اتفق وصولي إلى دار السلام في عيد الفطر قبيل العَتْمة وهي تلمع بالأنوار ويتصاعد
من
المسبحين بحمد الله والمقدسين له نغمات تؤوِّبها معهم أرجاء المدينة، وتعذَّر المسير
على
مركَبنا تجاه باب البصرة
١ أو كاد؛ لازدحام الزوارق المشتبكة في هذا المكان، وهي مطلية بأبهى الأصباغ
والألوان، مرصعة بأنوار القناديل الحِسان، حتى كأن دجلة في الزوراء، أشبه بالمجرة في
كبد
السماء، ثم تقدم بنا المركب حتى وقف بمقربة من الجسر، وعلى مُطل من قصور الخلافة التي
كانت
تتلألأ بضوء باهر،
٢ فركبتُ البر في الموضع المعروف بجزيرة العباس،
٣ وقد غَصَّ بجموع من الناس، وقد لبسوا الطيالس السود تشبهًا بملوك هذه الدولة
الذين اتخذوا السواد شعار الخلافة حزنًا على شهدائهم من أهل البيت، ونعيًا على بني أمية
في
قتلهم.
ولما جُلْت في المدينة أخذت من قطيعة
٥ أبي عيسى الهاشمي إلى مَحَلَّة يقال لها: الميدان،
٦ ومنها إلى الشارع الكبير المعروف بشارع أبي جعفر،
٧ فوجدته كأحسن ما يكون وأحفله من الشوارع، وله السيادة عليها بأمرين: الأول:
اتساعه إلى أربعين ذراعًا،
٨ وإن كان يشاركه فيه غيره. الثاني: طوله من دار الخلافة إلى محلة باب الشام
٩ على استقامة ليس في الإمكان أصح منها، فلما صرت فيه استقبلت في دور الخلافة
زينة كضوء الشمس قد اتُّخذت على القبة الخضراء
١٠ التي رفعها أبو جعفر إلى علوٍ يزيد على ثمانين ذراعًا ليشرف منها على جهات
المدينة وما بجوارها من البساتين، كما أنه عُني بتجميلها بالرسوم العجيبة؛ ليكون منها
الدلالةُ على سعة ملكه، والشهادةُ باقتداره على عظائم الأعمال، فكانت تظهر زينتها في
تلك
الليلة وهي مرتفعة في الفضاء كأنها إكليل من نور قد تدلَّى على قصر السلام.
ثم إني أقبلت في صدر هذا الشارع على مسجدٍ جامع عليه ازدحام فملت إليه، وإذا برجال
متمنطقين بالسيوف يرجعون الناس ويجعلون ممرًّا بين جموعهم، ووراءهم رجل طويل
١١ أسمر، نحيف خفيف العارضين، مُعَرَّق الوجه، ناطق العينين عليه ثياب سود من الخز
وقلنسوة مطوقة بوبر
١٢ سود من الأوبار الغالية الثمن، وفي وجهه مهابة الملوك وجلالتهم؛ فعرفت أنه
الخليفة أبو جعفر على غير ما تدل عليه حاشيته؛ إذ الشمس لا تخفى وإن سُترت، ثم لم أزل
أتبعه
بالعين حتى توارى بين الجموع وركب بغلة
١٣ عليها حلية خفيفة من الفضة، وكان لجامها في يد حاجب من حجاب الخليفة.
ثم دخلت المسجد وعلى المنبر خطيب له بيان وفصاحة يقال له: الحجاج بن أرطاة،
١٤ وعلى مقربة منه قراء سبعة يتلون الآيات من القرآن إلى مائة آية من مواضع متفرقة
وسور مختلفة، فلما فرغوا من تلاوتهم تطايرت إليه رقع في مسائل الفقه فأجاب عنها بكلام
أمضى
من المرهف، وحدِّث عن البحر في بعد الغَوْر وقرب المغترف، وعهدي بمن لقيتُه من الخطباء
أني
ما سمعتهم إلا تمنيت أن يسكتوا مخافة أن يخطئوا، ما عدا هذا الفقيه الذي كان يواتيه الكلام
ويتابعه، حتى إذا فرغ من جوابه على هذه الرقع اندفع في تفسير كتاب الله، وإيراد الحديث
عن
النبي
ﷺ، إلى أن أخذ في سرد الآي المقروءات، فأتى بها على نسق القراءة من غير تقديم
ولا تأخير حتى انتهى إلى آخر آية وهي قوله — تعالى:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ١٥ الآية، فنمَّق خطبة يذكِّر بها المؤمنين، قافية سجعاتها الألف اللينة واللام
تردادًا لموقف الآية: «الآصال» حتى أَرسلتِ العيونُ لخشية الله عَبَراتها.
