الرسالة السابعة
في ذكر آداب العرب
هذه رسالة إليك أفردها لذكر آداب العرب وعلومهم، فقد طالما شهدتُ مجالسَهم بدار الرَّشيد
في محاورة فقهاء، وحِلَق علماء، ومنادَمة أدباء، ومُناظرة جدليين، ومراواة رواة، ونوب
مغنيين.
١ وذلك من الحظوظ التي لا يتفق مثلُها لغيري من المتصلين بالملوك؛ لأني كنتُ أقرب
الناس مكانًا إلى الرشيد تحت ظل البرامكة، وكنتُ من الحظوة لديه بحيث إذا جلستُ إلى منادمته
عدل عن جلال موضعه من الخلافة، ورجع إلى محاسن المنادَمة من إطلاق النفس على صفاء
الإخوان.
فكان يَعمِد إلى مخدة
٢ يجعلها تحت فخذِه ويمكِّن منها جلوسه، ثم يقول: هلمَّ بحديثك،
٣ وهذا غاية ما يكون من الملوك إذا طابت نفوسهم بمنادمة الجلساء.
وكنتُ إذا انفردتُ بمجلسه دون أحد من المقربين إليه أخرج جواريَه على غير ستارة؛
فيجلسن
مُكلَّلاتٍ بالأزهار،
٤ مُزيَّنات باللؤلؤ والزبرجد
٥ وأفخر أنواع الجوهر، فيُغنين ويضربن بالملاهي إلى هُدْءٍ من الليل، فإذا أتاه
من الحرم
٦ التفاح
٧ المنقوش المطيب
٨ وغيره من الفاكهة وأنواع الحلوى عزم عليَّ أن أجلس إلى طعامه.
٩
وكان يُحب أنْ أُحدثه عن علوم الفرس وصنائعهم؛ لِما طبع الله فيه من الميل إلى الأدب
والتشوق إلى الوقوف على أخبار الماضين من الأمم، ولذلك كانت دولته تزداد خيرًا وصلاحًا،
وينعم فيها العلم روحًا واسترواحًا. حتى إذا أقبل إليه العلماء من جميع الوجوه يَستمطرون
غيث نداه حقق لهم جميل أملهم فيه، وبسط يده لإقطاعهم الضياع العامرة، وصلتهم بالهبات
الوافرة.
وكانت هِمَّة الرشيد مصروفة إلى ترجمة كتب الفلاسفة من يونان وغيرهم، بعد أنْ رأى
جَعفرًا
وزيره يبتاع من صحفهم ما يأمر التراجمة بتعريبه
١٠ ثم يُعطيهم زنة الكتاب المعرَّب ذهبًا؛ لأنَّ سوق العلم نافقة عند البرامكة
١١ — أعزهم الله — وهم الذين استنهضوا همم العلماء إلى تعريب صُحف الأعاجم،
وأشاروا بعمل الكاغد لنسخ أسفارهم، وقد رأوا الرُّقوق التي تستعمل في الصكوك ورسائل
السُّلطان لا تكفيهم في تدوين مُصنفاتهم ومُعرباتهم فرأوا مِن عمل الكاغد
١٢ ذريعة إلى نشر العلم الذي عنوا برفع مناره بحيث لم يدعوا سبيلًا إلى انتفاع
الأمة به إلا سلكوه، وقد أعقبهم هذا المسلك فخرًا تتناقله الألسنة عنهم بطيب الأحدوثة؛
فحسدهم الرشيد على ذلك، وفي نفسه من الميل إلى الأدب والتشوق إلى الاطلاع على كنوز الحكمة
ما قد رأيتَ في كتبي السالفة إليك؛ فأنفَذَ رسله في إحراز الأسفار القديمة، وكتبَ بأشخاص
التراجمة الذين يُحسنون العربية من الروم وغيرهم من أمم النَّصرانية، وتقدم إليهم بتعريبها
إلى اللغة السهلة التي تفهمها العامة وترضى بها الخاصة.
فلما تناول العربُ هذه الأسفارَ مهروا في استخراجها، ووقفوا على أغراض الحكماء منها،
١٣ فرَقُوا من الأدب المقام الذي لم تَرْقَه أمة قبلهم في المشرق، وهذا من الأمور
التي تدل على ذكاء العرب
١٤ ونُبْل الهمة عندهم، وأنهم يبلغون الغاية التي يرومونها من جميع المطالب في
بُرهة يسيرة من الزَّمان، فإنا لا نجد في أخبار الأُمم السَّالفة مَن حاز من أطراف الدُّنيا
مثل ما حازه المسلمون في مثل المدة التي وقعت فيها الفتوح، فقد كان من شأنهم عندما صار
الأمرُ إلى بني أمية أن حازوا أكثر الأقاليم وابتزوا الأعاجم سلطانهم، ووصلوا من الشرق
إلى
السند والهند وتجاوزوا المغرب إلى أبعد من الأندلس شمالًا، وما مثلهم في سُرعة هذه الفتوح
إلا مثلهم في سرعة تحصيل العلوم وبلوغهم من المدنية، على قرب عهدهم بها، ما لم تبلغه
أمم
العلم من قبلهم، فمن الغريب الذي ينطق بما عندهم من الهمة والفطانة أنهم لم يقتصروا من
الحكمة على نقل فلسفة اليونان؛ بل وجدناهم يرمون إلى أغراض من الفلسفة بعيدة، ويضعون
على
قواعد اليونان شرحًا
١٥ أصابوا الرأي بالزِّيادة فيه بعد البحث والتمحيص،
١٦ وذلك غير ما فتحوا من الأبواب الواسعة للنظر في العلوم الرياضية وتحريرها
وإصلاحها، وغير ذلك.
وكان أول عهد العرب بالعلم في خلافة أبي جعفر؛
١٧ لأنه كان يُعزز جانب الحكمة ويبحث عن مكامن العلم للوقوف على آداب الأولين
ويعزم على أهل الكتاب أن يدونوا الأسفار الكثيرة لإذاعة العلوم بين الناس؛ إذ لم يكن
معروفًا عندهم من قبله إلا علم الرواية وأخبار العرب، وعلم الأحكام الشرعية واستنباطها
من
القرآن والحديث، وعلم العروض الذي وضعه الله — تعالى — في صدورهم، وبضاعة مُزجاة من النجامة
وعلم الأفلاك مما اقتبسوه من الفرس والهنود، فلما جاءت هذه الأيام تسحب عليهم أذيال الدعة
والنعيم، بعد أن فرغوا من أعمال الحروب التي وقعت في صدر هذه الدولة؛ وجَّهوا همهم إلى
النظر في فنون الأدب لتجديد ما طُمس من معالم العلم؛ فكتبوا في جميع فروعه وفنونه؛ بحيث
إنَّه لو جُمعت كتب أمة قديمة عهدٍ بالعمران ما وجد ما تحويه من العلم أعظم مما تحويه
كتب
العرب.
وإني أذكر أنَّ الرَّشيد لما ركب إلى الرِّقة في بعضِ أَسفاره حمل معه ثمانية عشر
صندوقًا
من أسفارهم؛
١٨ ليقطع بمطالعتها زمانه مع أنه لم يأخذ منها إلا نُخبة مما في خزائنه، وقد وجدت
في قصر بناه بالقاطول ليخرج إليه للتنزه
١٩ خزانة كتب تحتوي على أكثر من ألف كتاب. وحسبنا ذلك شاهدًا على ما نروم ذكره من
كثرة الصحف التي دوَّنها العرب بين تعريب وتصنيف.
الطب والأطباء
كان أبو جعفر — غفر الله له — يُوجِّه عنايته إلى علم الطب من بين العلوم؛ فبنى
لتَعليمه حلقة كبيرة فوَّض أمرها إلى طبيب أعْجمي يُقال له «فرات بن شحتانا» وهو من
تلاميذ تياذوق،
٢٠ الذي كان طبيبًا بدار الحَجَّاج أمير العراق، فتخرج عليه طائفة من النَّصارى
٢١ دون المسلمين، ولستُ أحسب السبب في إعراضهم عن هذا العلم إلا ظنهم كفاية ما
لديهم من المجرَّبات التي توارثوها من مشيخة الحي، وعدم حاجتهم إلى مثل هذه الصناعة في
كسب الرِّزق، وترفعهم عنها كغيرها أنفة. وذلك خطأ عليهم شَيْنه وخسرانه، إذ قد خلت منهم
في دور الخِلافة مراتب أُسنِدت إلى أطباء النَّصرانية؛ فبرعوا عليهم في هذا العلم
وعرَّبوا كتب جالينوس وأبقراط من حكماء اليونان، وأضافوا إليها كثيرًا مما عرفوه من علم
الحيوان بعد وقوفهم على مقالات أرسيخاس
٢٢ وديمقراطيس
٢٣ وغيرهما من العُلماء الذين يُرْجَع إلى كلامهم في طبائع الحيوان وخواصه
ومنافع النبات ومضاره.
ولقد كان مُظْهِرَ الطب في النصرانية رجل يُقال له ماسويه أبو حنَّا، وكان أميًّا
لا
يعرف القراءة، إلا أنه تلقى الطب من أفواه اليونان، وطالت به المرانة له والتجربة فيه
إلى أن بلغ منه المكان الذي لا يدفع، وكان له ولدان يُقال لهما يحيى ويوحنا؛ فتخرجا
عليه في علمه ومعهما ثالث يُقال له جبريل بن يختيشوع فبرعوه في شفاء الأمراض.
فأما يوحنا: فإنَّه صارَ طبيبًا بدار الخلافة، ودوَّن رسالة طويلة أودعها ما عرض
له
من التجربة في مُعالجة أهل السقام، واتخذ مجلسًا أفرده للنظر في استنباط طرق العلاج
باجتماع الرأي مع غيره من الأطباء، وكان الرَّشيد قد ولَّاه ترجمة الكتب
٢٤ التي وصلت إليه من مدوَّنات الأطباء والحكماء مثل: أبقراط، وجالينوس
وغيرهما، فأحسن تعريبها كل الإحسان مع ما وجد فيها من الصعوبة التي نال منها مَشقَّة
عظيمة.
وذلك بخلاف الكتب التي عُرِّبت في خلافة المهدي وأبي جعفر فإنها لم تكن جديرة بالثقة
بها ولا الالتفات إليها؛ إذ كانت عارية من القواعد التي وضعها الحكماء، وليست تحوي سوى
طرق من العلاج أشار بها ضُعفاء العقول من الأطباء، وكانت إلى الجهل والخرافة أقرب منها
إلى العلم والحقيقة، فلم يجد التراجمة في تعريبها عناء يجهد النفس.
أما الكتب التي عربها ابن ماسويه؛ فإنها من أصح ما صدرت به أقلام اليونان
وأنْفَسه.
وأمَّا جبريلُ بن بختيشوع فإنه تبحَّر في جميع العلوم الداخلة في علم الطب، وكتب
في
حياة الحيوان رسائل
٢٥ تدل على سعة اطلاعه، وكان جعفر
٢٦ — أعزه الله — شديد الحب له والاحتفاظ به؛ حرصًا على ما وسع صدره من
العلوم، فقربه الرَّشيد إليه برأي البرامكة، واتخذه في دور الخلافة بدل صالح الهندي
الذي كان مقدَّمًا
٢٧ مِن قَبْله على أطباء بغداد، فلما صار إلى هذا المقام الجليل ورأى الناسَ
يرجعون إلى رأيه فيما يُشير به من هذا العلم حملهم على الإعراض عن الدجالين، وهم الشيوخ
الذين بعدت المهابة عنهم ودلَّ ما بلغوه من الشيخوخة على بلوغ الخَرَف منهم فيزعمون
أنهم يَطُبُّون الناس بالمواعظ؛
٢٨ ليملكوا أفئدة العلوم بما لا فائدة فيه من الخرافة، فوفق بعلمه إلى بلوغ
الغاية التي رامها من قطع السبيل عنهم دون الارتزاق بهذه الجهالة التي تُميت الأذهان
الضعيفة.
