وإن كنت رأيت له في تدبير المملكة ذلك التصرف الجميل، فإني ما وجدته له في تدبير
أهل بيته
ومواليه، وإنما يرجع الرأي في ذلك إلى زوجه أم جعفر، وهي أنفذ نساء العباسيين كلمة في
الدولة، وقد رَبِيَتْ في مِهاد الدَّعة والدلال كما يشير إليه اسمها، فإنما سماها أبو
جعفر
جدُّها بزُبَيْدة لغضاضة بدنها، وقد كان يُرَقِّصها تهلُّلًا وإعجابًا بملاحتها؛ فسماها
بزبيدة لذلك،
٣ فلما بنى بها الرشيد ووجدها طِرْفة حديث، ومصدر رأي جميل، لم يرَ بُدًّا من
الانقياد إليها في قضاء ما ترومه من الحاجات
٤ ومن ذلك أنه مكنها من بيوت المال؛ فأنفقت من سَعة ما يُنَيِّف على ثلاثين ألف
ألف دينار؛ فبنت مسجدًا مباركًا على ضفة دِجلة بمقربة من دور الخلافة يسمى بمسجد زبيدة،
ومسجدًا سامي الحسن في قطيعتها المعروفة بقطيعة أم جعفر
٥ بين خراسان وشارع دار الرقيق،
٦ وحفرت بالحجاز العين المعروفة بعين المُشاش،
٧ ومهدت الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر
ميلًا إلى مكة، فبلغ ما أنفقته عليها ألف ألف دينار، وهذا من الأعمال التي لم تباشرها
امرأة
في الإسلام إلا الخيزُران أم الرشيد فإنها عمرت كثيرًا من المساجد
٨ أيضًا، وبنت بمكة دار ابن يوسف التي ولد فيها النبي
ﷺ مسجدًا
٩ جزيل البركة، وتوافرت عندها الأموال حتى بلغ الذي خلفتْه مع ما توسعت فيه من
النفقة مائة ألف ألف درهم،
١٠ فإن لم يكن عند زبيدة من المال ما يبلغ هذا القدر الجسيم؛ فإن لها في السياسة
رأيًا تسمو به إلى التدخل في أمور الدولة كأفطن مَن يكون من الرجال.
ولقد قصدت بابه من عهد قريب مع أمير من البرامكة، فألفيت بحضرته
٣٩ جماعة من أئمة العلم ومنهم الخزيمي والعباس بن زفر ومنصور النمري، وهو السليم
شعره من العيب لولا أن له طعنًا في الشيعة يبتغي به مرضاة العباسيين، ومحمد الراوية المسمى
بالبيدق لقِصره وهو المنشد للرشيد أشعار المحدثين،
٤٠ وفتًى من أمراء آل نوبخت يقال له: الفضل بن سهل وهو خليل المأمون،
٤١ وصديقه، لا يصبر على فراقه في نهار ولا ليل، وإذا ركب في موكبه أركبه معه على
النجائب المخضوبة بالحناء وعليها القطوع والديباج،
٤٢ وكان بجانب المأمون جماعة من النحاة قد أحدقوا به إحداق الهالة بالقمر، منهم
الكسائي وأبو محمد مؤدِّباه
٤٣ وهم يتباحثون معه في مسائل نحوية، وكنت أسمعه يقول لهم: «زيد» على الرفع،
والكسائي يقول: بل «زيدًا» منصوبة بإنَّ، فتطارح العلماء الجملة الإعرابية التي دار عليها
كلامهم وهي: «إن من خير القوم أو خيرهم نية زيد.»
٤٤ فأجمع رأيهم على موافقة المأمون فتحققتُ فضله في ذلك اليوم وعرفت أنه يدخل
العلوم من أبوابها وليس تطفلًا منه، كما يتبادر إلى العقل عن آداب المترفين من أولاد
الملوك.
جمال البرامكة وانفجارهم بالكرم
أما دور ملوكنا — أعزهم الله — فإنها في الجانب الشرقي بإزاء دور الخلافة ليس بينهما
إلا عرض دجلة،
٥١ وهي من الجمال والإشراق بمكان تُسامي
٥٢ به قصور الرشيد؛ لأنهم بنوها على السعة التي لم يبلغها أحد من الملوك فقد
أنفق جعفر بن يحيى على دار بناها عشرين ألف ألف
٥٣ درهم، فهي مظهر الأنس والصفاء، ومشرق الأنوار والسناء، مغشَّاة بالرسوم
والزخرفة من الداخل والخارج، وعليها صور من الجِصِّ المجسم،
٥٤ وقد فرشت مجالسها بالوشي والإبريسم، وزينت بالمتاع الثمين والقماقم الذهبية
٥٥ والجامات المنقوشة
٥٦ والقوارير الفرعونية
٥٧ ولطائف الصين وغيرها من التحف التي تأتيهم من الملوك في سبيل المراضاة والاستمالة،
٥٨ ولبست طيقانها بأستار من الديباج عليها أبيات مرسومة
٥٩ مما قالته الشعراء في مدحهم، وهي تأتيهم من مصنوعات الفرس؛ لأن العرب لا
يعملون الطراز منذ نهاهم عنه عبد الملك بن مروان،
٦٠ ولا يكتبون على البسط والستور إلا كلامًا يتبرك به، بخلاف الفرس فإنهم
يزينون نسيجهم بالرسوم، ويكتبون فيها ما يطيب لهم من الشعر، أو يتبركون به من
الآيات.
وقد اتصلت عمارة البرامكة في حي لا يخالطهم فيه أحد، وهي من السعة بحيث تنتهي من
الجنوب إلى شارع المدينة،
٦١ ومن الشرق إلى درب دينار الصغير،
٦٢ ومن الشمال إلى باب الشمَّاسية،
٦٣ وهو الموضع الذي فيه قصر يحيى المعروف بقصر الطين،
٦٤ المسمى بذلك معارضة لما أنفق عليه من الذهب واتخذ فيه من الزينة والزخرفة،
وفي جوارهم موضع يقال له: البَردان.
٦٥ يشترون فيه الدور من الناس ويهبونها لمن هو طامع فيهم من أهل العلم والأدب؛
٦٦ لأنهم قد رفعوا بيوتهم على قواعد الكرم والسماحة،
٦٧ وأصبحت أعطياتهم كأعظم ما يكون من أعطيات الملوك، فإن يحيى إذا ركب يُعِدُّ
صررًا في كل صرة مائتا درهم، ويدفعها للمتعرضين له في الأسواق والشوارع.
٦٨ وقد قالت الشعراء في ذلك:
يا سَمِيَّ الحصور يحيى أُتِيحتْ
لك من فضل ربنا جنتان
كل من مرَّ في الطريق عليكم
فله من نوالكم مائتان
أما وقوف الملوك والأمراء على أبوابهم فمما لا تحضرني عبارة تفي بالإفصاح عنه، وإنما
للعين أن ترى ازدحام الخيل في ساحات قصرهم واقفة بالخدم والحَفَد والغلمان مما ليس على
باب الرشيد مثلُه، وإن إقبال المؤملين عليهم من جميع الوجوه وأبعد الآفاق يمتطون إليهم
رحال الرجاء ويستقون من موارد إحسانهم، نهلًا وعللًا لَأَشهَر مِن أنْ أحاول نعته
بالوصف الذي لا يُعبِّر عنه القلم، فكأنما بيتهم مَحَطُّ الركائب، يضعن فيه المدائح
ويحملن منه المال.