١٦
ولم أزل في المسجد مع القوم بين قراءة وتسبيح إلى ما بعد العشاء الآخرة، فخرجت ألتمس
موضعا أبيت فيه بقية الليل لعلي أجد في النوم راحة تعوض عليَّ بعض ما أخذ مني السفر،
فأرشدت
إلى خانٍ لطيف ينزله الغرباء من أهل التجارات وغيرهم، فلما كان الصباح بكرت إلى أستاذي
أبي
يوسف، منزلُه على نهر عيسى
١٧ في قنطرة الزياتين
١٨ بمقربة من دُور الخلافة، فتلقاني بالبشاشة والإيناس وأبى إلا ضيافتي عنده في
جناح أفرده لي من داره، وهو يؤمِّلني بلوغَ ما أرتجيه من خدمة الدولة؛ إذ لا يعدم قومنا
محلًّا في مراتبها، والوزارة في يد خالد بن برمك أميرنا. إني إلى هذا اليوم أتخرج في
الفقه
عليه، وقد وجدت عنده من العقل والعلم ما يندُر مثله في صدور الرجال.
ذكر شيء من محاسن الزَّوْراء
ولقد أكبرت من الزوراء رواجَ سوقها بالتجارة، واشتباك أحيائها بالعمارة في مدة عشر
سنين، حتى جمعت من أسباب العمران ما لا يكون في مدينة بنيت من قديم الزمان، ووجدتها من
لطف الهواء وطيب الإقليم على خير ما تكون مدينة، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين،
وأسواقها في نهاية من الاحتفال، قد جمعت بالكَرْخ أخلاطًا من التجار
١٩ والصناع، إلا سوق الصاغة منها فإنه منفرد بجماعتنا الفرس، وقد بلغوا من
الإجادة في صناعتهم الغاية بحيث يرصعون الزجاج بالجواهر، ويكتبون عليه بالذهب المجسم،
ويصنعون للملوك أقداحًا
٢٠ تُقيِّد الأبصار حسنًا وإشراقًا، ويتخذون على الجامات صورًا يُحكمون
صناعتها بالرسم إلى مماثلة الحقائق، وقد رأيت من ذلك جامًا قد صُوِّرت عليه طيور تطير
٢١ ومن فوقها عُقاب تنقضُّ عليها، وهي تهوي في الفضاء للتخلص منها، ولكن بهيئة
تملك النفس وتستوقف الطرف، وإلى طرف هذه السوق مما يلي سويقة غالب
٢٢ جماعة من البنائين يبنون الدكاكين لأرباب التجارة بإشارة من السلطان الذي
أمر بتحويل الأسواق إلى الكرخ؛
٢٣ ليُبعد أخلاط الناس عن جواره.
أما دور المدينة فإنها متخذة على هندسة الفرس وصنائعهم،
٢٤ ومثال ما بنت الروم في الشام أو حيث كانوا ينزلون من البلاد، وهي مجلَّلة
كِلْسا مرفوعة إلى طبقتين
٢٥ ومبنيٌّ بالآجُرِّ ما ارتفع منها عن الأرض، وبالحجر ما يماسها دفعًا للماء
في أوان السيل
٢٦ أن يبلغ الطين ويتمكن منه، ومنهم من يقوِّي الآجُرَّ بالقصباء والحلفاء
ويغمسه بالجِص
٢٧ حتى يصير يابسًا وتكون له رنة كرنة الحجر الصلد إذا صلصل، وليس لدور العوام
أسوار تحيط بمنازلهم، وإنما تُطِل نوافذها على الشوارع
٢٨ بحيث إذا ارتفع المار على حجر أو على دابة تَيسَّر له أن ينظر مَن بداخل البيت،
٢٩ أما دور المتموِّلين من أهل اليَسار فإنها ثلاثة أقسام يجمعها سور واحد،
وهي مقاصير الحرم وحجرات الخدم ومجالس السلام، وفي ساحاتها جنات تزرع فيها البقول
والرياحين والرمان، وسائر الفاكهة حتى تكون رَوْحًا وريحانًا واسترواحًا للنفس، وعلى
جدرانها وسقوفها نقوش في رسم متلون أو فُسَيْفِساء من ذهب، وعلى دائر الأبواب والقمريات
وبرَّادات
٣٠ الدُّور كتابة يتخذونها من الزجاج
٣١ الملون ويحوِّطونها بخشب أسود من الآبنوس وغيره، ثم يعلقون عليها رسومًا من
النحاس تمثل غصونًا وثمارًا وأزهارًا وأشكالًا، فيها كل غريبة من الإبداع، فتمتلئ العين
ارتياحًا من النظر إلى إشراقها، وإني ليعجبني من جمال مبانيهم ما يتأنقون في زينته من
الخارج أيضًا، فإن القباب التي يرفعونها من فوق السطوح على عمد قد دقَّت أمثال الرماح
ليُخيَّل للرائي أنها لا تستند على شيء، وكأنما هي معلقة في الهواء.
