الرسالة العاشرة
أُصِبْتُ بِسَادةٍ كانوا عيونا
بهم نُسقَى إذا انقطع الغَمامُ
أكتب هذه الرسالة إليك والدمع جارٍ في الآماق، ليس على البرامكة وهم أحياء في الناس،
ولكن
على الدنيا التي ذهب خيرها وعفَّت البلية رسوم محاسنها، حتى كأنها طلل من هذه الأطلال
التي
يهجرها الأنس ولا يقف عندها إلا الباكون النادبون.
كنتُ قبل الوصول إلى الرَّقَّة وافاني مِن قِبَل البرامكة رسولٌ يَستقدمني إليهم،
ويُعلمني أنَّ الكتاب الذي أحمله إلى عاملها يأمره فيه الرشيد بأنْ يستبقيني عنده، ويمنعني
من الرجوع إلى الحضرة لما داخَلَه فيَّ من الريبة، ففضضتُ الكتاب فوجدتُ فيه تلك الإشارة؛
فأصابني من الانقباض ما يُصيب الرَّجل المستسلم للحَيْن؛ لأني ما كُنتُ أُراني ناجيًا
من
وقوع الغدر بي ووصول المكروه إليَّ، ووقفتُ أتساءل فيما قام بنفس الرَّشيد من سوء المظنة
بي
بعد أن أدَّيْتُ رسالته حقها من الإخلاص، وخدمته خدمة الناصح الأمين، فلم أجد في نفسي
علة
إلا المودة التي بيني وبين البرامكة،
١ فأتاني أن أنضمَّ إليهم، فقمت لساعتي وتبدلت بزيي زيَّ الحجاز الجاف، ثم ركبت
إلى بغداد مُتنكرًا كيلا يعرفني أحد من الناس.
فلما وصلتها وجدت في أهلها ذلك الخمول الذي يقع في الجماعة من هول عظيم، فاستدللتُ
بذلك
على وقوع الأمر بينهم وبين الرشيد؛ فأسرعتُ إلى منازلهم فوجدتها مغلقة وعلى أبوابها حرس
الخليفة قد وقفوا بالسيوف؛ فاسودَّت الدنيا في عيني، وامتلأ قلبي من الوحشة، وكدت أفقد
إحساس رجليَّ من الجَهد، إلا أنه لم يكن لي — وأنا طَلِبة الخليفة — أن أُطيل الوقوف
تِلقاء
دورهم، فرجعت أمشي على غير دراية لعلِّي أصادف صديقًا أتوجع إليه، وأستطلع أخبارهم من
قِبَله، حتى وصلتُ إلى دار إسحاق النَّديم
٢ فدخلتُ الدار وحسرتُ اللثام عن وجهي، فلمَّا عرفني ترقرقتْ عيناه دموعًا، وقال:
بمَ أندُب البرامكة؟ أَأُعزِّيك أم أُعزي نفسي أم أُعزي الأيام بفقدهم؟ وبكى حتى خنقتْه
العَبْرة؟ وكنت في ذلك الوقت لا أعي من شدة الهول، ولم يكن إسحاق يُكلمني عن أمرهم مع
الرشيد إلا كلامًا متقطعًا ممزوجًا بالزفرات.
قد علمتَ مما مضى إليك في الرسالة السالفة موقِف البرامكة من الرشيد، هو يحاول الإيقاع
بهم حسدًا على ما صار إليهم من النِّعمة، وهم يسلكون معه مَسلك المودة؛ ليرجع عما قام
بنفسه
من الحقد وإلا أثاروا الخراسانيين خروجًا عليه في دعوة أهل البيت، وعلمتَ أنَّ الفضل
بن
الربيع كان موقنًا بزوال النعمة عنه مع بقاء البرامكة، وأنه كان يخوِّف الرشيد مؤامرتهم
مع
الفُرس ويذكر له أن الخلافة في موقِف بعيد عن التخلص من دهائهم؛ إذ كانت الملوك طَوْعَ
أمرهم وأموال الدولة كلها بأيديهم، حتى ملأ صدره من عدواتهم.
ثم علمتَ أن الرشيد كان قد أهداهم مسروقًا غلامه؛ ليوهمهم رضاه، ولكنك تعلمُ أنه كان
بينه
وبين هذا الغلام مُواطأة على نقل أحاديثهم إليه، وعدِّ أنفاسهم عليهم ومراقبتهم في جميع
حركاتهم خديعة منه، حتى إذا نقل إليه الكلام الذي كان يُحدِّثني به جعفر في المشاعر
المباركة عمد إلى هدر دمه الزكي، ووجهني إلى الرَّقة مثل المجرمين الذين في نفوسهم تَبِعةٌ
من شر، نعوذ بالله من سخطه.
