ثم إني قصدت باب فقيه الإسلام وقد اتخذه المهدي — رحمه الله — قاضيَ قضاةِ المسلمين،
وصارت إليه جوائز الهادي والرشيد من بعده حتى بنى لنفسه في درب أبي خلف
٣ من ناحية الكرخ الدارَ التي لم يَبنِ مثلَها إلا ملك أو أمير، فألفيته في مجلس
حافل بالأدباء والأمراء وعليه
٤ المبطَّنة والطَيْلسان وقَلَنْسوة طويلة
٥ قد حوَّطها بعمامة سوداء دعتْه الحاجة من خدمة العباسيين إلى اتخاذها على لون
شعارهم، وهذا هو الزِّي الذي يروم أن يكون مخصوصًا بالفقهاء؛
٦ لتمييزهم عن سائر الناس، فكان لملْقانا موقف يستبكي الحمام لفرط ما بنا من
الأشواق، وصرفت اليوم بقيتَه بحضرته أجاذبه أطراف الحديث، وقد نبأني بأحوال القوم في
المدة
التي كنت منفصلًا فيها عن دار السلام؛ لأن القضاة قد يرد عليهم من طرائف الأخبار
٧ ما لا يرد على غيرهم، ولا سيما مَن كان بمنزلة هذا الفقيه عند الخليفة حتى إنه
ليُجلسه على سريره بجانبه،
٨ ويقوم له إذا دخل عليه ولا يقلِّد القضاءَ
٩ ببلاد العراق والشام ومصر وخراسان إلا مَن أشار به إليه.
فنكبه لذلك وأُلقيَ في بئرٍ عَمِيَ فيها، وهو يتوسد التراب إلى أن مات في خلافة الرشيد
قبيل عودتي من خراسان.
حاز صَمصامةَ الزُّبَيْديِّ مِن بَـ
ـيْنِ جميع الأنام موسى الأمينُ
سيفَ عمرٍو وكان فيما سمعنا
خيرَ ما أُغْمِضتْ عليه الجفون
أخضرُ اللون بين خدَّيْه بَرد
من ذُعاف تميس فيه المنون
أوقدت فوقه الصواعقُ نارًا
ثم شابت به الذعافَ القُيونُ
فإذا ما سللتَه بهر الشمْـ
ـسَ ضياءً فلم تكدْ تَستبينُ
ما يبالي مَن انتضاه لحرب
أشِمالٌ سطتْ به أم يمينُ
يستطير الأبصار كالقَبَس المشْـ
ـعَلِ ما تستقر فيه العيون
وكأن الفِرِند والجوهر الجا
ري على صفحتيه ماء معين
نِعم مِخراقُ ذا الخليفةِ في الهَيْـ
ـجَاءِ يقضي به ونعمَ المعينُ
١٨
وقد صارت المراتب في أيامه إلى الناشئين من البرامكة والطاهريين والمهالبة، وغيرهم
ممن
كنت أعرفه صبيًّا قبل نزوحي إلى هذه الرحلة التي امتدت بي طويلًا، وكان على وزارته الربيع
بن يونس حاجب أبي جعفر — غفر الله له — وعلى بيت ماله المعلَّى بن طريف،
١٩ وعلى حجابته الفضل بن الربيع، وعلى جنده آل أبي العلاء، وقد حدثني بأخباره معهم
بعض مَن كان مقربًا إليه من الندماء، ومنهم رجل من أهل الحجاز يقال له عيسى بن دَأْب،
وقد
بلغ من الحُظوة لديه والجلوس بحضرته على المتكآت ما لم يكن يطمع به غيره في ذلك،
٢٠ فكان يصف لي أخبار مولاه بما يرفعه إلى مساماة العظماء من أهل الرأي والتدبير،
غير أني ما عرفت له شيئًا من هذه المحاسن وهو صبي، ولا رأيت في دولته الزُّهاء الذي أشرق
على دولة المهدي قبله ثم الرشيد من بعده؛ لأنه كان منهمك النفس بحب اللهو ووُلد له في
فتاءِ
سِنِّه أولاد كثيرون وفيهم ولد أعمى
٢١ فيما سمعت، ولذلك كان الطامعون إليه من غير أهل المراتب أكثرهم أهل لهو وطرب،
وكان أقربهم إليه مكانًا وأفضلهم عنده منزلة إبراهيم الموصلي النديم، وهو أعجمي الأصلي
بارع
في جميع فنون العلم والأدب، إلا أنه غلب عليه الغناء بعد أن تخرج على جوانويه
٢٢ وسِياط، فبلغ من الإجادة فيه المكان الذي لم يبلغه المغنون من أهل الحجاز،
ولذلك كان الهادي إليه أمْيَل منه إلى سواه من الندماء، يقال: إنه كان إذا استعطاه خمسين
ألف درهم أعطاه مائة ألف،
٢٣ وقد قال لي إسحاق ابنه: والله، لو عاش لنا الهادي، لبنينا حيطان دورنا بالذهب.
٢٤
جمال بغداد بالرشيد والبرامكة
ولما جُلْت في المدينة بعد طول الغيبة عنها وجدتها في سعة من العمران ما كنت أعهدها
قبل هذا الوقت، فما كفي أهلَها الموسرين ما رفعوا في مدينة المنصور من المباني المشرقة
حتى توسعوا إلى سكنى الجانب الشرقي المعروف بالرُّصافة، فبنَوْا فيه القصور الرفيعة
والمنازل المزخرفة، واتخذوا الأسواق والجوامع والحمامات،
٢٥ وتوجهت عناية الرشيد والبرامكة إلى تزيينها بالبنايات العامة، حتى أصبحت
الزوراء بجانبها كأنها البلد العتيق، تجتمع محاسنه في جزء من محاسن المدينة التي أحدثت
في جواره.
ولقد أكبرت من بغداد بلوغ العمران فيها بما رأيت من ازدحام الناس بأنحائها، وتموجهم
كالبحر في أرجائها، يقال: إن عددهم يزيد عن ألف ألف وخمسمائة ألف،
٢٦ وهذا جمع لم يكن مثله ولا قدر نصفه في مدينة من العالم قط، فإنما يدل
اجتماع الناس إلى هذا القدر العظيم على أن ليس في المدن أيمَن
٢٧ ولا أيسر من الموضع الذي تَكوَّفون فيه تكوُّف الرمال، ثم أعظمت بلوغ
النعيم في أهلها بما رأيت من توفر أرباب الغايات عندهم على الفنون التي لا تقتصر الحاجة
منها على ضروريات العمران، وإنما تتوسع المنفعة من صناعتها ومصنوعاتها إلى مطالب الترف
الذي يقع في الأمم عند استكمال دولتهم واستفحال أمرهم.
وإنه يتعذر عليَّ بهذا القلم الذي لا مادة فيه أن أصف مفاخر المدينة
٢٨ التي قُلُّ ما تصيبه من الشرف أنها تزهو ببهاء السلطان، وتضم إليها من عيون
الأعيان كثيرًا، حتى إذا لقي السائر جماعة منهم في الطريق لم يفطُن لهم من حيث الكثرة
مع أن أقلهم في الثروة والجاه يتعذر على أكبر المدن أن تحمل سكناه وتسع جنده وحاشيته
والطامعين إليه من كل الوجوه،
٢٩ فلقد يمشي أهل النعمة فيها بالغلمان
٣٠ والحاشية إلى عدد يتوهمه السامع بعيدًا عن الصدق، فشاهدت في محلة العتَّابية
٣١ أميرًا قد ركب في مائة فارس وأحدق به الغلمان حتى ملئوا الطريق وسدُّوا على
الناس سبيلهم إلى أن مرَّ، وشاهدت في مشرع القصب
٣٢ على دجلة فتى من أهل النعمة قد سار بموكب عظيم من الخيل والرَّجْل كأني به
قيصر على مركبه أو كسرى في جلال موكبه، وربما عدَّ المحصي في ولد العباس أكثر من ألف
رجل
٣٣ يركبون في مثل هذا الجمع، وكلهم في سعة من الثروة وترف من الحضارة، وإنما
ساد العمران عند البغاددة إلى حد الترف تشبُّهًا بما يرون من الرشيد في إقباله على
الدنيا بطلب النعيم، حتى يصدق المثل الذي يقول: «الناس على دين الملك.» فهو الذي ألبس
الدنيا هذا الجمال بسعة عطائه، ولم يُسْمَع عن الخلفاء مَن كان أسمح منه ببذل المال.
٣٤ يقال: إنه ينفق على طعامه في كل يوم عشرة آلاف درهم،
٣٥ وربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لونًا من الطعام،
٣٦ وقد أخبرني أبو يوسف أنه لما بنى بزبيدة بنت جعفر اتخذ وليمة لم يسبق مثلها
في الإسلام، وجعل الهبات فيها غير محصورة حتى كان يهب أواني الذهب مملوءة بالفضة،
وأواني الفضة مملوءة بالذهب ونوافج المسك وقطع العنبر، وبلغ جملة المنفق فيها من بيت
المال خمسة وخمسين ألف ألف درهم، وأمر أن تُجلَى زبيدة في درع من الدُّرِّ لم يقدر أحد
على تقويمه بثمن، وزيَّنها بالحُليِّ حتى لم تَقدِر على المشي لكثرة ما عليها من
الجوهر، وهذا شيء من الإسراف لم يسبق إليه أكاسرة الفرس ولا قياصرة الروم
٣٧ ولا صِبْية الأمويين مع ما تقلبوا فيه من المال الكثير.