ولما كان الحرُّ يشتد وَهْجه في الزوراء ويفتقر أهلها إلى رطوبة الماء افتقار النفس
إلى الهواء؛ قلَّ أن يخلو سوق من أسواقهم أو بَنِيَّة من مبانيهم من سِقاية يجري بها
ماء دجلة.
٣٢ ولذلك لا يسير فيها الرجل إلا محفوفًا بالشجر المزهر والرياحين
٣٣ التي يتغنى بوصفها الشعراء، وهذا دليل على أن الزوراء كلها ماء ونماء،
ولأهلها في إقامة الأحواض عناية تامة، فيرفعون عليها عمدًا مزخرفة من الرخام، ويعقدون
من فوقها قبابًا منقوشة بآيات من الذهب
٣٤ وما بينها النقوش الظريفة والرسوم التي تقرُّ بها العيون، فتوسعوا من
اتخاذها للضرورة إلى المغالاة بزينتها على سبيل الترف والتَّرفه، وإذا اشتد عليهم الحر
اتخذوا أسرابًا تحت الأرض وأقاموا فيها بالنهار؛ ليكسروا الحر كما يقولون.
٣٥
ولقد عظمت عناية أبي جعفر بهذه المدينة حتى إنه أنفق نحوًا من أربعة آلاف ألف دينار
في السورين اللذين يحوِّطانها والمسجد الجامع ودور الخلافة والمجالس التي عقدها فوق
أبواب السور الخارجي من طاقاتها المعقودة، وهي أربعة؛ أولها: باب خُراسان ويسمى: باب
الدولة؛ لإقبال الدولة العباسية من خراسان، والثاني: باب الكوفة وهو تِلقاء الكوفة،
والثالث: باب الشام وهو من ناحية الغرب، والرابع: باب البصرة وهو بمقربة من دجلة، وقد
حمل إليها أبوابها من واسط والشام
٣٦ والكوفة على بعد الشُّقة والمشقة، واتخذ الأبواب الداخلة مزورة عن الأبواب الخارجة
٣٧ ولذلك سميت المدينة بالزوراء.
ثم إن تناهي جمالها بما شاد فيها الأمراء من المباني التي تقف عندها الغاية في
الفخامة والإشراق، ولا سيما ما كان من المساجد المزخرفة؛ فإنها لكثيرة
٣٨ في الزوراء، أتيت منها على زيارة مسجد في قنطرة الصراة
٣٩ ومسجدٍ بناه عبد الله بن حرب في الموضع
٤٠ المعروف بالحربية، ومسجدٍ أقامه أمير من آل قَحْطبة في شارع المحرم،
٤١ وآخر بنتْه الخيزُران زوج ولي العهد في الخيزرانية،
٤٢ وهو فائق الحسن وفيه أكثر من ثلاثمائة من الفضة والذهب، وصحنه من حجارة سود
شديدة البصيص، تصف الأشخاص كالمرآة، وعلى حيطانه صور تفاحاتٍ وثمار وغصون تخيل للوافد
على المسجد أنه بين شجر زاهٍ مزهر، في روض باهٍ باهر، ورأيت العَمَلَة قد حاكوا فيها
رسوم الأعاجم على أنسجتهم حتى جاءت الحجارة توهم الرائي أنها بُسُط حُملتْ من
طَبَرِستان، ولا فرق بينها إلا فرق ما بين الصوف والحجر، وليس في مساجد الزوراء مثله
في
الزينة إلا مسجد بناه أبو جعفر في شارع دُجَيْل
٤٣ مما يلي باب الأنبار
٤٤ والمسجد الجامع الذي بجوار دُور الخلافة.
