، فسبحان من قسم
المعايش بين الأجيال، وركَّب في نفوسهم طباعًا متفاوتة، لا إله إلا هو ذو الإكرام
والجلال.
الانفصال عن البصرة ولُمْعَة من أخبار الحجاج
كان مُقامي في البصرة شهرًا وثمانية أيام، ولما طويتُ بساط الإقامة تهيأ لي أن أصعد
على دِجلة سفرًا
٥٩ يخفف عني مشقة الركوب على ظهور المطايا، فدفعت حمولي إلى الرُّبان، وانفصلت
عن البصرة لأول هدءٍ من الليل، حتى إذا طلع النهار كنا في متوسط بِطاح مفروشة بالنخيل
على مد البصر، وفيها خيام لبطون من تميم
٦٠ وشَيْبان،
٦١ قد ضربوها على مرتفعات من ذلك السهل، فكان تأملي منازلهم مع ما أعلمه من
شدة تعلقهم بعيش البداوة يُمثِّل لي من بعدُ ارتحالَهم مرافقين الشعراء وقد وقفوا
بالعِيس على هذه الأطلال وبكَوْا عهودًا مضتْ لهم في زمان الأنس بين هذه الربوع.
ولما كان بعد أيام طلعتْ علينا سَموم يكاد يأخذ حرها بالنَّفْس، وكدنا ننكُص على
الأعقاب لاختلاف الريح؛ فرأى الربان أن ينزل الملاحون إلى البر ويربطوا المركَب بأمراس
يجرُّونه بها من عُدْوة النهر ريثما يحصل الفرج، ومضى الليل كله من غير أن تكتحل عيناي
بنوم من شدة الحر إلى أيام عشرة لم نَزَلْ بها في مغالبة الريح ومقاساة عَنَتِها الشديد
إلى أن وصلنا إلى مدينة واسط.
٦٢
هذه المدينة في فضاء من الأرض طيبة الإقليم والنسيم، غير أن الحر غالب عليها لإقبال
الرياح إليها من جهة الرمال المتراكمة على هِضابها،
٦٣ ومبانيها من الإحكام بمكان سامٍ، ولا سيما القصر الذي بناه الحجاج،
٦٤ وهو باقٍ إلى زماننا هذا، وهو سنة ست وخمسين بعد المائة، والناس يسمونه:
الخضراء، وله قبة مشهورة في مباني الإسلام، حتى قيل: إنه ما بُني لأحد قبل الحجاج مثلُها،
٦٥ وفيه أحواض كثيرة يرقى إليها ماء دجلة، وأعظمها حوض من الرخام الأخضر وبه
مجلس به سرير مذهب
٦٦ يقال: إنه كان مقعدًا للحجاج في مجالسه العامة، وهذا القصر بهيج مزخرف
بأنواع الزينة؛ لأن النفقة عليه وعلى الجامع الذي بجواره بلغت نحوًا من أربعين ألف ألف
درهم،
٦٧ ولكنه سمُج في عيني بما ورد على خاطري عند مَرْآه من قبائح الحجاج، فكأنه
بيت قد رُفِعت جدرانه على دعائم الظلم والاعتساف.
وبقيتُ في واسط ثلاثة أيام لاختلاف الريح، ولكن على كُرْه من النفس؛ لأني كنت أراها
بعين الماقت لها، ونزلت بها في فندق على شاطئ النهر حيث الجسرُ المُقام من سفن، وأمامه
ساحة تباع فيها الخيول ويكون بها سوق في أيام معلومة من السنة، يأتيها العرب بما يريدون
بيعه من الخيل والجياد التي يحتفظون بها احتفاظ الآباء بالبنين
٦٨ فإنهم لا يتخلَّوْن عنها بالقليل ولا بالكثير من المال، وإذا سألتَهم بيعها
منك بأغلى الأثمان فأنت مردود في سؤلك، يقولون لك: هذه منجاتنا من العدو، وإذا أطلقنا
لها العِنان طبَّقتِ الآفاق بأسرعَ من لمح البصر.
ولم تزل هذه السوق مقامة في واسط منذ بُنيتْ إلى هذه الغاية؛ لأنها كانت في أول هذه
المائة من أعمر بُلدان العراق؛ بما خصها الله من خِصب التربة وكثرة الخيرات، فلما وقع
بها الطاعون الجارف منذ أربعين سنة
٦٩ ونزلت بالناس السنون، وأخذتهم المجاعات؛ أتى عليها الخراب والانحلال وتجافى
الناس عن سُكْناها بما توالى عليها من الفتن التي وقعت في صدر هذه الدولة إلى أن استقر
فيه السِّلْم وبعُد عهدها من الوباء، فسارع أرباب التجارة إلى استيطانها؛ لما يتسنى لهم
فيها من قرب الاتصال، والمسافةُ الآن منها إلى الزوراء خمسون فرسخًا، ومنها إلى البصرة
خمسون أيضًا، ومنها إلى الأهواز مثل ذلك، وظني أنها سميت بواسط لهذا السبب؛ وهو توسطها
العراقَ.