ويأتي بعد جبريل بن بختيشوع ويوحنا بن ماسويه طبقة ثانية من الأطباء، كلهم من أمة
النصرانية إلا عيسى أبا قريش الصيدلاني، وليس هو بطبيب ماهر ولكنَّه رُزق الشهرة بين
الناس عن اتفاق وقع له بأن بشَّر الخيزُران في خلافة أبي جعفر بأنها تحمل مولودًا ذكرًا
يصير إليه أمر الأمة، فلما ولدت وكان ما ولدته غلامًا أفرغت النعمة عليه واتخذته طبيبًا
في دار الخلافة،
٢٩ وقد سمعت من يقول: إن الخيزران إنما قربته لمهارته في الحجامة لا في الطب،
فإن صحت الرواية كان عندي أحق بالثقة به حجَّامًا منه بالثقة به طبيبًا؛ إذا لست أثق
من
الطب إلا بما يحفظ الصحة للصحيح، أمَّا وسائل العلاج التي يزعمون أنها تبعد العلة عن
العليل بعد تمكنها منه؛ فما أنا من الثقة بها على شيء؛ لأني أحسبها من باب الغوص على
أسرار الطبيعة، وطالما وجدت للأطباء في العلة الواحدة آراء متباينة، ومن المعروف عند
العقل أن الخلاف في الأمر الواحد لا يُطابِق الحقَّ فيه إلا وجهٌ واحد، أما الحجامة
فإنها على خلاف ذلك، والرأي فيها واحد يقضي بحذف الجزء الفاسد وفصله، وإني وإن كنت على
بُعدٍ من الطب لا أجد بدًّا من الإقرار بفضل العرب فيما استنبطوه من العلاج وما عرفوه
من مرُكبات العقاقير التي لم يَسبِق إليها أحد من المتقدمين ولا المتأخرين، ولا غَرْوَ
فإن للطب صناعةً لا تبلغ الغاية منها إلا على طول التجربة والاختبار في المرانة
والممارسة؛ ولذلك كان المتأخرون يَفضُلون فيها المتقدمين في كل عصر وأمة، وقد قال عليٌّ
— عليه السلام:
٣٠
ألا لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبُلْغة
وإرشاد أستاذ وطول زمان
النجامة وعلم الأفلاك
لقد سبق الإلماع إلى ذكر النِّجامة وأنَّها من العلوم التي كانت معروفة قِدمًا عند
العرب، غير أن الاجتهاد فيها كان محصورًا في نفر قليل من أتباع الأقيال الذين تداولوا
ملكهم قبل الإسلام، فلما جاء أبو جعفر قرَّب إليه المنجمين وقدَّم عليهم نوبخت
٣١ المنجم المشهور عندنا بين أعاظم المجوس وفضلائهم، ومَن له كبير علم وجزيل
فضل، فاتخذ في الزوراء حلقة شهدها كثير من الناس، إلا أنه لم يخلفه في علمه كالموصلي
المنجم، فإنه كتب في الأصطرلاب سِفرًا أودعه من علم الكواكب وسيرها وحركاتها أصولًا
يُعيرها العلماء جانب الثقة والاعتبار، ويرجعون إليها في علم النجامة والأفلاك.
ثم نجم بعده في المسلمين علي بن عيسى الأصطرلابي،
٣٢ وإبراهيم الفزاري المنجم، ومَهَرَا في استخرج النجامة من كتب الفرس، وقد
عثرت في خزائن البرامكة — أيد الله دولتهم — على أرجوزة في علم الأفلاك وهيئتها
نَظَمَها إبراهيم هذا المنجم
٣٣ فجاءت ناطقة بحسن نظره، ولطيف مأخذه وجليل موضعه من هذا العلم، وله كتاب
مشهُور في الزيج ذكر فيه من غير حركات الكواكب جوامع من مساحات الممالك والبلدان أذكر
مما قيده في أقاليم الإسلام أن عمل أمير المؤمنين من فرغانة وأقصى خراسان إلى طنجة
بالمغرب ٣٨٠٠ فرسخ، والعرض من باب الأبواب إلى جُدَّة ٦٠٠ فرسخ، ومن الباب إلى بغداد
٣٠٠، ومن مكة إلى جدة ٣٢ ميلًا،
٣٤ وعمل الأندلس لعبد الرحمن بن معاوية ٣٠٠ فرسخ، وعمل إدريس ١٢٠٠ في ١٢٠
فرسخًا، وعمل فاس لأبي المنتصر ٤٠٠ فرسخ في ٨٠ فرسخًا.
٣٥ ثم نبغ بعدهما تيوفيل بن توما الرهاوي
٣٦ وكان المقدم على جميع المنجمين في خلافة المهدي — رحمه الله، وكانت له
معرفة تامة باليونانية حتى سما إلى ترجمة كتاب شاعر يقال له أميروس عن فتح مدينة إيليون
في العُصُر الخالية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة،
٣٧ وأميروس هذا شاعر مجيد كان يغترف المعاني من بحار التصور ويبرزها في الصورة
التي يعجز عن مثلها الشعراء؛ فوقف نظمه بين الحكمة والإجادة مَوقفًا لا يَسمو إلى
مُتناوله إلا العقول النَّيِّرة والأذهان الثاقبة، وقد أثنى عليه أرسطو
٣٨ في كتاب بمديح يرفعه إلى أسمى مقامات العقول.
أما المنجمون في هذه الأيام فهم اثنان مشهوران: ما شاء الله اليهودي، وأحمد بن محمد
النهاوندي، ودونهما في الشهرة ثالث يُقال له محمد بن موسى
٣٩ المنجم.
فأما ما شاء الله فيقال إن له حظًّا في علم الغيب،
٤٠ وكان في جملة المنجمين الذين اتصلوا بأبي جعفر بعد نوبخت وكسبوا الإنعامات
منه، وهو اليوم بدار الترجمة آخذٌ عن أمرِ الرَّشيد بتعريب الكتب التي تبحث في علم
الأفلاك، وأما أحمد النهاوندي فإنه في الموضع الأجلِّ من علم الرصد ألَّف فيه كتابًا
سماه المستمال، وأودعه من تحقيق النظر وتعميق الفكر فيما عرض له من أمور الفلك بما رصد
في مدينة جُنديسابور ما لم يَسبِق إليه أحدٌ من المنجمين، ودوَّن في الموازنة بين علوم
الفرس والهند واليونان فيما عرفوه من النَّجامة وسلكوا طريقته إلى آخر زمانهم كتابًا
آخر صَوَّر فيه الدُّنيا كلها للرشيد ببحورها وجبالها وأوديتها وأقاليمها وبلدانها
وسائر أماكنها، وجعل الدرجة خمسة وعشرين فرسخًا والفرسخ اثني عشر ألف ذراع والذراع
اثنتين وأربعين إصبعًا، والأصبع ست حبات وتسعين مصفوفات بعضُها إلى بعض،
٤١ وهذا مما يحتاج إلى دقة النظر في معرفة عرض الأرض وطولها ومناسبة الأقاليم
فيما بينها وغير ذلك.
وقد أهدى إليَّ هذا المنجم نسخة مصورة من كتاب المستمال في السنة الرابعة والثمانين
بعد المائة من الهجرة، ولكنه أخبرني أنه لم يرسله بين الناس لما يحتاج إليه من المراجعة
والإصلاح بسبب ما يعرض له من أمور الفلك الذي يباشر رصده في هذا الوقت.
ولقد مضى في كلامنا عن الطب أن النصارى برعوا فيه على المسلمين، وكذلك نقول في هذا
الباب: إن الفرس برعوا في النجامة على العرب؛ لأني رأيت هؤلاء يتجافَوْن عنها ويعدونها
هي والسحر
٤٢ الذي ينهى الشرع عنه علمًا واحدًا، بخلاف جماعتنا من الفرس فإنهم يوجهون
عنايتهم إلى العُلا في مباحثهم ومناظراتهم؛ ولذلك تجد انصبابهم إلى الرَّصد وما يُنبئ
عنه من إشارات النجوم والكواكب أعظم من انصبابهم إلى ما سواه من العلوم.
وكان المقرِّبَ لهم في الإسلام أبو جعفر المنصور
٤٣ كما ذكرت ذلك في مواضع من الكتاب؛ لأجل أن يطلعوه على طوارئ الجو وحدوث
الأنواء وانتقال الشمس والقمر والكواكب في بروجها وينبئوه عن جدب الأرض وخصبها؛ لما
يكون من معرفة ذلك قبل أوانِه من المنفعة العَظيمة للملوك، ثم قرَّبهم البرامكة —
أكرمهم الله بأكرم الكرامات — لاستشارة الأصطرلاب
٤٤ في جلوسهم وركوبهم وما يباشرون من جميع الأعمال؛ ولينظروا في النجوم
ويدركوا علم الأبعاد ويوقعوا زمن الكسوف،
٤٥ وعقدوا لهم مجلسًا يتناظرون فيه؛ لتحقيق ما يستنبطونه من حركات الكواكب
المتحركة والمتحيِّزة وأسبابها بطرق هندسية، وما يَرَوْن من الأفلاك التي تختص بالكواكب
الثابتة وغير ذلك، وتقدموا إلى مَن له علم بالنجامة أن يُعرِّب كتاب المَجَسْطِي
لبطليموس من حكماء يونان، واتخذوا آلة للرصد تعرف بذات الحلق،
٤٦ فكان يجتمع عليها المنجمون وفيهم جماعة من أدباء العرب الذين لم يشاركونا
في هذا العلم إلا بما يلتمسون من معرفة الأيام والشهور والسنين من طريق حركة كل كوكب،
وهو الفرع الذي يُسمونه بعلم الأزياج.
٤٧
الحديث وعلوم الشرع
الحديث هو العلم الذي هَوَتْ إليه أفئدة المسلمين، وكان شأن العرب فيه في صدر الإسلام
أن يرحلوا من بلد إلى بلد؛ ليسمعوه من الصحابة ثم من التابعين ثم ممن سمع من التابعين
من غير أن يُدوِّنوه في الصحف، فلما أسرع الموت في العلماء وكانوا كلهم شيوخًا، فزع أهل
العلم إلى الطروس وأخذوا يُدوِّنون
٤٨ الحديث مثل ما وجدوه في الناس محفوظًا بطريق الإسناد، ولكن من غير أن
ينظروا في الرواية النظر الجلي، ولا أن يعتمدوا في النقد الأصل المرعي؛ فكتب ابن جريج
بمكة،
٤٩ ومالك بن أنس بالمدينة، ومَعْمَر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وهشيم بن بشير
٥٠ بالعراق، والأوزاعي ببيروت
٥١ من ساحل الشام، وحماد بن سلمة وشعبة بن الحجاج وابن أبي عَرُوبة بالبصرة،
وذلك كله في خلافة أبي جعفر
٥٢ — رحمه الله، وكان أصحَّهم حديثًا عن رسول الله
ﷺ مالكُ بن أنس وهو
رأس المحدثين،
٥٣ رأيته إذا أراد أن يُحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في
جلوسه بوقار وهيبة ثم حدَّث، فقلت له في ذلك، فقال: أُحب أن أُعظِّم حديث رسول الله
ﷺ ولا أُحدث به إلا مُتمكنًا على طهارة، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائمًا
أو مُستعجلًا، ويقول: أُحب أن أَتفهَّم ما أُحدث به عن الرسول
ﷺ.
ثم إنه لما جاء هذا العصر والناس مطلعون على حكمة الفرس واليونان وما في أنواعها
من
الخروج عن الملة، أخذ الأئمة في وضع علم الكلام صيانة للدين أنْ تُخالطه البدع ويقع فيه
التخالف، ثم أخذوا في تمييز المحفوظ من الحديث كله لمعرفة الصحيح من الفاسد الموضوع،
وكان أول من أخذ في ذلك فقيه الإسلام أبو يوسف، وكان من عِلْية أهل الحديث وهو الذي آخذ
الناقلين بأغلاطهم
٥٤ ونبذ الموضوع من أحاديثهم، وكان يقول: اثنان لا يَسلمان من اثنين، مَن
طَلَب النجوم لم يسلم من الفقر، ومَن طلب غرائب الحديث لم يسلم من الكذب،
٥٥ ثم أخذ أخذه العُلماء المجتهدون من بعده، ومنهم أبو إسحاق الفزاري وعبد
الله بن المبارك وهما أشهر الأئمة لأيامنا هذه، والرشيد لا يسمع الحديث إلا عنهما، ولا
يلتمس الرد على الزنادقة إلا منهما فكان إذا آخذ على الزندقة جماعة يقولون له وهو
يضربهم الحدود: أين أنت يا أمير المؤمنين من ألف حديث وضعناها عن النبي
ﷺ ما
فيها حرف نطق به؟ فيقول لهم: وأين أنتم يا أعداء الله من أبي إسحاق وابن المبارك
ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا.
٥٦
ولقد أخبرني هذان الإمامان أنهما يؤلفان في فقه الدين وعلم الكلام رسائل يذكران فيها
مذاهب الأئمة، ثم يتطرقان منها إلى الرد على الذين يقولون بخلق القرآن ويزعمون أنه يحوي
غير العربي الفصيح من الكلام، وهذان المذهبان
٥٧ فاشيان اليوم بين الناس، والأول منهما أشد خطرًا على الإسلام؛ لأنَّ زعم
الخروج عن اللغة ضعيف الحجة واهي الدعامة بما يُعلم عن العرب أنهم خالطوا الأمم في
تجاراتهم وأسفارهم وعلقوا من لغاتهم ألفاظًا استعملوها في أشعارهم ومحاوراتهم حتى جرت
مجرى العربي الفصيح، فما ورد في القرآن من الألفاظ الأعجمية إنما دخل في العربية
الفُصحى بطريق الاستعمال والتعليق،
٥٨ بحيث إنه لا يكاد يُرى فيه من هذه الألفاظ ما لم يرد في شعر البلغاء من
الجاهليين، وفي هذا القدر كفاية للرد على هؤلاء المفترين فيما يزعمون. أما الذين يذهبون
إلى أن القرآن مخلوق فللعُلماء من أهل الاجتهاد حجج قامعة لافترائهم على الله، مخمدة
لنار الفتنة التي كمنت طي مذهبهم، وهذا من الأمور التي ينبغي أن ينظر فيها الأولياء
بعين الحذر؛ لأنَّ الفتنة لا تُؤمن غائلتها بعد فساد الدين، ويكون آخر أمرها بوارًا على
الدولة ومدعاة لسقوط العرب الذين ما فتحوا البلدان وحازوا سلطان الأعاجم إلا بنخوة
الدين وفتوَّة الإسلام.