وقد حدثني إسحاق أنَّ الرَّشيد كانَ قبل اليوم الذي نكبهم فيه قد ركب إلى أرباض المدينة
ومعه إسماعيل بن يحيى الهاشمي وجماعة من أقاربه، وبينما هو يسير إذ نظر إلى موكِب عظيم
قد
اعترضه عن بعد، فقال لإسماعيل: يا إسماعيل، لمن هذا الموكب؟ قال: لأخيك جعفر، فالتفت
يميمنًا وشمالًا وإلى من معه؛ فإذا هم شِرذِمة قليلون، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفر
فلم
يره، فقال: يا إسماعيل، ما فعل جعفر وموكبه؟ فقال: يا سيدي، قد مضى أخوك في طريقه ولم
يعلم
بموضعك، فقال: ما رآنا أهلًا لأن يُزيِّننا بموكبه ويُجمِّلنا بجيشه، فقال: عفوًا، يا
أمير
المؤمنين إنه لو علم بموضعك ما تعدَّاك ولا سار إلَّا بين يديك، ثم سار حتى انتهى إلى
ضيعة
عامرة ومواشٍ كثيرة وعمارة حسنة، فقال: يا إسماعيل، لمن هذه الضيعة؟ فقال: لأخيك جعفر،
فسكت
الرشيدُ، وتنفس في كمد، ثم سار، وما زال بضياع بعضها أعمر من بعض، وكُلما مرَّ بضيعة
سأل
إسماعيل عنها فيقول:
هي لجعفر ولإخوته، حتى وَصل إلى الحضرة، فلما خلا مجلسه قال: يا إسماعيل، انظر إلى
البرامكة أغنيناهم وأفقرنا أولادنا وأهل بيتنا، فإني لا أعرف لأحد من أولادنا ضيعة من
ضِياع البرامكة
٣ على طريق واحد بقرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم من غير ذلك على غير هذه
الطريق في جميع البلدان؟ فقال إسماعيل: يا أمير المؤمنين، إنما البرامكة عبيدك وخدمك
والضيعات وأموالهم وجميع ما يملكون هو لك، فنظر إليه نظرة جبَّار، وقال: والله يا إسماعيل،
ما عدَّ البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم، وإن الدولة لهم، ولا نعمة لبني العباس إلا وهم
المنعمون بها عليهم، فقال: أميرُ المؤمنين أَبْصَرُ مِن غيره بخَدَمِه ومواليه، فقال:
والله
يا إسماعيل، إنك لتعلم أني قلتُ هذا وكأني بك تُخبرهم به فتتخذ به يدًا عندهم، وإني آمرك
أن
تكتم هذا الأمر؛ فإنه لم يعلم به أحد غيرك، ومتى بلغهم شيء مما جرى بيني وبينك علمتُ
أنه ما
أفشاه إلا أنت، فقال: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن مثلي يُفشي سرك.
ثم ودعه وجاءه من الغد وهو في محل من قصره يُشرف على دِجلة وبإزائه منازل البرامكة
التي
كانت محفوفة باليمن والبركة، فقال: يا إسماعيل، هذا ما كنا فيه بالأمس، انظر كم على باب
جعفر من الجيوش والغلمان والقواد والمواكب، وليس على باب داري أحد، فقال: يا أمير المؤمنين،
ناشدتك الله ألَّا يعلقَ بنفسك شيء من هذا؛ فإنما جعفر خادمك ووزيرك وصاحبُ جيوشك، وبابه
باب من أبوابك؛ فإذا لم يكن الجند على بابه فعلى باب مَن يكون؟ فقال: والله، إنَّ البرامكة
قد ملكوا الدولة واحتجفوا أموال الجباية وانصرفوا عن خدمتي إلى محبة العلويين وتعزيز
شيعتهم، وأنا لا أصبر على ذلك.
٤
وكان جعفر في ذلك الوقت قد عزم على الركوب إلى خراسان
٥ وهو عالم بما أضمر الرشيد له ولأهل بيته من السوء، فما أحب أن يتركهم بغير
حِراسة، وإنما أبقى في يد الفضل رجالًا يعرِف فيهم الأمانة؛ ليقيهم مَكايد الرَّشيد غيرَ
أنَّ الرشيد قد فطن لما كان يُباشره من تعبئة الجند؛ فأيقن بالإشراف على الخطر، إلا أن
يتمحل في أمر يغلبه به قبل ركوبه إلى خُراسان، فأرسل إلى بني هاشم تحت الليل أن يضموا
إليهم
جماعتهم، وأمر الفضل بن الربيع أنْ يحوِّط دور الخلافة بما بين يديه من الحرس والغلمان
وأرسل إلى يزيد بن مزيد الشيباني
٦ أنه إذا ركب جعفر من الغد إلى دور الخلافة يبعثُ بمن يحوط البرامكة ويقبض عليهم،
٧ واستبقى الأمر سرًّا لم يستخدم في قضائه إلا جماعة من أقاربه
٨ دون الغِلمان الذين كان يغمرهم جودهم وكرمهم، ثم أرسل في تلك الليلة إلى جعفر
من يقول له: إنه يمكِّنه من بيوت المال أن يتناول منها ما يشاء، ويأخذ من الجند إلى خراسان
مَن ينتخبه ويريده، وإنَّ أمانته فوق كل أمانة وأمثال هذه المصانعة حتى لا يفطنوا لما
أخذ
في تدبيره من اغتيالهم.
