الرسالة الرابعة
جلوس المهدي على دَسْت الخلافة
أفتتح هذه الرسالة إليك بذكر جلوس المهدي على دست الخلافة عند وصول الخبر بوفاة أبي
جعفر،
وقد كان لذلك يوم عظيم في الحضرة والإسلام كله؛ لأن العقلاء من أهل السياسة كانوا يرون
زوال
الخلافة عن ولد العباس إلى الأئمة من أهل البيت وتعذر مصيرها إلى المهدي، والمشايخ من
أهل
هاشم حاضرون، فجرى الأمر على خلاف المظنون بحيلة علمتُها من البرامكة سرًّا لم تنكشف
للناس
إلى هذا اليوم.
وذلك أنه لما أوْدَى أبو جعفر — غفر الله له — كَتَم الربيعُ موتَه إلى الصباح عمن
كان
معه في الحج، واستدعى عيسى بن عليٍّ عمَّه وعيسى بن موسى ولي العهد بعد المهدي وجماعة
من
القُوَّاد والأمراء، وتقدم إليهم بأمره — فيما كان يزعم — أن يُجدِّدوا البيعة لابنه
من غير
أن يُعلمهم بوفاته، فلم يتجرَّأ أحد على مخالفة الأمر؛ ظنًّا منهم أنه صادر من السلطان،
ولو
أنهم علموا بوفاته ما تسارعوا إلى تجديد بيعتهم لابنه، فلما بلغ مراده ولم يبقَ له غرض
من
كتمان موته دخل عليه كَمَن لا يعلم أمرًا مما نزل به، ثم خرج إليهم مشقوق الجيب باكيًا
ينعَى وفاته، فلم يكن فيهم إلا مَن أُخذت عليه البيعة، وركب رجال المهدي إلى مكة، وبايعوا
أهل الحل والعقد من أهلها،
١ فصارت الخلافة إلى المهدي بهذه الحيلة التي تُعاب على الربيع من وجه الظلم، وإن
كان فيها حقن لدماء المسلمين.
وكانت وفاة أبي جعفر في بئر ميمون مع السَّحَر، لستٍّ خلون من ذي الحجة، وهو مُحرِم
بظاهر مكة؛
٢ ولذلك دُفن مكشوف الرأس دون أحد غيره من الخلفاء؛ لأن النبي
ﷺ منع
المُحرِم من لُبس القُمُص والعمائم والبرانس
٣ وغير ذلك من أنواع المخيط، وحفر له أهله مائة حفرةٍ بين الحَجُون وبئر ميمون؛
٤ لِيُعَمُّوا على الناس، ثم دفنوه في غيرها، ووجَّه الربيع منارةَ
٥ الخادمَ إلى الحضرة بالبيعة، وأمره بالسرعة خوفًا من أمر يحدث في الإسلام،
فجاءها في أحد عشر يومًا
٦ من مكة.
وقد كنت في مجلس هارون الرشيد حين سمعت الجلبة في مقاصير الحرم، فاستعلمت الخبر، فنبئت
أن
أبا جعفر قد مات، فأسرعت إلى منازل البرامكة؛ لأشهد مجلسهم في ذلك الوقت، فأخبرني نافذٌ
أحد
الحجاب أن المهديَّ قد دعاهم إليه، فنزلت إلى السوق فلقيت أستاذي أبا يوسف، فأبنت له
ما أنا
تائق إليه من حضور البيعة، فأشار إليَّ بالبقاء معه إلى قبيل الظهر، وهو الوقت الذي يجتمع
فيه أهل الحل والعقد لمبايعة المهدي.
فلما سرنا إلى دور الخلافة، رأينا الساحات غاصة بجماهير الناس، فولجنا باب السور
بين
ازدحام تضيق منه الأنفاس، حتى انتهينا إلى باب القبة الخضراء، فجاوزنا الحجاب إلى المجلس
الذي تقام فيه البيعة، فإذا به قد جمع الأمراء من بني العباس وجِلَّة القُوَّاد والأعيان
وأهل البيوتات مثل البرامكة — أعزهم الله — وآل المهلب وآل طاهر وآل قحطبة وآل نُوبَخْت
وغيرهم، وكان المهدي مستويًا على عرشٍ مكلَّلٍ باللؤلؤ والياقوت وأنواع الجواهر، وعلى
رأسه
قبة تتدلى منها أستار من الديباج،
٧ وعلى يمينه ويساره غلامان قد التحفا بالذهب، ووقفا بمظلتين من الريش الأسود
مرفوعتين على رمحين مكسورين بعروق من الذهب، قد نُزِّل فيها الياقوت والزبرجد والفيروز،
ودونهما بنو هاشم على وسائد قد ثنيت لهم،
٨ ولباسهم خَزٌّ أسود، وكذلك كان لباس المهدي، وكانت عليه الطرحة، وعلى كتفه بردة
النبي
ﷺ التي استصحبها أبو جعفر إلى الحج، وفي يده القضيب وفي الأخرى خاتم
الخلافة.
وكان على يمين العرش منبر مزخرف بأنواع الزينة والجواهر والديباج، قد وقف به كاتب
المهدي
في خلافة أبيه
٩ أبو عبد الله معاوية بن عبد الله الأشعري، وهو الكاتب المشهور بالبلاغة، قد
اتخذه وزيرًا
١٠ له في سياسة الملك، وكان سلامان الأبرش حاجبه واقفًا على بعض مِرْقاة
١١ هذا المنبر بالبيعة التي جاء بها منارة من مكة، وتحت يد الخليفة أمير من البرامكة،
١٢ قد أخذ في يده البيعة على أمراء الحضرة الذين لم يَرَوْا إلا متابعة الناس، بعد
أن بايعتْ مكة والمدينة وبايع القُوَّاد والوزراء وأكابر المسلمين.