ولقد عثرت في مدونات الفقه على كتب جليلة أجلها كتاب لأبي حنيفة في الكلام
٥٩ اسمه الفقه الأكبر، وله في هذا العلم الشأو الذي لا يُدرك، وكتاب لمالك بن
أنس سماه الموطأ، وذهب في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والحديث إلى مذهب ينفرد
به
عن مذهب أبي حنيفة، وهو الكتاب الذي يقرؤه الرَّشيد، ويحفظه في صدره
٦٠ تفضيلًا له على غيره من كُتب الفقه. وعثرتُ أيضًا على كثير مما دوَّنه
العلماء فيما يُشْتَق عن الفقه من علوم الأحكام، منها لأبي حنيفة وأبي يوسف — رحمهما
الله — ومنها لابن شُبْرُمة وابن أبي ليلى،
٦١ وقد أفردا نظرهما في علم الفرائض، ومنها كتاب لفتًى يُقال له يحيى بن أكثم
جمع فيه ما استحسن من آراء أصحاب المذاهب، وهو الكتاب الذي أصبو إلى مطالعته من بين هذه
الصحف الشرعية؛ لأني وجدت قِبَلَ صاحبه من قوة الفطنة
٦٢ وصدق الحَدْس ما يؤكد لي أنه إن مُدَّ له في العمر سيُبْهِر
الفقهاء.
أما الكتب التي وقفت عليها في علوم الحديث فإنها أكثر من أن يأخذها الإحصاء،
٦٣ غير أنَّ الإفادة منها كانت محصورة فيما جمعه كبار العلماء، وبقي أن جملة
ما في غير كتبهم مراجعة وإعادة لما سبقوا إلى تدوينه، فكان أنفع للعلم لو صرف الباقون
عنايتهم إلى النظر في غير ذلك من العلوم، ولم يضيعوا العمر في نقل ما سبقهم إليه
العلماء.
في تدوين اللغة
أما اللغةُ فإنَّ العُلماء قد وضعوا قواعدها على أصول وقفت عندها الغاية في الإصلاح
وتدقيق النظر؛ لأنَّه قد سبق اهتمامُهم بها اهتمامَهم بما سواها من العلم اضطرارًا إلى
تفسير القرآن، إذ كانت الكتابة مجهولة عندهم في صدر الإسلام، ولم يكن يكتب بالعربية غير
بضعة عشر إنسانًا،
٦٤ وكانت ألفاظ العرب بعضها محفوظ في صدور الرجال، وكثيرها ضائع بين الرمال،
فبادروا إلى التقاطها من البادية، يطرقون مَنازل أهلها ويشهدون محاوراتهم ويتتبعون
آثارهم ويَستنطقون أطلال دِيارهم، حتى وقفوا على ما كان متفرقًا من لغاتهم، وقيدوها في
الصحف بطريق الرواية والإسناد.
وكانت حروف الكتابة في أول الأمر موضوعة بغير علامات
٦٥ وظل الناس يقرءون في مُصحف عثمان وهو بتلك الكتابة نحوًا من أربعين سنة حتى
كثر التصحيف؛ لوجود الحروف المتشابهة.
٦٦ وما أستغربُ أن يقرأ بعض الناس: «وما يجحد بآياتنا إلا كل جبار» والأصلُ:
«ختار»، و«عذابي أصيب به من أساء» والأصل «أشاء»، و«هم أحسن أثاثا وزيا» والأصل
«ورئيا»، «والذين كفروا في غِرة وشقاق» والأصل «في عِزة»، إلى غير ذلك؛ فوكل عبد الملك
بن مروان إلى نصر بن عاصم أن يضع علامات لهذه الحروف المتشابهة فوضعها لها أفرادًا
وأزواجًا فتميز بعضها عن بعض، ومُحي التصحيف في القراءة.
وضبط اللغة كان لما يحتاج إليه العلماء من حفظ الحديث وتفسير القرآن الكريم بما
دوَّنوه من لسان قريش وغيرهم.
وأول من دوَّن اللغة مجموعة في كتاب واحد الخليل بن أحمد الذي قدَّمت لك في الكلام
على البصرة ذكره، وقد ضمن كتابه
٦٧ أصول اللسان العربي، وقيَّد ألفاظه في مواضعها في الاشتقاق إلَّا ما كان
دخيلًا عليه من كلام الأعاجم، فإنه اكتفى من ذكره بالإشارة إلى عجميته، وأسند روايته
في
ذلك كله إلى أكابر الحفاظ، ولذلك صار قوله حُجَّة يُرجع إليها، ثم دونها بعده كثير من
العلماء منهم أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي مؤدِّب الأمين والمأمون
٦٨ من أولاد الرشيد، ومنهم سيبويه
٦٩ والفَرَّاء والأخفش وعِلْمُهم النحو فقط إلا الفرَّاء فإنه كثير الفضل على
العربية بضبطها وتخليصها،
٧٠ وقد بلغتني جلالته في العلم ولكن لم يجمعني وإياه مجلس إلى هذا اليوم،
٧١ ومنهم أبو عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى البصري، وقد وقع إليَّ كتاب له في
فقه اللغة لتعليم الرشيد
٧٢ قبل تشرفي بتأديبه، وقد أودعه كلامَ العرب وقيود لغتهم وذكر المترادفات
التي وردت لهم في جميع الأسماء والأفعال والأوصاف مُشيرًا إلى صحة استعمالها في مواضعها
من الكِتابة، وأتى على مُتابعة الألفاظ التي تصف الأشياء على ازدياد في معناها أو نقصٍ
يبعدها عن الكتابة.
وهذا الكتاب يفتقر إليه كل كاتب من أبناء العرب الذين ينزلون الأمصار، وينقطعون عن
أهل البادية الذين يحافظون على قوام اللسان العربي؛
٧٣ لأني قد وجدتُ مباينة بين كلام العرب واصطلاحات المتمصرين حتى تكون اللغة
عند هؤلاء غير اللغة عند أولئك، فأمَّا إذ انقسمت قسمين فيكون القسم البدوي هو الحافظ
لمحاسن اللغة التي كان ينطق بها البلغاء والشعراء، ويكون القسم الحضري قطعة من كلام
العرب يُخالطها كلام السُّوقة
٧٤ وألفاظ المعرِّبين فيما ينقلونه من كلام الفرس واليونان؛ مما لا نجد له
مُسمًّى في لسان العرب؛ لأنَّ لُغتهم إنما وضعت للبادية حيث لا تكون هذه الأشياء التي
نجدُ أسماءها في كتب الأعاجم، كما أن في لغات الأمصار إضرابًا عن تسمية الأشياء التي
لا
توجد إلا في بادية العرب.
ثم إني وجدت عند أهل اللغة قصورًا تسامحوا فيه وتغاضَوْا عنه؛ وذلك أنهم عندما يصرفون
الكلام يسردون لغة القبائل فيه من غير أن يُشيروا إلى ما كانت تختلف فيه لغة قوم عن
آخرين، ولقد ذكروا للأسد نحو ألف اسم، ولكن من غير أن يذكروا الاسم أو الأسماء التي
كانت تُسميه بها عرب كذا وكذا، وذكروا للبعير والحية وسائر الحيوانات والأشياء والأوصاف
مثل ذلك مع إغفالهم ما نحنُ نُؤاخذهم به، حتى لقد نجد في تصريف الأسماء إلى ما يشتق
منها من المعاني مُضادة أغلفوا ذكر استعمالها بين العشائر كاستعمالهم وثب بمعنى جلس
وطفر، وذلك من الأضداد التي لا أظنُّ أنها تجتمع في كلمة واحدة عند قوم من العرب، فإن
الوثوب بمعنى الجلوس في لغة حمير، وبمعنى الطفر في لغة قريش.
٧٥ إلى غير ذلك.
٧٦
الشعر في البداوة
العَروض علم وضعه الله — سبحانه — في صدور العرب؛ حتى لا يوجد أحدٌ منهم إلا وهو
يَقْدِرُ على قول الشعر طبعًا رُكِّبَ فيهم قلَّ القول أو كثر،
٧٧ وكان أهل الجاهلية ينطقون به عن بلاغة لا يقصدون بها إلا المفاخرة بين
الأقران كما سمعت الأصمعي يقول: «الشعرُ جزل من كلام العرب، تُقام به المجالس وتستنجح
به الحوائج، وتشفى به السخائم.» بخلاف ما نجده في شُعراء هذا الزَّمان؛ فإنَّهم يغصبون
أنفسهم على الإنشاد بما يستميحون الملوك من الأرفاد.
وعندي أنه كلما تباعدت أجيال الأعراب، وامتزجت بهم الأغراب، وتجافوا عن سُكنى البادية
إلى حيث لا يكون لهم مجالس للمُناشدة كدأبهم في سوق مَجَنَّة وسوق عُكاظ وسوق ذي المجاز
٧٨ فقدوا كثيرًا من بَلاغة الشعر، وضاق مذهبهم به على اتساع الحضارة فيهم إلى
أن يكلِّفوا طبيعتهم شيئًا لا يقدرون عليه، فيقولون البيت ويُحكِّكونه أيامًا.
٧٩
وإنما سهَّل على المتقدِّمين الإجادة في هذا الفن أنَّ شاعرهم كان ينفرد بمذهب واحد
من المذاهب المعروفة عندهم بين فخر ونسيب، ومدح وهجاء؛ من غيرِ أنْ يكونَ نابغة فيما
سواه، ثم إنَّ كلام العرب
٨٠ كانَ سائرًا في أيامهم على الألسِنة؛ فلم يُعانوا إلى البَلاغة تَكلُّفًا
٨١ فيما قصدوا من المذاهب التي كانوا يُفردون فيها القول بطرائق انقطعوا إليها
وكانوا بها موصوفين، كاسترسال امرئ القيس في ملاذِّ الشبابِ بحيث أتى في نعت محاسن
النِّساء بما ليس لقولِ غيره موقع مثله من القلوب، وإنْ هو إلا أرقُّ المتغزلين حيث
يقول:
أفاطمُ مهلًا بعضَ هذا التدلُّلِ
وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأَجملي
أغرَّك مني أنَّ حُبَّك قاتلي
وأنَّك مهما تأمري القلبَ يفعل؟
وكجِدِّ عنترة بن شداد في الفروسية إذ أتى في الحماسة
٨٢ بما لم يأت به أحد مثله كقوله:
لو سابقتْني المنايا وهي طالبة
قبضَ النفوس أتاني قبلها السبق
وكفتح حاتم الطائي يده في سعة العطاء بحيث إنه يتهلل بذكر السماحة والمكرمات في جميع
شعره، ويقول:
٨٣
أماوِيَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائح
ويبقى من المال الأحاديثُ والذكر
أماويَّ إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء لديَّ ولا خمر
تَرَيْ أنَّ ما انفقتُ لم يك ضائري
وأنَّ يَدِي مما بخلتُ به صفر
وكارتفاع السموأل بن عادياء في درجات المحاسن الشريفة بحيثُ إنَّه أتى من ذكر الوفاء
والمفاخرة به بما يرفعه أسمى طبقات الشعر، وهو الذي يقول:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عِرْضه
فكل رداء يرتديه جميل
تعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدُنا
فقلت لها: إنَّ الكرام قليل
وما مات منا سيدٌ حتفَ أنفِه
ولا طُلَّ يومًا حيث كان قتيل
وكانقطاع أُمية بن أبي الصلت إلى العِبادة بحيثُ إنه أتى في ذكر أحوال الآخرة بما
لم
يُشاركه فيه مُتقدِّم ولا مُتأخر
٨٤ وإن قوله:
يوشك من فَرَّ من منيَّته
في بعض غرَّاته يوافقها
من لم يمت عَبْطة يمت هَرَمًا
للموت كأس والمرء ذائقها
لأحكم ما قالتْه العرب في وصف الموت،
٨٥ إلى غير ذلك مما لا يتسع له المجال؛ فنقف منه عند هذا الحد.
وقد انتهت بلاغة الشعر إلى المعلقات السبع؛ وهي أصدق شاهد على فضل المتقدمين، بما
قصدوا من انسجام القول ونعت ضروب الوجدان التي تدلُّ على أنفة النفس وعلو الهمة على
غير
تكلف البلاغة، بما نعلم من إنشادهم إياها ارتجالًا بين العشائر فإنَّ الحارث بن حِلِّزة
لما أنشد عمرو بن هِنْدٍ مُعلقته توكَّأ على قوسه وأنشدها، واقتُطم كفه وهو لا يشعر من
الغضب حتى فرغ منها،
٨٦ فيظهر من ذلك أنَّه كان لهم في الشعر شأن ضاع من المحدَثين سرُّه؛ لانقلابه
فيهم من الطبيعة إلى الصناعة؛ لأنَّ العربَ كانوا شُعراء جميعًا، وكلهم يرتجز في حرب
أو
استجداء أو مُفاخرة،
٨٧ وكانت الحكمةُ سائرة على ألسنتهم كما شهد لهم النبي
ﷺ بذلك حتى إذا
أنشدوه قول طرفة من أصحاب المعلقات:
ستُبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد
قال: «هذا من كلام النبوة.»