في تقرُّبي من رجال الدولة
وقد لقيت في الزوراء جماعة من الأمراء المقدَّمين في الدولة، غير أني انقطعت إلى
خدمة
ملوكنا البرامكة وملازمة بابهم في البكور والرواح، إذ كانوا أصحاب فضل وجمال ومروءة
وعفاف، وقد وقع بيننا من المودة ما ضمَّني وإياهم في أوثق حبال الأنس والائتلاف، وتقربت
بكفالتهم إلى مَعْن بن زائدة الشيباني ورَوْح بن حاتم المهلبي، وهما أعظم رجال الدولة
بعدهم، وكنت إلى آل المُهلَّب أكثر مني تقربًا إلى شيبان
٤٥ وإن كانوا جميعا على خلاف غرضنا من الميل مع أهل البيت، إلا أن مَعْنًا كان
على مخالفة البرامكة والانحراف عنهم من حيث تقدُّمُهم في مراتب الدولة وهم أغراب عن
العرب، وذلك لم يكن في آل المهلب؛ فإنهم كانوا مع البرامكة على خلطة ومودة
واتصال.
وأقرب الأمراء مكانًا من الخليفة هو خالد وزيرنا؛ لقيامه بثقْلِ الدعوة في خراسان
من
قبل أبي مسلم الخراساني، وهو من أولاد الملوك لم يبلغ أحد مبلغه في رأيه وعلمه وبأسه
وجُودِه وجميع خِلالِه،
٤٦ والمنصور لا يُبرم أمرًا إلا بمشورته، ولا يَركَن في أعماله إلى أحد سواه،
اللهم إلا في سياسته مع العلويين؛ فإنها كانت جارية على البغض والجور، مع أن خالدًا
ميال إليهم منذ أخذ في الدعوة الإمامية بخراسان، وهي إذ ذاك لهم وللعباسين جميعًا، أما
المهلبيون فإنهم من عظماء العرب ومَن لهم الرأي المقدم عندهم والإمرة المطاعة عليهم،
وقد كانوا هم وآل قحطبة من القواد الذين نصروا العباسيين على بني أمية، ثم انضافوا إلى
جملة أبي جعفر بعد الفرقة بينه وبين العلوية رغبة عن الأئمة من أهل البيت، فقدَّمهم أبو
جعفر في المراتب من هذا الوجه حتى انصرفتْ إليهم الوجوه، وانطلقت الألسن في مديحهم
بالقصائد التي تُعظَم عن أن يقال مثلها في الخلفاء أنفسهم، كقول المغيرة بن
حبناء:
أمسى العِبادُ لَعَمْري لا غِياثَ لهم
إلا المهلبُ بعد اللهِ والمطرُ
هذا يذودُ ويحمي عن ديارهم
وذا يعيشُ به الأنعامُ والشجرُ
وأما معن فإنه أمير شيبان كلِّهم، وقد اجتمعتْ فيه جميع خلال العرب الحِسان إلا أنه
غلب عليه الجود مقرونًا بحلم يتحيَّر في نعتِه اللسان، وشيبان من بيوتات العرب في قريش،
وهم أربعة بيوت بعد بيت بني هاشم، وهي بيت قيس، وبيت تميم، وبيت شيبان، وبيت اليمن.
٤٧ وقد كان معن على مخالفة العباسين لأول ظهور دُعاتهم، وأبلى مع بني مروان
بلاءً حسنًا، فلما انقرضتْ دولتهم طلبَه أبو جعفر طلبًا شديدًا وجعل لمَن يأتيه به
مالًا جزيلًا فلم يظفر به؛ لأنه كان مقيمًا في البادية كما يقال،
٤٨ ثم إنه رجع إلى الهاشمية
٤٩ متلثمًا ووافق يومُ وصوله قيامَ الرَّوَانْدية على الخليفة في الأسواق، وقد
قاتلوه إلى أن ضاق به الخناق، فكان معنٌ يجد في ذلك اليوم وسيلة لهلاك أبي جعفر
بانضمامه إلى العدو بعد أن بدت له مقاتله، ولكن أبتْ مروءته إلا أن يكون الحلمُ في نفسه
طبيعة تُجِلُّه عن مطامع الأخساء؛ فأعلن السيف دونه حتى كشف عنه سواد العدو، فلما عرفه
أبو جعفر طابت به نفسه، وجعل له الولاية، ومكَّنه من خزائن المال.