وكانت عادة الناس في مثل هذا الموقف أن يبدءوا الخليفة بتعزيته في أبيه، ثم يُهنِّئوه
بجلوسه على تخت الخلافة، فلما أخذوا في تعزية المهدي؛ خلعوا قلانسهم ونبذوها وراء ظهورهم؛
لأن الخلفاء لا يُعزَّون بالعمائم،
١٣ ثم وقف وزيره أبو عبد الله يُبايعه عن المسلمين، ولفظ البيعة قوله:
١٤ «إنا نبايع سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام أبا عبد الله
محمد بن عبد الله المنصور، على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أمير المؤمنين، وأن لا خليفة
سواه.» ثم بايعه كل مَن حضر المجلس حتى لم يكن يُسمع إلا دعاءٌ له وتنويهٌ باسم بني
العباس.
ثم تناول الوزير منشورًا كتبه الربيع على لسان أبي جعفر استنهاضًا للناس إلى مبايعة
المهدي،
١٥ فتلاه على مسمع من الأمراء وفيه يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى مَن خلف من بني
هاشم وشيعتِه في خراسان وعامة المسلمين، أما بعدُ؛ فإني كتبتُ هذا وأنا حي في آخر
يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألَّا
يفتنكم بعدي، ولا يَلبِسكم شيعًا، ولا يُذيق بعضكم بأس بعض، وأوصيكم بمحمدٍ ولي
عهدكم وأُذكِّركم البيعة له، وأستنهضكم للوفاء بعهده واجتماع كلمتكم عليه، فإنما
قُوَّتكم تكون بالاجتماع إلى رأيه، وقد أوصيتُه بكم وبالرأفة عليكم، والإحسان إلى
المسلمين والسلام.
فترقرق الدمع في عينَيِ المهدي،
١٦ ولم يتمكن من إطالة الخطبة التي يقولها الخلفاء؛ لما غلب عليه من تأثير النفس،
فصرف الأمراء وهم يدعون له بالسلامة.
سياسة المهديِّ وخلعه عيسى ابنَ عمه عن الولاية
ولما كان المساء أقيمت في المدينة زينة حافلة فصرفتُ العناية إلى تزيين مَشْرع الزوايا
١٧ بالأنوار؛ لقربه من موضعي؛ ليكون في ذلك قضاء الواجب من شكر الخليفة على ما
أولاني من الجميل، ودفعٌ لألسنة الوشاة عن السعاية بي إليه فيما استقر بنفوسنا من الميل
مع أهل البيت، وامتلأتِ الزوراء في تلك الأيام بأرباب الملاهي، وبما يعرضون من صور
الطين التي يصنعونها لِلَعِب الصبيان في المواسم والأعياد
١٨ ولا أطيل لك الكلام على عادات العامة وسذاجتهم؛ لأنها في جميع الأمم عامة
ومتماثلة، وإنما أخبرك بما عرفته للمهدي — أصلحه الله — من حسن السيرة التي يروم بها
أن
يستبدل برُعْب الناس من أبيه ورغبتهم عنه محبتَهم له وميلَهم إليه فأقول: إنه بعد أن
أظهر من الأبهة بافتتاح خلافته ما يُعظِّم موضعَه من السلطان، صنع لبني هاشم وسائر قريش
طعامًا جاوز فيه الحدَّ بسَعَة النفقة،
١٩ حتى إنه أطعم الناسَ الطيرَ وخبزَ السَّميذ، وكان يحمل معه بِدَرَ الدراهم
والدنانير في ركوبه، فلا يتعرض له أحد إلا أعطاه،
٢٠ فكان أرباب الدولة يخافون نفاد ما في بيت المال
٢١ إذا استمر هذا العطاء،
٢٢ ولا سيما بعد أن نقص دخل الدولة برفعه المُؤن والكسور وهو الأمر الذي كان
يفاوضني فيه أيام خلافة أبيه، فإن الناس في صدر الإسلام كانوا يؤدون ما في أيديهم
للخراج من دراهم ودنانير مضروبةٍ على وزن كسرى وقيصر، لا يُفرِّقون في الأوزان، فلما
ساد فيهم العمران وأفسدها التجار والصيارفة صاروا يؤدُّون الدينار الطَّبري، الذي هو
أربعة دوانق، ويُمسكون الوافي، الذي هو مثقال، فلما أُمِّر زيادٌ صار يطلب الوافي، ثم
أُمِّر الحجاج فطلبه كذلك، فلما صار الأمر إلى أبي جعفر أزال الخراج عن الحنطة والحبوب،
وصيَّره على الناس مقاسمة، ولكن مِن غير أن يُسقِط الكسور، فلما ولي المهدي قال: معاذ
الله أن أُلزم الناس ظلمًا في ذلك، فقيل له: إن أسقط أمير المؤمنين هذا؛ ذهب من أمواله
في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم،
٢٣ فقال: عليَّ أن أُقرر حقًّا وأزيل ظلمًا؛ لأن العدل موفر للجباية، كفيل
بعمران الأمصار.
ولقد أعظمتُ للمهدي هذه المأثُرة التي أحسبها له من أجمل آثار العدل وأحسن سياسة
الرفق؛ فإن لنا في سقوط الدولة التي قامت في هذا المكان نفسه من النَّبَط والكلدان
وغيرهم ما يدلنا على أن الظلم يقتل العباد والبلاد جميعا، فإنما كان غرض الناس من
الاجتماع تحت لوائهم القيامَ بأعمال الزراعة والمُقام في بلدان الخِصب، لما يتسع بين
أيديهم من أسباب الكسب والارتزاق، وقد تناسلوا في ظلال العدل، وبلغوا من الكثرة فيما
مضى من الزمن الغابر بحيث كانوا إذا اجتمعوا لحرب أو لغزوة بلغوا ألوف الألوف من
الخلائق، ثم لما غفلت الدولة عن مصلحتهم، وأوقعتْ عليهم المكوس الفادحة؛ لسد ما دعتها
إليه مطالب الترف لم يبقَ في نفوسهم شيء من حب البلاد، وهم لا يبتغون منها إلا تحصيل
القوت الذي يأتيهم على إجهاد النفس؛ فضعفت فيهم أسباب الهمة، ولم يكن للدولة طاقة على
مردِّ العدو بهم، وقد ماتت نفوسهم من الظلم؛ فخلت البلاد منهم، والله يرث الأرض ومَن
عليها.