٨٨
ثم إنَّ النساء كُنَّ يقُلن الشِّعر أيضًا في أيامهم، حتى إنَّ بعضهن قد فَضلْن
كثيرًا من الرِّجال مثل ليلى والخنساء وكلتاهما شاعرة فصيحة، ولقد وجدتُ من كلام ليلى
في وصف الشَّجَاعة ضُروبًا من الإبداع كقولها:
٨٩
مهفهف الكشح والسربال منخرق
عنه القميص لسير الليل محتقر
لا يأمن الناس مُمساه ومُصبحه
في كل فجٍّ وإن لم يغزُ يُنتظر
ووجدت في تأبين الخنساء لصخر توجُّعًا كثيرًا بالبكاء عليه حيث تقول:
يُذكِّرني طلوع الشمس صخرًا
وأذكره لكل مغيب شمس
ولولا كثرةُ الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وما يبكونَ مثل أخي ولكن
أُعزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
وتقول في رثائه وهي تصفُ محاسنه:
إذا القوم مدُّوا بأيديهمُ
إلى المجد مدَّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهمُ
من المجد ثم مضى مُصعِدا
وتقول، وهو أفخر بيت قالته العرب:
وإن صخرا لتأتمُّ الهُداةُ به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ
ولها من أمثال هذا الكلام شيء كثير
٩٠ يرفعها إلى مُساماة البلغاء من الرجال.
وقد أجاد المتقدمون في براعة الاستهلال إلى حيث يقف حد البلاغة، وهم يصفون الركبان
والطيف، ويذكرون ربوع الأحباب وتعفية الرياح رُسومها ومُخاطبتهم إياها فيما مضى لهم من
عهود الأنس، ويصفون ألم الفِراق، ووحشة الديار، وما يخالج قلوبهم من الصبابة في وقوفهم
بالعِيس على أطلال الدِّيار
٩١ إلى أن يتخلصوا من هذا الاستهلال إلى ما يرون إنشاده فيما يأخذون به من
المذاهب، ولكن على انحطاط يقع فيه الكثير بعد بلاغة الابتداء، إلا الذين يتوسطون
بالبَلاغة في مطلعهم فيستمرون إلى آخر بيت على استواء، أو الذين يعلون علوًّا حسنًا ثم
لا يزالون صاعدين في بلاغة تُعجِز الفصحاء، ولكنهم نفر قليل مثل: امرئ القيس، وزُهير
بن
أبي سُلْمى، والنابغة الذبياني؛ وهم المقدمون على جميع الشعراء، وموضعهم من البلاغة
واحد،
٩٢ إلا أنه غلب على ذي القروح التجمل بالمعاني وبديع الوصف، وعلى النابغة
الاسترسال في البراعة، وعلى زُهير العناية بتقويم الألفاظ. وقد سمعتُ الأصمعيَّ يقول
—
وقد سئل: مَنْ أشعر العرب الذين شَرَّق شعرهم وغرَّب؟ — فقال: «زُهير إذا رغِب،
والنابعة إذا رهِب، وامرؤ القيس إذا طرِب، وعنترة إذا ركِب، والأعشى إذا شرِب.»
٩٣ ولئن يكن في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض عسر لا يُؤمن معه الزَّلل ما أنا
براءٍ في أبياتهم ما يسمو إلى كلام النَّابغة في الفخر حيثُ يقول:
٩٤
ولا عيبَ فيهم غير أنَّ سيوفهم
بِهِنَّ فُلولٌ من قِراع الكتائب
ولا إلى براعة زُهير في المديح، وقد ألقى عن المادحين فضول الكلام بقوله:
٩٥
وإن يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبلُ
ولا إلى جمال الوصف الذي نظمه امرؤ القيس في معلقته نظم اللآلئ في شذور الذهب؛ فقد
لا
تحضر البُلغاء أنفسهم عباراتٌ يفصِحون بها عن محاسن كلامه الذي ذهب مذهب المعجزات،
فإنَّ العرب لم ينفكوا عن الإعجاب بها وهي مُعَلَّقة في الكعبة إلى أنْ ظهر الإسلام،
وذهبت فصاحة الشعر بما نزل من كلام الله — تعالى — على سيد ولد آدم سيدنا محمد ﷺ.
وأمَّا الذين دون طبقة هؤلاء من الجاهليين؛ فإنَّ لهم من محاسن الشعر مَوضعًا لا
يتعدَّونه إلى التصرف في المذاهب الواسعة كانفراد أبي داود بوصف الخليل، وعلقمة بوصف
الوحش، وأوس بن حَجَر بوصف الخمر إلى غير ذلك،
٩٦ وليس فيهم أقرب إلى طبقة الثلاثة المتقدمين من الأعشى بن جندل الأسدي؛
٩٧ فإنَّ له أبياتًا حِسانًا، ذكر منها هذا البيت الذي هو أشجع بيت قالتْه
العرب:
قالوا الطعانُ فقلنا تلك عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نُزلُ
ولكني وجدته إذا تعالى في شعره كثيرًا لم يُؤمن وقوعه في الانحطاط،
٩٨ ورُبما أتى مِنَ الألفاظ بالغريب الذي يبعد عن الأذهان، وهذا شيء يصحُّ أن
نعيبه عليه وعلى غيره من الجاهليين، وإنْ كان بعضُ الناسِ يجدون له مخرجًا إلى السلامة
من العيبِ إذ يجوزون للمُتقدمين ما لا يجوزونه للمُتأخرين.
الشعر في الحضارة
ولقد وجدت في شعر الإسلاميين المتقدمين عُلوًّا كادوا يُسامون فيه أهل الجاهلية،
ولذلك يصحُّ أن نعترف لهم بمحاسِن البلاغة مثل: الأحوص، وذي الرُّمَّة، وحسان بن ثابت،
وعمر بن أبي ربيعة، والقطامي، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وجميل، وكُثَيِّر، وكثير
غيرهم؛ فإنَّ لشعرهم من رقة الديباجة والرونق والحلاوة ما لا نجد إلا في شعر البُلغاء
من الجاهليين، ورُبما انتهى بعضهم في المذاهب التي كانوا بها آخذين إلى حيث تقف بلاغة
الشعر كذكر الحماسة في كلام حسان بن ثابت حيث يقول:
لنا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يلمعن في الضُّحا
وأسيافُنا يقطُرن من نجدة دما
وكالاستئثار بالفخر في شعر الفرزدق الذي يقول فيه:
٩٩
ترى الناس إن سِرْنا يسيرون خَلفنا
وإن نحنُ أومأنا إلى الناس وقفوا
وكالتوجع في الرثاء في قصيدة الهذلي التي يجزع فيها على فقد أولاده، إلا طفلًا صغيرًا
بقي له، ومن جُملتها البيت المشهور:
١٠٠
والنفس راغبة إذا رغَّبْتَها
وإذا تُرَدُّ إلى قليل تقنع
وكالتشبيب في شعر جميل، وذي الرمة، وعمر بن أبي ربيعة
١٠١ بحيث إنَّ لهم في ذكر محاسن النساء من الأوصاف البارعة مع عذوبة الألفاظ
وجودة السبك ما لا يُوجد مثله لأحد من شعراء العرب غير الثلاثة المتقدمين إلى غير
ذلك.
ثم إنَّ الشعر يقع في الحضارة بعد هؤلاء المجيدين ويفقد كثيرًا من البلاغة التي كانت
في لسان الجاهليين لإبراز المعاني في فصيح الكلام، إلا أنَّه لا ينحطُّ عنه في الأوصاف
البارعة وتناول المعاني من حيث الشعر نفسه، فلقد نجدُ لبعض المحدثين من سعة التصرف فيه،
وسرعة الخاطر إلى النظم ما يجعلهم لولا تأخر أيامهم في طبقات المتقدمين، على أنَّ
كلامهم ليس من الفصاحة بالموضع الذي كان للجاهليين، والعُذر لهم في ذلك أنَّ شاعر
البَادية إنما كانَ يلتمس الفَصيح من الألفاظ ليسمو كلامه على كلام غيره من الشُّعراء،
واللغات إذ ذاك كثيرة في عَشائرهم، أما اليوم؛ فإنَّ اللسانَ الذي نزل به القرآن معروف
لدى كل إنسانٍ فلا يضطر الشاعر إلى التماس ألفاظ يفضُل بها لسان غيره لتوحد لغة قريش
في
الأمصار كافة، وإنما وجب عليه أن يبتدع المعاني التي لم يَسبِق إليها غيرُه دون تكلفة
إلى تناول الغريب من الكلام؛
١٠٢ لأنَّ الألفاظَ السُّوقية لا تمنع
١٠٣ أنْ تكون القصيدةُ جيدة.
ولقد ينقسم الشعرُ في الإسلام
١٠٤ إلى طبقاتٍ ثلاثٍ، أقربها إلى فصاحة البداوة أبعدها عن حضارة الإسلام،
أولها عصر عبد الملك، والشعر إذ ذاك في ثلاثة من تميم
١٠٥ وهم جرير والفرزدق، وهو مِن نَبَغَة
١٠٦ الشعراء، والأخطل النَّصراني، وهو المجيد في مدح الملوك
١٠٧ ووصف الخمر، وكان المقدَّمَ عليهم جرير، وقد فضَل الشعراء
١٠٨ بقوله في المديح:
ألستم خيرَ مَن ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
إنَّ العيون التي في طرفها حَوَر
قتلْنَنَا ثم لم يُحيِين قتلانا
يصرعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
وهذا من الكلام الذي تتناهى إليه رقة أهل الصبابة، ولم نجد من بعده مثله إلَّا في
شعر
جميل وكُثَيِّر وقد استرسلا في وصف حياة الشباب، وانقطعا إلى النسيب
١١٠ من مذاهب الشعر، يقول كُثَيِّر:
١١١
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل
ويقول جميل:
وما زلتمُ يا بُثْنُ حتى لَوَ انني
من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
وما أحدَثَ النأيُ المفرِّق بيننا
سُلُوًّا ولا طولُ الليالي تقاليا
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى
وأخلُص منه لا عليَّ ولا ليا
خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلًا بكى من حبِّ قاتله قبلي؟
وأول الأبيات قوله:
لقد فرِح الواشون أن صرمتْ حبلي
بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلًا يا جميل وإنني
لأقسم ما بي عن بثينة من مهل
والناس يستحسنون ذلك. ولا يُقاربه في النسيب إلا قول الأحوص:
١١٣
إذا قلت: إني مشتفٍ بلقائها
فَحُمَّ التلاقي بيننا زادني سقما
وأما الطبقة الثانية فإنها عصر أبي جعفر — رحمه الله — وشعراؤه مَن تقدم لك
ذكرهم.
والطبقة الثالثة هي زمن الرشيد والبرامكة، وشعراؤها أكثر من أن يأخذهم الإحصاء؛ ولكني
لا أرى فيهم إلا أبا العتاهية، وأبا نواس، ومُسلم بن الوليد، وهم أشعرُ أهل هذا
الزَّمان كما ستراه.
فأمَّا أبو العَتاهية فإنه انقطع في شعره إلى ذكر أحوال الآخرة
١١٤ وله أرجوزة حَوَتْ أربعة آلاف بيتٍ أودعها من المعاني الجليلة ما أبرزه في
أحسن صورة، ومن ذلك قوله: «روائح الجنة في الشباب.» وهو قول يَقبله القلب ولا يُفسره
اللسان،
١١٥ والناسُ يقولون: إنه خرج عن العروض بوزن لم يذكره الخليل بن أحمد، ولكني لا
أرى ذلك خطأ يعاب به كمن يتطاول على قواعد العلوم؛ لأن الخليل لم يستوفِ الكلام في هذا
العلم الذي وضعه، ولا سيما في بحر المتدارك، فإنَّ من العروضيين من زاد فيه على ما ذَكَر،
١١٦ وقد كان أبُو العتاهية من الحظوة عند الرشيد بحيث لم يفارقه في حضر ولا في سفر،
١١٧ ثم آل أمرُه إلى الزُّهد؛
١١٨ فلبِس الصوف وعزفت نفسه عنِ الدُّنيا، وكانَ يقولُ:
١١٩
كأنَّ كل نعيم أنت ذائقه
من لذةِ العَيش يحكي لمعة الآل
فصار إذا دعاه إليه ليصف ما هو فيه من زخارف الملك يُبادره بالتذكير والموعظة؛
١٢٠ فيبكي الرَّشيد من ذلك؛ فيهُمُّ الجُلَّاس إلى مُعاتبته فيقول لهم
الرَّشيد: دعوه؛ إنه يرانا في عمًى فيكره أن يزيدنا منه.