ومن جمال الدنيا في هذه الأيام أن الرشيد لا ينفرد وحده بكثرة الإنفاق والتبذير؛
فإن
زبيدة زوجه تصنع أعمالًا تفوق مقدرة الملوك، كمثل اصطناعها بساطًا من الديباج جمع صورة
كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من الذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، يقال:
إنها أنفقتْ عليه نحوًا من ألف ألف دينار
٣٨ وكمثل اتخاذها الآلة من الذهب المرصع بالجواهر، والثوب من الوشي الرفيع
يزيد ثمنه على خمسين ألف دينار، والقباب من الفضة والأبنوس والصندل عليها الكلاليب من
الذهب الملبَّس بالوشي والديباج والسَّمُّور وأنواع الحرير، وكمثل اتخاذها شمع العنبر
واصطناعها الخفَّ مرصعًا بالجوهر واتخاذها الشاكرية من الخدم يختلفون على الدواب
ويذهبون في حاجاتها ورسائلها،
٣٩ إلى غير ذلك من الأمور التي تدون في سير الملوك؛ لتعظيم موضعهم من السلطان
وذكر ما تقلبوا فيه من الطيبات.
ولم أر مثل هذا الترف في غير دور الخلافة إلا عند البرامكة الأمجاد، وإليهم ينتهي
جمال الملوك وإشراقهم، فإذا عزموا على الركوب جلس الناس لهم حتى يروهم أكثرَ مما يجلسون
للخليفة، ولقد رأيت بعض صبيتهم بباب المُحَوَّل من الجانب الغربي
٤٠ في موكب عظيم وقد طُرِّز ملبسه وبين يديه الجند والغلمان، والحَفَد
والأعوان، وهو واضع طرفه على مَعْرَفة فرسه، والناس ينظرون إليه وهو لا يلتفت إليهم
كبرًا وجلالة، وكان الرشيد نفسه إذا حضر مجالسهم وهو بين الآنية المرصعة، والخزائن
المجزَّعة، والمطارح من الوشي والديباج، والجواري يرفُلن في الحرير والجوهر ويستقبلنه
بالروائح التي لا يُدْرى ما هي لطيبها، خُيِّل إليه أنه في الجنة بين الجمال والجوهر
والطيب.
وقد انتهى ترف شبابهم إلى الغاية التي لا وراء بعدها من التمتع بسعة النعيم، وربما
كانت مجالس الطرب في دورهم أجلَّ منها في دار الرشيد وأجمع لمعدَّات اللهو؛
٤١ لأن عندهم الغواني
٤٢ اللواتي لا مثيل لهن في البلاد، ولا سيما فَوْز، وفريدة،
٤٣ ومَنَّة،
٤٤ وهن أظرف القيان غناء وأحسنهن ضربًا بعود.
واعلم أن الغناء من قَبلِ البرامكة ما كان يُعلم في دور الأمراء لغير الصفر والسود،
٤٥ فلما نشأ أولادهم أحبوا أن يعلموه الجواري الحسان؛
٤٦ ليزيد جمالُهن في الغناء تأثيرًا في النفوس، وقد أخبرني نافذ من بعض حجابهم
أنه لما زارهم الرشيد في يوم من أيام فراغه، أخرجوهن إلى البستان فاصطففن مثل العساكر
صفين صفين، وغنَّيْنَ وضربنَ بالعيدان ونقرن على الدفوف إلى أن طلع إلى مقاصير
القصر.
ولا نعلم عن أحد الملوك السالفين أنه نال من الطيبات ما هو موفور عند ملوكنا في هذا
الزمان، فكأنما بغداد قد ألقتْ جوانبها على مهاد الدعة، ووجدت لأهلها أسباب النعيم والكِبر
٤٧ بما توفر عندهم من المال.
ترف البغاددة وانغماسهم في طيبات العيش
يتوفر الترف عند العظماء من أرباب الدولة، ثم ينقص شيئًا فشيئًا عند مَن هم أقل منهم
في الجاه، إلى أن يبقى منه نصيب لعامة الناس، وهم، وإن لم يكونوا بموضع هؤلاء الملوك
من
جلالة قدر لهم واتساع نعمة عندهم، أخذوا يُمتِّعون أنفسهم من الطيبات في جميع وجوهها،
بعد أن تغربوا بالأسفار التي أكسبتهم التجارب وأرتهم العجائب، وأوجدت لهم التجارات
والمكاسب، فصار الناس من الجهات يقصدونهم بأفخر ما عندهم من جميع الأجناس إلى أن عمرت
عندهم الأسواق، وتطرقوا من التماس الحاجات لضرورة العمران إلى اقتناء الأشياء للزينة
والمباهاة، كابتياعهم السلاح المنزَّل بالذهب، وتنافسهم في الجواهر الثمينة والآنية
المزخرفة والمتاع الفاخر، واقتنائهم العدد الكثير من الغلمان والقيان، إلى غير ذلك مما
كانوا يوجهون رُسُلهم في طلبه من الجهات،
٤٨ فلما حُمِل إليهم كل غالٍ ونفيس من البلاد تحقق لديَّ أن محاسن الدنيا قد
اجتمعت في بغداد.
ولقد شهدتُ سوقَ الجواري بُعيد عودتي من خراسان، وقد أقيمتْ في الموضع المعروف بسوق
النخَّاسين
٤٩ وهم الرجال
٥٠ الذين يجلبونهن من أطراف الدنيا إلى بغداد، فرأيت فيهن الحبشيات والروميات
والجُرجيات والشركسيات والعربيات مِن مُولَّدات المدينة والطائف واليمامة ومصر ذوات
الألسنة العذبة والجواب الحاضر، وكان بينهن الغانيات اللاتي يُعرفن بما عليهن من اللباس
الفاخر الذي لا غاية بعده،
٥١ وبما يتخذن من العصائب التي ينظمنها
٥٢ بالدر والجوهر ويكتبن عليها بصفائح الذهب.
ولقد يخال الناظر لأول وقوفه بهذه السوق أن بيعهن إنما هو جارٍ عليهن من قبيل الظلم
والاسترقاق، غير أنه لا يستقر في هذا الوهم الطارئ بعد أن يرى تطارحهن على أهل النعيم،
ولقد سمعتُ أن بعض الغواني المترفات يتخلصن سرًّا من حيث لا يُحببن المُقام، ثم يأتين
السوق متواريات عن عيون الرقباء إلى أن يقع سوقهن على أحد من الناس، ومواليهن بهن غير
عالمين، فيتصرف النخاسون في بيعهن مثل تصرف التجار ببضائعهم، وإذا وقع سوقهن على رجل
قبض بيده على يد النخاس كما هي العادة المألوفة في البيع والشراء، ولقد وقفت في ذلك
اليوم والدلال ينادي بمن حوله من الراغبين ويصف لهم الجارية بعد الجارية بأحسن ما يكون
من أوصاف الجمال،
٥٣ وكانت الضوضاء مرتفعة والسوق رائجة.
أعود إلى ما كنت بصدده من ذكر البغاددة في ترفهم المفرط، فإني رأيتهم يزينون مجالسهم
بالفرش الفاخر والمتاع الثمين، ويُلبسون حيطانها الوشي والديباج، ويعنَوْن بغرس الأزهار
في جِنانهم، حتى إنهم ليجلبون لها الرياحين
٥٤ من بلاد الهند، فيصير من هذه الجنان ما يقوَّم ثمن البستان الواحد منها
بعشرة آلاف دينار،
٥٥ ويتخذون غلمانهم من أظرف الناس وأخفهم نشاطًا، ويميلون إلى اللهو والطرب
بما قد ذكرت من إقبالهم على اقتناء القيان، ويفتنُّون في ملاذِّ الطعام إلى أن يشتروا
الصيد في غير أوانه، والثمارَ في غير إبَّانها بما يزن مثله فضة، ويتمتعون بالذوق في
غير طعامهم بما يمضغون من الطيب وورق التانَبول الهندي الذي يمزجونه بالنورة المبلولة
مع الفَوْفل؛ لتطييب النكهة وتشهية الأكل وإحداث الطرب والأريحية في النفس،
٥٦ ويتخذون مقاعدهم في أوانِ الحَرِّ بين الماء المتدفق من صور السباع وأشكال
الطيور وأشكال التفاحات وغيرها، مما ينقشون في الرخام فإذا ما أصابت الأجساد منها
الرطوبة الوافية بترويح النفس اتخذوا في السقوف مراوح
٥٧ يعملون لها حبالًا تجرها، فيجذبونها فيهب عليهم النسيم البارد، ويستجيدون
في اللباس والزينة وركوب الخيل بالديباج والحلية الثقيلة من الفضة إلى الغاية التي لم
تبلغها الأمم المترفة من قبلهم.