ولقد رأيت من الأعراب مَن قصد الفضل من قُضاعة، فسأله عن حاجته فاستجداه عشرة آلاف
درهم فاستقلَّ ذلك له وقال له: قد ازدريتَ بنا وبنفسك يا أخا العرب، وإنما تُعطى عشرة
آلاف درهم في عشرة، فلما أخذ المال انصرف وهو يبكي، فقال له الفضل: ممَّ بكاؤك
أستقلالًا للمال الذي أعطيناك؟ قال: لا، ولكنني أبكي على مثلك تواريه الأرض ويأكله
التراب، وأنشد:
٦٩
لَعَمْرُك ما الرزيَّة فَقْد مال
ولا فرس يموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقدُ حُرٍّ
يموت لموته خلقٌ كثيرُ
فنظر إليَّ الفضل بعد انصرافه وقال لي: إن مثل هذا يقصدنا من البلد البعيد ليسترفدنا
مرة واحدة في زمانه فيقوم بحرمة الصنيعة، ومن الأمراء من نَغْمُره بإحساننا كل يوم
٧٠ ثم يَغمِط النعمة ويدِبُّ فيه مرض الحسد فيكون من أشد الناس بغضًا لنا
وسعيًا في فساد ملكنا.
وقد انفجر البرامكة بالكرم
٧١ حتى صار يُضرب بهم المثل الأكبر في سعة العطاء، فيقال: فلان من الملوك
يتبرمك، وقد أخبرني الخازن القائم على بيت مالهم أنهم يُغِلُّون في كل سنة عشرين ألف
ألف دينار
٧٢ فإذا انقضى الحول لا يبقى منها في الخزائن دينار واحد، فهم يتخذون الكرم
قاعدة في الحالين من نعيم الدنيا وبؤسها. يقول أبو الفضل
٧٣ — أيد الله ملكه: إذا أقبلت الدنيا فأنفق؛ فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت
فأنفق؛ فإنها لا تبقى. وقال أبو نواس في مدحهم:
٧٤
إن البرامكة الكرام تعلموا
فعل الجميل وعلموه الناسا
وإذا همُ صنعوا الصنائع في الورى
جعلوا لها طول البقاء أساسا
عند الملوك مَضَرَّةٌ ومنافع
وأرى البرامك لا تضُرُّ وتنفع
إن العروق إذا استسرَّ بها الثرى
أَشرَ النباتُ بها وطاب المزرع
فإذا جهلتَ من امرئ أعراقَه
وقديمَه فانظر إلى ما يصنع
وقال أبو النضير البصري:
إذا كنتَ من بغداد منقطع الثرى
وجدتَ نسيمَ الجود من آل برمك
وقيل فيهم، وهو منتهى المديح:
أتانا بنو الآمال من آل برمك
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
لهم رحلة في كل عام إلى العدا
وأخرى إلى البيت العتيق المستَّر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتُظْلِم بغداد وتمحو لنا الدجى
بمكة ما تمحو ثلاثة أقمر
فما خُلقتْ إلا لجودٍ أكفُّهم
وأقدامهم إلا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمرَ ذلَّتْ صِعابُه
وناهيك من راعٍ له ومدبِّر
وقال سَلْم الخاسر في يحيى
٧٦ أعزه الله — تعالى:
يأيها الملك الذي
أضحى وهِمَّتُه المعالي
أنت المنوَّه باسمه
عند الملمات الثقال
لله درك من فتًى
كم فيك من كرم الخصال
وقال فيه أبو نصر
٧٧ وأنا أستحسن البيتين وأرى لهما وقعًا لطيفًا في القلوب:
نام الخليُّون من هَمٍّ ومن سقم
وبتُّ من كثرة الأحزان لم أنم
يا طالب الجود والمعروف مجتهدًا
اعمد ليحيى حليف الجود والكرم
سألتُ الندى: هل أنتَ حُرٌّ؟ فقال: لا
ولكنني عبدٌ ليحيى بن خالد
فقلت: شراءً؟ قال: لا، بل وراثة
توارثني مِن والدٍ بعدَ والد
لا تراني مصافحًا كفَّ يحيى
إنني إن فعلت ضيَّعتُ مالي
لو يمسُّ البخيل راحة يحيى
لسختْ نفسه ببذل النوال
وقال غيره في كرم الفضل
٨٠ — رعاه الله تعالى:
حكى الفضلُ عن يحيى سماحة خالد
فقامت به التقوى وقام به العدل
إليه يسير الناس شرقًا ومغربًا
فُرادى وأزواجًا كأنهمُ نحل
واعترضه وقت خروجه إلى خراسان فتًى من التجار كان قد شخص إلى الكوفة، فقُطِع عليه
الطريق وأُخِذ جميع ما كان معه، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
٨١
سأرسل بيتًا ليس في الشعر مثله
يقطع أعناق البيوت الشوارد
أقام الندى والبأس في كل منزل
أقام به الفضل بن يحيى بن خالد
وقال آخر من شعراء البادية:
٨٢
قد كان آدم حين حان وفاته
أوصاك وهو يجود بالحَوْباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم
وكَفَيْتَ آدم عيلة الأبناء
وقال فيه أشجع السُّلَمي الشاعر:
٨٣
وما قدَّم الفضلَ بن يحيى مكانُه
على غيره بل قدمتْه المكارمُ
لقد أرهب الأعداء حتى كأنما
على كل ثغر بالمنية قائم
وقال أبو النضير البصري:
٨٤
ويفرح بالمولود من آل برمك
بُغاة الندى والسيفُ والرمحُ والنصلُ
وتنبسط الآمال فيه لفضله
ولا سيما إن كان مَنْ ولدَ الفضلُ
ولائمة لامتْك يا فضلُ في الندى
فقلتُ لها: ما يقدحُ اللوم في البحر
أردتِ لتَثْني الفضلَ عن سَنَن الندى
ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مواقع جود الفضل في كل بلدة
مواقع ماء المزن في البلد القفر
كأن وفود الناس لما تحملوا
إلى الفضل لاقَوْا عنده ليلة القدر
إذا نزل الفضل بن يحيى ببلدة
رأيت بها غيث السماحة يُنْبت
لمستُ بكفِّي كفَّه أبتغي الغِنى
ولم أدرِ أن الجود من كفِّه يُعدِي
فما أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
أفدتُ وأعداني فأتلفتُ ما عندي
وذلك أن الفضل أمر له ذات يوم بخمسة آلاف درهم، فاستأذنه في تقبيل يده فأذن له، فما
انتهى إلى الباب حتى فرق المال بأسره؛ فعوتب على ذلك فقال البيتين المذكورين، فبلغ ذلك
الفضلَ فأعطاه عشرين ألف درهم، وقال بعضهم،
٨٨ وهو أمدح بيت في الكرم:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى
ترك الناس كلهم شعراء
وقال مروان بن أبي حفصة في جعفر وهو صبي:
٨٩
بنى لك خالد وأبوك يحيى
بناء في المكارم لن ينالا
كأنَّ البرمكي لكل مال
تجود به يداه يفاد مالا
أفي كل يوم أنت صبٌّ وليلةٍ
إلى أم بكر لا تُفيق فتُقصِرُ
أُحِبُّ على الهِجْران أكناف بيتها
فيا لك من بيت يُحَبُّ ويُهجَرُ
إلى جعفر سارت بنا كل حرة
طواها سُراها نحوَه والتهجُّرُ
إلى واسعٍ للمُجْتَدِين فناؤه
تروح عطاياه عليهم وتَبْكُرُ
لدولة جعفر حَمِدَ الزمانُ
لبابك كلَّ يوم مِهرجانُ
جعلتُ هديتي لك فيه وَشْيًا
وخير الوشي ما نسج اللسانُ
وقال العتَّابي، وكان في نفس الرشيد عليه موجدة واستعطفه جعفر عليه، فقال فيه:
٩٢
ما زلت في غمرات الموت مطَّرحًا
قد ضاق عني فسيح الأرض من حِيَلِي
ولم تزل دائمًا تسعى بلطفك لي
حتى اختلستَ حياتي من يَدَيْ أجلي
وقال فيه أشجع السُّلَمي:
٩٣
يريد الملوك مدى جعفر
ولا يصنعون كما يصنع
تلوذ الملوك بأبوابه
إذا نابها الحدث الأفظع
ذهبتْ مكارمُ جعفر وفعالُه
في الناس مثل مذاهب الشمس
ملك تسوس له المعالي نفسه
والعقل خير سياسة النفس
فإذا تراءته الملوك تراجعوا
جهرَ الكلام بمنطق همس
ساد البرامك جعفر وهم الألى
بعد الخلائف سادة الإنس
ما ضرَّ مَن قصد ابن يحيى راغبًا
بالسعد حلَّ به أم النحس
إلى غير ذلك من الأشعار التي لو حاولتُ تقييدها في هذا الكتاب لبلغَتْ أكثر من عشرة
آلاف بيت من الأبيات الجيدة، ليس فيها بيت سخيف بارد، وقد وجدت للرَّقاشي
٩٥ وحده ديوانًا يحوي أكثر من ألف بيت في مديحهم، وهي من البلاغة بحيث إن
البرامكة — أعزهم الله — يُروُّونها لأولادهم تفضيلًا لها على شعر غيره من
المحدثين.