وقد اتفق لي قبل الانفصال عنها أني لقيتُ فيها شيخا كان أبوه خادمًا عند الحجاج —
حاسبه الله تعالى — فحدثني من أخباره ما تنفطر منه الأفئدة رحمةً لأهل البيت وأصحابهم؛
لأنه كان يقتل منهم جُزافًا على التُّهمَة، إلى أن بلغ عدد الذين قتلهم صبرًا مائة ألف
وعشرين ألفًا، وكان في السجن عندما أهلكه الله أكثر من خمسين ألفًا يرسفُون في سلاسل
الحديد، ولا ذنب لهم إلا حبهم لأهل البيت، وكان الناس في أيامه إذا تلاقَوْا في المجالس
والمساجد والأسواق يتساءلون: مَن قُتِل البارحةَ ومَن صُلب ومن قُطِع؟ وقد تفاحش ظلمه
في الخراج بحيث إن الأمراء بعده كانوا يستنكفون عن ولاية الخراج خوفًا
٧٠ من نقص الخراج إذا خفَّفوا ضرائبه ومكوسه، أو الاستمرار على ظلم الناس إذا
راموا جباية ما كان يحمله إلى الخليفة من المال.
٧١
وقد رسم لي هذا الشيخ صورته بأنه كان قوي البنية مائلًا إلى السمَن، ولا يزال العرق
متصببًا على جبينه وصُدْغيه من تحت قلنسوةٍ قد حوَّطها بعمامة خضراء،
٧٢ وكانت له مهابة تقصم ظهر الوافد عليه، وكان شديد التهويل في خُطَبه، وإذا
صعد المنبر تلفع بمُطْرَفه، ثم تكلم رويدًا رويدًا فلا يكاد يسمع، حتى يتزايد في الكلام
فيُخرِج يده من مطرفه، ثم يزجر الزجرة فيقرع بها مَن في أقصى المسجد.
قال: وكان يحدثني أبي أنه كان يجد لذة
٧٣ في سفك الدماء وارتكاب أمور لم يُقدم عليها غيره ولم يسبقه إليها سواه،
ولما أرسله عبد الملك بن مروان إلى العراق ليوطِّئ له المنابر خرج كميشَ الإزار وغلب
الناس بقوة الرجال لا بالسياسة والرأي؛ لأن جنوده كانوا من الشام
٧٤ وهم على غرض الأمويين مخالفون لأهل البيت، فلما أوجدهم بين أعدائهم لم يرَ
منهم إلا نفوسًا مستقِلة راجعة إلى رأيه في كل أمر ونهي، فحملهم على منازلة مكة المكرمة
من هذا الوجه، ولم ينفك عن ضربها حتى استسلم إليه أهلها بعد أن تصدَّع جِدار البيت
الحرام، فأقام مُلْك بني أمية على هذا الظلم وقوَّمه لهم خمسين سنة من بعده، إلى أن
أراد الله انقراض دولتهم في المشرق.
هذا نَبْذ يَسير من أخبار هذا الظالم الغاشم، وقد رأيتُ تناقل الحديث عنه في أفواه
الواسطيين كتناقل الحديث في مجالس البصريين عن زياد ابن أبيه، وكلاهما قد أذاق العراق
من الهوان والقهر ما لم يَسبِق إليه أحد من البُغاة الظالمين، ولكليهما فضل في تدبير
ما
خُوِّلا من الولاية، إلا أن لزياد فضلًا في بلاغة الكلام التي شهد له بها أكبر الرجال،
وضبطَه البلادَ بأهل البلاد أنفسهم أعظم من فضل الحجاج الذي ما غلب العراقيين إلا بأهل
الشام، وما قوَّم مُلكه إلا بالسيف الباتر، والجبروت القاهر.
المرور بمدائن كسرى أنو شِرْوان
كان انفصالنا عن مدينة الحجاج في ليل رطيب قد انفتق سحابه عن القمر، فقضينا جزءًا
كبيرًا منه في السمر حتى إذا أسفر الصباح كنا في محاذاة قصر يقال له: الرمان
٧٥ ومن حوله خيام مضروبة للعرب، فوقع ذلك من نفسي موقع الاستعبار من الدنيا في
نعيم الحضارة وشقاء البداوة؛ إذ كانت الأضداد منها على هذا الوجه قلما يقع عليها النظر
في وقت واحد، وكان يلوح لنا في صدر السهل إلى آخر النهار بناء عظيم أُخبرت أنه من جملة
المناظر التي أقامها الحجاج بينه وبين قَزوين،
٧٦ وهي إذ ذاك آخر الثغور، حتى إذا ظهر فيها الخوارج دُخِّنت بالنهار فدُخِّنت
المناظر كلها أو أوقدت بها في الليل نار فاستُوقدت المناظرُ فيعلم ذلك.