وكان وفود البلدان يردون على المهدي من الأقاليم الإسلامية الأقرب فالأقرب لتهنئته
بالخلافة، فاجتمع ببابه كثير من أشراف العرب وملوك الأقاليم، وكانوا يتبركون به
ويتوسمون فيه الخير؛ لأنهم رأوا منه عدولًا عن سيرة أبيه، وإنما كان محسنًا إليهم،
٢٤ محبًّا لهم وساعيًا فيما تصلح به أمورهم، فاتخذ لهم من هذا الوجه مجلسًا
لردِّ المظالم،
٢٥ ولم يكن قبله في الدولة العباسية مَن ينظر في تعدي الولاة على الرعية
وجورهم فيما يجبونه من الأموال،
٢٦ ولقد وجدت له في استمالة الناس إليه غايتين تصبو إليهما نفسه، ولا يهدأ له
بال إلا بقضائهما على ما يروم، وهما إذلال العلويين إلى أن يكون بمأمن مِن تغلُّبهم
عليه، ثم جعلُ الخلافة من بعده في ولده ممنوعة على غيرهم من بني العباس، فأمَّا أمر
العلويين فما كان يشتد عليه وقعُه بعد أن رماهم أبو جعفر بالخسائر التي يحتاجون معها
إلى زمن يَلُمون به شعثهم، ويجمعون إليهم أطرافهم، فكأنما هو يقارعهم بسيف أبيه إلى هذا
اليوم.
وأما خلع عيسى ابن عمه عن ولاية العهد فإنه كان يُتعِب منه البال، وقد دخل عليه يحيى
بن خالد — أعزه الله — فأصابه في قلق شديد، يقعد مرة ويضطجع أخرى. قال لي يحيى: فعلمت
من ذلك أنه يريد أمرًا عظيمًا، فقال: اجلس قريبًا مني؛ لأني أريدك للمشورة
٢٧ إن النبي
ﷺ مات في غير وصية، وترك الأمر شورى بين المسلمين، فما
لبثوا أن أجمعوا على أبي بكر، ولكن بعد فتنة كادت تقع بين المهاجرين والأنصار، لقولهم
منا أمير ومنكم أمير، ثم مات أبو بكر وقد صير الأمر إلى عمر بمحضر من الصحابة، فلم
ينازعه فيه أحد، ثم عهدها عمر إلى ستة النفر الذين مات النبي
ﷺ وهو عنهم راضٍ،
فأجمع رأي الأمة على عليٍّ وعثمان، وكان عبد الرحمن بن عوف أحد الستة المنوَّه عنهم
يميل مع عثمان، وفي وصية عمر إلى المسلمين أن يتبعوا رأيه، فبايَعوا مَن أراده، فاستقر
عثمان في خلافته إلى أن ثارت عليه الفتنة لإقصائه ولد أبي بكر وإقباله على أقاربه من
الأمويين بالصلات الطائلة، وعهدُ المسلمين قريب بضبط
٢٨ أبي بكر وعمر؛ فقتلوه، وكانت تلك أول فتنة في الإسلام،
٢٩ ثم أجمع العرب على علي — عليه السلام — وكان الفرس يميلون معه، فاستوثق له
الأمر في العراق واليمن والحجاز ومصر وفارس وخُراسان، إلا الشام لاستواء معاوية فيها،
فلما قتله الخوارج لم يرَ الحسنُ ابنه مقاومة الأمويين بالقتال ضنًّا ببذل الدماء فنزل
له عن الأمر، وصارت الخلافة إلى غير أهلها بما قد بلغك من الفتن فأخاف اليوم إن صارت
إلى ابن عمي أن تذهب من بيتي بلا رجوع، ثم يكون من الفتن ما لا يؤمن غائلته على
المسلمين، فأشر عليَّ يا أبا الفضل في هذا الأمر، الذي لا يتعاظمه أمر؛ فإنك — بحمد
الله — مبارك الرأي لطيف النظر.
فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، إني أرى الزَّلة في هذا الأمر لا تُستَدرَك، والخطأ
فيه غير مأمون، فإن تكتب بالولاية لأولادك بعد ابن عمك كان ذلك أوكدَ في البيعة، فقال
المهدي: كنت أفعل هذا لولا أني أخاف من عيسى نَكْث العهود، ولكني أرى أن أخلعه عن
الولاية وآخذ البيعة لموسى على المسلمين، فقال له يحيى: على أمير المؤمنين أن يُعلِم
شيعته ومَسانَّ أهله بذلك، ولم يتعمَّق في هذا البحث إلى أبعد مما أشار به؛ لأن موقفه
بين العلوية والعباسية من أشد ما يكون من الصعوبة، وأنه وإن كان يأخذ في تعظيم
العباسيين لرسوخ دولتهم في المشرق، له في حبه للعلويين ما يرى به عدولهم عن العراق الذي
تزهق النفسُ دون التمكن من أهله، وإنما يلتمس لهم من المغرب أممًا ترسخ فيهم دولتهم،
إلى أن يأتيهم الله بالنصر القريب.