أما أبو نُوَاس فإنَّ مذهبه في الشعر مضاد لمذهب أبي العتاهية، وأكثر ما يتضمن شعره
الغزل والزهو وذكر المنادمة والخمر، تبعًا لما نعرف له من ممازحة الملوك،
١٢١ فهو يذكر إبليس والخمر في شعره، كما يذكر أبو العتاهية الآخرة
والجنة.
ومن استعاراته الفائقة قوله:
بَسَمَ الصباحُ لأعين الندماء
وانشقَّ جيبُ غِلالة الظلماء
وله في صفاتها ونعت طعمها وريحها ولونها وشعاعها وحال المنادمات عليها والاصطباح
والاغتباق
١٢٢ ما توسع فيه إلى أدب ليس للشعراء حظٌّ منه، وهذا مما يدلُّ على اقتداره في
الشعر، وإنْ كان مذهبه غير محمود عند أهل الصَّلاح، وهو عندي شاعر الشعراء حقيقة،
١٢٣ وإني أُفضِّل شعره على شعر أبي العتاهية؛ لأنَّ قصائده كُلها سالمة من العيب،
١٢٤ أمَّا أبُو العتاهية فإنه وإن كانت له استخراجات لطيفة ومعان ظريفة يقول
البيت النادر، ثم يتبعه بالبيت السخيف البارد،
١٢٥ وقد ذكر لي ورَّاق في درب القراطيس
١٢٦ كنتُ آلف حانوته أنَّه مَرَّ به أبو العتاهية يومًا وعنده دِيوان لأبي
نُواس فوقع نظره على هذا البيت:
١٢٧
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
فسألني لمن البيت، فقلت: لأبي نُواس، فقال: واللهِ إني أُحب أن يكون لي هذا البيت
بنصف شعري،
١٢٨ وأظنُّ أنه لو وقف على قوله:
ليس على الله بمستنكر
أنْ يجمع العالم في واحد
١٢٩
أو قوله، وهو أمدح بيت للمُحدثين:
وكلتَ بالدهر عينًا غير غافلة
بجود كفك تأسو كلَّ ما جَرَحا
لقال فيهما مثل ذلك، ولقد لقيتُ إسماعيل بن نوبَخْت في مجالس البرامكة وقد وجرى
الحديث بحضرتهم عن الشعراء، فقال: سمعت بعض الناس يقول: إنَّ الأصمعي أعلم الشعراء
وأشعر العلماء، فوالله، ما رأيتُ أحق بهذا الوصف أنْ يُقال فيه من أبي نُواس؛ لأني ما
رأيتُ في أهل الأدب مَن هو أوسع علمًا في كل شيء منه، وليس له في الشعراء من مبارٍ،
يعلِق له بغبار، وكفى في تحقيق فضله عليهم أنَّ كلامه كله موزون
١٣٠ فإنَّ الشِّعر رسخت في صدره ملكته، وصار في نفسه طبيعة ترفعه على جميع
الشعراء.
وأما مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني؛ فإنه أرقُّ الشعراء غزلًا، وألطفهم صنعًا
وأكثرهم من المعاني حظًّا
١٣١ إلا أنَّ ميله مع أهل البيت وقوله الشعر في مديحهم هو الذي جعله مُقصيًّا
عن محاضرة الخلفاء، بل جعل في نفوسهم موجِدة عليه لما كانوا يرون من استمساك الناس
بشعره، وقد أبدع مصاغه ورصَّعه بدُرر البَلاغة، ولقد ظفِر به الرَّشيدُ فحمِد اللهَ على
ذلك بمحضر من الجلساء كأنما قد ظفر بملك من كبراء الملوك، فلما أخذ يُعاتبه قال: إيه
يا مسلم، أنت القائل:
أنِسَ الهوى ببني عليٍّ في الحشا
وأراه يطمح عن بني العباس
فأعمل فكرته أنْ يستبدل به مدحًا علَّه يشفع له عنده ويكون وسيلة لسلامته من القتل،
وقال: بل أنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:
أنس الهوى ببني العمومة في الحشا
مُستوحشًا من سائر الإيناس
وإذا تكاملتِ الفضائل كنتم
أولى بذلك يا بني العباس
فعجِب الرشيد من سُرعة بديهته، وقال له بعضُ جُلسائه: استبْقِه يا أمير المؤمنين؛
فإنَّه من أشعر الناس
١٣٢ وامتحنْه فسترى منه عجبًا؛ فرقَّ له الرشيدُ وفي نفسه من الميل إلى الأدب
ما قد علمتَ، ثم قال له: أنشدنا أشعر بيت لك، فقال: يا أمير المؤمنين، أفرِخ رُوعِي
أفرخ الله رُوعَك يوم الحاجة إلى ذلك؛ فإني لم أدخل على خليفة قطُّ، فأمره بالجلوس ثم
شرع في الإنشاد وكلما فرغ من قصيدة قال له: التي تقول فيها «الوحل» فإني رويتها وأنا
صغير، فأنشده شعره الذي أوله:
أديرا عليَّ الراح لا تشربا قبلي
ولا تطلبا من عند قاتلتي ذَحْلي
١٣٣
حتى إذا انتهى إلى قوله:
إذا ما علَتْ منا ذؤابة شاربٍ
تمشَّت بنا مشي المقيَّد في الوحل
ضحك الرشيدُ وقال: عليك! أما رضيت أن تُقيِّده حتى يمشي في الوحل؟ ثم أمر له بجائزة
وخلَّي سبيله.
هؤلاء الثلاثة أشعر الشعراء، وهم الذين زينوا الدولة العباسية، كما كان الثلاثة
المقدم ذكرهم في الفصل السابق يزينون زمن الجاهلية، ولقد لقيت في بغداد كثيرًا غيرهم
منَ الشُّعراء مثلَ العماني وأبي مُصعب وأبي الشيص وأبي عبد الرَّحمن العطوي وغيرهم،
واتصلت بي أخبار جماعة ممن يتصرفون في فنون الشعر ويبتدعون القول الذي لم يشركهم فيه
غيرهم إلى أن ينظموا القصائد التي ليس في أبياتها حرف معجم، إلا أنهم قد كانوا في أيام
أبي نواس ومسلم بن الوليد، فضاع بينهما فضلهم، ولم يكن لهم ذكر في مجالس الخلفاء وأهل
الأدب.
الغناء وتحريره وإصلاحه
قد مضى في بعض كتبي السالفة من الكلام عن الغناء ما يقضي بصحة ذوق العرب، وحُسن ما
يصنعون من الأصوات، وكان أصله عندهم أربعة نفر
١٣٤ ابن سُريج، وابن محرِز، وهما مكيَّان، ومالك، ومَعبد، وهما مَدَنِيَّان، إذ
كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القُرى من بلاد العرب ظاهرًا فاشيًا وهي المدينة
والطائف وخيبر ووادي القرى ودُومة الجندل واليمامة، وهذه البلاد مجامع أسواق العرب،
١٣٥ وكانت النساء يُشاركنهم في صناعة الأصوات، وقد نبغ فيهن عزة الميلاء في
الغناء الموقَّع إلى أن صارت أحسن الناس ضربًا بعود،
١٣٦ وكان لها أستاذة يُقال لها رَائقة فاحتذتْ فنَّها في تنسيق الأنغام، ثم
قدِم الحجاز سائبٌ ونشيطٌ وغنَّيَا بالفَارسية، فأخذت عزةُ عنهما نغمًا وألَّفتْ عليها
ألحانًا كثيرة ليِّنة كما نجد في غناء النِّساء،
١٣٧ ثم ظَهر طويس المغني فصنع الرَّمَل والهَزَج،
١٣٨ وأول ما غنى به على لحنٍ صنعه قوله:
١٣٩
قد براني الشوق حتى
كدت من وجدي أذوب
ثم غنى ابن مسجح الغناء المنقول من الفارسي
١٤٠ وشهره بين الناس، وكان ابن سريج يضرب بالعود على غنائنا إلى أن ظهر معبد في
المدينة المنورة — على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التحية — فصنع من الأصوات البديعة ما
فضل فيه غيره من أهل زمانه المعاصرين له.
وقد كان الغناء قبل نقله عن الفارسية مأخوذًا عندهم عن الأذان،
١٤١ فلما نقلوه عن قومنا واستعانوا بكتاب لبطليموس في اللحون الثمانية
١٤٢ عرَّبوه في خلافة أبي جعفر
١٤٣ أجادوا تأليف الأصوات إلى أن فضلونا اليوم في الغناء، ونبغوا فيه النبغة
التي ما كنت أحسبهم يصلون إليها في زمن من الأزمان، وما مكنهم من استكمال هذه الصناعة
إلا أمران: الأول انفراد كل واحد منهم بلحن من الألحان، يفتنُّ فيه ويصنع فيه الأصوات
الحسان حتى يفوق ألحان غيره من المغنين، كانفراد معبد بالثقيل،
١٤٤ وابن سُريج بالرمل، وحكم الواديِّ بالهزج
١٤٥ وأحمد النصيبي بالأنصاب
١٤٦ وفُليح بن أبي العوراء بلحن النواقيس، والموصلي باللحن الماخوري، أما خفيف
الرمل فإنهم يشتركون فيه جميعًا بحيث لم أجد مغنيًا إذا تغنى لنفسه يكاد يغني إلا خفيف
الرمل،
١٤٧ والثاني ما كانوا يتناولونه من الخلفاء جوائز ومنَ الأُمراء وأهل النِّعمة
أجرة واسعة على غِنائهم ممنْ يستدعيهم إلى فرح أو يجمعهم لمناظرات الصناعة ثم يخرج
بِدَر الدنانير لإجازة المحسنين
١٤٨ منهم، ولقد سئل حنين المغني، وقد دُعي إلى مأدُبة لا يعهد في صاحبها
السَّماحة، لم لا ترضى بالأُجرة اليسيرة؟ فقال: إنما هي أنفاسي أقسمها بين الناس،
أفتلومونني أنْ أُغلِي بها الثمن؟
ثم ظهر عصر البرامكة — أعز الله ملكهم — وهم محبون للعلم ومقرِّبون إليهم أهل الأدب،
فكانَ ممن قربوه من المغنين إبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق، وهما بمكان جليل من الأدب
إلا أنه غلب عليهما الغناء بما وضعاه من الألحان، فاشتهرا به كما رأيت. وقد وضع أبو
إسحاق اللحن الماخوري الذي لم يشركه فيه أحدٌ من المغنين، وكان يظنُّ لصعوبة المأخذ في
ابتداعه أن إبليس هو الذي ألقاه عليه في المنام، فلقد طالما تهوَّس بالغناء وأمعن في
تنسيق الألحان على أتم إبداع وأحسنه موقعًا في النفوس؛ حتى توهم أنَّ الأرواح هي التي
كانت تظهره له وتعلمه الأصوات التي يعجز عنها غيره من الإنس، وقد قالت الشعراء في مدحه
على موضعه الجليل من الغناء:
ما لإبراهيم في العلم بهذا الشأن ثاني
إنما عمر أبي إسحاق زينٌ للزمان
جنة الدنيا أبو إسحاق في كل مكان
منه يُجنى ثمر اللهو وريحان الجنان
وكذلك كانت إجادة ابنه إسحاق، وقد وضع ألحانًا لا يقدر شبعان ممتلئ ولا سقاء يحمل
قربة على الترنم بها، وصنع غيرها مما لا يقدر المتكئ أن يترنم به إلا قعد مستوفزًا، ولا
القاعد حتى يقوم؛
١٤٩ لأنه سما في اقتداره على الغناء إلى أن يجعل في نفس السَّامع تحركًا لما
يغني بمعناه من الأشعار، فيَحملها على الكِبر في مَعرض المديحِ، وعلى الحمَاسة والإعجاب
في مجال الفَخر، وعلى الرِّقة والصبابة في استرسال الهوى، وعلى البُكاء والغصة في موقف
التذكير والوحشة، وذلك فضلًا عن إجادته في ضرب العود، ولقد كنتُ يومًا بدار الرشيد وفي
مجلسه عشر جوار يضربن على العيدان؛ فوقع خلل في مجرى إصبع على بعض الأوتار فعرفه من بين
أربعين وترًا
١٥٠ تتحرك بين أناملهن، فهذا اقتدار غريب على هذه الصناعة لا أظنُّ أنَّ
اليونان قد بلغوه منها مع اتصال مُدتهم أزمانًا طوالًا يستعمِلونها ويمارسون
طرائقها.
وقد كتب إسحاق رسالة مُطولة في الغناء صحح فيها أجناسه وأنغامه وطرائقه، وميزه
تمييزًا لم يقدر عليه سواه
١٥١ حتى لقد خطَّأ يحيى المكي فيما دَوَّن من الغناء، ويونس الكاتب في الرسالة
التي نَسب فيها الأصوات إلى مَن ابتدعها من المغنين
١٥٢ غيرَ أنَّه كان يرى ليونس فيما سبق إلى تدوينه من الأغاني ونسبتها إلى
أصحابها فَضلًا أعظم من فضل يحيى فيما حاول تمييزه من الغناء على فساد جعل كتابه
كالمطروح؛ لكثرة تخليطه في رواياته
١٥٣ لأن هذا هو المذهب الذي يتعصب له إسحاق ويُناظر فيه مَن يقول بضده من أولاد
الخلفاء وغيرهم كما مرَّ في موضعه من الكتاب.