ولقد دخلتُ على هذا الأمير مرة واحدة فأصبتُه بين حرس على رأسه وحَفَدة بين يديه،
٥٠ وفي حضرته جماعة من الأدباء النُّدماء قد خاضوا في حديث الشيعة في خراسان،
وأخذوا يتناقلون خبرها من غير نقد ولا إمعان، فضلَّ عنهم سر السياسة فيها إلا رجلًا من
شيبان بليغ الفطنة يقال له: محمد بن الحسن الشيباني، وهو بسيط اللسان إذا تكلم خيل
لسامعه أن القرآن نزل بلغته،
٥١ فكان يرى لنكبة أبي مسلم — رحمه الله — السبب الذي لم يفطُن له أحد من
هؤلاء الجُلَّاس، فإنه لم يتحقق لديَّ مما يذكرون من أن الخليفة قد نكبه لما كان من
سبقه إياه إلى الحج، ولا لادعائه أنه من ولد العباس، ولا لتصدير اسمه قبل اسم الخليفة
في الكتب التي كان يبعث بها إليه، ولا لإفراطه في القتل، وإنما نَكَب أبا مسلم ما كان
من ميله مع أهل البيت وإمداده إياهم بالرأي فيما يدبرونه لأمر أنفسهم، حتى إذا علم
الخليفة منه ذلك وخاف من فتنة صمَّاء تعصف ريحها بالدولة استقدمه إلى المدائن وفي نفسه
أن يفتك به على غِرَّة، وكان أبو مسلم على حذر من ذلك، كما ظهر من كتاب له إلى أبي جعفر
ومما كان من استصحابه للجنود في سيره إليه، ولكن طلع عليه وهو بين يدي الخليفة جماعة
من
حيث لا يدري؛ فاعتوروه بالسيوف، ومعن يعلم هذا كله ولكن لا يقوله إجلالًا لأمير
المؤمنين.
وأما ما يقولون من أنه خامل السلالة؛ فليس ذلك إلا من باب التدليس لموافقة أرباب
الدولة على أهوائهم، على أنه لو صح ادعاؤهم ما منع من أن تكون به خصال لا تُرى في عامة
الناس، فإنك لتعلم أنه ملك خراسان
٥٢ وهو ابن تِسع عَشْرة سنة، وأبدى من السياسة وهو بذلك العمر ما عجز عن تدبير
مثله الحكماء، وكان ثبْتَ الجَنان إذا جاءته الفتوح العظام لم يغلب عليه السرور، وإذا
نزلت به الحوادث الفادحة لم يظهر فيه اكتئاب،
٥٣ وكان أقلَّ الملوك طمعًا
٥٤ وأبعدهم بين الناس شهرة، حتى كان إذا حج هربت العرب من وجهه ولم يبقَ في
المناهل منهم أحد؛ لما كانوا يعرفون من شدة بأسه ودهائه، وهو أكبر ملوك الإسلام،
والرجال عندي ثلاثة وهم الذين قاموا بإنشاء الدول: الإسكندر الرومي، وأرْدَشِير الفارسي
وأبو مسلم الخراساني.
لمعة من أخبار أبي جعفر
ومن المقربين إلى أبي جعفر غير من لَقِيتُه من الأمراء المقدم ذكرهم الربيع بن يونس
حاجبه ومولاه، وهو حظيٌّ عنده ومكين لديه؛ إذ إنه مقدَّم على الموالي، وهم المقدمون في
هذه الدولة؛ لبلائهم مع يزيد بن المهلب، على ملوك بني أمية بجُرْجان
٥٥ وما إليها من البلدان، ولاستمرار أبي جعفر على تقديمهم في الرياسة تحفُّظًا
على نفسه من العرب الذين يميلون مع أهل البيت، وهو يجد عليهم أشد مما يجد على بني
أمية.
فتجد — أكرمك الله — أن أبا جعفر لم يقدِّم الأغراب
٥٦ في مراتب الدولة إلا بما هو مطبوع في نفسه من التيقظ والسهر، كما تجد أنه
ما أبناه مدينته إلا الخوفُ من أهل الكوفة أن يُفسدوا جنده ويحملوهم على مناصرة أهل
البيت؛ فجمع المنجمين لذلك، ولم يباشر بناءها إلا بعد ما أعلمه نُوبَخْت بسلامتها من
الأعداء، ولما فشَتْ فيها العمارة وجمعت أخلاط الناس خاف قيام العدو عليه؛ فأقفل الدروب
بالليل،
٥٧ وأقام عليها الحراس وحوَّل الأسواق إلى جهة الكَرْخ، كما تقدم حتى لا يبقى
بجواره مَن لا يأمن ناحيتهم، وشرع قومه يقولون: إن رسول الروم أشار بذلك إليه، وقد سأله
لما وفد عليه: كيف وجدت بلدنا أيها الرسول؟
٥٨ فقال: إني رأيته أعزَّ على الطالب من بَيْض الأنوق، بَيْدَ أني رأيت الغريب
يطرقه ويبيتُ فيه، وربما كان فيهم العين والجاسوس، وهذا كلام فيه بعض المرية عندي؛ لأن
مَن أبناه الخوفُ مدينةً حوَّطها بسور بل سورين
٥٩ وحفر بعدهما خندقًا بعيد المهوى غنيٌّ بما في نفسه من الخوف عن أن يخوِّفه
أحدٌ كيدَ العيون ومِحالَهم.