ولما جمع المهدي أكابر الدولة وفاوضهم في هذا الأمر ظفر بالموافقة من نفوسهم
٣٠ ولكن على أن يجيبه ابن عمه إلى الانخلاع وانتهى بعض مَن يَستخدم الفقه في
رِضا الملوك إلى أن يقول: إن أبا جعفر لم يكتب لعيسى بالولاية إلا لتبقى الخلافة في
بيته بعد المهديِّ، فلما رزقه الله أولادًا كانوا أحق بها من أعمامهم، فكتب المهديُّ
إلى الرَّحْبة يستقدم ابن عمه إليه، فلم يصل منه خبر، أو وصله أنه يعتلُّ بالشكوى، وما
بنفسه اعتلال، ويستنكر الخروج إليه إلا أن يُكرَه بالقتال، فعمد إذ ذاك إلى مكيدة
الحرب، وأرسل الجند على ذلك الوجه مأمورًا بألا يأخذه بالقتال، بل يستعمل الرفق
والملاينة في ترغيبه عن المخالفة إلى أن يجيبه إلى الخضوع، وكان على هذا الجند قائد
نَبِيهُ الصوت في الحروب يقال له: أبو هريرة محمد بن فروع، فرأى أن يفاجئ الحصن في آخر
الليل ويصفَّ العساكر صفوفًا متعارضة، ويضرب وراءهم مَصافَّ الخيام؛ ليوهم باستكثار
العدة والعزم على مثابرة الحصار، ثم يُنزِل بالجنود الزعقة العظيمة التي إذا سمعها عيسى
وهو في نومه خامره الجزع وأفزعه الهول، فلما فعل ذلك استيقظ عيسى على رعب من الصيحة،
ثم
أشرف من الحصن سَحَرًا ورأى سواد الجيش؛ فامتلأ قلبه من الوَحْشة ولم يرَ السلامة إلا
بالاستسلام، فأخذه أبو هريرة إلى المهديِّ، فلم يفتُر عن استعمال الحيلة في تعويضه عن
الولاية بالمال إلى أن أجابه إلى الانخلاع، ولكن بعد شدة ما لحقه من الضيم.
ولما تصرَّف المهديُّ في أمر البيعة بما أراد؛ ثار في قلوب المخالفين
٣١ له ما كان يُخمِده فيهم حِلمُه وسعةُ عطائه، فحصل في نفسه منهم خوف شديد،
ولكنه لم يرَ مقاومتهم بالقتل، وفيهم كثير من أهل السيف، لئلا يتسع الفتق وتعود عليه
الفتنة بغير ما يحب، وإنما رجع إلى مَن يلوذ به من العلماء، وأمرهم بتصنيف الكتب في
الرد عليهم، وأخذ في استصلاح الزوراء والنظر في حسن السيرة الظاهرة من أهلها بإكراه
العُزَّاب على الزواج، والإحسان إلى المتعففين من الشبان، مما جرى له قيل وقال بين
الناس، كمثل أن نسبوا ذلك منه إلى غَيْرةٍ به على النساء،
٣٢ وهم قد غفلوا عن الغاية التي يرومها من صلاح أمره بصلاح الزوراء، وموازتنها
بمكة مهد الإسلام؛ حتى يعظم فيها أمر الدين، وتصبو إليها أفئدة المسلمين.
ظهور المهدي بمناصرة العلم
إني وإن لم أكن على غرض العباسيين في السياسة، ولا تطيب نفسي بما ينفردون به من الملك
(لأني إلى قَوْمٍ سواهم لَأَمْيَلُ) لَأوفِّي المهديَّ حقه من الثناء على ما له من جميل
العناية
٣٣ في تعظيم العلم وتكريم العلماء، فهو يتخذ لأهل الأدب وأرباب الصناعة
والغايات أيامًا
٣٤ معلومة في السنة، يعرضون فيها بضاعتهم من علم أو فنٍّ أو أدب أو صناعة؛ حتى
يحصل بينهم التنافس، ويُصدروا ما عندهم من النفائس، ثم يجزيهم على ذلك بما هو مطبوع
عليه من الكرم.
ولقد رأيتُه — أصلحه الله — أعطى الخلفاءِ نوالًا للشعراء، وهو يأذن لهم بالدخول
عليه
مرة في السنة
٣٥ فيجتمعون ببابه ويتفاخرون بما عندهم من محاسن الشعر وفصاحة الكلام، وقد
حضرتُ اجتماعَهم بداره لأول ما ولي الخلافة، وقد قصده ابن المولى من البادية
٣٦ وسَلْمٌ الخاسر من البصرة، وابن الخياط من مكة، وأشجعُ السُّلَمي
٣٧ من الحجاز، فقالوا فيه الشعر الذي لم يمدح بمثله أحد من الملوك، ومن جملة
ما حفظت لأبي العتاهية في تهنئته إياه بالخلافة قوله:
أتتْه الخلافةُ منقادة
إليه تُجَرِّر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحدٌ غيرُه
لزلزلت الأرض زلزالها
وإنَّ الخليفة مِن بُغض «لا»
إليه لَيبغض مَن قالها
فأصاب لذلك حظًّا وافرًا من المال، وكان بشَّار المقدَّم ذكره في الرسالة السالفة
واقفًا في صفوف الشعراء فلم يتمالك أن يقول لمن حوله: ويحكم انظروا هل طار الخليفة عن
سريره؟
وكان المهدي يُقدِّم عليهم سَلْمًا البصريَّ ومرْوانَ بن أبي حفصة ويعطيهما عطية
واحدة، فأما مروان فإنه يلتمس الفصاحة في كلامه تشبُّهًا بأكابر الشعراء،
٣٨ وأما سلم فإنه يودع أبياته المجون والخلاعة؛ لتكون أنسًا في عيون السلطان،
فوقع فيما يتصرفان به من مذاهب الشعر بَوْن يُشبه أن يكون ناشئًا فيهما من تباين المشرب
بين الإفراط عند الأول والتفريط عند الآخر؛ فإن مروان بخيل يضن بماله،
٣٩ وسلم سَمْحٌ يبذُل المال، يأتي إلى دار المهدي على بِرْذَون قيمته عشرة
آلاف درهم، ولباسه الخز والوشي،
٤٠ ويأتي مروان بأثواب رثة على حمار يكتريه بدرهم لا يخرج من يده إلا بعَصْب
الريق، مع كثرة ما أصابه من المال
٤١ في صلات تجاوزتْ خمسة آلاف دينار في عطية واحدة كما علمتُ.