دخولي على هارون الرشيد
لقد ذكرت لك عن بغداد باليسير من الكلام ما فيه دلالة على عظيم ما صارت إليه في هذه
الأيام، فأكتب الآن إليك ما يأتي به القلم عن دولة الرشيد وما يقابلني به من جميل العطف
والإحسان، فإني مضيت إلى داره في ذلك اليوم الذي وصلت فيه إلى الحضرة، فأصبت ابن البواب
جالسًا في حُجُرات الحجاب، وهو الذي يخلف الفضل بن الربيع على حجابة الخليفة،
٥٨ فلما رآني أوسعني سلامًا وتحية، ثم جاوزني إلى قصر الرشيد، وهو قصر بناه
٥٩ لنفسه تجاه دار الضيافة
٦٠ من دور الخلافة، وقد استجاد فرشه وأفرغ العناية في تجميله بأفخر أنواع
الزينة، وأقام فيه الأساطين التي يصطف بجوانبها الغلمان،
٦١ وقد بناه على دجلة بحيث يسمع صوت الذين يعبرون في الزوارق،
٦٢ وكثيرًا ما كنت إذا زرته بعد ذلك أصبته جالسًا إلى الشُّباك يستمع غناء
الملاحين في الزَّلالات،
٦٣ فلما دنوت منه بادرت إلى يده فقبلتها فضمني إليه بالتحية والسلام، وأقبل
يلاطفني برقيق الكلام.
وكان الرشيد طويلًا، عَبْل الجسم، أشقر اللحية، عليه مهابة الملوك وجلالتهم،
٦٤ وعيناه وقَّادتان كأنهما لسانان ناطقان، فإذا أصغى لمتحدث بين يديه حوَّطه
ببصره حتى لا يجد سبيلًا إلى أن ينطق في حضرته بغير صدق، فلما وقفت بين يديه أمر الفرَّاش
٦٥ أن يأتي بما أتكئ عليه،
٦٦ وهذا تعطف من الخليفة لا يكون إلا للبرامكة وأبي يوسف وجلة المشايخ من ولد
العباس، ثم إنه استدناني
٦٧ إليه وأخذ يحادثني بما يستعذبه من أحوال صباه، ويحفظ لي بنفسه من جميل
الذكر، وأنا أجيبه على ذلك بما تقتضيه جلالة الخلافة، إلى أن ذكر لي حديثه عن خراسان،
فأخبرته عما كان هناك من الاختلال، وأن الفضل رتَق الفتْق الذي دبَّره أهلها بالمِحال،
وأطلق يده فيهم بالضرب والنكال، وكنت عندما ذكرت ذلك قد بادرت إلى سيفي كما جرت العادة
بألا يكلم الخليفةَ أحدٌ بما فيه الوهن إلا بادَر إلى سيفه؛
٦٨ تعظيمًا للأمر وقيامًا بواجب الإجلال، فقال: سبحان الله! قد أوصينا الفضل
بهم خيرًا؛ لأنهم محبون لنا،
٦٩ وهم سيوف دعوتنا وأنصار دولتنا، ومَن لهم حق الدالَّة علينا وحرمة الوسيلة
عندنا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنَّ الفضل أخاك لم يمكن السيف في رقابهم إلا بموافقة
القُوَّاد الذين إذا ما شاورهم في الأمر وقع بالموافقة من نفوسهم مقاتلةُ خوارجَ قد
تراخت بهم الحال، وصارت فتنتهم إلى سوء المآل، فلما ذكرت له ذلك أعرض عن الإفاضة في هذا
الحديث، وأخذ ينكُت الأرض بشيء في يده، ثم قال: وهذه مصلحة التجارة، فما الذي يكتب
إلينا الفضل عن لزوم حراستها بالجند؟ فقلت له: إن في خراسان تجارةً تباع بأبخس الأثمان
فإذا أمن السابلةُ الأعرابَ جلبوا خيراتها إلى العراق، واتجروا بها مع أمم البحر، فقال:
حسنٌ، ولكن لنا أعداء ينبغي أن نكون منهم على حذر، ولا نرفع عنهم سيف الإسلام، ونحن
ساهرون عليهم ومرتقبون لهم بالجند؛ إذ لا بدَّ للرَّاعي من حراسة الرعية،
٧٠ ولقد يكفي التجارَ ما أمنَّا لهم من السُّبُل في غير الديار العران، وما
احتفرنا لرَكْبهم من الركايا، وأوجدنا لهم من المناهل في البلدان العامرة التي نحب أن
تكون سوق التجارة فيها دائرة، وأما تجار خراسان وما إليها من البلدان النائية فإنا لا
نحسب زكاة أموالهم كافية لمصلحة الجند ووافية بأرزاقهم.
وكان الرشيد على مهمة هذه المفاوضة عنده يقطع حديثه مرة بعد مرة، ثم يُقبل على نفسه
بالتأمل والفكرة، فأوهمت أنه يرى فيها مسألة تتقبض نفسه دون بسطها إليَّ، فإذا الأمر
على خلاف ذلك، وإنما كان مشغول الخاطر بما أقلق أباه قبله من أمر الولد وإيثار بعضهم
على بعض بالخلافة،
٧١ فاتفق وأنا بالخلوة معه أن دخل عليه خادمه العبد، فتفرَّسه الرشيد وقال له:
ما وراءك يا مسرور؟ فقال: ما تحب يا أمير المؤمنين، ثم قام مقامه الذي كان إذا قامه علم
الرشيد أنه يريد أن يُسارَّه بشيء،
٧٢ فأومأ إليه بالدنوِّ، فألقى في أذنه كلامًا ثم تنحى، فقال لي الرشيد: هذا
خادمنا الأمين، نرتاح إليه في الأسرار والمهمات، لم يحدثنا جهرًا بحضورك ولكنه سارَّنا
في أمر مما أخذنا من تقديم المأمون على الأمين بالولاية؛ لأننا نرضى سيرته ونأمن ضعفه،
٧٣ ونعرف فيه حزم المنصور،
٧٤ ونُسْك المهدي، وعزة نفس الهادي، مع أن بني هاشم يميلون إلى الأمين، وأنشد:
٧٥
أخاف التواء الأمر بعد استوائه
وأن يُنقض الحبلُ الذي كان أُبرِما
فلما رأيت بلوغ القلق في نفسه من هذا الأمر، تقدمت إليه فيما تقدَّم به يحيى إلى
أبيه،
٧٦ والفضلُ إليه
٧٧ من مبايعة الولد بعد الآخر، مع علمي بأن ذلك أمر لا يجري فيه الوفاق، ولا
يتم على الوجه الذي يريده الرشيد بعدما رأينا من العباسيين تطاولهم في أمر الخلافة
ونقضهم العهود التي كانوا يكتبونها على أنفسهم في حدود الله والآدميين، فهذا أبو جعفر
٧٨ لما رسخت دولته، ومضت في الناس كلمته، لم يجد من نفسه رادعًا، فخلع ابن عمه
من الولاية وصيرها إلى المهدي من بعده، فلما ولي المهدي بحيلة الربيع، وأخذ في استمالة
الناس بما فرَّق فيهم من المال، لم يجد منهم عند إظهاره أغراضه فيهم إلا المتابع له
والموافق على خلع ابن عمه كما علمت، ثم لما صارت الخلافة إلى الهادي وفي أعناق المسلمين
المبايعة للرشيد بعده أراد أن يخلعه
٧٩ عنها ويصيرها إلى جعفر من أولاده لولا ما أجراه يحيى — رعاه الله — من
الدراية والحيلة المباركة كما علمتُ بعد الأوبة من خراسان.
وإنما كان المأمون أحقَّ بالولاية من الأمين؛ لأنه أكبر منه بأيام وإن لم تكن أمه
هاشمية مثله، فلو صارت الخلافة إلى مَن هو أصغر منه وهو حاضر، لم يصبر على ذلك، فكان
يخشى الرشيد من تقديم الأمين عليه بالولاية وقوع الفتنة بينهما وزوال الخلافة عنهما
جميعًا إلى الواقفين لها من أهل البيت، أو إلى مَن كان أقرب الهاشميين إلى استخلاف أبي
العباس، فإن عمَّ عمِّ عمِّ الرشيد إلى ثلاثة أعمام حاضرون فعبد الصمد بن علي عم العباس
بن محمد والعباس عم سليمان بن المنصور وسليمان عم هارون
٨٠ فهؤلاء هم المرتقبون للخلافة والواقفون لها بالمرصاد، فلا تسعُ الرشيدَ
مخالفتُهم في تقديم المأمون على الأمين، وإنما يرجع إلى الرأي الذي تقدمت به إليه؛
فتطمئن نفسه من بقاء الخلافة في بيته، ومصيرها إلى مَن يحب
٨١ من أولاده.