وكان جعفر يعلم بما في تمحُّل الرشيد من المصانعة والرياء، ولكنه ظنَّ أنه يُريد
استمالتهم ورُجوعهم إلى الثقة به لا أنه يُريد نكبتهم في صباح تلك الليلة.
ولما أصبحَ الرَّشيد استدعى خادمه مَسرورًا
٩ وقال له: قد انتخبتك لأمر لم أرَ له محمدًا ولا عبد الله ولا القاسم
١٠ فحقِّق ظني فيك، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال مسرور: لك عليَّ إمرة مُطاعة،
فمرني بقتل نفسي أفعل، فقال: امضِ الساعة إلى الحديقة وحوِّطها بالحرس وضُم إليَّ جماعة
من
الغلمان ثم اذهب إلى جعفر وجئني به وقل له: إنه وردت كُتب من خُراسان، فإذا دخل الباب
فلا
تدع مَن معه يدخل بعده، فإذا تمكنتَ منه فخذ رأسه ولا تراجعني في ذلك، وإيَّاك إياك أن
يفوتك الأمر. فسار مسرور إلى جعفر فأصابه في داره قد طرح نفسه ليستريح، فقال له: يا سيدي،
أمير المؤمنين يدعوك لرسائل وردت الساعة في خريطة البريد من خراسان؛ فلبس جعفر ثيابه
وتقلَّد سيفه ثم ركب في جماعة من الحرس والجند؛ لأنه لم يكن بمأمن من غدر العباسيين به،
فلما دخل الباب طلع عليه مَن في الحديقة من الحرس وحاولوا ردَّ غلمانه، وهم غير مأمورين
بالقتال، فانفرد به مسرور وبضعة عشر رجلًا دخلوا معه الباب فجرَّد عليه السيف، وصاح بمَن
معه من العبيد فأهدروا دمه.
وإني لستُ أنسب الشر إلى مسرور هذا الخادم اللئيم، فما هو إلا ذنب مَن استرعاه وهو
الرشيد، ومَن استرعى الذئب فقد ظلم، ومع ذلك إني لا أبرئه من تَبِعة ذلك الإثم الفظيع،
ولا
أرى بينه وبين شديد العقاب إلا الموت الذي يُساق بعده إلى دار العذاب.
هذا ما بلغني من إسحاق، ثم سمعتُ في أحاديث الناس أن جعفرًا لما صار في وسط الحديقة،
ولم
يرَ معه الجند ارتاع وندم على ركوبه في تلك الساعة، فقال لمسرور: يا أخي، ما القضية؟
فقال:
يا سيدي، إن أمير المؤمنين أمرني بقتلك، فيقولون: إنَّ جعفرًا بكى حينئذٍ وجعل يُقبِّل
مسرورًا ويقول له: أنت تعلم إكرامي لك دون خدم الرشيد، وأن حاجاتك عندي مقضية في جميع
الأوقات، وأنت تعرف مكانتي عند الرشيد وما يوجه إليَّ من الأسرار، ولعلَّ أن يكونوا بلَّغوه
عَني باطلًا، وهذه ألف ألف دِينار، وفي رواية عَشرة آلاف ألف دِينار أدفعها إليك الساعة
وخلِّني أهيم على وجهي، فقال: لا سبيل إلى ذلك، فقال: احملني إليه وقفني بين يديه، ولعله
إذا وقع نظره عليَّ تدركه الرَّحمة فيصفح عني، فقال: وهذا أيضًا لا سبيل إليه،
١١ ولا يُمكنني مُراجعته، فقال: توقف عني ساعة وامضِ إليه، وقل له: إنك فرغت مما
أمرك به واسمع ما يقول ثم عُد وافعل ما تُريد، وإني أشهد الله وملائكته على أني أشاطرك
نعمتي وأوليك من الأمور جسيمًا إن فعلتَ ذلك وسلمتَ لي نفسي، ولم يزل به وهو يبكي فيما
يقولون طمعًا في الحياة حتى قال له رُبما يكون ذلك، ثم إنه وكَل به غلمانًا من السودان
يحفطونه ومضى إلى الرَّشيد وهو جالسٌ يقطر غضبًا، فلما رآه قال له: ثكلتْك أمك ماذا فعلت؟
فقال: يا أمير المؤمنين، قد أنفذت أمرك، قال: فأين رأسه؟ قال: في قبة الحديقة، قال: فأْتِني
به الساعة،
١٢ فرجع مسرور وجعفر يُصلي وقد ركع ركعة فلم يُمهله أنْ يُصلي الثانية بل سلَّ
سيفه وضرب عنقه وأخذ رأسه وطرحه بين يدي الرشيد يشخُب دمًا، فيقولون: إنَّ الرشيد تنفَّس
الصُّعَداء وبكى بكاءً شديدًا، وجعل يقول كالمعاتب: يا جعفر، ألم أحلَّك محلَّ نفسي؟
يا جعفر، ما كافأتني ولا عرفتَ حقي ولا حفظت عهدي ولا ذكرتَ نعمتي ولا فكرت في صلاح أمري،
يا جعفر، قد غرتك نفسك فدار عليك الدهر، وكان يقول ذلك وهو يقرع أسنانه بالقضيب بعد الكلمة
والكلمة، وكان ذلك بين سَلْخ المحرم
١٣ وأول صفر.