ولئن تكن الفصاحة في كلام مروان أجلَّ منها في شعر سلم، إني لأعيب عليه المداهنة التي
يلتمس بها مرضاة الخليفة بقَدْحِه في أهل البيت على غير حكمة وعقل، كأنه يجزم بما يراه
عن يقين لا رجوع فيه، كقوله في ثبوت الخلافة للعباسيين وبُعْد العلويين عن وراثة النبي
ﷺ:
يا ابن الذي ورِث النبي محمدًا
دون الأقارب من ذوي الأرحام
أنَّى يكون وليس ذاك بكائن
لِبَنِي البنات وراثةُ الأعمام
٤٢
وهذا مردود من وجوه كثيرة؛ لأن الخلافة إنما هي مصلحة دينية لا وراثة دنيوية؛ فحيث
توجد المصلحة الدينية تكون الخلافة، ثم إن النبي
ﷺ صرح بأن الحسن والحسين هما
ذريته، فإذا وجدت الذرية لم يبقَ مدخل للأعمام في الوراثة، اللهم إلا إذا رجعنا إلى
شريعة الجاهلية التي نُسِخت بمجيء الإسلام، ولو أنَّا ضربنا عن ذلك كلِّه صفحًا ما
وجدنا أصلح للإسلام من أن تجتمع كلمته على مَن لا ينصرف عن طاعته أحد من المسلمين، إلى
ردودٍ كثيرة ما أنا من ذكرها الآن في شيء، وإنما أعود إلى الحديث الذي جرى به القلم عن
سيرة المهدي، فإني شهدت بداره أيامَ الشعراء وأيام القُصَّاص وأيام الندماء وأيام
المغنين وأيام الرماة
٤٣ وأيام جري الخيل، وقد سبقه إليها الخلفاء، إلا يوم السباق فإني لا أعلم عن
أحد من بني العباس أنه أقام الحَلْبة وأجرى بين يديه الخيل في محفل من كبراء الدولة
قبله، وكان له فرس سبَّاق الأضاميم، يقال له: الغضبان،
٤٤ فكان أول خيل الحلبة في ذلك اليوم، فلما وصفه الشعراء أصاب جائزتهم
العُماني وقد ارتجز:
قد غضب الغضبان إذ جدَّ الغضب
وجاء يحمي حسبًا فوق الحسب
من إرث عباس بن عبد المطلب
وجاءت الخيل به تشكو التعب
له عليها ما لكم على العرب
ولكن هذا من الأمور التي تكفي المشاهدة لها مرة واحدة، وأما الذي ترتاح إليه النفس،
على التماس الكثير منه في دور الخلفاء، فهو يوم الغناء، وكان المهدي إذا اتخذ له مجلسًا
بداره ضرب للمغنين ستارة يجلسون وراءها في صفوفهم بحيث لا يرونه
٤٥ إلا فُلَيْحَ بن أبي العوراء، وهو أوضح الناس غناء وأعرفهم بالألحان والأصوات
٤٦ وإن لم يكن أحسنهم صوتًا، فإنما يحسن الغناء عند من يُشبع الألحان، ويملأ
الأنفاس، ويعدل الأوزان ويفخِّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويُقيم الإعراب، ويستوفي النغم
الطوال، ويحسن مقاطيع النغم القِصار، ويصيب أجناس الإيقاع،
٤٧ فهو يُحسن ذلك كلَّه لمحله الجليل من هذه الصناعة، وليس له فيها شريك إلا
مغنٍّ آخر يقال له: عطرد
٤٨ قد أدرك دولة الأمويين في آخر مدتهم، وأما مَن سواهما من المغنين فليس لهم
في الصناعة ما للمتقدمين من الفرس، وأنا لا أعيب ذلك عليهم؛ لأن الزمن الذي مضى عليهم
في صدر الدولة كان مضرجًا بدماء الحروب؛ فانصرف الخلفاء عن النظر في مطالب اللهو والترف
إلى التماس الأسباب التي يؤيدون بها ملكهم من الحكمة والسياسة، ثم إن نقل الغناء إلى
العربية
٤٩ ليس بقديم عهد عندهم حتى يتمكنوا من صناعته وفنونه؛ لأنهم نقلوه من
الفارسية في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وهو الزمن الذي أخذ فيه العرب بسكنى الأمصار،
وانقلب أمر الأمة من سذاجة الخلافة إلى ترف الملك، فقد نَقَلَتْ إلينا الأخبار السالفة
أن الخلفاء الراشدين — رضي الله عنهم — لم يقيموا أبهة الملك، ولا كان لهم على المسلمين
سلطان دنيوي يتوسعون منه إلى التماس النعيم من الدنيا
٥٠ وإنما كانوا مظهر الفضيلة ومثال القناعة والعفاف، وكانوا يلبسون الثياب المرقعة،
٥١ ويتخذون في أرجلهم نعالًا من ليف
٥٢ ويمشون في الأسواق كبعض الرعية رجالًا
٥٣ وكان لباس أبي بكر الشملة والعباءة، ولباس عمر جبَّةً من الصوف مرقعة
بالأديم، ومركبه الإبل،
٥٤ وكان عليٌّ — عليه السلام — يتجافى عن جمع المال، ويقول: يا صفراء ويا
بيضاء، غُرِّي غيري.