الدولة في خلافة الرشيد
نعود إلى ما نحن آخذون به من ذكر مملكة الرشيد وسياسته، فقد سبق القول بأن دولته
من
أوسع دول الإسلام بل دول العالَم رُقعة مملكة، فإنها تنبسط من الهند وفرغانة في الصين
إلى طرف المغرب الأقصى من ناحية الزقاق، كذلك كان امتدادها في أيام أبيه فيما عدا
البلدان التي غلب عليها الروم في حروب متواترة قد استمرت بينه وبينهم على غير انقطاع،
كما كان شأن الخلفاء في رفع السيوف عليهم منذ صدر الإسلام؛ فإن الدولة الأموية قد حملت
عليهم المرة بعد المرة وحملتهم خسائر عظيمة من الرجال والمال، وكذلك العباسية بعدهم قد
ساقوا إليهم الجيوش، ولم يزل أبو جعفر في مغالبتهم حتى أذاقهم مرَّ البلاء، وكانوا مع
ذلك لا يفتُرون عن الثورة، ويأبَوْن إلا نكثَ العهود ونقض العقود المبرمة، فلما ولي
المهدي أخرج إليهم الرشيد
٩٦ وهو فتًى بقيادة يحيى وزيرنا، فركب في عُدَّة وأهبة لم يكن مثلها في
الإسلام، وتحركتْ في نفسه نخوة الجهاد حتى اتَّسَم بِسِمَة المحاربين في الجيش، وحمل
الرمح في يده.
٩٧ وكان على القسطنطينية ملكة يقال لها رينى لم تُطِقْ مقاومتَه؛ فهزم جندها،
وتفرق المسلمون في البسائط،
٩٨ يُعَفُّون الآثار ويُبيحون الذمار، ولا يُبقون على أحد من الروم، حتى إذا
نزل بجوار القسطنطينية ونصب على أسوارها المنجنيقات خافت عليها من الحريق فصالحتْه على
كيليكية، وحملتْ إليه الجزية التي كان يحملها أسلافها إلى الخلفاء، وتلك أحسبها للروم
من حِيَل السياسة في إيجاد الهدنة بالجزية فيما بينهم وبين المسلمين، ففي نفسي أنه لو
لم يتهاون الخلفاء في أمرهم ما بقي لهم ملك تجاه دول الإسلام العظيمة.
ثم إنه بعد أن ولي الرشيد وقع في نفوس الروم أن يتقاعدوا عن حمل الجزية إليه، فعبَّأ
لهم العساكر، وشحنها في أسطول يسوقه حميد بن معيوب أمير الأساطيل بسواحل الشام
٩٩ وسيَّر الفرسان من ناحية البر يحرقون المدن ويبثون الخراب، ففتحوا وغنموا
١٠٠ وأثخنوا وأوغلوا، حتى انتهوا إلى جوار القسطنطينية وأطافوا بمعاقل الروم
وأخذوا عليهم مهاربهم، فلما أدركتِ الملكة العجز عن دفاعهم، ورأت الجند بين يديها وهو
شتيت صالحتْهم على الجزية، وراحت تحملها إلى بغداد وهي صاغرة إلى انقضاء ملكها بعد أن
نال المسلمون غنائمهم أعظم النيل، واستشعروا من عزة الإسلام في غزوتهم تلك ما أفاضوا
في
التحدث به إلى هذا اليوم، والحمد الذي بنعمته تتم الصالحات، وتصدر رايات الإسلام
روايات.
ولما هلكتْ رينى نصَّب الروم عليهم نقفور، وكان ملكًا شديد البأس إلا أنه قليل الخبرة
بأمور السياسة غير عارف بمكان الإسلام من الصولة والدولة، بل كان يظن في المتمصرين من
العرب فتورًا في العزيمة وتشاغلًا عن أمر الجهاد بما ركنوا إليه من دعة العمران، فكتب
إلى الرشيد في منتصف هذه السنة كتابًا بنقض الهدنة التي كانت بينه وبين رينى، يقول فيه:
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلُ
كانت أقامتْك مقام الرُّخِّ وأقامتْ نفسها مقام البَيْدَق، فحملتْ إليك من
أموالها أحمالًا،
١٠١ وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأتَ كتابي فارْدُد ما حصل قِبَلك
من أموالها وإلا فالسيف بيني وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبًا حتى لم يجسر أحدٌ أن ينظر إليه؛ فدعا بدواة
وكتب
على ظهر كتابه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد
قرأتُ كتابَك يا ابنَ الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعُه.
١٠٢
ثم حشد الجنود ليومه، وركب في صفوف المترجلين والفرسان، وحمل القوَّات والأقوات
استظهارًا على نفوذ العزيمة، ولم يزل حتى وافى مدينة هِرَقْلة
١٠٣ ونصب عليها القتال، وهي مدينة للروم لم يطمع أحد من ملوك الإسلام في الوصول
إليها لخشونة مكانها، فدكَّ أسوارها بالمنجنيق، ومنحه الله أكتاف الروم فنفَّلهم
رقابَهم وأموالهم وفي ذلك يقول الشاعر المكي:
١٠٤
هَوَتْ هِرَقْلةُ لما أن رأتْ عجبًا
حوائما ترتمي بالنفط والنار
كأن نيراننا في جنب قلعتهم
مُصَبَّغات على أرسان قَصَّار
وهذا كلام ضعيف لَيِّن، ولكن قدره عظيم في ذلك الموضع والوقت،
١٠٥ ولم تقف هزيمتهم على هِرَقْلة فقط، بل كانوا يُسلِّمون كثيرًا من المعاقل
والبلدان، فكان ذلك الفتح فتحًا عظيمًا لا كِفاء له، وهنأتِ الشعراء الرشيد، قال أبو
العتاهية في ذلك:
١٠٦
قضى الله أن صفَّى لهارون ملكه
وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحببت الدنيا لهارون بالرضا
وأصبح نقفور لهارون ذميا
فلما ضاقتْ بهم الحِيَل ولم يكن لهم بالمسلمين قِبَل، رغبوا في المسالمة والموادعة،
وأوجبوا على نفوسهم إعطاء الجزية وهم صاغرون، ولستُ أقول: إن هذا الفوز كان سهلًا على
الرشيد، فإنه قد طوَّح من الرجال وأنفق من الأموال ما هو حقيق بأن ينظر فيه، فإن الروم
أهل بأس ومراس شديد، وهو يقاسي
١٠٧ معهم الحروب الصعاب، ولم يكن في شأنه معهم حيلة ولا سياسة، وإنما هي حروب
تواصلت تباعًا وأخذ بعضها برقاب بعض؛ لما يروم من نفوذ السلطان حتى يركِّب عليهم سيف
الإسلام، وإلا فإن الجزية التي يطمع فيها لا تفي بالقليل من الأموال التي تنفقها
الدولة، وهي بمكانها من الهجوم ومكان الروم من المدافعة في ظلال الأسوار، وفي ذلك تفاوت
بعيد في خسائر القتال، والذي يدلك على قوة الإسلام أنه غزاهم غزوات كثيرة ما أخفق في
واحدة منها كما رأيت.