الموازنة بين الرشيد وأبي جعفر
هذا فصل أفرده لذكر سياسة الرشيد، وبيان الموازنة بينه وبين أبي جعفر
٨٢ إن صحت المقابلة بينهما؛ فإني لم أجد في الملوك مَن جمع فنون السياسة إلى
عقل الملوك وفضلهم
٨٣ وحكمتهم ودهائهم مثله، تجتمع محامده في قُربه من الخير وبُعده عن البغي
الذي كان طبيعة في أبي جعفر وبعض العباسيين، حتى إذا صار إليه الأمر، كان أول ما أصدر
من الأمر أن تُعاد إلى الناس الضِّياع التي اغتصبها آباؤه، وتُردَّ الأموال المغصوبة
إلى أهلها في جميع النواحي والأمصار،
٨٤ فلو لم يكن له من المآثر غير هذا لكفى الناس فرجًا ورحمة واسعة، بعد ما
شملهم من المكروه في خلافة أبي جعفر وما استمر عليه المهدي من حفظ الضياع المقبوضة
عنهم، إما لطمع في استغلالها، وإما استصوابًا لسياسة أبيه حتى لا يقال عنه: إنه ظلم
العباد في أموالهم.
ثم يصح تفضيل الرشيد على أبي جعفر بما هو آخذ في سياسته من الصدق وحفظ المودة ومكافأة
المحسنين على إحسانهم، حتى إنه ليزيد عماله تجلَّة كلما عظُم قدرهم واستفحل في الإسلام
ملكهم، فهذا رَوْح من أمراء آل المهلب، لما عظم في الدولة أمره، ودانت الرقاب المتطاولة
له، أفرغ النعمة الواسعة عليه، وجعل الولاية من بعده إرثًا في ولده، وكذلك إبراهيم من
أمراء الأغالبة، لما تمكن سلطانه من أهل المغرب أمَّره على إفريقية إلى أطراف الثغور،
وجعل له الولاية في بيته؛ ليكون ممتنعًا على العدو وكفيلًا برد الفَرَنْجة إلى ما وراء
البحر، وهذا أمر يدل على الحكمة التي فيها مصلحة الملة، وإن كان وراءه من استقواء
الأغالبة خوفٌ ما كان ليصبر على مثله أبو جعفر مع ما عرفت له من التيقظ وسوء الظن
بالعمال، فإن كان المنصور يحتال للأمر حتى لا يقع فيه، فإن الرشيد يحتال لما يقع في
يومه من الأمور على وجه يكون فيه توطيد الدولة وتعزيز الإسلام.
ولقد سمعت مَن يقول: إن الرشيد يقتفي سيرة جده في السياسة، وذلك مردود عندي؛ من حيث
امتناع المماثلة بين الحلم والظلم، وإلا فإن كان الرشيد يُمضِي بالعدل أحكامه ليستميل
الناس بالإحسان إليهم حتى لا ينصرفوا عن طاعته، كما كان أبو جعفر يأخذهم بالعسف حتى لا
يستطيعوا مغالبته، فما الغاية المقصودة من سياستهما إلا واحدة، غير أن سياسة الحلم خير
من سياسة القتل والظلم؛ إذ يكون لصاحبها من دالَّة الرعية غِبطة يُحرَمها البغاة الذين
في نفوسهم مرض من الظلم؛ إذ يحجبهم عن رعيتهم سِتر الخوف، ثم يقتلهم استنكار مَن حولَهم
من الناس والأشياء، كما تقدم في الكلام على أبي جعفر.
أما سياسة الرشيد مع أهل البيت فيظن فيها خروج عن العدل لاستمراره على هضم حقوق
الذرية، وإن لم تكن مُجْراة على ما رسم أبو جعفر من تتبعهم في كل الوجوه، فإنما كانت
تختلف عنها بما تختلف فيه السياستان بين اللين والعنف، ولقد كنت أساير الرشيد في بعض
الأيام، فقال لي: بلغني أن العامة يظنون بي بُغْضَ عليِّ بن أبي طالب، فوالله وتربة
أمير المؤمنين أبي، إني ما أحب أحدًا حبي له، ولكن هؤلاء — يريد آله — أشد الناس بغضًا
لنا، وسعيًا في فساد دولتنا، بعد أخذنا بثأرهم من بني أمية، ومشاركتنا إياهم فيما
حوينا، حتى إنهم أميَلُ إلى بني أمية اليوم منهم إلينا، فكنت في ذلك الوقت بعيدًا عن
الوثوق بصحة هذا الإيهام، ولكن ظهر لي بعد ذلك أنه لا يروم إقصاءهم إلا على غير مكروه
يُصيبهم، وأنه لو قدر أن يرفع عنهم الضيم الذي يلحقهم من جور العباسيين، وهو موقن ببقاء
الخلافة في يده من غير منازع له فيها، لَفعلَ وطابَ بذلك نفسًا، فلقد علمتُ أن المكروه
الذي ألمَّ بيحيى بن عبد الله بن الحسن إنما كان بسعاية أقاربه من العباسيين الذين لم
يَسعْه مخالفتُهم، وهو بموقف يخاف منه الفتنة، وكذلك مقتل موسى بن جعفر الإمام لم يقع
من نفسه برضاه؛ لأنه لم يكن متهَمًا في بدعة ولا ظَنِينا على دِخْلة مكروهة، ولما قتلوه
في حبسه، أظهروا أنه مات حتف أنفه، ومشى الرشيد في جنازته إلى باب التبن حيث مقابر قريش
فويق نهر عيسى الهاشمي، فكنت أحيط به في ذلك اليوم مع البرامكة، فسمعتُه يترحَّم عليه،
ويُظهِر براءته من دمه، غير أن تغاضيه عن هذه المؤامرة، وإن هو لم يدخل فيها غَرَرٌ
يُسأل عنه يوم الحساب؛ لأنه يجب على خلفاء النبي ﷺ أن يتبعوا سنته التي هي
العدل، ولا يتسامحوا في قتل الأبرار الذين هم ذريته الصالحة وسلالته الشريفة، رضي الله
عنهم أجمعين.
هذا ما صحت فيه الموازنة بين سياسة الرشيد وأبي جعفر إلى الغاية التي يرجوانها جميعًا
من تأييد الدولة بها، وإن لم تتوافق إليها السبل، وقد وجدت للرشيد — أعزَّه الله —
فضلًا في تدبير المملكة أحق بالثناء الجزيل، وأبقى للذكر الجميل مما رأيناه لأبي جعفر
—
غفر الله له — بما ينال الرشيد من المشقة في ركوبه إلى أطراف المملكة لتفقد ثغورها،
والنظر في تظلُّم الناس من ثِقَل يقع عليهم في الخراج، أو ضيم يلحقهم من جور العمال،
فإذا صار إلى البلدان العالية مما وراء خراسان حيث لا يعرف اللسان العربي؛ أخذ التراجمة
٨٥ معه حتى لا يفوته شيء من أمر الرعية، فهو يحج سنة ويغزو سنة، كذلك عادته من
يوم ولي الخلافة،
٨٦ قال الشاعر يمدحه على بُعد هذه الهِمَّة منه:
٨٧
فمن يطلبْ لقاءك أو يُرِده
ففي الحرمين أو أقصى الثغور
أَلِفَ الحجَّ والجهادَ فما ينْـ
ـفَكُّ عن غزوتين في كل عام
وربما رام في أسفاره أو بالزوراء أن يعرف ما يدور بين الناس من الأحاديث والأخبار؛
فيتخفَّى في زي التجار،
٨٩ ويطوف الأسواق مع جعفر وزيره ومسرور خادمه؛ لاستطلاع ما لا يصل إليه خبره
من أمر السوقة والعوام؛ فنجم عن عنايته بهذا الأمر كثير من الفوائد التي صلَحت بها
دولته ورعيته جميعًا، فقد قال جعفر — أعزه الله: إنا ما ضبطنا بغداد بالشرطة، ولا عنينا
بتقدير الأوزان، وتمييز المغشوش من السكة إلا بما وجدنا من الاختلال في تطوافنا بين
الناس.
البرامكة نُكْتة محاسن الملة وعنوان دولتها
وهذه السياسة التي يباشرها الرشيد إنما هي بإشارة البرامكة الذين رفعوا منار الإسلام
٩٠ بصلاح مشورتهم إليه في أمور الخلافة؛ ولذلك صيَّر إليهم النيابة في الدولة
٩١ والنظر في ديوان الحسبان والترسيل لصون أسرار الدولة، وحفظ اللسان في
بلاغتهم بعد أن فسد عند الجمهور من أهل الأمصار بعض الفساد
٩٢ فصار جعفر يُسمَّى بالسلطان إشارة إلى عموم نظره في عموم الخلافة؛ لأن
الخطط كله بيده إلا الحجابة لم تكن له لاستنكافه عنها؛ لأن صاحبها يقف بالوفود عند
الحدود في تحياتهم وخطبهم والآداب التي تلزم بين يدي أمير المؤمنين،
٩٣ وذلك مما ينزه نفسه عنه، وهو بالموضع الذي علمت من جلالة القدر والقيام
بسياسة الدولة.