٥٥ وكان مطعمهم على مثل هذا الوجه من الكَفاف يلتمسون بع الغذاء من غير تأنق
في الأطعمة، حتى إن المناخل كانت مفقودة عندهم، فكانوا يأكلون الحنطة بنخالتها، ولا
يعرفون من الألوان إلا اللحم يطبخونه بالملح والماء،
٥٦ وكان أبو موسى الأشعري يتجافى عن أكل الطير والدجاج،
٥٧ وكذلك كان العرب في سذاجة دولتهم على بُعْدٍ من ترف المتمصرين في جميع
معايشهم وأحوالهم، حتى إنه لم يكن عندهم من الغناء إلا حُداء الركبان أو ضربٌ من
النَّصْب أرقُّ منه، فلما ساد فيهم العمران في عهد الأمويين وألقيت عليهم أصوات الفرس
نبغ الكثير منهم في محاسن هذه الصناعة، ثم فتقت الفتن في دولة العباسيين، وقد طلبوا
الخلافة من دون الملك؛ فلم يتهيأ لهم مجلس بدورهم إلى هذا الزمان.
وَلوع المهدي بمزاولة الصيد
تجد فيما أنا ذاكر لك عن المهدي أنه يجمع إلى خلافة الأمة أبهة الملك، وهما أمران
لم
يجتمعا في خليفة غيره، وربما التمس الطيبات في هذه الأبهة، والتأنق في فنون المعيشة
إلى
الغاية التي لم يبلغها ملوك بني أمية من قبله، فإذا جلس إلى الندماء أحب أن يمتع نفسه
بلذة أحاديثهم
٥٨ وإشارتهم دون ستارة تحجبهم عن نظره، وإذا خرج إلى الصيد ركب في المواكب
العظيمة المزينة، وربما كان ذلك من أحب الأشياء إليه.
وأنا لا أعُدُّ الصيد من الملاهي التي تعاب على الملوك إلا متى أفرطوا فيه وكانوا
أقرب به إلى الأَشَر منهم إلى النزهة والرياضة، كما نعلم عن صبية الأمويين الذين
أجْلَوا أهل الزراعة من حولهم لتحطيمهم زرعهم في طلب الصيد، وهذا بعيد عن أن يكون في
المهدي — أصلحه الله — وإنما هو كَلِفٌ به
٥٩ من غير إفراط فيه؛ لأني رأيت من الأمراء من يتأنق أكثر منه في اتخاذ
العُدَّة له، إلى أن يصنعوا نِصال سهامهم من الذهب، كما ورد عن بعضهم في كلام
الشعراء:
ومن جوده يرمي العُداة بأسهمٍ
من الذهب الإبريز صيغ نِصالُها
لينفقها المجروح عند انقطاعه
ويشتري الأكفان منها قتيلها
٦٠
وهذه مباهاة لا ينظر إليها الخليفة من مزاولة القَنْص، وإنما عني باتخاذ الصقور
والبيزان وتربية الكلاب التي تسبق الظليم في عَدْوها، يُلبسها أطواقا من ذهب،
٦١ ويوكِّل بكل كلب عبدًا يخدمه كما يفعل كثير من الأمراء وأهل النعمة
٦٢ في تربيتها للتحريض على الصيد، إذ كان لا ينهى الشرع عن اتخاذها إلا فيما
كان لغير الصيد والحراسة، وأما البيزان والصقور فإنه لم يَسبِق إلى اتخاذها، بل كانت
معروفة عند العرب من ملوك كِنْدة، وقد وقف أحدهم يقانص بالحبالة؛ فانقض بازٍ وحمل
عصفورًا، وعلق وإياه في الحبالة، فأخذه الملك وهو يأكل العصفور، ورماه في كِسْر البيت
فرآه قد دجن ولم يبرح مكانه، وإذا رمى إليه طعامًا أكله، وإذا رأى طيرًا طار إليه؛
فاتخذه في عُدَّة الصيد وطلب به الطيرَ، وصار العرب يؤدبونه
٦٣ لذلك، ثم يؤدبون العِقبان أيضًا، ويقولون: إنها تعمل عملًا لا يدركه أكثر الصقور.
٦٤
وقد ركب المهدي يومًا إلى الصيد، وكنت في خدمته مع الأمير على بن سليمان ابن عم أبيه
وأبي دلامة الشاعر، وكان خروجه من القصر في آخر الليل، وفي طرف الأفق شفق من الفجر،
وكان يحوطه فُرسان من الحرس متنكبون قِسِيَّهم، متقلدون سيوفهم، يتبعهم قطعة من الجنود،
وطائفة من الغلمان قد حملوا المئونة على الخزائن
٦٥ الخفيفة، وبينهم عدد من الوصفاء في أخفِّ كُسوة وأجمل لباس، وكان مسيره
محاذيًا للنهر؛ ارتيادًا للخضرة التي تجنح إليها الطيور وتسرح فيها المها والغزلان، حتى
إذا انجلى النهار وقد رمى شيئًا من الطير تقدم إلى مَن بين يديه من الفرسان أن يضربوا
حلقة في أرض مطمئنة ممرعة، ثم يضيقوها رويدًا رويدًا إلى أن يُؤخَذ الصيد بين جموعهم
من
كل جهة،
٦٦ فلما أحاطوا بذلك الموضع وقع في حلقتهم غزال قد نفر ومرَّ، وكان الخليفة قد
نشط للصيد وخفَّ له في ذلك اليوم، فمال هو وابن عمه إليه ورشقاه بالسهام؛ فأصابه سهم
في
صدره، وأصاب السهم الآخر بعض الكلاب فصرعه، فلما جلسا للاستراحة حُمِل إليهما هذا
الغزال، فوجد في صدره سهم الخليفة، فارتجل أبو دلامة وهو يريد المزاح:
٦٧
قد رمى المهديُّ ظبيًا
شكَّ بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما
ن رمى كلبا فصاده
فهنيئًا لهما كل
امرئ يأكل زاده
وقد اتفق للمهدي في ذلك اليوم نادرة لم أرَ أظرف منها فيما يتفق للملوك من النوادر،
وهي
٦٨ أنه أخذته السماء وهو منقطع عن عسكره منتبذ من أصحابه، فركضَ فرسَه مِلء
فروجه حتى لا يلبِّده المطر، فانتهى إلى بيت أعرابي مُلاحٍ
٦٩ فبادر إلى نزع ما ابتلَّ من ثيابه وجلس بجانب نار موقدة، ثم قال: يا أخا