ومن حذق إسحاق في صناعة الأنغام أنه أقام طرائق الغناء من نفسه دون نقل عن كتب
اليونان، إلا فيما اقتبسه من تقسيمات إقليدس
١٥٤ وما هو إلا النزر اليسير في جانب الكثير من الواسع من علمه، فقد ميَّز
١٥٥ أجناسَ الغناء كله، وجعل الثقيل الأول أصنافًا، فبدأ فيه بإطلاق الوتَر في
مجرى البنصر، ثم أتبعه بما كان منه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبابة في مجرى
البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة، ثم جعل الثقيل الأول صنفين،
الأول ما ذكرناه، والثاني: القدر الوسط من الثقيل الأول، وأجراه المجرى الذي تقدم من
تمييز الأصابع والمجاري، وألحق بذلك جميع الطرائق والأجناس، وأجراها على هذا الترتيب،
وميزها على أكثر من عشرة آلاف صوت للمغنين لم يغير فيها لحنًا واحدًا، وذلك بخلاف الذين
دوَّنوا الغناء قبله وبعده؛ فإنهم أضاعوا صناعة الغناء القديم إلا أحمد بن يحيى المكي،
المقدم ذكره في كتاب له في الأغاني ونِسبها يقال له المجرَّد
١٥٦ فإنه أصل يُرجع إليه ويُعوَّل عليه، ولست أعرف كتابًا بعد كتاب إسحاق يقارب
كتابه أو يقاس به، فكأنه قام على مخالفة أبيه ومَن ذهب مذهبه في تغيير أصوات المتقدمين،
ورجع إلى الغناء القديم الذي سبق إلى التعصب له مغنٍّ يُقال له «سِياط» وفد على المهدي
— رحمه الله — وأنا مُقيم في الرسالة بخراسان فلم أوفق إلى الاجتماع به، ولكن حسبي من
تقدير موضعه الجليل من هذه الصناعة
١٥٧ أنَّ إبراهيم وإسحاق تلميذاه
١٥٨ وإليهما المنتهى في إجادة الغناء.
لُمْعة في علوم الفلسفة عند العرب
إن العلوم الفلسفية التي استخرجها العرب من كتب الأعاجم كانت مجهولة عندهم في صدر
الإسلام، بل في صدر هذه الدولة كما تقدم لك من الكلام، إلا عند نفر قليل من أهل الشام
ممن جاور الرُّهبان وتلقى عنهم
١٥٩ حكمة اليونان التي كانوا يحفظونها في خزائنهم بالأديار، أمَّا اليوم فإنا
نجدها في سكان الأمصار من العراقِ ومصر والشام وبعض أهل الحجاز إلا أعراب البادية؛
لأنهم لا يُوجهون عنايتهم إلى العِلم، وإنما همتهم ارتياد المسارح والمزارع لحيواناتهم،
كما سبق الإلماع إليه في صدر الكتاب.
وهذه العلوم الفلسفية تنقسم إلى أنواع أربعة:
١٦٠ رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية؛ فأمَّا العلوم الرياضية وهي: النِّجامة،
والعدد، والهندسة، والغناء؛ فإنهم نبغوا فيها النبغة التي لم تكن للمُتقدمين من أُمم
الشرق، وقد تقدَّم في الكلام على النِّجامة ما يقضي بفضل المنجمين من أهل الموصل
وخراسان وغيرهم فيما وقفوا عليه من علم الأفلاك وأرصادها، كما أنك رأيت في الكلام على
الغناء أنَّ لإبراهيم وابنه إسحاق فيما ابتدعاه من الأصوات الحسان فضلًا تتزين به هذه
الصناعة عند العرب.
واعلم — أرشدك الله — أنه لم يكن موضعهم من العلوم العددية وما يتبعها من الجبر
والمقابلة، وهي صناعة استخراج العدد المجهول من قِبَل المفروض المعلوم،
١٦١ إلا موضعهم من النِّجامة والغناء في تحريرها وإصلاحها والاعتبار في الأقسام
التي تلتحق بها من فنِّ المناظرة والفرائض والمعاملات بتقدير الأوزان وغير ذلك، وهذه
هي
العلوم التي يمتازون بها عن غيرهم من الأُمم بما وضعوه لها من القواعد التي لا غَاية
بعدها في الإصلاح.
وأمَّا علمُ الهندسة؛ فقد كان مرجعهم فيه إلى كتاب لإقليدس المهندس من حكماء اليونان،
وكتاب آخر لبطليموس الذي أخرج الهندسة من القوة إلى الفعل،
١٦٢ وقد عُرِّبت رسائلهما في خلافة أبي جعفر، ثم أُعيد تعريبها في هذه الأيام
بمناظرة مُهندس يقالُ له أبو كامل
١٦٣ جعلَ مقالات إقليدس في جلد كبير سماه كتاب الأركان،
١٦٤ وفيه خمس عشرة مقالة يبحَثُ في الأربعة الأول عن السطوح، وفي الخامسة عن
الأقدار المتناسبة، وفي السادسة عن نِسَب السطوح بعضها إلى بعض، وفي السابعة إلى
التاسعة عن العدد، وفي العاشرة عن المِنطقات، والقوى على المنطقات، ومعناها الجذور، وفي
المقالات الخمس الباقية بحث واسع في المجسمات، ثم ألحق العرب بهذا العلم فن الهندسة
المخصوصة بالأشكال الكُروية نقلًا عن كتابين لميلاوش وتاودوسيوس من اليونان؛ وفيهما
بحثٌ مسهب في الكرات السماوية وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات،
وألحقوا به أيضًا علم المخروطات نقلًا عن كتاب لأبولونيوس
١٦٥ من اليونان أيضًا فرفعوا ما يقع من الأشكال والقطوع في الأجسام المخروطة،
وأفادوا النجارة والبناء
١٦٦ بما وقفوا عليه من كيفية رفع الأثقال وجرها وغير ذلك.
وأمَّا العُلوم المنطقية ومنها: الشعر، والخطابة، والجدل، والبُرهان، والمغالطة؛
وغير ذلك
١٦٧ فإنَّ إجادتهم فيها كانت دون إجادتهم في العلوم الرياضية؛ لأنَّ طَبائعهم
ما تهيأت للعناية إلا بقولِ الشعر كما رأيت، وهو معدن حكمتهم وديوان آدابهم والمقيد
لمحاسن كلامهم، وقد بلغوا فيه الغاية التي لا مَطمح وراءها إلا ما كان من كلام النبوة،
وإن كان شعر الجاهلية جافيًا لمكان أهله من الخشونة ومقامهم في القفر بين الإبل والوحش
والمنازل الخالية
١٦٨ فإن شعر المتمصرين ليس بخالٍ من رِقَّة الألفاظ وجمالِ الصور، وهُم
القاطنون بين فرش الحرير، وأطباق الرِّياحين، وآلات الطرب، والقيان، والنُّدماء.
ولقد نسمع عن أهل الأندلس أنهم يقُولون شعرًا أرقَّ من النسيم؛
١٦٩ وذلك لغزارة المياه في أراضيهم ونماء الرياحين في جناتهم وظهور ريح الصبا
عندهم، حتى كان المرتحل منهم إلى المشرق إذا استقبل النسيم الذاهب إلى الغرب ذابت نفسه
من الشوق إلى تلك الديار التي ينفح فيها الطيب على غُصن أندلسها الرطيب، فيقول:
١٧٠
وإذا ما هبت الريح صَبًا
صحت: وا شوقي إلى الأندلس
وديار الأعراب قفر وإقليمهم محرق للأبدان ومجفف العقول، وذلك مما لا يولد فيهم من
رقة
القول وحلاوته ما نجده في شعر الأندلسيين.
أما علوم المنطق؛ فقد كان مرجعهم فيها إلى كُتب في المنطقيات لأرسطو الحكيم
١٧١ عُرِّبت في خِلافة أبي جَعفر
١٧٢ بمناظرة عبد المسيح الحمصي، وهو من أشهر النقلة بعد سلام الأبرش،
١٧٣ وقد اشتملت على رسائل ثمانٍ، أربع منها في صورة القياس وأربع في مادته،
١٧٤ ورُبما زادوا فيها بعض شرح وتفسير.
وأمَّا علوم الخطابة والجدل والمغالطة؛ فقد دونوا مما استخرجوه من كتب اليونان
أسفارًا كثيرة، ولكن من غير تمحيص يرجع بهم إلى محاسن العِلم إلا ابن العلاف
١٧٥ خطيب هذا الزمان في رسالة له في الخطابة بدأ فيها بذكر سحبان، وقُسِّ بن
ساعدة وغيرهما من بلغاء العرب وخطبائهم في الجاهلية والإسلام، إلى أن أتى على بيان
القواعد التي تلزم الأُدباء في الخطابة؛ ليجدوا بلاغة القول مع تقويم الألفاظ وإكثار
المعاني في قليل من الكلام.
وأمَّا العلوم الطبيعية وهي علم المبادئ وعلم السماء وما فيها، وعلم العالَم وعلم
الكون والفساد وعلم المعادن والنبات والحيوان وفيه علم الطب؛ فقد كان مرجعهم فيها إلى
كتب الأعاجم كمرجعهم إليها في جميع ما لم يكونوا يعرفونه من العلوم قبل أبي جعفر كما
ترى، إلا ما وقفوا عليه بأنفسهم من حقيقة المعادن في علم الكيمياء، وهو النظر في المادة
التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة؛ فتوصلوا به إلى معرفة أمزجة المكوَّنات وحقيقة
المعادِن والفضلات الحيوانية من العظام والريش والبيض وغير ذلك،
١٧٦ وكان الناس من أهل الأدب يصبون إلى هذه الصناعة بما في منوَّعاتها
وممزوجاتها من تسلية الخاطر، مع تنوير العقل وتوسيع نطاق المعرفة، حتى إنَّ الملوك
أنفسهم كانوا يتمهرون في استخراج المركبات ومزجها على غير ترفع عنها.
فهذا خالد بن يزيد بن معاوية الأموي قد شغل نفسه بطلب الكيمياء ودوَّن فيها الرسائل
الكثيرة حتى أفنى عليها عمره،
١٧٧ وهذا جعفر الصادق أحد الأئمة الاثني عشر، ومن سادات أهل البيت قد ترك فيما
ترك أكثر من خمسمائة رسالة في علم الكيمياء، إلا أنَّ هذه الرَّسائل لم تكن حاوية من
العلم إلا ما وقف عليه أصحابها بطريق التجربة والاختبار؛ فبقيت الكيمياء مفرقة غير
مجموعة حتى قام جابر بن حيان الطرسوسي وهو تلميذ جعفر الصادق — رضي الله تعالى — عنه
فكتب سفرًا جليلًا في علل المعادن
١٧٨ ودوَّن الكيمياء في سبعين رسالة؛ ربطها بأصول العلم ونبذ من مذاهب
المتقدمين ما لم يؤيده التحقيق في مُجرباته، وقد قسَّم هذه الصِّناعة إلى قِسمين: منها:
القوة النفسية وهي السيمياء، ومنها: القوة العلمية وهي الكيمياء.
وأدخل العلوم السحرية في السيمياء؛ وذلك لأنَّ إحالة الأجسام النَّوعية من صورة إلى
صورة أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العلمية.
وقد وضع القواعد على منهاج لم يشركه فيه أحد، ولا قدر على مثله حُكماء اليونان
أنفسهم؛ ولذلك نُسب إليه هذا العلم وصار علم الكيمياء يُسمى بعلم جابر،
١٧٩ أمَّا الذين اشتغلوا فيها بعده فقد قصروا دون الغاية التي بلغها منها،
ورُبما أكبَّ عليها جماعة بما طمعوا فيه من تكوين الذَّهب وإحرازه، ولذلك لم يُقيدوا
مجرباتهم ومصنوعاتهم بالقواعد الثابتة، بل جرَوْا على مذاهب ضعفاء العقول من اليونان
مثل طماوس وغيره، وزعموا أن لهم طريقة لاستخدام الجن
١٨٠ في هذه الصناعة؛ فلم يكن طائل فيما صنعوه، ولا فائدة مما دونوه
ووضعوه.
وأما العلوم الإلهية وهي: السياسات، والحرب، والفلاحة، وعلم الأخلاق، وسياسة الأخلاق،
وغير ذلك فلم يكن للعرب نبوغ فيما نقلوه منها عن كتب اليُونان والفُرس، وإنما ينفرد حسن
نظرهم في علوم الدِّين كما رأيت وفي علم الكلام الذي وضعوه تحفظًا
١٨١ من العلوم الحكمية إذ كانت تخالف الشرع الشريف،
١٨٢ وقد رأيت لهم كتبًا في السياسة المدنية
١٨٣ يذكرون فيها تدبير المنزل بمقتضى الحكمة ليحملوا العامة على منهاج يكون فيه
حفظ النوع وبقاؤه، وذلك أحسن ما لهم من التآليف التي فيها رأي ونصيحة، أما غير ذلك من
السياسات فلم يكن لهم منها إلا بضاعة مزجاة؛ لأنهم لم يُعْنَوْا بها قبل هذا الزمان،
ولا نعلم إلى أين يبلغون منها ولا ما تقرره في نفوسهم من الفائدة وفي معايشهم وآدابهم
من المنفعة، والله — سبحانه وتعالى — أعلم، وهو وليُّ المؤمنين، لا رب غيره ولا معين
سواه.