ولم نزل نخترق عباب دِجلة يومًا بعد آخر حتى جزنا جَبُّل والنعمانية ثم كَلْواذا
٧٧ وأقبلنا على المدائن مع طلوع الفجر، فنزلت إلى البر أتفرج بالإيوان الذي
بناه كسرى أنو شِروان، فإذا هو في غاية العظم ونهاية الإتقان، يبلغ طوله نحوًا من مائة
ذراع وعرضه نحوًا من نصف ذلك وقدرت في ارتفاعه أكثر من ثمانين ذراعًا، وليس في مباني
الآجُرِّ ما هو أبهى منه، وقلما يوجد فيه موضع غُفْل من رسم أو نقش أو كتابة، وهو يعد
من العجائب ويشهد لما اقتدر عليه الفرس في عهود الأكاسرة الذين جَبَوْا معظم الدنيا،
حتى صار يضرب المثل بما جمع من الضخامة والإحكام، ولا يُرى فيه اليوم من الآثار الجليلة
إلا صور آلهة جبابرة وسباع ضارية، ومشاهد حروب يفوز بها كسرى الخير أنو شِروان،
٧٨ وأما آنية القصور وزخارفها المنقولة وما كان فيها من المتاع الثمين فقد
فُقدت بعد الفتح، وبلغ المحمول منها إلى بيت المال ألفَ ألف دينار من الذهب.
وجملة القول أن شأنه في الفخامة والإتقان مما يحير الأذهان، على أن الأيام قد أهوت
عليه بمعول الفناء الذي ليس في طاقة الطين اتقاؤه، ثم زاد على ذلك كله أن أبا جعفر لما
ابتنى الزوراء حمل من آجُرِّه جانبًا كبيرًا على بُعد الشُّقة وعظم النفقة، فعارضه خالد
بن برمك — رعاه الله — وقال يُرغِّبه في حفظ ذلك الأثر: يا أمير المؤمنين، لا تفعل
واتركه ماثلًا، يُستدل به على اقتدار آبائك الذين سلبوا ملك أهل هذا الإيوان، فاتهمه
الخليفة في النصيحة، وقال: أخذتْه النُّعَرة للفُرْس، وأبى إلا التعصب لقومه؛ فوالله،
لأصرعنَّه قريبًا، ثم شرع في هدمه واتخذ له الفئوس وصبَّ عليه الخلَّ وحماه بالنار، حتى
إذا أدركه العجز وخاف الفضيحة بعث إلى خالد يستشيره في التجافي عن الهدم، فقال: يا أمير
المؤمنين، قد كنت أرى ألا تهدمه، فأما إذ فعلتَ فإني أرى أن تستمر على ذلك؛ لئلا يقال:
عجز سلطان العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم، فعرفها المنصور، وأقصر عن هدمه ولكن بعد
أن قوَّض جانبًا من هذا الأثر الجليل.
ولما وقفت بالإيوان كانت الشمس لأول طلوعها وعلى تلك الدِّمَن ندًى يتلألأ ما بين
الأوكار التي تجنح إليها طيور الخراب، فقعدت أتأمل ما كان عليه رب هذا القصر من العزة
وعظم القدر، وكيف أخنى عليه الدهر؛ فأخذتني لذلك عَبرة من مشاهدة الآثار الباقيات
وتذكرت نظم شاعر يقول هذه الأبيات:
أيها الشامتُ المُعيِّر بالدهـ
ـر أأنت المُبَرَّأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأيَّـ
ـام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من
ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى خير الملوك أنوشِر
وان أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر الكرام ملوك الرُّ
وم لم يبقَ منهمُ مذكور
وقد كان لمرأى هذه الآثار تأثير في الخاطر لا يبرح منه العُمُرَ، وكان رحيلنا عنها
قبيل الظهر ونحن على ستة فراسخ
٧٩ من دار السلام، وقد فرغت من تقييد هذه الرسالة في آخر يوم من رمضان، أرانا
الله بركته بمَنِّه وكرمه، ونحن قد جزنا موضعًا يعرف بالنَّهروان،
٨٠ وصرنا على مُطلٍ من الزوراء أم البُلدان.