١٤
وقوع التواني في الدولة بعد نكبة البرامكة
ولما اتصلت بي هذه الأخبار الفاجعة؛ انهملت عيناي بالدموع لقتل جعفر النفس الزكية،
بقضاء لا حيلة بعده إلا اللوعة والنَّدم. فكنتُ مثل الرجل الذي يرى في منامه هولًا ينزل
به وهو لا يُدرك سره، ولا يجد لنفسه مردًّا يتقي به شره، وإن كان يسُوءني من الرشيد
احتياله في مُصانعة البرامكة
١٥ قبل ركوب جعفر إلى خراسان ليذهَلوا عن تدبير ما يتقون به مكايده ظنًّا
بزوال ما عنده من الموجدة، مع أنه كان يُضمر قتلهم،
١٦ (والعياذ بالله من شرور النيات). فإني ليسوءني أكثر من ذلك تتبعه النقمة
فيمن أخذه منهم — كشف الله الغمة عن قلوبهم — فقد بلغني عن يحيى والفضل — وا حُرقتاه
—
جهد شديد يُقاسيانه في الحبوس، فإنهما ليطلبان الماء الفاتر للوضوء فلا يحصلان عليه،
ويَشتهيان الطعام تأتيهما به الحراس فلا يجدان مَن يطبخه لهما فيتوليان طبخه بأنفسهما
ويقومان على القِدْر
١٧ مع جلالة قدرهما، فيا رحمتَا لهؤلاء الملوك الذين أخذهم الرَّشيد غدرًا
١٨ تنعاه عليه الأيام، ويُسأل عنه في يوم القيام. وإني لأحسبُ جعفرًا مع ما
أصابه من الأمر الفظيع أكبر حظًّا من أبيه وإخوته، إذ قَدِم على ربه شهيدًا في دعوة أهل
البيت، ولم يَصِرْ إلى هذا الهوان
١٩ الذي صاروا إليه وهم الذين عرفتهم عظماء الملة، والرؤساء من أهل التجِلَّة،
والذين آتَوا الرشيد بحكمتهم مَنَعة لم يكن مثلها لدولة من دول الإسلام.
ولقد كنت أحب أن أتوصل إلى موضع البرامكة أو أستنبط حيلة لإنقاذهم، مما يُعانون من
الشِّدة، غير أني رأيتُ الأمر لا يتم على الوجه الذي أرومه إلا بالقوة التي تُغالب
الحرس، ولما كانت جماعتُنا في بغداد فئة قليلة من الرجال، وأكثرهم داخل في جيش الخليفة
وتحت إمرة العباسيين أيقنتُ أن مجاهرة الرشيد بالعدوان قبل العودة إلى فارس ليست من
الرأي الصواب، ولم يكن إحجامي عن ذلك خوفًا على نفسي من القتل؛ لأنَّ النفوسَ لا يعظم
بذلها في سبيل البرامكة، ولكن رحمة بهم من جور الرشيد الذي يضيِّق عليهم بقدر ما يرى
من
ميل الناس إلى الوصول إليهم أو الثأر بدمهم، فقد بلغني أنه لما قام عثمان بن نهيك ليثأر
لجعفر؛ وهو يقول والسيف صَلْت في يده: يا ضُلَّ ما تجري به العصا، واجعفراه، واسيداه.
والله، لأقتلن قاتلك ولأثأرنَّ بدمك،
٢٠ عزم الرشيد بعد قَتْل عثمان هذا المبرِز سيفَه، الكريمةِ نفسُه على التضييق
عليهم وتفريقهم في الحبوس المنقطعة وقبض ضياعهم عن أهل بيتهم
٢١ حتى يقتلهم بالشدة التي هي أمرُّ من القتل.
وقد مضى عليَّ اليوم في بغداد وأنا مُتقطع النفس سبعة وأربعون يومًا لم آلُ فيها
جهدًا للوصول إليهم؛ فلم أحصل على ذلك مع وفور ما بذلته من المال، وكنتُ أحبُّ أن ألقى
أحدًا من خدمهم وحُجابهم فلم أظفَر بواحد منهم في بغداد، وكأني بهم قد تصدَّعوا في الآفاق
٢٢ في جملة مَن هرب من غِلمانهم وجواريهم ومُغنياتهم
٢٣ ومن هو معروف بمخالطتهم من العُلماء والشُّعراء والندماء وأهل الأدب، غير
أني رأيتُ فيمن بقي من الطامعين فيهم دموعًا يسترونها عن العُيون، وما وجدت منهم إلا
منقبض النفس، ومَن يُذيبه الأسف عليهم حتى كأنهم صدع واحد في لوم الرشيد على قتلهم،
٢٤ فما أذكر أني نزلتُ مرة إلى السوق إلا نظرتُ رقاع الأشعار مُعلقة على
الحيطان رثاء لجعفر وندبًا للدنيا لما لحق أهله من النَّكبة الفظيعة.