أدب السِّيَر والحكايات
نُفْرد هذا الباب لذكر الحكايات والقصص؛ فإنها فن، بل أدب قد هوت إليه أفئدة العرب،
وأول من سبق إلى تدوينه عبد الله بن المقفع؛ وهو الكاتب المشهور بالبلاغة
١٨٤ والذي كان قائمًا بديوان الإنشاء في خلافة أبي جعفر،
١٨٥ له كلام على الملوك يشهد بأنه كان عارفا بالسياسة
١٨٦ ومقالاتٌ في البلاغة تشير إلى أن الحكمة قد نطقت من نواحيه إلا أن أهل
زمانه قد اتفقوا — وهم دونه في العلم — على أن يقولوا: إن كلامه كان أكثر من علمه؛
١٨٧ لأنهم ما أحبوا أن يرفعوا عقله إلى مساماة البلغاء الذين أوتوا الحكمة
وانتهت إليهم البلاغة.
وقد كان تدوينه له في تعريب كتاب هندي يقال له: كليلة ودمنة،
١٨٨ وهو يتضمن حكايات وُضعت على لسان البهائم والطير وأشير فيه إلى سلائقها من
الحلم والمكر والجراءة والجبن والتيقظ والذهول والعقل والحمق إلى آخر السلائق؛ لتثقيف
العقول ورياضة الأخلاق بهذه الطريقة من الفكاهة؛ لأنَّه يستخرج من الأقوال الهزلية
ضروبًا من الحكمة البليغة، وهو يشتمل على غرضين سياسي وأدبي، فأمَّا السياسي فإنه داعٍ
إلى العدل وزاجر عن البغي، وفيه بيان سلوك الملوك في آدابهم وتدبيرهم لأمور ممالكهم،
وما يجب عليهم من العدول عن اللهو والغفول إلى التيقظ والسهر، وأنَّ الفاضل من الملوك
حقيق بأن يعتبر بأقوال الحكماء ولا يقرب إليه أهل النميمة والفساد.
وأما الأدبي ففي بيان المعايش في ظروفها وألوانها وسائر أحوالها والاقتصاد في تدبير
المنزل، والمعاملات بين الناس، وما ينبغي لهم في سلوك الأمور من مراعاتها بعين العقل
والبصيرة؛ ولذلك يُعدُّ كتابه من كتب الحكمة، ونرى الفضلاء من الملوك قد أقبلوا عليه
وطمحوا بأبصارهم إليه، حتى إنَّ كسرى أنو شروان أنفذ طبيبه برزويه إلى بلاد الهند
لاستنساخه فترجمه إلى الفارسية، ولم تزل الملوك تعظمه إلى هذا اليوم.
١٨٩
وقد وضع ابن المقفع في أول ترجمته فصلًا سماه «باب غرض الكتاب» وأودعه من صنوف
البلاغة والحكمة ما ضارع به سائر أبواب الكتاب، وذكر أنَّ أغراض واضعه «بيدبا» الفيلسوف
تنقسم إلى أربعة: فأحدها: ما قصد إليه من وضعه على ألسنة البهائم؛ ليسارع أهل الهزل إلى
قراءته. والثاني: إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان؛ ليكون أنسًا لقلوب
الملوك. والثالث: أن يشتد الحرص عليه للنزهة في صوره؛ فيتخذه الملوك والسوقة ويكثر بذلك
استنساخه ولا يبطل. والرابع: وهو الغرض الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة.
ولقد قرأت هذه الترجمة أكثر من مرة بل أكثر من مائة مرة، وأنا مشغوف بها لمكانها
من البلاغة،
١٩٠ وعهدي بجميع الكتب الأعجمية إذا عُرِّبت عرِيت إلا هذا الكتاب، فإني رأيته
في العربية أفصح منه في الفارسية، وقد كان صِبية البرامكة — حفظهم الله — يُحاولون حفظه
عن ظهر قلبهم ففطن لذلك أبان بن عبد الحميد
١٩١ ونظمه لهم بالشعر حتى يسهل عليهم استظهاره، ويقولُ في مطلع ذلك الكتاب:
١٩٢
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو الذي يدعى كليلة ودمنه
فيه احتيالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته في الهند
إلى آخرِ الأبيات؛ فأعطاه يحيى عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل نصف ذلك جائزة على هذا
الاستخراج؛ لأنَّه كان بموضع جليلٍ من البَلاغة التي ورثها عن أبيه، فقد كان عبد الحميد
من فُحول الكتاب الذين فتقوا أكمام البلاغة وفكوا رقاب الشعر،
١٩٣ وكان فخرًا للمُسلمين بما آتاه الله — تعالى — من البلاغة التي جمعت سحر
البيان، وأخذت بمجامع الجنان، يقال إنه لما ظهرت دعوة أهل البيت وكان عبد الحميد كاتبًا
في دولة الأمويين قال لمروان: سأصدر عنك كتابًا إلى أبي مسلم فإن قرأه حصل عندنا وجه
من
الآمال وإن لم يقرأه ذهبت الدولة منكم، فلما وصل الكتاب إلى إبي مسلم — رحمه الله —
وكان عالمًا بمكان عبد الحميد من البلاغة قال: «أبقوا الكتاب على طيه؛ فإنما فيه سحر
غالب.» على أني لو سئلت التفضيل بين هذين الاستخراجين لقُلت: إنَّ ترجمة ابن المقفع
حقيقة بأن تكتب بماء الذهب وتتحف بها خزائن الملوك.
ولما رأى الأدباء إقبال الناس على الكتاب تسارعوا إلى تعريب غيره من غير كتب السير
والخرافة، فترجموا عن الهندية كتاب وزره وشماس
١٩٤ وفيه أخبار ملوك الهند وبناتهم، وما يتخللها من الأمثال التي توسع العقول
أدبًا مع فكاهة وترويضِ أفكار، وترجموا عن الفارسية كتاب هزار أفسان وسمَّوْه ألف ليلة
وليلة،
١٩٥ ومعنى هزار أفسان ألف خرافة، وكان السبب في وضعه كما هو معروف أنَّ ملكًا
من ملوك الفرس كان إذا تزوج امرأة قتلها بعد يوم غَيْرة عليها من الرجال، فتزوج بجارية
من بنات الملوك ممن لهن عقل ودراية يُقال لها شَهرزاد وفي بعض النُّسخ شيرزاد، فلما
اتصلت به أخذت تُحدثه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استبقائها
وسؤالها في الليلة الثانية عن تمام الحديث إلى أن أتى عليها ألف ليلة وليلة، وإلى أن
رزقه الله منها بولد طرحتْه إليه، ووقفتْه على حيلتها عليه.
وكان للملك قهرمانة يُقال لها رسازاد أو دينار زاد
١٩٦ كانت موافقة لها على ذلك، وفي هذا الكتاب دون المائتي سمر؛ لأنَّ كل سمر
كان يحدث به في ليال عدة، وهي من أظرف الحكايات التي وضعتْها الفُرس في غابر
الدهر.
ولما راج سوق هذا الكتاب تداوله النُّساخ والكُتَّاب وأضافوا إليه حكايات كثيرة
وضعوها على سبيل الفُكاهة بما يُعهد فيهم من طول الباع في وضع الحكايات، ولا سيما ما
يتضمن أخبار الجان ووصف مَساكنهم تحت البِحار وتزويجهم بناتهم من ملوك الإنس وقصص
العفاريت والهواتف، وغير ذلك إلى أن صار جملة ما في الكتاب حكاياتٍ عربية لا يخالطها
من
كلام الفرس إلا القليل، وهي وإن كانت بعيدة عن الصدق تُظهِر فضل العرب في أنهم يمتلكون
فؤاد السامع، برقة مأخذهم في تجميلها ورونقها، كالذي زعموا أنَّ صيادًا ألقى شَبكته في
البَحر وظلَّ نهاره طوله لم يظفر بسمكة، فلما أزمع الانصراف وقد أعياه الملل وضاقت به
الحيل جر الشبكة؛ فإذا هي ثقيلة فطمع أن تكون قد اشتملت على حوت يستعيض بثمنه عن نصبه
في ذلك اليوم، فلما جذبها إلى الشاطئ وجد فيها قمقمًا من نحاس وعليه خاتم سيدنا سُليمان
— عليه الصلاة والسلام — ففضَّ ختامه فصعد منه دخان خيَّم على السماء، فنظر في الدخان
فإذا هو يجتمع ويتكوَّن إلى أنْ وضح منه جان من صفته كذا وكذا. فلما تدانيا جرى بينهما
حديث يقبض النفس هيبة وفرقًا بحيث لا ينتبه السَّامع إلى أنَّ هناك خرافة، فإذا انتهت
الحكاية إلى ما أصاب الصياد من الجوهر والمال بعد أن خامره الروع وأفزعه الهول انبسط
منه الخاطر المنقبض، والتمس في نفسه مِثلًا لهذا المسكين فوجده كثيرًا في الناس فرجع
إلى الحكاية فوجد فيها سرًّا يريده الكاتب من وراء الفكاهة.
وإجماع الرأي على أنْ ليس في حكايات الناس وقصصهم وأحاديثهم ما هو أظرف من هذه
الحكايات وألطف صنعًا؛ فإنَّ فيها من الوصف البَارع، والتمثيل السَّاطع، ما ينطق بفضل
العرب فيما تطرقوا إليه من وصف معايش الناس وأخلاقهم، وما يتقلبون فيه من الأحوال التي
توسعوا في وصفها، إلى أدب جزيل الفائدة.
فأما الحكايات التي ذكروا وقوعها في الإسلام؛ فلا تبعد عن الأحوال التي تحدث ببغداد
في أكثر الأيام اللهم إلا فيما كانوا يمزجون به أخبار الخلفاء من الخيال؛ لنكتة يشوقون
إلى الوقوف عليها مما اتفق وقوعه للملوك، مثل حكاية الخليفة الثاني وحكاية الخليفة
والصياد، إلى حكايات غيرها يظرِّفون بها الخبر عن الرشيد وجعفر.
أمَّا ما ذكروه عن طوافهما
١٩٧ مع مسرور ليلًا في الأسواق متنكرين عن أن يعرفهم أحد؛ فإن ذلك ليس
بالموضوع، وقد ذكرتُ مثله في رسائلي السالفة إليك غير أني جردته عن المبالغة التي يزين
الرواة بها أحاديثهم، كوقوف الرشيد في موضع الخطر أو ارتدائه بلباس الصياد على سبيل
الفكاهة أو وقوعه هو وجعفر تحت سيف ذلك الرجل الذي كاد يقتلهما لولا أنهما تداركا أمره
بحيلة وجدا بها السلامة والنجاة.
وأما الحكايات التي زعموا أنها وقعت في قديم الزمان وسالف العصر والأوان؛ فهي من
الغرائب التي لا دلالة لها على الصدق، وإنما أقبل خَلْق من العوام على تصديقها لانقطاع
أخبار الأمم عنهم بحيث يتعذر عليهم معرفة غثها من سمينها؛ ولأنَّ ناقل الرِّواية كان
يُحدثهم بأنَّ كذا وكذا من الأمور الغريبة جرى في كذا من البِلدان البعيدة الشقة
المتفاوتة السبيل، فلو حدثهم بأن في الشام مدينة من النحاس،
١٩٨ أو بالعراق بلدًا صار غديرًا ثم انقلب ماؤه إلى عمارة وأسماكه إلى أناس ما
صدقوا كلامه؛ لأنهم يطرقون هذه البلدان كل يوم وعهدهم بها على غير انقطاع، وإنما نُقِل
إليهم أن ذلك كله في جزائر الوقواق وما وراءها من بلدان العجائب؛ فأوسعوا صدورهم لتصديق
كلامه بما كانوا يتشوقون إلى الوقوف عليه من نعيم الناس، وهم بمكانهم من عيش
البداوة.
ومن أظرف ما ورد في حكاياتهم قصص العشق والغرام فيما أعربوا به عن محاسن النساء بين
كاعب حسناء، وغانية هيفاء، وشاعرة فصيحة، وعجوز ذات دهاء، وما توسعوا به في كلامهم عن
العشاق ووصف هنائهم في التلاقي، وتوجعهم أيام الفراق، إلى وضع الحكايات التي ترتاح
إليها القُلوب بما تصف من النعيم الذي يبعد عن أنْ يتمتع به الناس، وإنما هو صورة تتمثل
في الضمير على سبيل التخيل، كالذي يحكونه عن فتًى من أولاد الملوك أنه وقع إلى جزيرة
كل
من فيها نساء وتجارها نساء وجندها نساء، وكلهن آية من آيات الحسن والجمال، وأنه قضى
بينهن أيامًا من النعيم، أقلُّ ما أصاب فيها أنه كان إذا طرح الشبكة في البحر على سبيل
التسلية خرجت له من الأصداف صبِية من بنات الجان، كأنها حورية من حور الجنان، إلى غير
ذلك من الوصف الذي يحرك القلب ويملك الجنان.