هذا كان شأن الرشيد مع صُهْبِ السِّبال، أما السياسة التي أتعبتْ خاطرَه فكانت
منصرفةً إلى إذلال العلويين في المغرب قبل أن تسود بهم الحال، وتسوِّد عندهم جموع
الرجال؛ لأنه تعذر عليه محاربتهم مثل الروم؛ لتجافي عظماء دولته من أهل الرأي والتدبير
عن قتال المسلمين على غير فائدة إلا ضياع المال وضيعة الرجال، ولذلك جعل الملك في
إفريقية لآل ابن الأغلب حتى يقاوموا جندهم فلا يتمكنوا من إقامة مملكة تنهال من المغرب
فتطمو على الشرق كله، فكأنه وقع بين أمرين مخوفين فاختار ما هو أقرب إلى النجاة بأن
يملك الأغالبة المغرب حتى إذا قامتْ دولتهم رسخت في مكانها ولم تتجاوز الرمال التي بين
إفريقية ومصر.
على أن العلويين مع ذلك كله قد ملكوا البلاد إلى طرف المغرب، ولم يألُ ابن الأغلب
في
مناوأتهم جهدًا، وهو لا يبلغ الغاية التي يرومها من إذلال ملكهم وتضييع نفوذهم في
المسلمين؛ لأن جندهم مطيع لهم فيما استقروا فيه من تلك الأقاليم، وكلهم صادق الحملة
مدرب على القتال، ولا سيما قبائل صِنهاجة من بطون حِمير،
١٠٨ وهم أمنع الناس ذمارًا، وأبعد الفرسان مُغارًا، وذلك أمرٌ طيَّب منِّي
النفس لا بغضًا في آل العباس؛ لأني لا أريد بهم مكروهًا.
وإنما العلويون هم أهل البيت الكريم وفيهم الأنجاب الذين تَعرِف البطحاءُ وطأتَهم
والبيتُ يعرفهم والحِلُّ والحَرَمُ
١٠٩ كما يقول الفرزدق الشاعر في مديحهم، فلعمري، إنهم أحق من الأغالبة بهذا
الملك الذي أراه اليوم يَثبُت في أيديهم إلى ما شاء الله من الزمان لاتجاههم إلى غاية
واحدة وسياسة راشدة، فقد عرفتَ أن تمزقهم فيما مضى إنما حصل بتفرق دعاتهم على أغراض لم
تجمع بينهم إلى الوحدة، وفيما تقدَّم من الكلام عن أبي جعفر ما يبين لك أنهم لو لم
يفترقوا لظَفِروا، أما اليوم فإنهم مجتمعون إلى إدريس بن إدريس وله دون غيره من أهل
البيت. «السلام عليك يا ابن رسول الله.»
١١٠
وإنما سار العلويون إلى المغرب وأقروا فيه مملكتهم بإيعاز البرامكة الأمجاد، وهم
الآخذون بناصرهم والمتغرضون معهم
١١١ والمُقلِّدون الولايات لكثير من أهل الشيعة
١١٢ إلا أنهم لا يتعمدون في ذلك ضرر الرشيد، وهو المؤتمِن لهم على مملكته؛ لأن
المغرب — فيما يرون — إذا انسلخ عن بغداد لا يُحدث في الخلافة ضررًا لعظم الممالك
الإسلامية، وإنما يضر التجزُّؤ بالدول إذا كانت الدولة منحصرة في إقليم غير متسع إلى
طرف العالم وكان في جوارها أمة ثانية متغلبة فإنها تسطو عليها شيئًا فشيئًا إلى أن
تلتهمها جملة واحدة، كما رأينا في سِيَر الأمم الماضية، أما الخلافة الإسلامية فإن
الجهاد في الأعاجم يعمل على استمرار ملكها ووقايته، ويعود عليها من استقلال بعض الملوك
في أطرافها أنهم يمنعون عنها عدوها من قَبْل أن يصل إليها؛ فتحفظ خزائنها من إنفاق
المال، ورجالها من تغرير القتال، وتبيت في شئونها آمنة بحراستهم، اللهم إلا أن يكون
فيهم مَن هو أشد سلطانًا، وأكثر جنودًا وأعوانًا، وهذا بعيد عن أن يكون في دولة متجزئة
من الخلافة، ولو انضمت جميعًا إلى قيادة واحدة ما ناوأت الرشيد وانتزعت الخلافة منه،
وهو بموضعه من عظم الشأن وضخامة الملك، وله الهند والسند وأرمينية وكرمان ومصر والشام
ونجد وتهامة واليمن والحجاز وفارس وخراسان، فهذا معظم الدنيا المعمورة وأوفر بلادها
ثروة وأطيبها تربة وغلة، حتى لقد يُجبَى إليه من إقليم واحد من هذه الأقاليم كمصر مثلًا
ما لا يجبى إلى غيره من سائر أقاليم الأطراف.
فكان ملوكنا البرامكة — أعزهم الله — يرون أن قيام الدولة العلوية في المغرب داعٍ
إلى
صلاح الرشيد، وأنها تكون مِجَنًّا للخلافة بما تجاهد لها في ردِّ الأمم
النصرانية.
وكان جعفر يقول لي: إنه لو لم يكن للرشيد في هذه البلاد النائية إلا قضاة حاكمون
كما
كان لملوك بني أمية في الأندلس ما ظهروا على الفرنجة والجند بين أيديهم قليل، ولو أنه
ائتمنهم لاستنفدوا ماله، أو استنصحهم لكانوا عليه لا له، فيثبت بعد ذلك أن حبه وآل بيته
للعلويين يعود بالمنفعة على الرشيد والمصلحة على جميع المسلمين؛ لأنه إذا قامت دولتهم
في المغرب كان ذلك أثبت لبقاء الأندلس في يد المسلمين.
١١٣
وربما أعاد الله — سبحانه — على يدهم ما استعاده الفرنجة من البلدان التي فتحها طارق
بن زياد، والله يُبِيد أممًا ويحيي أممًا، لا إله إلا هو ذو الملك والسلطان.
عمران بيت المال
لم يبقَ علينا لبيان عظم دولة الرشيد إلا أن نذكر قدر المال الذي يُحمل إليه من جميع
الممالك والبلدان، فإنه لم يُسمع عن دخل دولة من دول الخلفاء أنه تجاوز القدر الذي يحمل
إلى بيت المال في زمانه، مع أنه يسلك مع الملوك مسلك الحلم، ولا يضرب عليهم الخراج إلا
على قدر ميسرتهم، وإن كان قد زال عنه القليل مما يحمل إليه من المغرب فقد استعاض عنه
بالكثير مما فرض على بلدان النصرانية التي غلب عليها الروم من الأموال التي لا يصح أخذها
١١٤ من المسلمين كالخراج والعشور التي تؤخذ على جميع غلاتهم،
١١٥ فقد بلغ المحمول إليه في كل سنة نحوًا من خمسمائة ألف ألف درهم من الفضة
وعشرة آلاف ألف دينار من الذهب، ما عدا الغلال والمصنوعات كما ستراه، فحمل الناس كثرة
هذا المحمول على أن يعدوه بالوزن لا بالعدد، فيقولوا: إنه بلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار
من الذهب،
١١٦ إلا أن ذلك غلو وإفراط في تعظيم الشيء، فمن المعروف أن القنطار إنما هو زنة
ثلاثين ألف دينار، ويبعد أن يكون في العالَم ألفا ألف ألف دينار من الذهب، ولو جاز
وجودها ما صح أن تحمل كلها إلى بيت المال ولا يبقى منها شيء في أيدي الناس لمعاملاتهم،
وتقديرهم هذا وإن كان بعيدًا عن الصحة يدل على الكثرة وأن المال يحمل إلى بغداد بالصُّبَر
١١٧ لوفور الخير.