ومما بقي في ذهني من هذه الأشعار قول بعضهم، وأظنه الرقاشي أو أبا نواس:
٢٥
الآن استرحنا واستراحت ركابنا
وأمسك من يُجدي ومن كان يجتدى
فقل للمطايا قد أمِنتِ من السُّرى
وطيِّ الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر
ولن تظفَري مِن بعده بمسوَّد
وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطلي
وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونِك سيفًا برمكيًّا مهندًا
أصيب بسيف هاشمي مهندِ
يا منزلًا لعِب الزمان بأهله
فأبادهم بتفرق لا يُجمَعُ
إن الذين عهدتَهم فيما مضى
كان الزمان بهم يضر وينفعُ
أصبحتَ تُفزِع مَن رآك وطالما
كنا إليك من المخاوف نَفزَعُ
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقي الذين حياتهم لا تنفع
وقرأت رقعه مكتوبًا عليها هذه الأبيات، وأظنها من نظم أنس بن أبي شيخ النصري
٢٧ صاحب جعفر برَّد الله مَضجعه وسقى ضريحه صيَّب الرحمة والرضوان:
لعمرك ما في الموت عار على الفتى
إذا لم تصبه في الحياة المعاير
ومن كان مما يُحدث الدهرُ جازعًا
فلا بد يومًا أن يُرى وهو صابر
فلا يبعدنك الله عنيَ جعفرًا
بروحي ولو دارت عليَّ الدوائر
فآليت لا أنفك أبكيك ما دعتْ
على فننٍ ورقاء أو طار طائر
٢٨
يا أيها المغتر بالدهر
والدهر ذو صَرْف وذو غدر
لا تأمن الدهر وصولاته
وكن من الدهر على حِذْر
إن كنت ذا جهل بتصريفه
فانظر إلى المصلوب بالجِسر
وخذ من الدنيا صفا عيشها
واجْرِ مع الدهر كما يجري
كان وزير القائم المرتضى
وذا الحِجا والفضل والذكر
وكانت الدنيا بأقطارها
إليه في البر وفي البحر
يشيِّد الملك بآرائه
وكان فيه نافذ الأمر
فبينما جعفر في ملكه
عشية الجمعة بالقصر
يطير في الدنيا بأجناحه
يأمُل طول الخلد والعمر
إذ عثر الدهر به عثرة
يا ولينا من عثرة الدهر
فغودر البائس في ليلة السَّـ
ـبْت قتيلًا مطلع الفجر
وجيء بالشيخ وأولاده
يحيى معًا في الغُلِّ والأسر
والبرمكيين وأتباعهم
مَن كان في الآفاق والمصر
كأنما كانوا على موعد
كموعد الناس إلى الحشر
وأصبحوا للناس أحدوثة
سبحان ذي السلطان والأمر
وقال سَلْم الخاسر:
خوت أنجم الجدوَى وشُلَّت يد النوى
وغاضت بحار الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمك
بها يعرف الهادي طويلَ المناسك
وقال أشجع السُّلَمي:
ولَّى عن الدنيا بنو برمك
فلو توالى الناس ما زادوا
كأنما أيامهم كلها
وهي لأهل الأرض أعياد
وقال فيهم أيضًا:
قد ساد دهرٌ ببني برمك
ولم يدع فيهم لنا لُقْيا
كانوا أولي الخير وهم أهله
فارتفع الخير عن الدنيا
وقال فيهم صالح الأعرابي:
لقد خان هذا الدهر أبناء برمك
وأيُّ ملوك لم تخنها دهورها
ألم يك يحيى والي الأرض كلها
فأضحى كمن وارتْه منها قبورها
وقال واحد من بيت البرامكة في رثائهم، وقيل بل هو سليمان الأعمى أخو مسلم بن
الوليد:
أُصِبتُ بسادة كانوا عيونا
بهم نُسقى إذا انقطع الغمام
فقلت وفي الفؤاد ضريم نار
وللعَبَرات من عيني انسجام
على اللذات والدنيا جميعًا
ودولة آل برمك السلام
جزِعتُ عليك يا فضلُ بنَ يحيى
ومَن يجزع عليك فلا يُلام
هَوَتْ بك أنجُم المعروف فينا
وعزَّ بفقدك القوم اللئام
وما أبصرتُ قبلك يا ابن يحيى
حسامًا قدَّه السيفُ الحسام
إلى أن يقول:
أألْهُو بعدكم وأَقَرُّ عينًا
عليَّ اللهوُ بعدكم حرامُ
وكيف يطيب لي عيش وفضلٌ
أسيرٌ دونه البلد الشآم
وجعفر ثاويًا بالجسر أبلت
محاسنه السمائم والقَتام
أمرُّ به فيغلبني بكائي
ولكنَّ البكاء له اكتتام
أقول وقمت منتحبًا لديه
إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واشٍ
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول قبرك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
٣٠
فكان الرشيد يخاف من كثرة البكاء عليهم وقوع الفتن في الدولة؛ فلذلك منع الشُّعراء
من رثائهم
٣١ وجعل عقاب مَن يُقدم على ذلك القتلَ،
٣٢ وأمر الحراس أن ينزعوا الرقاع التي عُلقت في الأسواق؛ لئلا يثور ثائر الشغب
من الشعب
٣٣ ولكنه لم يبلغ من ذلك الغاية التي كان يرُومها من محو ذكرهم
٣٤ وطمس معالمهم بعد أن زينوا الخلافة بمحاسنهم خمسين سنة وانطبعت في قلوب
الناس محبتهم
٣٥ بما صنعوا من المعروف، وبذلت أيديهم من العطاء.