العرب هل مِن قِرًى؟ قال: عندي فضلة في رَكوة، فقال له: هاتِ اسقني، فشرب قَعبًا وسقاه،
فلما شرب قال له: يا أخا العرب أتدري مَن أنا؟ قال: لا، والله. قال: أنا من خدم أمير
المؤمنين الخاصة. قال له: بارك الله في موضعك. ثم شرب قدحًا وسقاه فلما شرب قال له: يا
أعرابي أتدري مَن أنا؟ قال: زعمتَ أنك مِن خدم أمير المؤمنين. قال: لا، بل أنا من
قُوَّاد أمير المؤمنين، قال: رحُبت بلادك وطاب مَرادك. ثم شرب قدحًا وسقاه فلما شرب،
قال له: يا أعرابي، أتدري من أنا؟ قال: نعم، ذكرتَ أنك من قُوَّاد أمير المؤمنين. قال:
فلست كذلك. قال: فمن أنت؟ قال: أنا أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابي الركوة وأوكأها، فقال
له الخليفة: ما لك يا شيخ؟ فقال: مكانَكَ. والله ما آمن أن أسقيك القدح الرابع؛ فتزعم
أنك رسول الله. فضحك المهدي حتى استلقى وأقبل الجند عليه، ونزل الأشراف إليه، فطار قلب
الأعرابي من الخوف، فقال له المهدي: لا بأس عليك ولا خوف. ثم أمر له بمال وكُسوة، ولم
يلبث أن رجع إلى الحضرة بعد انكماشٍ ناله من العدْو السريع ونزول المطر وهبوب الريح
الباردة.
في تتمة أخبار المهدي ورسالتي إلى خُراسان
نعود إلى ذكر المهدي في دولته وسياسته، فإنه لما حقق البُغْية بما أراده من البيعة
لأولاده بقي عليه أن ينظر في أمر العلوية، وقد بقي منهم في السجون جماعة لم يطلقهم منها
فيمَن أطلقه عندما وَلِي الخلافة،
٧٠ بل أبقاهم مع الذين عندهم تبعات من دم أو مال، وهذا من شر ما يلاقيه أهل
البيت من الذين خَلَفوا جدهم — عليه الصلاة والسلام، ثم إنه لم يكتف بهذا الظلم حتى
تعمد مضرتهم باستمالة جماعة من أشياعهم يطلعونه على أمورهم فيما يُسرون ويُعلنون، وفيهم
رجل من بني سُليم يقال له: يعقوب بن داود، طوَّقه أمر الوزارة ومكَّنه من بيوت المال؛
ليطلعه على أمورهم، ويُعلمه بمكان الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بعد خروجه من السرداب
الذي حفره إلى محبِسه ذوو النخوة من رجال الشيعة، ولكن يعقوب كان ذا عقل ورأيٍ وفتوة
ومَن لا يستبدل المالُ بغرضه غرضًا آخر، فبقي ميلُه مع أهل البيت، والمهدي وأبو عبد
الله يظنان أنه على خلاف ذلك.
٧١
ولما استوثق للمهدي أمر العراق رأى أن يستميل أهل الحرمين، فركب إلى الحج في كثير
من
عظماء دولته، واتخذ من الأبهة ما لم يسبق له مثيل في الإسلام، واستصحب معه هارون ابنه
ويعقوب بن داود المقدَّمَ ذكره وجماعة من أقاربه المقربين، واستخلف في الحضرة موسى ابنه
ويزيد بن منصور الحِميري خاله، وحمل معه خمسين ألف ألف درهم ومائة وخمسين ألف ثوب
٧٢ يفرقها في أهل الحرمين، وكان عازمًا في تلك الحجة أن ينكُب الإمام الحسن بن
إبراهيم بن عبد الله من أولاد عليٍّ — عليه السلام، وقد علم أنه في جوار مكة، فتقدم
يعقوب بالشفاعة إليه والحيلة المباركة عليه حتى نال رضاه عنه؛ فأطلق له الأمان
٧٣ الذي كان مقبوضًا عنه وعن آل بيته في خلافة أبي جعفر.
ولما قدم إلى مكة نزع كُسوة الكعبة وطلى جدرانها بالمسك والعنبر، ثم كساها كسوة جديدة
من الحرير؛ لأنه كان يخاف عليها أن تتهدم لكثرة ما عليها من الديباج الذي كساها إياه
هشام بن عبد الملك، ثم أمر بإنشاء أروقة المسجد الحرام، وحمل لها الأعمدة الرخام من البحر،
٧٤ وأتم بناءها على عناية يلتمس بها استمالة أهل الحرمين مع ما أولاهم من
الإحسان، واتخذ لهم مآدب أفرغ الوُسْع في زخرفتها وتنميقها؛ للدلالة على عِظم ملكه، حتى
إنه سقاهم الماء المبرَّد بالثلج المحمولَ من الشام،
٧٥ «وكان الذي حمله إلى مكة محمد بن سليمان الهاشمي الذي تقدَّم في الكلام على
البصرة ذكره»، وهذا من الأمور التي تُوسِع أهل البادية تعجبًا من اقتدار الملوك على
الغريب، ثم إنه ردَّ عليهم الوظائف التي قُبِضت عنهم في خلافة أبيه، وفرَّق عليهم غير
ما حمله من الحضرة ثلاثمائة ألف دينار حُمِلت إليه من مصر، ومائتي ألف دينار من اليمن،
وغير ذلك مما جاءه من الجهات، فبلغ المنفق في هذا الحج على كسوة الكعبة وصِلة الناس
وبناء القصور بطريق مكة، واتخاذ المصانع في كل منهل منها، وتحديد الأميال والبرك، وحفر
الركايا، وغير ذلك نحوًا من ستة آلاف ألف دينار، واصطفى لنفسه من الأنصار خمسمائة نفر
أجرى عليهم الأرزاق الواسعة واتخذهم لمراتب السيف في العراق، كأنه يعارض أباه في تقديم
الموالي على العرب؛ ليستبدل بجفائهم له محبتهم إياه، واتفق أن كانت هذه السنة سنة رُخْص
وخِصب بعد جَهْد أصاب الناس في العام لمَّا دهمهم الوباء
٧٦ الجارف؛ فأحبه الناس وتبركوا به وقالوا: هذا هو المهدي ابن عم رسول الله
ﷺ وسميُّه.