ثم إنا لنجد له هذا التيقظ في البخل الذي ليس هو فيه عن لؤم
٦٠ يُغِلُّ يده عن الخير؛ لأنه وصل أعمامه بعشرة آلاف ألف درهم لكل واحد ألف
ألف درهم،
٦١ وهو أول خليفة وصل بأمثال هذه الهبات، وإنما أمسك يده عن العطاء مخافة أن
يقع ماله في يد المتربصين به من المخالفين، كما أنه أقلَّ من أعطية الجند ليأمن عصيانهم
٦٢ واستغناءهم عنه، كأنه يعمل بالمثل السائر الذي يقول: جوِّع كلبَك يتبعك،
٦٣ وإلا فإنا لا نرى هباته إلا لمن هو خِلُوٌ من الأغراض السياسية من أهل
العلم والأدب، وإن كان لا يصل هذا العطاء إلى الكرم، وذلك لما نعلم من خروج
٦٤ الشعراء في أيامه من الحضرة إلى غير وجهة يسترفدون بها صلتهم.
وأما دليل تخوفه من ولاة أقاليم فكونه يُذْكي عليهم العيون، ويتدارك عزلهم من قبل
أن
ترسخ في الإمارة قدمهم، ثم يستولي على ما يصل إليه من أموالهم ويجعله في بيت سمَّاه:
بيتَ مال المظالم؛
٦٥ حتى يُقعِدهم عن القيام عليه في ثورة أو مخالفة، وليس ذلك حبًّا في جمع
المال وادخاره كما يزعم كثير من الناس، لأنه لولا أنه بُخلٌ ناشئ عن رأي له في السياسة
ما حنق على مَعْنٍ حين جاد بماله على أهل اليمن ليسهِّل من أمرهم ما حزُن،
٦٦ كما أنه لو طمع في حفظ هذه الأموال المغتصبة ما أوصى ابنَه بردِّها إلى
أربابها في كلام من الوصية يقول فيه:
٦٧ إني لأحضُّك يومَ تُدرِكني الوفاة أن تدعو من أخذتُ مالَه وتردَّه عليه؛
فإنك ستُحمَد بذلك إليهم، ولكن إياك أن تعود إلى توليتهم المناصب؛ لأني ما رأيت الوفاء
طبيعة إلا في الموالي والأغراب.
ثم إنه طمح من هذه السياسة إلى أن يأخذ التجارة بالشدة ويضرب عليها المكوس تثقيلًا
على التجَّار؛ فوضع على الحوانيت خراجًا
٦٨ لم يُسبَق له عهدٌ في الإسلام.
هذا نَزْر يسير من أخبار أبي جعفر، وفيه دلالة قاطعة على الخوف الذي يدعوه إلى
التيقظ، والناسُ يقولون: إنه صالح النظر في السياسة، وربما جاريتُهم على ذلك فيما هو
آخذ بتدبير أمره، غير أنه حَبَس النفسَ الزكيَّة محمدَ بنَ عبد الله بن حسن بن الحسين
—
رضي الله عنهم، وقَتَل أخاه إبراهيم بن عبد الله وكلاهما بَراء من الذنوب، ولستُ أرى
لأبي جعفر فيما وقع له من الظفر بهما على سبيل الاتفاق وجهًا تطمئن به نفسه؛ لأن فشل
العلويين إلى هذا اليوم إنما نشأ عن تفرق دُعاتهم على أغراض، لم تجمعهم غاية واحدة في
جميع البُلدان، بل كان بعضهم منقطعًا عن بعض، وكان كل واحد منهم منفردًا إلى نفسه فيما
يطلبونه من ثأر شهدائهم المشرَّفين — عليهم صلوات الله ورضوانه — فغلبهم أبو جعفر من
هذا الوجه وظفر بالواحد منهم بعد الآخر، كما كان شأن الأمويين في مقاتلتهم من قبل، ولو
أنهم جمعوا دُعاتهم إلى الوحدة وأثاروا العراق وخراسان والحجاز في غرض واحد كما فعل أبو
مسلم — رحمه الله — في إظهار الدعوة الإمامية؛ لأعاد الله إليهم الخلافة التي غلبهم
عليها الأمويون، وهم الذين عُرِفَتْ لهم الفضائل التي لا يستطيع المكابرون من أعدائهم
٦٩ إنكارَها، والله يؤتي ملكه من يشاء وهو العليم الحكيم لا شريك له.