ثم إن خوفه من غوائل هذا الأمر لا يقف عند ما كان يراه من وقوع الفتن في الدولة
فرُبما وصل إليه أنَّ فارس قد قامت فيها القيامة، وأن خراسان
٣٦ قد عصفت فيها ريحُ الفتنة، والمغرب قد تضعضع حُكمه في يد ابن الأغلب،
والروم قد جاشوا في بلدهم وامتنعوا عن تأدية الجزية لعلمهم باختلال الدولة بعد نكبة
البرامكة وضعف آل الربيع الذين تولَّوا الوزارة بعدهم، ولا أرى لهم بها استمتاعًا
طويلًا كما يُشير أبو نواس إلى ذلك بقوله:
٣٧
ما رعى الدهر آل برمك لما
أن رمى ملكهم بأمر فظيع
إن دهرًا لم يرع عهدًا ليحيى
غير راعٍ ذمامَ آل الربيع
٣٨
حتى إذا اتصل بهم خبر الروم والتوائهم عن الخراج لم ينبههم العزم ولا الحزم على إبلاغ
الرشيد بأنفسهم،
٣٩ بل اتخذوا طريقة البلاغ على ألسنة النُّدماء، وفي ذلك يُقول الشاعر
استخفافًا بالأمر، وهذا بعيد عن سياسات الدول:
٤٠
نَقَض الذي أعطاكه نفقور
فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه
غنم أتاك به الإله كثير
فتأمل — رعاك الله — هذه الدولة التي كانت زينة الدنيا في أيام البرامكة
٤١ كيف صارت إلى رجال لا رأي عندهم ولا عزيمة، فإنْ يبلغك عن وهنها خبرٌ فيما
بعد؛ فاعلم أنَّ صدور هذا الفتور ناشئ عن فتور الصدور، وهذه الجنود التي تراها في قبضة
الرَّشيد لا تنفع دولته ما لم يكن عنده عقل يُدير به سياسته، فكم رأينا من دولة كانت
في
العالم عظيمة؛ فأعمى ساستَها الجهلُ؛ فانحطتْ لفقدان الحكمة، ودولة كان أمرها في توانٍ
فتولاها رجال كبراء أصلحوا ما فيها من الاختلال، وصعِدوا بها من العزة المقام الذي لا
ينال.
وتأمل الدولة الأموية كيف قامت بمعاوية بطل السياسة والتدبير، إذ ضم الإسلام إلى
مصلحة واحدة من طرف المشرق إلى أقصى المغرب،
٤٢ ثم أقام دولته على هذا الأساس المتين، ثم تأمل ما صنع الحجاج بن يوسف وكيف
أصلح ما فسد من العراق، وأزال ما وقع بين أهله من الشقاق؛ حتى جعل الجزيرة والحرمين
أقرب إلى طاعة الأمويين من الشأم ومصر.
ثم انظر إلى الدولة العباسية كيف قامت على أثر تلك الدولة بتدبير أبي مُسلم — رحمه
الله — وكيف عجز أبو جعفر بعد مقتله عن رد الفُرس والأكراد إلا بسياسة خالد البرمكي،
الذي ضمن له الكفاية عليهم بالرأي
٤٣ دون الجنود.
وانظر إلى دولة الرَّشيد كيف زَهَتْ في وزارة البرامكة بما لم تَزْهَ به دولة
٤٤ الهادي، ووزراؤه أغفال من آل الربيع.
فهذه دول لم تزهَ بقُوةِ الجند كما يسبق إلى وهم الناس؛ لأنه لم يكن لأبي مُسلم من
الرجال ما كان لملوك بني أمية، ولم يكن للرشيد ما كان للهادي قبله، وإنما كان المعزز
لها رجالًا يُرسلون من عقولهم على الناس أشعة كأشعة الشمس بها يستنيرون، وفي ضوئها
يسيرون، ولا سيما هؤلاء البرامكة الأمجاد الذين حرَم الرشيد دولتَه مشاركتهم له فيها
وتدبير شئونها، ولستُ أعلم ما يكون من أمره مع صُهْب السِّبال
٤٥ ولقد قام به اليوم من الندم والأسف
٤٦ على جعفر والتلهف على ما سبق به القضاء ما يشغله عن الدنيا قاطبة، فقد
أخبرني مَن هو مقرَّب إليه أنه يذكره لكل طلوع شمس، ويبكي عليه بتحرُّق نفس، ولا يستطيع
الخلوة بنفسه على انفراد بعد مصرعه، إلا أن يكون عنده جماعة يلهو بمسامرهتم عما فرط منه
في أمره
٤٧ وإذا خلا مجلسه أمر الحُجَّاب أن يُدخلوا عليه مَن يَجِدونه من الندماء؛
٤٨ ليستأنس بهم ويتسلى بمنادمتهم عما هو فيه من البلاء، وقد رأى خلل السياسة
في دولته وكثرة الأراجيف.