٧٧
ولما عاد إلى الحضرة وقد وجد في تجواله في البلاد اختلالًا لم يأمن معه على الدولة
من
الفساد؛ صرف الهمة في النظر إلى تدبير الولايات، ورتَّب أناسًا يؤدون رسائله إلى العمال
ويراقبونهم في إنفاذها وسمَّاهم الأمناء،
٧٨ ووجَّههم في جميع الأمصار، فكان لا ينفذ كتابًا إلى عامل في أمر خطير حتى
يكتب يعقوب الوزير إلى بعض الأمناء بإنفاد ذلك، ثم نظر في أمر الرعية فوضع لهم ديوان
الأزِمَّة
٧٩ وأقام على الشُّرْطة مَن تبيَّن فيه حسن النظر والتدبير؛ فاستوثق له الملك
من الوجه الذي يرومه في استمالة الناس إليه.
إلا أنه تواترت عليه في منتصف هذه السنة، والدهر له صافٍ، رسائلُ من أبي عَوْن عامله
على خراسان يشكو فيها ضعف جنده واعتلال دولته وتغلب رجل أعور من مرو قد ادَّعى الربوبية
وأغوى الخلق، وقامت له في الصَّفد وبُخَارى أنصار قد عاثوا في البلاد، واتخذوا البياض
شعارهم لمخالفة السواد؛ فتخوف المهدي أمرهم وأخرج إليهم مُعاذ بن مسلم موعزًا إليه بأن
يلتئم مع الحَرَشيِّ الذي هو أمير الجيش في خراسان، حتى إذا كان على انتظار البشائر منه
وصله من أبي عون أن قد وقع الخلاف بين الجيشين، فعزم على توجيه رسول يكشف قناع الفتنة
ويصلح بين الأميرين؛ فوقع الخلاف بين يعقوب وأبي عبد الله فيمن يُطوِّقانه أمر هذه
الرسالة، فرام يعقوب أن يقلدنيها، وأحب أبو عبد الله أن يصيرها إلى أمير من آل قَحطبة
وكان الربيع حاجب أبي جعفر راغبًا في توجيهي بها أيضًا حبًّا لي، وكانت وقعت نُفرة
٨٠ بينه وبين أبي عبد الله، فاشتغل في معاكسته وبلوغ المكروه منه.
ثم إن المهدي وقع رأيه على أن يبعثني إلى مرو لأنظر في أمر هذا المقنَّع الأعور،
وجعل
لي التصرف فيما أرى حلَّه وعقده من خلاف القواد، إذ يكون خير الجيش المرجوَّ ما لم
تتقلب بأمرائه الأغراض، ولا سيما أن له في خراسان عدُوَّيْن يتفقان جميعًا عليه، جماعة
خارجيٍّ يقال له يوسف البرم
٨١ وشيعة هذا المقنَّع الذين يدَّعون ألوهيته ويقيمون دعوته على بذل الدماء،
فأما جماعة البرم فلم يكن لهم وجه بالثورة إلا في أمر من السياسة؛ ولذلك كانوا أقلَّ
على الدولة خطرًا من رجال المقنع الذين أقاموا دعوتهم بأمر الدين وزعموا أن الله —
تعالى — خلق آدم فتحوَّل في صورته، ثم في صورة نوح، ثم في صورة غيره من الأنبياء، حتى
تحول في صورة هذا المقنع بَعد أبي مسلم — رحمه الله، وقد نقلت الأخبارُ السائرة أنهم
يسجدون له من جميع النواحي ويزعمون أنه أراهم في السماء قمرًا آخر يراه المسافرون على
بعد شهرين ويستضيئون بنوره، والعياذ بالله من شرور الأعمال.
وإنما زعم هذا المقنع أن الله — تعالى — تحول قبله في صورة أبي مسلم؛ ليستميل الناس
إليه كما استمالهم داعية الإمامية — رحمه الله — وإن كان بعيدًا عن إظهار دعوة أهل
البيت، فكان استخدامه الدين لنيل مناه وجهًا من السياسة، يريد من شيوع المعجزات عنه بين
العوام وهم بمكانهم من السذاجة والغفلة أن يتسارعوا إلى الانضمام إليه، وقد رأى أن عصر
موسى — عليه السلام — كان مقدَّمًا بالسحر فغلب السحرةَ، وعصرَ عيسى — عليه السلام —
مقدَّمًا بالطب فغلب الأطباء، وعصر النبي ﷺ مقدَّمًا بالبلاغة ففضَل البلغاءَ،
فرأى أن عصره مقدَّم بالكيمياء؛ فأراد أن يُبهر الناس بما يستنبطه من المركبات.
وقد فرغت من تقييد هذه الرسالة في ختام السنة الحادية والستين بعد المائة من الهجرة
المشرفة، وأنا على أهبة السفر إلى خراسان، وسأصدر لك منها كتابًا أودعه ذكر الشيعة فيها
وأخبار أممها من الفرس والديلم وغيرهم. وبالله نعتضد فيما نعتمد، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.