وقد حلا لى من حكاياتهم أيضًا حكاية السندباد،
١٩٩ وهي تشتمل على الحوادث التي وقعت له في أسفار سبعة أتى عليها جميعًا في طلب
المال، وفي كل سفرة عجيبة لم يسمع أحد بمثل ما فيها من المتالف التي وجد الكاتب مَشقة
عَظيمة لاستنباط الحيلة فيها على وجوه تدفع الناس إلى ركوب الأخطار لنيل العلا والفخار،
بما تمتلك به أنفسهم من ذكر جبال الماس وعيون العنبر، وعجائب البلدان التي نزل بها
السندباد.
وعلى بعض ألسنة الأدباء أنَّ هذه القِصة ليست من وضع العَرب إنما نقلوها عن الهند
واليونان، وأضافوا إليها ما يحسن أن يكون في كلامهم حتى نفوا العجمية عنها. وهذا كلام
فيه بُعد عندي؛ لأني طالما سمعتُ رواتهم يحدثون بمثل ذلك، وفي مطلع الحكاية أنَّ
الحمَّال لما اشتد به الحر فحطَّ حملته على باب التاجر في ظلٍّ يتردد فيه النَّسيم
الرَّطيب، وتفوح منه ريحُ العِطر والطيب، وأنه كان يرى عزة ذلك التاجر في كثرة غلمانه،
ويسمع تغريد القَمارِي والشحارير في جِنانه، وينشَق من طعامه ريحًا أحزنت منه النفس؛
لانقطاع أمله منه، وهو بمكانه من التعب وشقاء الحال مما يستوقف الطرف، ويشهد ببراعة
الوصف فيما قصد إليه من بيان الفرق بين عيش الرَّخاء والنعمى، وعيش الشظف
والبلوى.
ولست أظن في هذه الحكايات السندبادية إلَّا أن واضعها رجل قد عانى الأسفار، وتقلب
على
متون البحار، حتى عرف ما بالأمصار، من عجائب الآثار وغرائب الأخبار.
وهذا شاهد على صحة ما ذكرناه من تقلب الكتاب في أيدي الأدباء الذين عَزَّ علم جميعهم
عن أن يضمه صدر واحد من الرِّجال، وإلا فإنَّ في وصف الحروب من ذكر الكرِّ والفر وحيل
الفرسان ما لا يستنبطه إلا مَن طال وقوفه في ساحات القتال، وكذلك في نوادر الزواج
والطلاق من المعميات ما لا يستخرج فتواه إلا فقيه مجتهد في الأحكام الشرعية أيما
اجتهاد، ولو لم يكن هذا الاستدلال صحيحًا لوجدنا في اختلاف الأقلام دليلًا واضحًا على
اشتراك الأدباء في تأليفه؛ لأنا نجد فيهم من يسترسل في المغالاة إلى أن يذكر عن فارس
من
الفرسان أنه قَتَل في معركة واحدة كذا وكذا من الخلق مما ليس في الإمكان إحصاء عددهم
في
يوم واحد فكيف بقتلهم؟!
ثم نجدُ من رسم قواعد الرِّواية على منهاج لم يتعدَّه إلى ذكر المبالغة التي بعدت
دلالتها عن الصدق، وإنما ذكر الأخبار للنظر في عادات الناس وأخلاقهم، وكيف يتقلبون
بالزمان أو يتقلب بهم الزمان، وذلك مثل ما قصد الأدباء إليه في كلامهم عن العرب من ذكر
المحاسن التي تفاخروا بها على جميع الأمم من الكرم والمروءة والعفاف، والمساوئ التي
تفانَوْا لأجلها في طلب الثأر وإدراك الغنائم، أو مثل ما قصدوا إليه في حوادث زماننا
هذا من ذِكر أخبار النِّساء كما هي، إلى غير ذلك من وصف العادات المترفة التي وقعت في
بغداد لهذا العهد، وهذا هو النوع الخاص الذي أرتاح إليه من حكايات ألف ليلة وليلة؛ لأنه
ينبئ عن أخبار العرب الخاصة، وفيه حسن وبراعة وصف لا مثيل لها في أدب الحكايات.
تدوين الأخبار وأيام الناس
إنما وضع العرب هذه الحكايات بعد أن توغلوا بالأسفار في أطراف البلدان؛ حتى تجاوزوا
الصين إلى ما وراء فَرغانة؛
٢٠٠ فاستفادوا بذلك غير ما كسبوه من الأموال أحوالًا شاهدوها وعاداتٍ جروا على
سُننها ومباني حاكوا منها الزينة والإحكام، وشرائع تفقهوا في استخراج ما فيها من
أحكام.
وكانت عادة المسافرين بعد عودتهم إلى الديار، أن يحدثوا الحي بغريب ما نظروه، وعجيب
ما سمعوه؛ فمن تلك الأخبار المنقولة ما اتصل بي من أنَّ في بعض الأمم رجالًا عراض
الوجوه، سود الجلود، لا يزيد طول أطولهم على أربعة أشبار،
٢٠١ وفي جلودهم نقط حُمْر وصُفْر وبِيض، وأن منهم مَن له أجنحة يطير بها، ومَن
رأسه كرأس الكلب، ومَن جسمه كجسم الثور أو الأسد،
٢٠٢ ولقد سمعتُ مَن يحدث أنَّ من البلغار من طوله أكثر من ثلاثين ذراعًا يأخذ
الفرس تحت إبطه كما تأخذ الطفل الصغير، ويكسر بيده ساقه كما تقطع باقة البقل
٢٠٣ إلى غير ذلك.
ولستُ أظنُّ هذه الأساطير التي تناقلها الإخباريون من أهل الأسفار إلا أنهم رأوا
رسومها على الآثار التي خلفها الهنود والفرس والقبط السالفة من قوم فرعون، وغيرهم من
أهل الأعصر الخالية فحدثوا بها رجمًا بالغيب، أو تحصيلًا لليقين من الريب، ظنًّا منهم
أن أمثال هذه الخلائق المشوهة عاشت في قديم الزمان، أو أنها لا تزال فيما قَصَا عنا من
البلدان.
ولما دارت هذه الأساطير بين الناس وتناقلها النُّدماء والجُلَّاس، أشفق العُلماء على
أخبار العرب وأيامهم من دخول الفساد عليها، أو امتزاج الحكايات الباطلة بها؛ فتسارعوا
إلى تقييد التاريخ في الأوراق حتى لا يتشوه على تمادي الأيام، بتداول الرواية على ألسنة
العوام.
وقد كان شعر العرب محفوظًا في صدور أهل العلم فنقلوه إلى الكتب للدلالة على ما يرومون
إثباته من الأخبار مع بيان صحتها واستخراج الكثير من عقائدهم وعاداتهم من أمثال هذه
الأسانيد المحفوظة، وهم يوقِّتون وقوع الحوادث السالفة مثل ما كان يوقِّته أهل الجاهلية
بقولهم هذا جرى في أيام كسرى، وهذا في حرب البسوس إلى غير ذلك.
٢٠٤ وأما الحوادث التي وقعت في الإسلام فقد أرَّخوها بالسنين والشهور والأيام،
وكانت أصح في النقل والرواية من أخبار الجاهلية؛ لأنَّ شأن الرواة فيها من الخلاف
والاختلاف والمخالفة أشهر من أنْ يُذكر، والحوادث إذ ذاك محفوظة بالأنواء وطلوع النجم،
ولم يسلم لهم من الفساد إلا علم الأنساب الذي حفظتْه فيهم العصبية
٢٠٥ حتى اتصلت أنسابُ أشرافهم إلى أولاد إبراهيم — عليه السلام — مثل أنساب
قريش وثقيف وغيرهم من البيوتات.
وأول من سبق إلى تدوين التاريخ محمد بن إسحاق
٢٠٦ في كتابه عن المغازي والسير وأخبار المبتدأ،
٢٠٧ ولم يكن التاريخ قبله مجموعًا ولا معروفًا ولا مصنفًا،
٢٠٨ ثم أخذ أهل العلم في تدوينه بعد ذلك.
ووضع محمد المعروف بالواقدي كتابًا في فتوح الشام ضمَّنه كثيرًا من سير الخلفاء
الراشدين — رضي الله عنهم — وأتى على ذكر الحروب التي سُعِّرت نارها على عمال الروم،
إلا أني رأيته يسوق الحديث في كلامه عن الجند والقتلى جزافًا، فيقولُ: إنَّه سار إلى
قلعة كذا خمسون ألفًا من المسلمين، وإلى حصن كذا كذا وكذا رجلًا وإلى البلد الفلاني كذا
خلقًا عظيمًا مما لو جمع إلى ما فرقه على سائر الحصون والقلاع لم نجد قدر نصفه في جنود
المسلمين كما ثبت عند أئمة النقل، وكذلك إكثاره في عدد القتلى من الروم كأن يقول: إنه
قتل منهم كذا وكذا من الآلاف مما لم يكن في جندهم مثلُه في جميع ما لهم من البلدان،
فربما انفرد الواقدي في علم الفقه والحديث، ولم يكن له باع فيما سواه من العلوم.
وقد دوَّن التاريخ بعد حماد الراوية وعبد الله الأصمعي وهما يعرفان أخبار العرب،
وأيامهم، وأنسابهم، ويُمليانها عن ظهر قلبهما إلا أن الخلل في رواية حماد أنَّه يقول
الشعر على لسان المتقدمين
٢٠٩ فيما يروم إسناده إليهم من نكتة، أو من خبر؛ فهو إلى المؤاخذة بما يُدخِل
على التاريخ من الأخبار الموضوعة أقرب منه إلى الثناء على ما يضعه من الشعر الذي لا
يفترق عن كلام الجاهليين.
يُقال: إنه روى لهم ألفين وتسعمائة قصيدة، لكل حرف من الحروف الأبجدية مَائة قصيدةٍ
كبيرة سوى المقطعات.
٢١٠ وأمَّا الأصمعي فليس ثمة من الأمور التي ننتقدها عليه إلا أنه كثير الرواية
واسعها؛ حتى يكون فيها بعض المِرْية عند كثير من أهل العلم، وليس ذلك لغرابتها أو
لبُعدها عن الصِّدق بل لكثرتها فيما نقل بمدوناته، وهذا لا ينقص فضله في العلم، ولكنه
من باب تعظيم الشيء الذي يزيد قدره على أن يكون مثله في صدر رجل.
ثم إني وجدت الأصمعي وحمادًا كليهما قد وقعا في الخطأ والقصور اللذين وقع فيهما أهل
الرواية قبلهما وبعدهما:
فأما الخطأ: فهو إعراضهم جميعًا عن ذكر محاسن الأعاجم ممن هو خارج عن دين الإسلام،
حتى لا يشغلوا كتبهم بذكر مذاهب كفرهم
٢١١ كما يقولون.
وأما القصور: فلكونهم يذكرون الحوادث من غيرِ أن يستوعبوا مبدأها وغايتها، ولا أن
ينظروا في عِللها وأسبابها ولا أن ينتقدوا على الملوك معايبهم فيما سقطت به دولهم، بعد
أن تسلموها بمكان عظيم من النفوذ والسلطان؛ ليكون في انتقاد الأشياء تذكرة
للناس.
ويظهر فضل التاريخ على سواه من العلوم الأدبية ببيان المحامد التي يسترشد بها،
والمساوئ التي ينبغي الاستنكاف منها والتنكب عن سبيلها.
هذا ما أعلقه في هذه الرسالة عن علوم العرب وآدابهم مما يشهد لهم بالفضل الجزيل؛
فيما
تمهروا في استخراجه من كُتب الأعاجم ونظروا فيه نظر بصيرة واجتهاد من جميع العلوم
والفنون والصناعات،
٢١٢ إذ كان لهم غير مَن ذكرنا من العلماء كثير من النقاشين والمصورين والصُّناع
مما يدلُّ على أنَّ لهم صورًا على الورق الصقيل
٢١٣ تظهر خارجة وليست بخارجة، وداخلة وليست بداخلة وفيها كل غريبة من الإبداع،
ورأيت من رسومهم على الآنية والأعمدة والقِباب ما يبهر البشر في إحكام الصناعة مع
الحلاوة وتمام الزينة مع الحسن والطلاوة، وهذا كله قد توصلوا إليه في عصر الرشيد
وملوكنا البرامكة — أعزهم الله — وقد سمي بالعروس
٢١٤ لخصبه ونضارته وكثرة خيره وانتشار علمه في جميع البلدان الإسلامية.
ولَعَمْري، إنَّ فيما ذكرت بهذه الرسالة من آداب العرب لشاهدًا ناطقًا ببلوغ الغاية
من العمران؛ إذ كان العلم مرآة يرتسم فيها حال الأمم في كل عصر ومكان.
وقد وقع تدوين هذا الكتاب في أول شهور السنة السادسة والثمانين بعد المائة من هجرة
نبينا المكرم ﷺ واللهَ نسأل أن يجمل حالنا بالستر الجميل، إنه بالمؤمنين رءوف
رحيم، لا رب سواه.