فيما يتحدث به الناس من أسباب نكبة الرشيد للبرامكة
ولما كان الحديثُ عن هذه النَّكبة الفظيعة دائرًا على ألسنة الناس اختلفت آراؤهم
فيما
دعا الرَّشيد إليها، وإنْ كانت خواطرهم متوافقة في لومه والبكاء على جعفر؛ فمِن قائل:
إنه نكبه وأهل بيته؛ لاستبدادهم بأمر الدولة واحتجافهم أموال الجباية، حتى لقد كان يطلب
اليسير من المال فيما يزعمون فلا يصل إليه، ومِن قائل: إنه حَنِق على جعفر لتطاوله عليه
في الكلام؛ إذ كان يقول لي: لئن لم يرجع الرشيد عن سوء ظنه بهم؛ ليكونن ذلك وبالًا
سريعًا عليه،
٤٩ ومِن قائل: إنه تنغص من الفضل أن يكون أكرم من أولاده، ومن جعفر أن يكون
أفصح منهم لسانًا وأحكم سياسة، ومن محمد أن يفضُلهم في المروءة، ومن موسى أن يغلبهم في
الشجاعة فنكبهم لذلك.
ولستُ أطيل عليك الكلام في أمر هؤلاء الملوك الذين رماهم الدَّهرُ بالأرزاء وسحب
عليهم أذيال الفناء، ولو أَنِّي كتبتُ إليك غير ما ذكرتُ ما بقي لديَّ إلا البُكاء
والنحيبُ، على أني أحب أن أختم رسالتي إليك عنهم بذكر مأثُرة من بعض ما صنعوا إلى الورى
من الجميل. وهي: أن الرشيد
٥٠ مع تشديده في النهي عن رثائهم بلغه أنَّ رجلًا يحضُر ليلًا إلى دورهم وينشد
أشعارًا ويذكر مَحاسنهم ومَآثرهم ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فدعا مسرورًا هذا
الخادم اللئيم وسارَّه بالأمر وأمره بأن يمضي تحت الليل حتى يرد تلك المنازل الدارسة
التي كانت مظهر الأنس بما آتى الله أهلها من سعة الملك، وأن يستتر خلف بعض الجدران هو
واثنان من الخدم سماهما له، وأظنهما ياسرًا ومروان، حتى إذا جاء ذلك الشيخ وبكى وندب
وأنشد الأشعار قبضوا عليه وجاءوا به إليه؛ فأخذ مسرور الخادمين ومضى بهما آخر الليل إلى
تلك المنازل، فإذا هم بغلام قد أقبل ومعه بساط وكرسي حديد، وأقبل بعده شيخٌ له جمال
وعليه مهابة وآثار نعمة، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول:
ولما رأيت السيف جدَّل جعفرًا
ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيتُ على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلتُ الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها، فلمَّا فرغ قبضوا عليه، وقالوا له: أجب أمير المؤمنين؛ ففزع فزعًا
شديدًا، وقال: دعوني حتى أوصي بوصية؛ فإني لا أُوقن بعد اليوم بحياة، ثم تقدَّم إلى بعض
الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصيته وسلَّمها لغلامه، ثم سار به مسرور إلى دار
الرشيد، فلمَّا مَثَل بين يديه زجره وقال له: مَن أنت؟ وبمَ استوجب البرامكة منك ما
تفعل في خرِبات دورهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أياديَ خطيرة، أفتأذنُ لي
أن أُحدِّثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من
أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدَّين واحتجتُ إلى
بيع ما على رأسي ورءوس أهلي، وبيع بيتي الذي ولدتُ فيه أشاروا عليَّ بالخروج إلى
البرامكة فخرجتُ من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبيًّا وصبية، وليس معنا ما يُباع أو
يُوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد فدعوتُ بثياب كنتُ أعددتها لأستتر بها
فلبِستها وخرجت وتركتهم جياعًا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد فإذا بمسجد مزخرف وفي
جانبه شيخ متزيٍّ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس فطمِعتُ
في
القوم، ودخلتُ المسجد وجلستُ بين أيديهم، وكنتُ أقدِّم رجلًا وأؤخِّر أخرى، والعرقُ
يسيل مني؛ لأنها لم تكن صناعتي، وإذا بخادم قد أقبل ودعا القوم، فقاموا وقمت معهم حتى
دخلنا جميعًا دار يحيى بن خالد، وإذا هو جالس على دكة في وسط بُستان فيه أطيب الرياحين
فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام وهو يعدُّنا مائة وواحدًا، وبين يديه عشرة من ولده
وإذا بغُلام أمرد قد عذَّر خداه قد أقبل من بعض المقاصير وبين يديه مائة خادم مُتمنطقون
في أوساطهم بمنطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال، ومع كل واحد مجمرة من الذهب، في كل
مجمرة قطعة من العود كهيئة الفِهْر قد قرن بها مثلها من العنبر، فجلس الغلام بجانب يحيى