وعندي أن ما يحمل اليوم إلى بيت المال لم يكن يحمل نصفه إلى خزائن الأمويين ولا
الخلفاء الأولين من بني العباس، ولا يبعد أن عمالهم كانوا يحجُزون من مال الجزية قدرًا
لا يحملونه إليهم؛ لاختلاف تقدير الجزية على أهل الذمة بين ثمانية وأربعين درهمًا تؤخذ
من ذوي اليسار، وأربعة وعشرين من الصناع وأهل الحرف، واثني عشر درهمًا من ذوي الفاقة
والإعسار.
١١٨ دون أن يكون في الدواوين عمل لذلك، ولما قام وزيرنا
١١٩ — أيده الله — بأعباء الدولة فرض على العمال ما هو مفروض على ناحيتهم من
جزية وخراج وغير ذلك، حتى صار يقرِّر الدخل في السجل من قبل أن يحصل في يديه، فلم يبقَ
سبيل إلى نقص الأموال إلا فيما يؤخذ من المكوس على السلع وما يتصرف به العمال من نفقات
١٢٠ ولاياتهم، وليس هو إلا القليل في جانب الكثير من دخل الدولة.
ولا يطرأ على تقدير هذه الأموال شيء من الزيادة والنقصان بتنقل البلاد من حال إلى
حال، وربما غلبت عليها الزيادة؛ لوفور الخير والعدل، فقد كان حاصل السواد وهو أرض
١٢١ ما بين الموصل وعَبَّادان في الطول وما بين عذيب بالقادسية إلى حُلوان في
العرض عشرين ألف ألف درهم في زمن الحَجَّاج؛
١٢٢ لكثرة الظلم، فلما ارتفع عنها الجور ساد فيها العمران
١٢٣ حتى صار يحمل منها اليوم نحو ستين ألف ألف درهم، وكان حاصل فارس وأصبهان
وكَرمان في عهد الأمويين ثلاثين ألف ألف درهم، فلما انتظمت فيها الأحكام وانتشر فيها
العدل حمل منها البرامكة خمسة وأربعين ألف ألف درهم، وكذلك عهد الخلفاء بخراج مصر
«بعدما جباها عمرو بن العاص في زمن الخير اثني عشر ألف ألف دينار»
١٢٤ تدلى إلى ألف ألف وتسعمائة ألف دينار؛ وذلك لاختلال أمرها وسوء سياسة
العمال، فلما تولاها البرامكة جبَوْا منها للرشيد ثلاثة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف
دينار، واستمرت على ذلك إلى هذا اليوم.
ويُحمل إلى بغداد غير هذه الأموال المقررة والغلال الكافية لأرزاق الجند وعلف خليهم
قدرٌ من المصنوعات والغلات التي تكون في البلدان، فيحمل من السواد مائتا حلة من الحلل
النجرانية، ومائتان وأربعون رطلًا من طين الختم الأحمر الذي يطبع به على طرف الرسائل
السلطانية، ويحمل من الأهواز ثلاثون ألف رطل من السكر، ومن فارس ثلاثون ألف قارورة من
ماء الورد، ومن أصبهان عشرون ألف رطل من الزبيب الأسود، ومن مَكران خمسمائة ثوب من
المتاع اليماني وعشرون ألف رطل من التمر ومائة رطل من الكمون، ومن السند مائة وخمسون
رطلًا من العود الهندي، ومن سجستان عشرون ألف رطل من السكر وثلاثمائة ثوب، ومن خراسان
ألفا نُقرة من نِقار الفضة وأربعة آلاف بِرذون وألف رأس من الرقيق يُتخذون خدمًا في دور
الخلافة، ويكون لأمراء بني هاشم وغيرهم من عظماء الدولة نصيب وافر منهم، وعشرون ألف ثوب
من المتاع، وثلاثون ألف رطل من الإهلَيج، وألف وثلاثمائة قطعة من صفائح الحديد، ومن
جرجان ألف شقة من الإبرَيسم، ومن قُومَس خمسمائة نقرة من نقار الفضة ومن طبرستان
ونهاوَند ستمائة قطعة من الفرش الطبري، ومائتا كسوة وخمسمائة ثوب وثلاثمائة ألف منديل،
وثلاثمائة جام، ومن الري وقزوين عشرون ألف رطل من العسل، ومن همذان ألف رطل من رُبِّ
الرمان، واثنا عشر ألف رطل من التين، ومن الموصل وما إليها وأعمال نينوى عشرون ألف رطل
من العسل الأبيض، ومن الجزيرة وأعمال الفرات ألف رأس من الرقيق، واثنا عشر ألف زقٍّ من
العسل، وعشرة بُزاة مرباة لصيد الملوك، وعشرون كسوة من الحرير للبيت الحرام، ومن
أرمينية قدرٌ من البسط، ومن قنِّسرين والجند ألف حمل من الزيت، ومن جند فِلَسطين ودمشق
قدر كبير من الفاكهة اليابسة، وثلاثمائة ألف رطل من الزيت، ومن إفريقية مائة وعشرون
بساطًا، ومن اليمن شيء كثير من المتاع، وكذلك من نجد وعُمان واليمامة والحجاز
وكِنْكِوَر وحلوان ومِهران وشهرزور وأذربيجان ومصر وجند الأردن يُحمل كثير من الحبوب
والمصنوعات التي تصرف على الجند وتنفق في مصالح الدولة.
١٢٥
وهذا المال كله يتصرف فيه الخليفة دون أن يعارضه فيه أحد من أرباب الدولة إلا فيما
يعرضه عليه البرامكة من دفاتر الدواوين للموازنة بين دخل الدولة وخرجها، وقد تجمع كثيره
في بيت المال منذ صدر هذه الدولة حتى إن أبا جعفر — غفر الله له — لما أدركه الموت قال
للمهدي في وصيته: إنه خلَّف له من الأموال ما إن كُسر عليه الخراج عشر سنين كفاه لأرزاق
الجند ومصلحة البعوث وغير ذلك
١٢٦ ولقد أخبرني يحيى — أعزه الله — عن خالد أبيه وكان قائمًا على بيت ماله أنه
بلغ ما خلف من المال أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف ألف درهم،
١٢٧ فلو لم يكن إلا هذا في خزائن الرشيد
١٢٨ لكفى دولته فخرًا على دول الخلفاء، وبهاء ليس مثله من بهاء، فأما الفخر
فيكون لها من حيث المنَعَة؛ لأنه ما دام بيت مالها عامرًا فلا تزال ممتنعة على العدو،
وأما البهاء فيأتيها من المال وإنفاقه في الوجوه التي ترفع الدولة، وفيما يدعو الملوك
المترفين الذين يتوسعون في نعيم العيش إلى تزيين دولهم برواج الأدب، كما رأينا من إقبال
الرشيد على تقريب العلماء إليه وانتفاعه بعلمهم في دينه ودنياه.