ولقد كان يحيى — أعزه الله — قائمًا بأوَدِ الوزارة من قبلُ، وهو الذي قلد الرشيد
الخلافة بحكمته ودرايته،
٩٤ حتى إذا استوثق له الأمر قال له: أنت أجلستني في هذا المجلس بيُمْنك
وبركتك، وقد قلدتني الأمر يا أبت، ثم دفع إليه خاتمه وقلده أمر الرعية بأن يحكم بما
يرى، ويعزل مَن يرى، ويستعمل على الولاية من يرى، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي النديم:
٩٥
ألم تر أن الشمس كانت مريضة
فلما أتى هارون أشرق نورُها
تلبَّست الدنيا جمالًا بملكه
فهارون واليها ويحيى وزيرها
فكانت سياسة هذا الشيخ المبارك منصرفة إلى تقويم الدولة في المشرق حبًّا في الرشيد
أن
تعظم في الإسلام صولته، على حين لا يحرم أهل البيت قيام ملكهم فيما وراء البحر، مع ما
يكون في ذلك من حقن الدماء الطاهرة، وسلوك السنن الشريفة؛ فأنتج له حسن نظره أن يطوِّق
أمر الجند إلى غير العرب الذين لا يقدرون بنفوسهم على كبح عنان الثائرين من إخوانهم بما
يكون بينهم من القرابة والدالَّة، فلقي دون بلوغ غرضه من هذا الأمر صعوبة كادت تفضي إلى
الفتنة، بما وقع من الضغائن بينه وبين يزيد بن مزيد
٩٦ وغيره من أمراء الجيش، إلا أن الرشيد كان على موافقته
٩٧ فيما يرى فيه مصلحته، فإذا فتح الناس عليه باب الفرقة؛ أرسل إليهم الفضل أو
هَرْثَمة بن أعْيَن
٩٨ فجبرا الواهي في أقلَّ من طرفة عين.
ثم استقال يحيى من الوزارة بعد أن أدركه الشيب، ففوَّضها الرشيد إلى الفضل ثم إلى
جعفر
٩٩ بعده، وعهد بالمراتب إلى إخوانه وأقاربهم،
١٠٠ وهم بمكان من الفطانة
١٠١ التي توارثوها مع المجد طِرافًا وتِلادًا، فقاموا بأودِ الوزارة وجمعوا
إليهم مراتب السيف والقلم، يقول سَلْم الخاسر
١٠٢ في شرف الدولة بمحاسن عقولهم:
إذا ما البرمكيُّ غدا ابن عشر
فهمَّتُه أمير أو وزير
إلا أنه كان منتهى نظرهم في السياسة
١٠٣ إلى جعفر؛ هذا السلطان، وهو حاضر الرَّوية، مؤيَّد البديهة، جامع لخصال
الخير مؤتمن على الأسرار بارع في مهمات الأمور، وليس في أهل الأدب من هو أذكى،
١٠٤ ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لسانًا، ولا أبلغ في مكاتبةٍ منه،
خَلقٌ جميل، وأَصلٌ نبيل، وعِلمٌ جزيل، وكان الرشيد يقدمه على الفضل بما يُسرع في
استنباط الحيلة لتدبير ما يطرأ على المملكة من المهمات الصعاب، كما يقول فيه
الشاعر:
وزير إذا ناب الخلافةَ حادثٌ
أشار بما عنه الخلافةُ تصدر
ووجدتُ في نفس الرشيد من الميل إليه؛ بحيث إنه لم يكن له صبر على مفارقته في ساعة
من
نهار أو ليل،
١٠٥ وإذا دخل أجلسه على سرير الخلافة بجانبه وأجلس بني هاشم على الكراسيِّ والوسائد
١٠٦ دونه، وربما قدَّمه في المشورة على أحب أهل بيته إليه، حتى إنه لا يعهد
إليهم بولاية ولا يصلهم بمال إلا برأيه ورضاه، وقد وقع لعبد الملك بن صالح من كبراء بني
هاشم
١٠٧ أن الرشيد غضب عليه فقصد باب البرامكة، فقال له جعفر: أنت تقصدني، فهل من
حاجة تبلُغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك؟ فقال عبد الملك: نعم، إن في قلب أمير
المؤمنين عليَّ موجِدة، أحب أن تخرجها من قبله، وتُعيد إليه جميل رأيه فيَّ، فقال له
جعفر: قد رضي عنك أمير المؤمنين، وزال ما عنده منك. قال عبد الملك: وعليَّ أربعون ألف
دينار دينًا. قال: هي لك حاضرة من مال أمير المؤمنين؛ لأني أُجِلُّ قَدْرك عن أن يصلك
بالمال غيرُه، قال: وابني إبراهيم تُخاطِبه فيه حتى يرفع الألوية على رأسه. قال:
لِتَطِبْ نفسُك؛ إن الرشيد قد ولاه مصر، أو قال: ما شئت من البُلدان، فانصرف عبد الملك
وهو يتردد بين العجب من جعفر والإعجاب به، حتى إذا كان الغد دعاه الرشيد وأمر له
بأربعين ألف دينار، وكتب سجل ابنه على مصر.
١٠٨ فهذا أمر يدلك على مكانة جعفر عند الرشيد وما له من الماتَّة المرعية
والشفاعة المقبولة عنده، بحيث إنه يضمن عنه ضمانات لا يجد بدًّا من وفائها، كما يدلك
أن
مشاركته في الملك لا تقف على حدِّ السياسة فيما يبديه له من رأي جميل أو تدبير حسن،
وإنما يتناولها في أكثر الأحيان بما بينهما من الدالَّة التي ليس مثلها بين الإخوان،
١٠٩ فما أذكر أني رأيت الرشيد في مجلس يطيب له نفسًا بغير محضره،
١١٠ بل كثيرًا ما رأيتهما يتبادلان لباس الحلة الواحدة،
١١١ ويجلسان معًا على محبة ومصافاة خُلَّان.
وإن كان ليحيى فضل في تقويم هذه الدولة فإن لجعفر فضلًا في تدبير مملكتها أتمَّ وأجمل
في عين الرشيد، وقد أغناه بنفاذ سلطانه في المشرق عن أن يطمع في الاستيلاء على بلاد
المغرب، ثم يبيت على خطر الفتنة التي لا يأمن إن حدثت أن تبقى الخلافة في يده، فلم يكن
بُدٌّ لصلاح أمره من سلوك السبيل الذي مهَّده له جعفر؛ لتتم له الفائدة التي رامها أبوه
في تقويم الدولة وبلوغ غرضه منها في المشرق، فوقفت مصلحة الدولة والإسلام جميعًا على
أن
يتبع الرشيد هذه الخُطة التي كان ليحيى فيها الفضل السابق والمقدَّم، ولجعفر من بعده
الفضل اللاحق والمتمِّم.
ولقد شملت عناية جعفر خطط الدولة كلها بين مراتب سيف وقلم، إلا أنه كان إلى تدبير
المملكة وتنظيم الدواوين
١١٢ أشدَّ منه عناية وأقرب ميلًا إلى النظر في مصلحة الجند وهم الفُرسان الذين
لم يرَ لهم مع ما هو مطبوع فيهم من نخوة الجهاد، التي لا يطيق الأعاجم مناجزتها فيهم،
إلا أن يصرف إليهم أرزاقهم في إبَّانها ويرضيهم بسعة العطاء من غير مال الخليفة
١١٣ بما يقتصد فيه من نفقات الدولة. وأما مآثره في تدبير المملكة فإنها تتناول
ضبط الأموال وترتيب ديوان الأعمال والجبايات
١١٤ على غير ما رسم أبو عبد الله في كتابه
١١٥ على الخراج، وإنما اقتصد من النفقة قدرًا أبقاه للزيادة في أرزاق الجند،
وأقام على السجلات قومًا مهرة في الحساب؛
١١٦ ليجد الموازنة بين ما يدخل بيت المال وما يخرج منه، وجعل لهذا الديوان
شُعبًا ترجع مصالحها إليه، كديوان الخراج وديوان الضِّياع والنفقات،
١١٧ وغير ذلك، وأحب أن تحفظ دفاتر الخليفة للمراجعة؛
١١٨ لينظر فيما يُتَصَرَّف فيه بموازنته للدخل الذي دُوِّن في سجلات
الديوان.
ثم توسعت عنايته من الاهتمام بمصالح الدولة إلى النظر في أمر الرعية والرفق بهم
وإدخال الراحة عليهم، وصحَّ عنده مساواة الناس بالأحكام التي لا تفرق بين المسلم وغير
المسلم
١١٩ إلا فيما هو مأخوذ على أهل الذمة من العهود المحفوظة، وأقام رجالَ العدالة
في جميع البلدان لكتابة العقود على روابط الشرع؛
١٢٠ ليكون في ذلك حفظ حقوق الأمة وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم من الكفالة ونحوها،
١٢١ وأمرهم بأن يجلسوا في الدكاكين والمصاطب؛ ليسهل وصول الناس إليهم؛ فتجرى
معاملاتهم على سَنَن العدل الذي يروم أن يشملوا به نفوسهم كما تشملهم به الدولة فكان
—
أعزه الله — يقول:
١٢٢ الخراج عمود الملك، ما استُغْزر بمثل العدل، وما استنزر بمثل الظلم.