ووضعتْ تلك المجامر بين يدي الغلام، ثم قال يحيى للقاضي: زوِّج بنتي عائشة من ابن عمي
هذا، فخطب القاضي خُطبة الزواج وأجرى صيغة العقد وشهد أولئك الجماعة، وأَقبلوا علينا
بالنِّثار من بنادق المسك والعنبر، فالتقطت والله يا أمير المؤمنين ملء كُمي، ونظرتُ
فإذا الحاضرون بالمجلس ما بين يحيى وأولاده والمشايخ والغلام مائة واثنا عشر رجلًا،
وإذا بمائة واثني عشر خادمًا قد أقبلوا يحمل كل واحد منهم صينية من فضة عليها ألف
دينار، فوضعوا بين يدي كل واحد منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يصبون الدنانير في
أكمامهم، ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقُومون واحدًا بعد واحد حتى بقيتُ وحدي لا أجسر
على أخذ الصينية فغمزني خادمُ؛ فجسرتُ على أخذها، وجعلتُ الذَّهب في كُمي وأخذت الصينية
بيدي، ثم قمتُ وجعلت ألتفت خلفي مخافة أن أُمنع من الذهاب، فبينما أنا كذلك في صحن
الدار ويحيى يلحظُني إذ قال للخادم: ايتني بهذا الرجل، فرُدِدتُ إليه، فأمرني بصب
الدنانير والصينية وما في كمي، ثم قال: اجلس فجلستُ، فقال لي: ممن الرجل، ولِمَ تلتفت
خلفك؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ايتني بولدي موسى، فأتى به، فقال: يا بني، هذا رجل
غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك، فقبض موسى عليَّ وأدخلني إلى دار من دوره وأكرمني
غاية الإكرام وأقمتُ عنده يومي وليلتي في ألذِّ عيش وأتمِّ سرور، فلمَّا أصبح دعا أخاه
محمدًا، وقال له: إن الأمير قد أمرني بالعطف على هذا الرجل وغير خافٍ عليك اشتغالي
اليوم في دار أمير المؤمنين، فاقبضه إليك وحوطه بنعمتك، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام،
فلمَّا كان من الغدِ تسلمني أخوه العباس فبتُّ ليلتي عنده بين غِناء وأنوار وبهجة ثم
تسلمني أخوه خالد
٥١ ولم أزل في أيدي البرامكة يتداولونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي
وأهلي أفي الأموات هم أم في الأحياء؟
فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الحشم والغلمان، فقالوا لي: قم
فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلتُ: وَيلَاه سُلِبْتُ الدنانير والصينية وأخرج إلى عيالي على
هذه الحالة، إنا لله وإنا إليه راجعون، فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم
الرابع، ولما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما يكن لك من حاجة فارفعها إليَّ فإني
مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، ثم بدت لي حجرة كالشمس بهاءً وإشراقًا، واستقبلتْني
منها رائحة النَّد والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وأهلى يتقلبون في الحرير
والديباج، وحمل إليَّ ألف ألف درهم وعشرة آلاف دينار ومنشوران بضيعتين من عمل السواد،
وتلك الصينية التي كنتُ أخذتها بما معها من الدنانير والبنادق، وأقمتُ يا أمير المؤمنين
مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أأنا من البرامكة أم رجلٌ غريبٌ
اصطنعوه؟
فلمَّا نزلتْ بهم الفاجعات أجحفني عاملك على العراق وألزمني في هاتين الضيعتين ما
لا
يفي دخلهما به، ولما تحامل عليَّ الدهر كنت في آخر الليل أقصد منازلهم، فأندبهم وأذكر
حسن صنيعهم إليَّ وأشكر عطفهم عليَّ.
فقال الرشيد: كم أخذ منك هذا العاملُ؟ قلتُ كذا وكذا، قال: هو مردود عليكَ وستبقى
أنت
وعيالكُ من بعدك على ما كان لك في أيام البرامكة؛ فعلا نحيب الرجل حتى كاد يقع من شدة
بكائه، قال له: يا هذا، قد أحسنَّا إليك بردِّ ما قد سُلب منك، فما يبكيك؟ فقال: يا
أمير المؤمنين، وهذا أيضًا من صنائع البرامكة، إذ لو لم آتِ منازلهم فأبكيَهم وأندُبَهم
حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين وفعل بي ما فعل ما كنتُ أصل إلى أمير المؤمنين؛ فدمعت
عينا الرشيد وظهر عليه الحزن، وقال: لَعَمْري هذا من صنائع البرامكة فعليهم فابْكِ
وإياهم فاشكر،
٥٢ ولله دَرُّ أبي نواس حيث يقول في وداع الدنيا التي أُوحِشت لفقدهم:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتُمُ
بني برمك من رائحين وغادِ
٥٣