مجلسُ الغناء بدارِ الرشيدِ
كان الرشيدُ يتخِذُ للعلماءِ والنُّدماءِ والشعراء مجالس مناظَرَة، وعرض أدب، وصناعة،
كما كان يصنع أبوه — رحمه الله — ثم يُجيزهم على موضعهم من العلم بما لا يكاد يُحصى من
الجوائز، وإنَّ الذي كنت أَرتاحُ إلى شهوده من المجالس بداره إذا حضر وقته هو مجلس
الغناء، على أني لم أَرَه في السنين الماضية أحفَل منه في هذه السنة، وكان الرشيدُ قد
نشط له وقام بلُبسته التي يلبَسها في الصيف؛ وهي غِلالة
١٢٩ رقيقة يتوشح عليها بإزار رشيدي عريض العَلَم مضرج، وكان بين يديه جامات ذهب
فيها دنانير؛
١٣٠ يُجيز بها مَن يطيب منه المسموع، وتصلُح عنده الصنيعة، ومن حوله جماعة من
بني هاشم والفضل وجعفر من البرامكة — أعزهم الله — وهما جالسان بجانبه على سرير
الخلافة.
ولما اجتمع المغنون جلسوا في صفوفهم بناحيتين من المجلس للمناظَرة
١٣١ بينهم في الغناء؛ فمنهم المتعصبون للغناء القديم، وهم جماعة إسحاق
النَّديم، ومنهم المُقصِّرون عن أدائه والمُغيِّرون له، وهم جماعة إبرهيم بن المهدي.
وكان سبب هذا النزاع بين إبراهيم وإسحاق أنَّ إبراهيم تغنى بلحن قديم أضاع صناعته؛
فردَّ عليه إسحاق وعاب عليه تغييره، فقال: أنا ملك وابن ملك أُغنِّي كما أشتهي وعلى ما
ألتذُّ؛ فتخالفا في ذلك، فانضم إلى غرض إبراهيم إسماعيل بن جامع، وفُلَيْح بن العوراء،
ويحيى المكي، وعمرو بن بانة، وشارية، وزيق، وبنو حمدون، وحُسين بن مُحرز والهذلي
وغيرهم، وبقِي مع الموصلي المترفعون عن الأغراض والآخذون بمحاسن الغناء من حيث طرائق
الصناعة مثل: مُخارق، وعلُّوية، وعَريب، وبَذل، وسُليم بن سلام، وزُبير بن دَحْمان،
وأحمد بن يحيى المكي، ومُحمد بن حمزة بن الوصيف وغيرهم.
١٣٢ وكان قوم إبراهيم بن المهدي قبل وزارة جعفر (رفع الله قدره) أكثر عددًا من
حزب إسحاق؛ لأنَّهم كانوا يتقربون بكفالته إلى الرشيد؛ فلما أخذ البرامكة بناصر إسحاق
وجهروا بتفضيله، رجع إلى غرضه كثير من المجيدين، ولم يزل المغنون في أهل البيوتات مثل:
البرامكة، وآل هاشم، وآل الربيع؛ يتمسكون بالغناء القديم، ويحملونه كما يسمعونه، فلم
يكن من مُفسد له إلا الَّذين تقدَّمت أسماؤهم، وجماعة من أولاد العباسيين مثل: إبراهيم،
وأخيه يعقوب، وأختهما عُلية، وعبد الله بن الهادي، وعيسى بن الرشيد وغيرهم
١٣٣ ممن يترفعون عن أن يُقَيَّدَ غِناؤهم بالمحفوظ من أصوات المتقدمين، وإن
كانوا بموضع جليل من هذه الصناعة.
فهذا إبراهيم ليس في الناس أعلم منه بالنغم والوتر والإيقاعات، ولا أطبع على الغناء،
ولقد رأيتُه إذا غنَّى بمجلس الرشيد قرُب كل مَن في دور الخلافة من أقرب موضع يُمكنهم
أن يسمعوه فيه لحسن صوته، وقليلًا ما كانوا يسمعونه إذ كان لا يغني إلا على حال تصوُّنٍ
عن الغناء وترفُّع إلا أن يدعوه إليه الرشيد في خلوة أو إذا كان عنده جعفر، فيقول له:
أُحبُ أن تشرف جعفرا
١٣٤ بأن تغنيه صوتًا فيغني. ولقد كنتُ ذات يوم في خدمة أميرنا — أعزه الله —
فغنَّى إبراهيم على أبيات لمروان بن أبي حفصة، يقول فيها:
١٣٥
طرقتْك زائرة فحيِّ خيالَها
زهراء تخلِط بالجمال دلالها
هل تطمِسون من السماء نجومها
بأكفكم أو تسترون هلالها
أو تدفعون مقالة من ربكم
جبريلُ بلغها النبيَّ فقالها
فلما بلغ قوله: «جبريل بلغها النبي فقالها» هزَّ حلقه فيه ورجَّعه ترجيعا زُلزلت
الأرض منه، فما أظن أحدًا يقدر على أداء الأصوات مثله إلا إسحاق المخالف له على هواه
والمقِرُّ بما له من جميل الصناعة؛ لولا أنه أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقًا إلى
الجسارة على تغييره.
وأول مَن غَنَّى في ذلك اليوم إبراهيم أبو إسحاق، وكان ذلك بإشارة مسرور العبد إذ
كان
أمر المغنين مفوضًا إليه،
١٣٦ وإذا أحبَّ الرشيد أن يسمع صوتًا
١٣٧ أشار إليه فأشار هو إلى المغنين، فغنى إبراهيم:
ولي كبد مقروحة مَن يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قروح
أباها عليَّ الناس لا يشترونها
ومن يشتري ذا علة بصحيح
واللحن فيه ماخوري
١٣٨ لا يعرفه أحد مثله، ثم غنى على أبيات قالها في بعض قرى الري:
أنا في الري مُقيم
في قرى الري أهيم
رُبَّما نبهني الإخـ
ـوان والليل بهيم
حين غارت وتدلت
في مهاويها النجوم
للتي تعصر لما
أينعت منها الكروم
ولحنها من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البِنصر
١٣٩ ثم غنَّى:
ألا يا اسلمي يا دار ميَّ على البِلَى
ولا زال مُنهلًّا بجرعائك القطر
الشعر لذي الرُّمة والغناء له بلحن خفيف الثقيل الثاني.
١٤٠ ثم غنى:
وقفت على ربعٍ لمَيَّةَ ناقتي
فما زلتُ أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثُّه
تكلمني أحجاره وملاعبه
الشعر لذي الرُّمة أيضًا، والغناء ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر،
١٤١ فأجاد إبراهيمُ حتى كأنَّ كل ما في المجلس يجيبه ويردد الصوت معه لحسْنِ
غنائه، فطرب الرشيد حتى كان يقومُ ويقعد، ولا سيما من اللحنين اللذين سمعهما في شعر ذي
الرمة؛ لأنَّه كان يحفظ أبياته كلها في صباه، فكان إذا غُنِّي فيها صوت أعجبه أكثر من
جميع الأصوات التي يصنعها المغنون فيما لا يحفظه من الشعر، ففطن إبراهيم لذلك وطلب إليه
أن يُقطِعه شعرَ ذي الرمة ويحظُر على غيره من المغنين أن يُداخلوه فيه، فأجابه إلى ذلك
فأصاب إبراهيم الموصلي عليه من الجوائز ما يتجاوز التقدير.
١٤٢
ثم أشار مسرور إلى إسماعيل بن جامع القرشي وهو من المتعصبين على إسحاق فغنى:
لم تمشِ مِيلًا ولم تركبْ على قَتَب
ولم ترَ الشمسَ إلا دُونَها الكِللُ
تمشي الهُوَيْنَى كأن الريحَ تَرْجِعها
مَشْيَ اليعافير في جَيْئاتها الوهلُ
الشعر للأعشى
١٤٣ والغناء الأول لابن سُرَيج بلحن الرمل بالبنصر
١٤٤ ثم غنى بلحن خفيف الثقيل الأول بالوسطى
١٤٥ على أبيات عمر بن أبي ربيعة:
كأن أحور من غزلان ذي بقر
أعارها شَبَه العينين والجيدا
أجرِي على موعد منها فتُخلفني
فما أمَلُّ ولا توفي المواعيدا
كأنني حين أُمْسِي لا تكلمني
ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا
ثم غنى بلحن الهزج بالوسطى
١٤٦ على هذين البيتين:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا
فقالوا لنا: ما أقصرَ الليلَ عندنا!