ذكر الفتوح وأن العدل هو الذي حفِظها للمسلمين
ولما حدثني لسان الشريعة بهذه الأخبار وافق قولُه ما في نفوسنا من التحسر على أهل
البيت لضياع حقوقهم، وقد كنتُ استزدتُه الحديثَ عن أخبار العرب وأيامهم فحدثني عن فتوح
الإسلام خبرًا أحببت أن أسرُده إليك في هذا الكتاب، وأسلك فيه سبيل الإطناب؛ ليكون
فخرًا للأعراب، باقيًا إلى منتهى الأحقاب.
فإن الله — تعالى — لما أراد أن ينشر فيهم رحمته؛ بعث إليهم رسولا منهم ومعه كتاب من
الله ناطق بالهدى ودين الحق؛ ليُجِيرهم من المُلِمَّات التي وقعت فيها جاهليتهم؛
لمخالفتهم سياسة الشرع وتباين عقائدهم في الدين؛ إذ لم يكن فيهم من الموحِّدين
المقرِّين بالخالق المصدقين بالبعث الموقنين بالثواب في الآخرة إلا نفر قليل،
٧٠ فجمع بالرسالة كلمتَهم، ونزع الكعبة من يد الجاهليين الذين وضعوا بها آلهة
٧١ وتركوا عبادةَ الإله الواجب الوجود.
مَن يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا
مُّرْشِدًا.
٧٢
ولقد كان النبي ﷺ مأمورًا في بدء رسالته بأن يدعو العرب إلى الإسلام، ثم جاءه
الوحي بدعوة الناس كافة إليه، فلما قُبِض صلى الله عليه وسلم وهو مشكور سعيه، مرفوع
منزلته؛ انقبضت نفوس العرب وباتوا في موقف التردد، فمنهم من كانوا يخافون أن يدخلوا في
ولاية أحد من بعده يطلق يده في الأمر بما يشاء، وعهدهم قريب بالجاهلية من تباين الميول
والأهواء، فلما رأوا من الخلفاء الراشدين — رضي الله عنه — بعدهم عن الأغراض النفسانية،
والتماسهم من الخلافة السلوك في سنة الله ورسوله دون شيء آخر من حاجات الدنيا إلا هداية
الناس، اجتمعوا على كتاب الله أمةً واحدة في دين وسياسة، حتى غلبوا الملوك على أمرهم
وابتزُّوا الأعاجم سلطانهم، وحازوا معظم العالَم في شرق وغرب.
وإنما صال المسلمون كالسباع، وشدوا على الحصون والقلاع، وترامَوْا على ممالك الحضر،
واقتحموا المشاقَّ والغَرَر، بما حضَّهم عليه الكتاب من الجهاد، ولأن المائت منهم في
ساحة الحملات شهيدٌ له في دار الخلد جنات؛ وعدهم الله — تعالى — بقوله:
وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ٧٣ فلما ندبهم أبو بكر — رضي عنه — إلى فتوح الشام؛ أقبلوا بنسائهم
٧٤ وولدهم وبيوتهم وماشيتهم وسائر ما يملكون، وعلى وجوههم سمات الفرح والابتهاج،
٧٥ كأنما النصر محقق في النفوس صرفًا بغير مزاج، ويقال: إن الشيوخ الفانين قد
قَدِموا مع أولادهم؛ ليطئوا الأرض التي وعدهم النبي
ﷺ، حتى إذا رآهم أبو بكر
ابتدرهم بالسؤال أنْ: لِمَ أقبلتُم؟ ومعناه يزيد على كلامه بأن ليس لكم عزم ولا فيكم
بقية، فقالوا: قدمنا — يا خليفة الرسول — رغبةً في ثواب الله وحبًّا في فاكهة الشام
واستعذابًا لمائه الزُّلال،
٧٦ فتفاءل منهم بالخير، وقال: إن ربكم يعطي النصر العزيز لمن يشاء، فإذا كان
هذا عَزْمَ المسانِّ وإقدامَهم فما الظن ببسالة الفتيان الذين هم ضُرَّاب السيوف،
٧٧ وشُرَّاب الحتوف؟ فإن تنظر إلى ما تعرف لهم من الأشعار، ويُروى عنهم من
الأخبار، تجد أنهم لا يبتغون بغير الكفاح الفخار، وتستدل على أن قوتهم في الهجوم على
الديار، أشد من عدو تمنعه القلاع والأسوار.