ثم إنه نظر في صلاح الزوراء ودسَّ فيها العيون بإمْرة عبد الله بن مالك صاحب الشرطة؛
١٢٣ لملافاة الخلل الذي يطرأ عليها من وفود الأغراب واختلاطهم،
١٢٤ وأقام العسس
١٢٥ بالليل لحراسة الدروب
١٢٦ إلى أن وقع الأمن في أحيائها، وخيم السلام على أرباضها، وذلك يندر أن يكون
في مدن الأعاجم ومحاشد مللهم، فلقد ينمى إلينا عن قاعدة الروم أن المكروه نازل بها كل
يوم لا محالة، مع أنها محتَشد النصرانية ومباءة الملوك الذين حازوا معظم الدنيا فيما
سبق لهم من زمن العز والصولة، ونحن لا نريد بذلك أن الروم قوم جهلة لا نظام لملكهم، مع
أنهم حَمَلة العلم المتقلبون في مهاد العمران على سعة واستقامة من الملك، غير أن الترف
قد غلب على عامتهم حتى لا سبيل إلى ردعهم عن معاقرة الخمر وكبح عنانهم عن ركوب الأهواء.
١٢٧
ولما وضَح للرشيد فضل هذا السلطان فيما أصلح به الملة والدولة جميعًا بلغت منه الثقة
به إلى أن يطوِّقه السلطةَ التي تقارن سلطته ويشترك فيها معه، ففوض إليه القضاء بمجلس
المظالم، وهو القضاء الذي كان يباشره الخلفاء،
١٢٨ من الأمويين بنفوسهم، ثم المهديُّ من بعدهم، كما رأيت في موضعه من الكتاب،
فصار جعفر يجلس
١٢٩ بجانب الرشيد على سريره، ويشاركه في توقيعه على القصص التي يرفعها الناس
إليه ولكن بالعبارة التي يتنافس
١٣٠ في بلاغتها العلماء.
١٣١ فمن بعض ما حفظتُ له من هذه التوقيعات التي جرت مجرى الأمثال توقيعه في قصة
رجل شكاه بعضُ عماله إليه: «قد كثُر شاكوك، وقلَّ شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت.»
١٣٢ وتوقيعه في قصة قوم قطعوا الطريق:
إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ الآية.
١٣٣ ووقَّع إلى بعض عماله: «اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا.» ووقَّع في قصة
محبوس: «العدل أوقعه، والتوبة تُطْلِقه.»
١٣٤ ووقَّع في قصة متظلم: «طبْ نفسًا؛ فكفى بالله للمظلوم ناصرًا.» ووقَّع لرجل
اعتذر عنده من ذنب: «قد قُدِّمتْ طاعتُك، وظهرتْ نصيحتُك، ولا تغلب سيئةٌ حسنتين.»
ووقَّع وقد قرأ كتابًا فاستحسن خطه: «الخط خيط الحكمة، ينظم فيه منثورها، ويُفصَّل فيها
شذورها.» ووقَّع في قصة متنصح: «بعض الصدق قبيح.» ووقَّع في قصة رجل تظلم من بعض عماله:
«أنا لَمِثْلُه حتى ينصفك.»
١٣٥ ووقَّع في قصة قوم شكَوْا سوء جِوار بعض قرابتهم: «يرحل عنكم.» ووقَّع إلى
بعض عماله: «أنصِف من وَلِيتَ أمره وإلا أنصفه منك مَن وَلِي أمرك.»
١٣٦ ووقَّع في قصة رجل استأذنه في الحج: «من سافر إلى الله نجح.» إلى غير ذلك
من التوقيعات التي يتداولها الأدباء
١٣٧ إلى أن تبلغ القصة الموقع عليها عشرين درهمًا ثمنًا
١٣٨ في أيدي الناس، وهذا ما أكتفي بذكره من مآثر هذا السلطان الذي ليس له ند في
الرجال، وقد فضل الملوك قاطبة بالعلم والعقل والسياسة،
١٣٩ وزاد الرشيد عزة ومنعة على نحو لم نره قِدمًا في دول الخلفاء؛ فتولى الله
مكافأته عن المسلمين والإسلام بما هو واسع له من الجميل، وجعل المجد لائذًا بجنابه،
والسعادة حافَّة ببابه. آمين.
صلاح التجارة والمعاملة
أخرج بك قليلًا عن موضوع السياسة إلى بيان المعاملة الرائجة بين الناس بقدر ما يسمح
لي المقام، فإنه لما توفرت في أيديهم الأموال بما كسبوا من الفتوح العظام، وقد نزلوا
الأمصار التي كانت مستودع الدَّعة عندنا ومستقر ملاذِّ الروم فيما مضى لنا ولهم من ذلك
الملك الغابر؛ فتحولت طباعهم من الخشونة إلى نعومة العيش، وأخذوا يتَأثَّلون الكسبَ
ويطلبون حاجات الترف من جميع البلدان بما تيسَّر لهم من أسباب الاتصال في زمن الخلفاء،
فما أتمَّ الرشيد العناية بتأمين السبل لقوافلهم وتمهيدها لسفر تُجَّارهم، حتى حملوا
تجارة الدنيا إلى العراق، فحملوا من الهند آنيتها، ومن أصبهان وشيراز ويَزْد شرابها،
١٤٠ ومن خُراسان حديدها، ومن كَرْمَان رَصاصها، ومن قشمير النسيج الملوَّن، ومن
الصين الكَمْكام والعود والمسك والسِّنور والسروج والغضائر والدارصيني والخَوْلَنْجان،
ومن اليمن العطر
١٤١ وأنواع الطيب، ومن فارس السلاح والمصوغات، ومن عَيْذاب اللآلئ،
١٤٢ ومن الوقواق الذهب والآبنوس، ومن الهند والسند القُسْط والقنا والخيزُران
والكافور والعود والجوزبوَّى والقَرَنْفُل والفاغره والكَبَابة والنارَجيل
١٤٣ والثياب القطنية والمُخْمَلة والفيلة، ومن سرنديب ألوان اليواقيت وأشباهها
والماس والدر والسُّنْباذَج الذي يُعالَج به الجوهر،
١٤٤ ومن ناحية الجنوب البقَّم الداريُّ، ومن البحر الغربي المَرجان ويكون بأرض
الفَرَنجة، ومن الروم المُصْطَكا والغِلمان والرقيق،
١٤٥ ومن الشام الفاكهة والسلاح والحديد الذي يُقلَع من جبل لبنان، ومن الروسيا
جلود الخُزَر والثعالب يأتي بها الروس إلى بغداد عن طريق سورية أو عن طريق جرجان،
١٤٦ ثم تحمل إلى أصبهان والجزيرة وآمد ونصِيبين
١٤٧ ويتَّجر بها.
هذه هي تجارة الشرق
١٤٨ قد حُملت إلى العراق، وأما تجارة الغرب فقد تعذَّر نقلها؛ لبُعد المسافة
وترامي الشقة؛ ولذلك كان يرى الرشيد فتح البحر عند السويس
١٤٩ حتى يقرِّب المجال من المغرب إلى عمان فسيراف ففارس فأطراف العراق، ولا
سيما أن على البحر الرومي سواحل إفريقية وتونس ومصر وطرابلس والأندلس إلى الغرب والجنوب
وسواحل صقلية والفرنجة إلى الشمال، وسواحل الروم والشام إلى الشرق، وإنها لبلدان كثيرة
الخيرات، وافرة الغلات، فكان الرشيد يروم أن يحمل تجارتها إلى بغداد على مراكب البحر
من
طريق السويس، ولكن جعفرًا — أعزه الله — قد ثناه عن هذا الأمر وخوَّفه أن تصل سرايا
الروم وسائر الفرنجة إلى جدة؛ فيخربون المواطن المشرَّفة،
١٥٠ على حين لا يتوقع لقدومهم أثر، فقال جعفر: «يا أمير المؤمنين، إن خرق
السويس خرقٌ في الإسلام، ولو أنك وجدته مخروقًا بأيدي الملوك الذين سبقوا الخلفاء؛ لوجب
عليك اليوم سدُّه؛ لأن مصالح التجارة لا تقضي على الإسلام بتضييع الفتوح التي دانت له
ببذل الدماء.» وهذا رأي لا يبدو إلا لمن رُكِّب فيه إسجاح الخليقة ومعدَلة النظر؛ فإن
العلماء كلهم قد ضلوا عن إدراك ذلك، وإنما خوَّفوا الرشيد علوَّ البحر الرومي على بحر
القُلْزم، وأنه إذا ريم خرق ما بينهما طمى البحر على أرض مصر وأغرق عَيْداب والنوبة
وسواحل اليمن والحجاز، ولكن قولهم بعيد عن الصحة، لما يعلم عن بحر الظلمات إلى ما وراء
الأندلس أنه لم يطمِ ماؤه على سواحل البحر الرومي مع كونه يعلوه من حيث الإقليم، فما
يثبت عند العاقل إلا أن سطح البحور متساوٍ في الشمال والجنوب، ولم يُسمع ببحر أخفض من
غيره إلا بحر لوط في أرض الأردن من إقليم فلسطين، ولكنه ليس بالبحر الواسع ولا
بالأوْقِيانوس المحيط، وإنما هو مياه تصب في متحدِّر من الأرض.