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم
سراعا وما يغشى لنا النومُ أعينا
فأجاد إجادة يرتاح إليها أهل الطرب
١٤٧ ممن يُحب الخلاعة في الأصوات، فهو يميل إلى ظَرْف الغناء والنغمِ الكثيرِ العملِ
١٤٨ كما يميل إلى ظرف المعاشرة والافتنان في خلاعة الملبس.
١٤٩
ثم أشار صاحب السِتارة إلى إسحاق بن إبراهيم صاحب هذا الفن، فجاء غلام من غلمان الدار
بعود هندي
١٥٠ كان مودعًا له في خزانة المجلس
١٥١ قد أُصْلِحت أوتاره قبل ذلك الوقت؛ لأنَّ العيدان لا تُصلح في مجالس الملوك،
١٥٢ فضرب عليه نغماتٍ صاح لأجلها القوم جميعا ثم غنى:
قل لمن صدَّ عاتبا
ونأى عنك جانبا
قد بلغتَ الذي أرد
تَ وإن كنتَ لاعبا
الشعر والغناء له، ولحنه من الثقيل الثاني بالسبَّابة في مجرى الوسطى،
١٥٣ ثم غنى بلحن وضعه معبد في أبيات لأبي صخر الهُذلي.
١٥٤ وهي:
عجبتُ لسعيِ الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكنَ الدهرُ
فيا حبَّها زِدْني جوًى كل ليلة
ويا سلوةَ الأيام موعدُك الحشرُ
وإني لتعروني لذكراكِ هزة
كما انتفضَ العصفورُ بلَّله القطرُ
هجرتُك حتى قيل: لا يعرف الهوى
وزرتك حتى قيل: ليس له صبرُ
فطرِب الرشيد وقال له: زدنا يا أبا صفوان من عنائك، وأبو صفوان كنية يُلقبه بها عند
التحبب،
١٥٥ فغنى بهذين البيتين:
الطُلولُ الدَّوارس
فارقتْها الأوانس
أوحِشَت بعد أهلها
فهي قَفْر بسابس
غناءً لم أجد أحسن منه موقِعًا في القلوب، وكنت في ذلك الوقت جالسا بمقربة من أبيه،
فقال: «لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى! «الطلول الدوارس» كلمتان و«فارقتها
الأوانس» كلمتان أيضًا، وقد غنى فيهما استهلالًا وصاح وسجَع ورجَّع النغمة واستوفى ذلك
كله في أربع كلمات، وأتى بالباقي مثله. فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه.» ثم قال:
«والله ما في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومَعبد، ولو عاشوا حتى رأوه؛ لعرفوا فضله
واعترفوا له.»
١٥٦ والغناء لإسحاق خفيف بالبنصر.
ثم وجد في نفس الرشيد إقبالًا عليه وطربًا من صناعته فغنى لحنًا صنعه في شعر للمنخَّل
اليشكرِي، يقول في بعض بنات الملوك المناذرة:
١٥٧
ولقد دخلتُ على الفتا
ةِ الخِدرَ في اليوم المطيرِ
فدفعتُها فتدافعتْ
مَشْيَ القطاة على الغدير
فلثمتُها فتنفَّست
كتنفس الظبي الغرير
فأجاد في الغناء إلى ما وراء الغاية، وقال الرشيد، وقد كاد يخرج من ثيابه لشدة الطرب:
«والله ما الغناء الذي يُلين العريكة، ويُفسح في الرأي والصدر، ويُحدث في النَّفس
طَربًا إلا غناء هذا الرجل.»
ثم أشير إلى فُلَيْح بن أبي العوراء فغنى على لحن صنعه في بيتين لعديِّ بن الرقاع
العاملي:
١٥٨
وكأنها بين النساء أعارَها
عينيه أحورُ من جآذِرِ جاسِم
وسْنانُ أقعده النعاسُ فرنَّقَتْ
في عينه سِنة وليس بنائم
ثم أتبعه بلحن من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البِنصر صنعه
١٥٩ في بيتين للمؤمَّل من شعراء الدولة الأموية:
ألا يا ظبية البلد
براني طول ذا الكمد
وهو يُعارض فيه اللحن الذي صنعه أبو إسحاق، فأجاد ولكنه قصر عن أن ينحو نحو صناعة
الموصلي، وإن كان قد مضى في بعض كتبي السالفة ما يشهد لموضعه الجليل من هذه الصناعة،
١٦١ إلا أنه قد وجد اليوم مَن بَرَعَه وبرعَ الناسَ كلهم
١٦٢ في طيب المسموع ومحاسن الصنعة.
ثم أشير إلى مخارق
١٦٣ من حزب إسحاق، وهو طيب الصوت يُعدُّ هو وإبراهيم بن المهدي، وابن جامع،
وعمرو بن أبي الكَنَّات من أحسن الناس صوتًا
١٦٤ فغنى بصوت رخيم:
يا ربْعَ سلمى لقد هيجتَ لي طربًا
زدتَ الفؤادَ على عِلَّاته وَصَبا
فكنت أحسب أنَّ الدُّنيا قد صارت أحزانًا
١٦٥ لما ألم في غنائه من إبراز معنى البيت وما وراءه من توجع العاشقين، ثم
غنى:
إني استحيتُكِ أن أفوه بحاجتي
فإذا قرأتِ صحيفتي فتفهَّمي
١٦٦
وعليك عهد الله إن أخبرتُه
أحدًا وإن أظهرته بتكلم
الشعر لابن هَرْمة والغناء لعبادل من مُغَنِّي الحجاز، ثم غنى:
فبتُّ فيما شئت من نعمة
يمنحنيها نحرها والفم
حتى إذا الصبح بدا ضوءه
وغارت الجوزاء والمُرْزم
خرجت والوطءُ خفيٌّ كما
ينساب من مكمنه الأرقم
الشعر لإسماعيل بن يسار، والغناء له بلحن الرمل.
١٦٧
ثم غنى يحيى المكي بلحن صنعه في بيتين لمحمد بن أمية من كتاب إبراهيم بن المهدي:
١٦٨
أحبك حبًّا لو يفيض يَسِيرُه
على الناس مات الناس من شدةِ الحب
وأعلم أني بعد ذلك مقصر
لأنك في أعلى المراتب من قلبي
ثم غنى بلحن خفيف الرمل:
١٦٩
طرقتْك زينبُ والمزارُ بعيد
بمنًى ونحنُ معرِّسون هُجود
فكأنَّما طرقت بريا روضة
أُنُفٍ تسحسحُ مزنُها وتجود
فكان لحنه كثير العمل، حلو النَّغم، صحيح القسمة، مُحكم الصنعة، ولولا ذلك ما أطرب
النَّاس غناؤه وهو شيخ مسن:
ثم غنى سليم بن سلام من جماعة إسحاق:
١٧٠
أفاطمُ مَهلًا بعضَ هذا التدَلُّل
وإن كنتِ قد أزْمعتِ صَرمي فأجملي
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلي
وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأمُري القَلبَ يَفعل
أتيتُكِ عائذا بك منـ
ـك لما ضاقت الحِيَلُ
وصيرني هواكِ وبي
لحَيْني يُضرَب المثلُ
فإن سلمتْ لكم نفسي
فما لاقيته جللُ
وإن قَتَلَ الهوى رجلًا
فإني ذلك الرجل
الشعر لمحمد بن أبي محمد اليزيدي، ويُكنى أبا عبد الله، والغناء له ثقيل أول بالبنصر
إلى أنْ قال:
وقفت على ربع سلمى وعَبْرتي
تَرَقْرَقُ في العينين ثم تسيل
أسائل ربعًا قد تعفَّت رسومُه
عليه لأصناف الرياح ذيول
واللحن له هزج خفيف بالسبابة؛
١٧٢ فطرب الرشيد وقال: لو كنتَ حكمًا الواديَّ ما زدت على هذا الإحسان في هزجك.