ومما حفِظ هذه الفتوح للمسلمين أن البُلدان التي دخلتْ في حوزتهم لم تُبدِ إشارة ثورة
ولا أمارة فتنة؛ لأنها كانت قبل ذلك في سلطان الفرس أو الروم؛ فاستوى لديها أن يحكمها
كسرى أو أمير المؤمنين، وربما مالت إلى عمال الخلفاء أكثر من ميلها إلى عمال الروم لما
وجدت قِبَلَهم من وفور العدل والقيامِ على مراعاة العهود، مما أمر به الخلفاء الراشدون
— رضي الله عنهم — وحرَّضوا على التشبُّث به، حتى لقد عزلوا خالد بن الوليد عن الإمارة
من أجل أنه أراد أن ينقض الأمان الذي أعطاه أبو عبيدة المعروف بأمين الأمة لأهل
دِمَشْق، إذ دخل مدينتهم صلحًا، بينما كان خالد يدخلها بالسيف، وأمثال هذه الرعاية
المنصفة كثيرةٌ في سِيَر الخلفاء، وكانوا إذا أوصَوْا عمالهم باستعمال العدل والاحتراس
من المعصية والاستنكاف من القتل الكثير قالوا لهم: «إنه لولا ذلك لم تكن لنا بالأعاجم
قوة؛ إذ كان عددنا دون عددهم، وعُدَّتُنا دون عُدَّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم
الفضل علينا بالقوة، وإلا نُنصَر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا.» فيظهر لك أنه إنما
عمَّ الإسلامُ بما عدل الخلفاء الراشدون — رضي الله عنهم — في زمن الفتح، وما أوجد الله
فيهم من حسن السيرة التي ذهبت فضائلها مَثلًا بين الناس، حتى إن الخلق الكثير من
الأعاجم كانوا يدينون بالإسلام على بُعد الديار؛ وليس ذلك إلا لما يسمعونه من عدل
الخلفاء وعفاف أنفسهم، فلَعَمْري إنه لولا انقلاب خلافة الملة إلى مُلْك في يد الأمويين
ما بعُد أن يعمَّ الإسلامُ العالم بأسره، والله — تعالى — أعلم بالغيب، وله في قضائه
حكمة تعالت عن أن يدركها العباد.
هذا هو السر في اتساع الفتوح وحفظها في يد المسلمين، والأعاجم يعلمون ذلك، ولكنهم
يقولون: إن الإسلام غلب أممًا لا مدنية عندها ولا نظام لملكها فقوي عليها، وهذا مردود
من وجوه كثيرة، ولا سيما أن فارس كانت من أضخم الدول سلطانًا، وأبعدها في الحكمة
أعراقًا؛ فلم يصعب عليه منالها، كما لم يعسُر عليه غَلَبُ الروم في الشام، وهم بمكان
من
المدينة لا يُرام، ولست أقول إلا أنه لما نشأ الإسلام كانت القياصرة في ضعف وانحلال،
وكان الفرس يمزقهم ظلم العمَّال، فكان ذلك داعيًا إلى انتزاع ملكهم، ولم ينل الإسلامَ
إخفاقٌ في عهد الخلائف الأولين وهم بمكانهم من صلاح الرأي وحكمة السياسة؛ فلم تُهْزم
للإسلام راية في أيامهم، إلى أن ذهبت الخلافةُ من بيت عليٍّ — عليه السلام — فذهبت
سذاجة المِلَّة، وانقلب أمر الأمة من الخلافة إلى الملك، كما قال النبي ﷺ:
«الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير مُلكًا عضوضًا.» ولله في خلقه شئون، وهو يُقدِّر
الليل والنهار.
وكان الفراغ من تقييد هذه الرسالة في أول يوم من رجب من السنة السابعة والخمسين بعد
المائة من الهجرة النبوية المشرَّفة. على صاحبها أشرف السلام وأزكى التحية.