ولما اتسع نطاق التجارة في بغداد أصبحت موردًا لأهل الإعواز من البلاد كافة يتناولون
فيها حاجتهم من المال، فوقع غشٌّ فاحش في التجارة وصارت الصيارف من اليهود
١٥١ وغيرهم
١٥٢ يعطون مالهم بالربا على أن يُعاد عليهم المثل في آخر العام مثلين
١٥٣ وأكثر منهما، فأقام الرشيد محتسِبًا يطوف بالأسواق ويفحص عن الأوزان
والمكاييل وينظر في معاملات التجار
١٥٤ أن تكون جارية على سَنَن العدل، حتى لا يتحامل الشرفاء على الوضعاء ولا
الأغنياء على الفقراء؛ إذ الواجب على الملوك أن يمهدوا سبيل الارتزاق لأهل الحاجة أكثر
منه للمتموِّلين المنسلخين للتجارة الذين نراهم يتعرضون لشراء السلع والتجارات بما
يفرضون لها من الثمن البخس ثم يبيعونها بما يشاءون من الغلاء، فإن ذلك احتكار يُفضي إلى
فساد العمران، كما مر في موضعه من الكتاب، وقد أخبرني الرشيد في بعض مجالسي إليه أنه
يروم أن يُصلح معاملة التجار ويغير تقدير الدنانير على وزن واحد صحيح،
١٥٥ ولكنه لم يباشر ذلك إلى هذا اليوم، مع أنه أصلحُ ما يكون للعمران، وإن كان
ضرب السكة في الإسلام قد حدث عن نكاية وقعت ضغائنها بين عبد الملك بن مروان وقيصر الروم
كما هو معروف،
١٥٦ فقد أصبح اليوم من الضرورة أن تقدَّر أوزانها بعدما ساءت المعاملة في تأدية
الخراج والبيع والشراء.
وقد كان العرب يتعاملون قدمًا بالذهب والفضة وزنًا،
١٥٧ وبين أيديهم دنانير الفرس والروم التي يقال لها: الكِسروية والقيصرية، فلما
ذهبت سذاجة الإسلام، وصارت الخلافة إلى ملوك أمية، وقد أغفلوا أمر المعاملة بما تشاغلوا
به من أمور نفوسهم، تفاحش الغش في التجارة وصارت تنسب إلى الروم سكة ليست من ضربهم ولا
من ضرب الفرس فيما ابتدع الناس من دنانير كسرى وقيصر، فعني عبد الملك بتمييز المغشوش
من
الدنانير والدراهم، فضرب السكة في دِمَشْق
١٥٨ وصرفها في جميع النواحي والأمصار، ولكن من غير أن يقدِّر أوزانها، فبقي
منها الخفيف
١٥٩ والثقيل وما هو بين بين، ولذلك لم تسهل المعاملة بها بين التجار، حتى إذا
تنبَّه لما فاته من تقديرها على وزن واحد، وأحبَّ أن يُميِّز القديم منها عمد إلى تعيين
السَّنَة على السكة المقدَّرة بعد أن كان يضربها خِلوًا من التوقيت إلا «بركة الله»
في
أحد الوجهين واسمه في الوجه الآخر، وهذا كان منشأ الخلاف في أول مَن ضرب السكة التي ليس
فيها توقيت، فيقول بعض الناس: إنها من ضرب عمر بن الخطاب.
١٦٠ ويقول غيرهم: إنها لمصعب بن الزبير.
١٦١ ويقول بعض: إنها لمعاوية بن أبي سفيان، ويزعمون أنه صوَّر نفسه عليها
متقلِّدًا سيفًا
١٦٢ كأنه فاتهم عِلْمُ موضعه من الخلافة وحرصُه على متابعة الملة والشرع، إلا
أن ما يذهبون إليه من هذه الأقاويل ليس بمجمع على رأي منه، ولم يقع إليَّ من الدنانير
الموقوتة إلا ما ضرب هذا الخليفة المقدم ذكره في السنة السابعة والسبعين من الهجرة
النبوية المشرفة، وعليه جرى الخلفاء بعده في ضرب السكة، بأن يرسموا فيها: «بركة الله»
من وجه،
١٦٣ وعلى دائره: «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله.» واسمهم من الوجه الآخر يحوِّطونه بتعيين السنة وذكر البلد الذي يضربون فيه
السكة.
وأما الأوزان المقدرة فإن المسلمين كانوا يتعاملون بالدرهم الطَّبَري وهو أربعة
دوانق، والدرهم المغربي وهو ثمانية، والدرهم اليمني وهو ستة، والدرهم البغلي «وهو الذي
يقال إنه ضرب في خلافة عمر — رضي الله عنه — على وزن الدراهم الكِسروية»، وهو ثمانية
دوانق، فأمر الحَجَّاج أن ينظر الأغلب في المعاملة، فكان البغلي والطبري، وهما اثنا عشر
دانقًا، فاتخذ ما بينهما لضرب السكة وقدر الدرهم ستة دوانق، وأما وزن مثقال الذهب فهو
درهم وثلاثة أسباع درهم، حتى إذا جمع عشرة دراهم كان وزنها سبعة مثاقيل،
١٦٤ والناس يتعاملون بالسكة لزماننا هذا على تقدير الحَجَّاج، إلا أن ما في
أيديهم منها مختلف الأشكال، فلا تتناول الدولة منهم في الخراج إلا الدنانير العباسية
والدنانير المسماة بالخالدية
١٦٥ واليوسفية والهُبَيْرية، وهي أجود النقود التي ضربها بنو أمية
١٦٦ على يد عمالهم في العراق مثل أبي هبيرة ويوسف بن عمر وغيرهما؛ ولذلك رأى
الرشيد أن يقدرها على وزن واحد صحيح حتى لا يبقى للغش في التجارة مجال، ولا يحصل عنف
في
جباية المال.
زينة الدولة بالعلم والأدب
هذا إلماع بذكر محاسن دولة الرشيد، وإنها لدولة خيرٍ وصلاح كما علمت، فما حدَّث أهل
الأخبار أن الإسلام كان في أية دولةٍ أعزَّ جانبًا ولا أوسع رقعة مملكة
١٦٧ منه في خلافة الرشيد، ولعمري، إنَّ الملوك الذين يتعهدهم النصر مثله في
جميع ما يباشرون من الأعمال قليل في العالم، فما رأيتُه — والبرامكةُ أعوان له — قد
نُكِب في حرب قط، ولا توجَّهتْ عليه هزيمة، وإنما أعز الإسلام باجتماعه في المشرق كله
إليه، ورمى ملوك الأعاجم بسهام بأسه حتى عصفت ريحه بهم من الروم وسائر الفرنجة، وهذا
شرف للسيف لم ينله المسلمون فيما تقدم لهم من الدول السالفة مقرونًا بفضائل العلم وجمال
الحضارة، وكفى بشرف دولته أنه اجتمع ببابه من الوزراء
١٦٨ والأمراء والقواد والعلماء والفقهاء والأدباء والخطباء والمُحدِّثين
والقُرَّاء والرواة والشعراء والندماء والمغنين ما لم يجتمع على باب خليفة غيره مثلُه،
فإن البرامكة أعوان دولته، وأبا يوسف قاضيه، وهَرْثَمة بن أعين أمير جنده، والعباس بن
محمد عم أبيه جليسه،
١٦٩ ومروان بن أبي حفصة شاعره، والأصمعي محدثه، وأبا نُوَاسٍ نديمه، والفضل من
آل الربيع حاجبه، وإبراهيم الموصلي وإسحاق ابنه مغنياه، وابن بختيشوع جبريل
١٧٠ وبني ماسويه أطباؤه،
١٧١ والعلماءَ والأدباء كلَّهم قيامٌ على بابه لا يفارقونه في حضر ولا في سفر،
حتى إنه ليطلب شاعره في أطراف الليل،
١٧٢ فيجده ببابه مع غيره من محدث أو نديم.
وإنما قرب العلماءَ إلى الرشيد ما بنفسه من الميل إلى الأدب
١٧٣ والحرصِ على إحراز العلوم،
١٧٤ حتى كانوا إذا اجتمعوا بداره سما إلى مناظرتهم
١٧٥ من حيث العلم والتواضع له، لا من حيث السيادة عليهم، وهو بموضعه الجليل من
الخلافة، وأنا لا أريد بذلك أن التواضع طبيعة في نفسه؛ لأنه لو لم يأته الكبر من ناحية
العلم لأتاه من ناحية السلطان، وكلاهما داعٍ إلى الإعجاب بالنفس، فكثيرًا ما كنتُ أراه
إذا انتصب في عرشه يحتمل أن يُمدح بما يُمدح به الأنبياء، وهو لا ينكر ذلك ولا يردُّه،
١٧٦ غير أنه ربما كان يبتغي بتواضعه للعلم مع ما هو مطبوع في نفسه من الإجلال
له أن تحصل له الغاية التي يرومها من صلاح أمره باستمالة الأئمة من أهل العلم حتى
يستقيم ملكه من ناحية القلم كاستقامته له من ناحية السيف.