١٧٣
ثم غنى حسين بن محرز بلحن صنعه يحيى
١٧٤ المقدم ذكره في هذين البيتين:
هل هيَّجتْك مغاني الحي والدُّورُ
فاشتقتَ إن الغريبَ الدارِ معذورُ
وهل يحُلُّ بنا إذ عيشنا أَنِقٌ
بيضٌ أوانسُ أمثالُ الدُّمى حورُ
ثم غنى:
خمس دسسن إليَّ في لطف
حُورُ العيون نواعم زُهْر
فطرقتهن مع الجريِّ وقد
نام الرقيبُ وحلَّق النسر
الشعر للأحوص، والغناء لمعبد رمل بالسبابة في مجرى البنصر،
١٧٥ فأجاد لكنه لم تظهر له صناعة يسمُو بها إلى مقامات المتقدمين في الغناء،
وكذلك جميع مَن غنى بعده في ذلك اليوم، إلا الزبير بن دَحْمان، فإني وجدت لغنائه موقعًا
حسنًا في النفوس، وكنت أرى الرشيدَ يتمايل طربًا من غنائه إذ غناه:
رضيت الهوى إذ حل بي متخيرا
نديمًا وما غيري له من ينادمه
أعاطيه كأس الصبر بيني وبينه
يُقاسِمُنِيها مرة وأقاسمه
الشعر لبشار بن برد، والغناء له هزج بالوسطى،
١٧٦ ثم غنى:
أسري بِطارقةِ الخيال وما أرى
شيئًا ألذَّ من الخيال الطارق
١٧٧
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل
مذ بِنتِ قلبي كالجناح الخافق
١٧٨
الشعر لجرير والغناء لابن عائشة رمل بالوسطى، ثم غنى:
حيِّيا خَوْلة مني بالسلام
درة البحر ومصباح الظلام
لا يكن وعدُكِ برْقا خُلَّبا
كاذبًا يلمع في عُرْض الغمام
واذكري الوعد الذي واعدتِنا
ليلة النصف من الشهر الحرام
الشعر لأعشى همذان، والغناء لأحمد النصيبي، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول
بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وعروضه من الرمل،
١٧٩ فأجاد في هذا الصوت الإجادة التامة حتى ليس في المغنين مَن يُقاربه بلحن
الثقيل.
ثم تعاقب المغنون على طرح الأصوات في نوباتهم، فلم أستحسن منها إلا صوتًا لعَبَيْثَر،
صنعه في بيتين لابن الدُّمَيْنة:
١٨٠
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا
١٨١
ولحنا واحدا صنعه في شعر وضاح اليمن:
إن الوشاة إذا أتو
كِ تنصحوا ونهوكِ عن
إني تُهيجني إليكِ
حمامتان على فنن
فاسقي خليلك من شرا
ب لم يكدره الدرن
الريح ريح سفرجل
والطعم طعم سُلاف دَن
حتى إذا ظن في نفسه اقتدارًا على الصناعة، وأراد أن يُعارض إسحاق باللحن الذي صنعه
في
شعر العباس بن الأحنف وهو:
لا جزى الله دمع عيني خيرًا
وجزى الله كل خير لساني
كنتُ مثل الكتاب أخفاه طيٌّ
فاستدلوا عليه بالعنوان
سُقِط في يده وقصَّر دون بلوغ المرام. وكان في جملة المغنين رجل أعمى يُقال له أبو
زكار وهو شديد التعصب للغناء القديم، وكان آخر مَن غنى في ذلك اليوم بدأ بلحن صنعه في
هذا البيت:
يا راكب العيس التي
وفدت إلى البلد الحرام
وثنَّى بآخر لإبراهيم الموصلي صنعه في بيتين لعمر بن أبي ربيعة
١٨٢ وهما قوله:
ليت هندًا أنجزتْنا ما تَعِد
وشفتْ أنفسنا مما تجد
واستبدَّتْ مرة واحدة
إنما العاجز مَن لا يستبد
فلم تظهر له بهما صناعة إلى أن تغنَّى بهذه الأبيات:
يا أيها القلب المطيع الهوى
أنَّى اعتراك الطرب النازح
تذكر جُمْلًا فإذا ما نأتْ
طار شَعاعًا قلبك الطامح
هلا تناهيت وكنت امرأ
يزجرك المرشد والناصح
ما لك لا تترك جهل الصبا
وقد علاك الشَمَط الواضح
ولحنها ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى،
١٨٣ فأحسن كل الإحسان في تأدية النغم، كأنه لا تظهر صناعته إلا بغناء ما في
معناه زجر وتذكير من الأبيات.
١٨٤
ولما تولى النهار أومأ الرَّشيد إلى المغنين بأن يحلُّوا صفوفهم، ثم فرق فيهم الجوائز
بقدر أهليتهم من الصناعة، فمن مُصيب ألف دينار ومن مُصيب خمسمائة، ومن مُصيب دون ذلك،
ثم فرق فيمن يتخلل الغناء بضرب المعازف دون ما فرقه على المغنين من المال، فأصاب
الجوائز السنية أربعة منهم وهم: منصور زَلْزل
١٨٥ وكان يضرب على عود من العيدان التي صنعها مُعارِضَةً لعيدان الفرس وهي عجب
من العجب،
١٨٦ وكأنما تزلزل المجالس بحسن نغمها،
١٨٧ وبرصوم الزامر
١٨٨ وهو أحسن الناس زمرًا بنايٍ، كان إذا زمر فيه يُحدث النَّغم الذي يُريده مع
صحة المقاطيع والتقسيمات، حتى كأنه ينطق بين يديه بلسان آدمي، وجعفر الطبال وهو يحسن
التوقيع على الطبل
١٨٩ وكان يضرب بالكوبة
١٩٠ في ذلك اليوم، ورابعهم: الغريض وهو مشهور بضرب العود والتوقيع بالقضيب
والنقر على الدف.
١٩١ ولما انصرف المغنون لم يبقَ في مجلس الخليفة إلا إسحاق النديم، وجعفر،
والفضل من البرامكة، وقد طلع علينا من هواء دِجلة في ذلك الوقت نَسيم طابت النفوس به
انتعاشًا بعد هاجِرَة أصابنا بالنهار حرُّها، حتى إذا رُفعت أستار الطيقان التي تطل على
حدائق القصر وقعت في موضعنا شمس الغروب، وهي ترسل علينا شعاعًا مُتناثرًا كالذهب يهتز
في نواحي المجلس كاهتزاز الغصن الرَّطيب تحت خطرات النسيم؛ حتى كأنَّ القصر يَرقُص بنا
سُرورًا بأهله وعزة مقامهم الرفيع.
هذا ما أذكره لك عن المغنين، وليس هو إلا المحفوظ في ذهني من غنائهم مُجردًا عن بيان
طرائقهم في الأصوات وصناعتهم في وضع النَّغمات؛ لأني لو أخذت في ذلك ما وعتْه الصحف
الكثيرة الواسعة.
١٩٢ وقد وقع تدوين هذه الرسالة في غرة المحرم من السنة الخامسة والثمانين بعد
المائة من الهجرة النبوية المشرفة، على صاحبها أشرف الصلاة وأزكى التحية.