أما أدبه وفضله وصحة ما عنده من النظر في تخيُّر ما يروق لديه من العلوم فهو الأمر
الذي تقدَّم الإلماع إليه فيما مضى من الكتاب، ورأيته يتوسع في أدب اللغة إلى أن يقول
الشعر فيما يعرض له من تصورات أهل الغرام، فإذا دخلتُ عليه عرضَه عليَّ في سبيل
الفكاهة، فمن ذلك قوله في جارية
١٧٧ تركية له:
يا رَبَّةَ المنزل بالفِرْك
ورَبَّة السلطان والملك
ترفَّقي بالله في قتلنا
لسنا من الديلم والترك
تُبدي صدودًا وتُخفي تحته مِقة
فالنفس راضية والطرفُ غضبان
يا مَن وضعتُ له خدي فدلَّله
وليس فوقي سوى الرحمنِ سلطان
وقوله
١٧٩ في رثاء جارية رومية يقال لها هيلانة، وقد عَرَاه على فقدها من الحزن ما
ضاق له الصدر، وفرغ دونه الصبر:
قاسيت أوجاعًا وأحزانًا
لما استخصَّ الموت هيلانا
فارقت عيشي حين فارقتها
فما أبالي كيفما كانا
قد كثر الناس ولكنني
لست أرى بعدك إنسانا
والله لا أنساك ما حركت
ريحٌ بأعلى نجد أغصانا
إلى غير ذلك، وكان من الفضل بحيث إنَّ مآدبه لم تخلُ قط من عالم أو أديب أو شاعر،
وكان يستدعي إليه العمري والفضل بن عِياض
١٨٠ وابن السماك الكوفي
١٨١ وإسحاق الفزاري، وغيرهم من الأولياء، فيحاورهم في مسائل الدين،
١٨٢ ويبكي
١٨٣ من مواعظهم، ويقوم بواجب الاحترام لعلمهم، حتى إذا جلس معاوية المحدِّث
الضرير إلى طعامه، فاء من موضعه، وصبَّ الماء على يده تعظيمًا لقَدْر العلماء، فقال له
معاوية: يا أمير المؤمنين، إن تواضعك في شرفك لأشرف من شرفك.
١٨٤
أما زينة الدولة من الأدباء فثلاثة: إسحاق بن إبراهيم النديم، وعبد الله الأصمعي،
والحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس، وكلهم إمام في العلم، إلا أنه غلب على إسحاق الغناء،
وعلى أبي نواس الشعر، وعلى الأصمعي الأخبار والنوادر والملح.
فأما إسحاق فإنه بالمكان الرفيع من الأدب،
١٨٥ وقد اتخذ خزانة كتب جمع فيها من مدونات العلم ما ليس عند الذين يُعْنَوْن
بجمع صنف واحد من صنوفه مثلُه، ولقد رأيت عنده من كتب اللغة مثلًا ما ليس مثلُه في
خزانة ابن الأعرابي،
١٨٦ وله مقام سامٍ بين العلماء حتى إنهم ليُهدون إليه كثيرًا من تآليفهم
ودواوينهم كأبي نواس وابن أبي عيينة
١٨٧ وابن الأعرابي
١٨٨ وغيرهم؛ تنشيطًا لعلمه وأدبه؛ لأن انصبابه على الغناء لم يكن حِرْفة
للتعيُّش، وإنما هو ميل بنفسه إلى محاسن الأدب والصناعة، فكان يترفَّع عن أن يغني إلا
في دُور الرشيد والبرامكة، وكانوا إذا حضر مجالسهم يؤثرون محاورته في العلم على جلوسه
إليهم في صفوف المغنين.
١٨٩
ولقد كنت أسمع الرشيد يقول: لو لم يشتهر إسحاق بلقب المغني لوليته القضاء بين المسلمين،
١٩٠ ووجدت في نفسه من جميل الميل إليه ما كان يحمله على أن يقصد داره
١٩١ على سبيل التحبب، ولقد كنت يومًا بداره وهي بباب الشَمَّاسية
١٩٢ من الجانب الشرقي تِلقاء قُطْرُبُل،
١٩٣ فجاء الخليفة على حمار صغير أسود وهو الحمار الذي يركبه
١٩٤ في ساحات القصر وجَنَّاتِه للنزهة، ومعه خمسمائة نفر من خدمه وغلمانه وندمائه،
١٩٥ فقام إسحاق بالواجب من إكرام وفادته،
١٩٦ وأخرج الحلوى إلى خدمه بما كفى الجمع كله، ثم أشار إلى جواريه أن يجلسن
للغناء، فقال الرشيد: لست أريد هذا، وإنما شوقٌ في النفس دعاني إلى الأنس بقربك.
وأما الأصمعي فإنه قدم بغداد
١٩٧ في خلافة الرشيد في جملة مَن وفد عليه من العلماء، وهو إمام في النوادر
١٩٨ والأخبار وأيام الناس مشهود له بصدق الرواية، ولقد حدَّث الرشيد يومًا عن
ملوك بني أمية فقال: إن سليمان كان نهِمًا إذا قُدِّم إليه السماط لا يصبر حتى يبرد،
بل
يتناول اللحم بكمه، وإن يزيد كان إذا جلس للشراب يسقط الخمر في ثيابه، فصاح به الرشيد:
قاتلك الله، ما أصدقك في نقل الأخبار! والله إن ثيابهما عندي، وإن الدهن لفي أكمام
سليمان، والخمر في ثياب يزيد،
١٩٩ على أنه لم يكن بيني وبينه مع طول المدَّة التي أقمتها في بغداد قرب ولا
ائتلاف؛ لانقطاعه عن مجالس البرامكة، وإنما كنت ألقاه بدار الرشيد وأسمع ما يحكيه عن
طرائف بغداد، فأراه لا يغفُل عن نادرة مليحة إلا يذكرها له، ولكن بالألفاظ التي تأخذ
بمجامع القلوب، وكنت يومًا بين يديه وقد بَدَر من رجل ظريفة، فالتفتَ إليه الرشيد وقال
له: حررها يا أصمعي.
٢٠٠ وقد أخبرني بعض أصحابه أنه أقام في صباه بالبادية أيامًا طِوالًا يستطلع
فيها عادات العرب، ويستكشف أخبارهم، ويستنطق آثارهم، وقد شاهد ما يُقيمون من المجالس
والأسواق، وما ركَّب الله فيهم من السجايا والأخلاق، وما وقع لبناتهم مع الشعراء، فلما
أقام ببغداد أخذ يحدث بكثير من أخبارهم ثم اشتُهر اسمه بين الناس بما هو آخذ بكلامه من
الرشاقة والبلاغة، حتى صار عَلَمًا في المدينة، وصار يتفق له فيها من النوادر ما لم
يسمع أحد بأعجب منه.
وأما أبو نواس فإن الشعر هو الذي يُقدِّمه اليوم عند الرشيد، وقد
٢٠١ كان أبو نواس يحدِّثه من قبل بنوادر الناس، ولكن من غير أن يفكَه بأعراضهم،
ثم أعرض عن ذلك، فقال له ذات يوم: حدثنا يا أبا نواس، فقال: لا يحضُرني شيء، فقال: بحياتي
٢٠٢ إلا ما قلتَ شيئًا. قال: كان الكذب عملي واليوم هجرتُه يا أمير المؤمنين.
٢٠٣ فضحك وقال: هذا أحب إليَّ من الحديث، وله كلام ظريف في المجون والخلاعة
٢٠٤ وحوادث تدل على خفة روحه، وكان إسحاق يتعصب له
٢٠٥ ويُشيد بذكره ويجهر بتفضيله، ويجلب له الرفد من الرشيد ويحط من قدر
الأصمعي؛ لتنافس بينهما،
٢٠٦ حتى أخذ المقام الأول بين الندماء، وبنى لنفسه الدُّور،
٢٠٧ التي لم يبنِ مثلها عظماء الناس، بينما الأصمعي يستقرض من أصحابه
٢٠٨ حاجته من المال.
ومن خِلال أبي نواس المأثورة أنه يميل مع أهل البيت سرًّا لا يجسر على المجاهرة به،
وقد قيل له في إعراضه عن مدحهم: لقد ذكرتَ كل معنًى في شعرك، وهذا علي بن موسى الرضا
في
عصرك، لم تقل فيه شيئًا، فقال: والله ما تركت ذلك إلا إعظامًا له، وليس في قدرة مثلي
أن
يقول في مثله، وأنشد:
٢٠٩
أنا لا أستطيع مدح إمام
كان جبريل خادمًا لأبيه
وقد وقع تدوين هذه الرسالة في السنة الحادية والثمانين بعد المائة من هجرة النبي ﷺ، لثلاث خَلَوْنَ من شوال، والناس يتجهزون للخروج إلى الحج الشريف. أرانا الله
بركته بمنه وكرمه.