هذا تاسع كتبي إليك أفرده لذكر الرِّسالة إلى أنبرذور الفرنجة، وأنا أكتبه اليوم على
متن
السفينة في البحر الفاصل بين الروم وإفريقية.
كان الرَّشيد يوم وصل رسول الأنبرذور إلى الحضرة
١ قد استدعاني إليه فأصبته في مجلسه مُتنقلًا كأنه يريد أمرًا عظيمًا؛ فاستدناني
٢ إليه وقال: إنا أتانا من ملك الفِرنجة رسول يُقرئنا منه السَّلام، ويلتمس جميل
رعايتنا بمن يحج إلى بيت المقدس من ملته، فرأينا أن نوجهك إليه بلطائف نروم منه أن يتقبلها
في سبيل المودَّة لغاية نرغب فيها إليه هي التعصب على بني أمية الذين يُمزقون الأندلس
فيما
هو ناشب بينهم من الحروب،
٣ فإذا وافقنا على ما نروم من الاستيلاء على ديارهم؛ فهو المقصود من إنفاذك إليه
في هذه الرِّسالة، واجهد في أن تسترِق قلبه بخلابة لسانك، وتقدمْ إليه بالوعد الجميل
في
أننا نُوفيه حقَّه يوم الفتح. ونصرف له نفقة الحرب من بيت مالنا، ونجري الأرزاق الواسعة
على
جنده ونقاسمه ما تحوي خزائن الظالمين من المال والجوهر، واستصحب معك هذا اليهودي الذي
جاء
به رسوله فهو يترجم عنك إليه، وخذه بالتعظيم الكثير؛ لأنَّه شيخ مُترف جليل القدر فيما
نقل
الرسول إلينا، وقد قدَّمنا إلى مسرور أن يصحبك بالخدام مع الدواب والخيام إلى بيروت من
ساحل
الشام، فإذا عدت إلينا وأنت آخذ على مصر أَمَرْنَا الليثَ أن يوجه معك طائفة من الحرس
إلى
عَيْذاب فتوافينا إلى البلد الحرام حيث توافقنا حاجِّين، فسِرْ على بركة الله، وإياه
نسأل
أن يتولاك بعين الحراسة، ويهدي قلبك الصواب وهو ولي التوفيق.
فلمَّا أذِن لي بالانصراف أتيت البرامكة؛ لأستطلعهم رأيهم في المصلحة فلقيت جعفرًا
متنزها
في البستان، وبين يديه جماعة من الندماء؛ فلما أقلبت عليه قال: اخرج عما بنفسك وحدثنا
عن
سفر البحر، فقلت: وأنَّى ذلك؟ فقال: علم الله إني أنا الذي أشار على الرشيد بأن يوجهك
إلى
ملك الفرنجة رسول خير ومودة وسلام، ثم أومأ إلى الجلاس فتنحوا عن موضعنا فاستدناني إليه
وقال: بمَ أوصاك؟ فقلت: بكذا وكذا من الأمر، فوجم ساعة ثم قال: سبحان الله! إلامَ يتمادى
به
تغرير القتال؟ لقد أشرت عليه بأن يعدل عن مُناجزة الأمويين؛ لأنَّ لنا في الشرق ما يشغلنا
عن قتالهم، وفي الخوارج الذين يُقارعونه على الخلافة في كل حين ما إنْ ضعفنا عنهم مرة
واحدة
فسدت دولته فسادًا لا تقوم لها من بعده قائمة.
وكان في لطائف الخليفة إلى الأنبرذور فيل عظيم أبيض كان عند المهدي — رحمه الله —
أرسله
له بعض ملوك الهند،
٨ وثياب فاخرة من الوشي المنسوج بالذهب، وبسط ديباج من طَبَرِستان، وأعطار من
اليمن والحجاز، ومسك وصندل وأعواد نَد من الهند، وسُرادق عظيم مُجلل بأنواع الحرير وكلاليبه
من الذهب الملبَّس بالوشي، ومِزْولة كبيرة تدلُّ على الأوقات في ليل ونهار، وهي من عمل
صناع
بغداد، وشِطْرَنج بديع الحسن قد اتخذت أدواته من العاج المنقوش، صنعه نقاش من النَّصارى
اسمه يوسف الباهلي ورسم اسمه على الأداة التي تمثل الشاه، وهي من الحسن بحيث إن الناظر
إليها يكبر صناعتها، وقد مثل فيلًا يلف خرطومه على فارس وعلى رأسه جندي قد أخذ بزمامه،
ومن
حوله ثمانية فرسان يُراد بهم الرَّمز إلى البيادق الثمانية الذين يناضلون عن الشاه، وعلى
ظهره هودج مُزخرف بأنواع الرسوم، قد استوى فيه ملك على رأسه تاج مثل تيجان ملوك حمير،
٩ وقد أظهر هذا الرسام في تصويره من الحذق ما يستحق عليه الثناء؛ لأنَّه مثل
أصحاب الفيلة كما هم، وجعل في آذانهم أقراطًا وعلى زنودهم أساور وعلى أبدانهم القراطق
وهي
لباس الهنود، واتخذَ عدد الخيل مُزخرفة وصنعَ لها السُّروج والأزمة، وقلَّد الفرسان شيئًا
من السلاح ما عدا الجندي الذي أخذه الفيل بخرطومه؛ فإنه يُعالج نفسه للخلاص مما هو فيه،
وقد
طرح سِلاحه على الأرض وعليه سمة التوجع والانكماش
١٠ مما يشهد للممثل بأنه من مهرة الصناع.
المرور بالكوفة وبلاد الشام
لقد رسم لي طريق الوجهة بأن أسير إلى الكوفة، ثم إلى دِمشق، ثم إلى بيروت على ساحل
البحر، وكانَ مسيرنا في غاية البُطء؛ رفقًا بالفيل والدواب المثقلة بالأحمال، فاجتزنا
بعد الانفصال عن الحضرة بمدينة النيل التي مصَّرها الحجاج،
١١ وهي بمنتصف ما بين بغداد والكوفة
١٢ ثم عطفنا إلى الأنبار
١٣ ثم إلى مدينة الكوفة فنزلت بها في رحبة خُنَيْس الأنصاري من أجداد أستاذي
أبي يوسف — رحمه الله،
١٤ وهي في مُقابلة الباب الكبير المعروف بباب الفيل،
١٥ وقد طاب لي المقام بين أهلها لما وجدت فيهم من الحبِّ لأهل البيت
١٦ — شرَّفهم الله — ولا سيما في قوم كِنْدة من ملوك النصرانية، وهم من غلاة الشيعة
١٧ وأكثرُهم عالم وحكيم وأديب كان بيتهم معدن العلم ومظهر الحكمة، وقد لقيت
منهم إسحاق الكِندي وهو عامل الرَّشيد على الكُوفة، قلَّده الإمارة بإيعاز البَرامكة
الذين يُحافظون على تأييد الشيعة،
١٨ ويبغون من إلف الرَّعية فيما بينهم تعظيم الإسلام في انتفاعه بحكمة الأمم
وعلومهم وصناعاتهم، وقد جروا في ذلك على سنة أبيهم خالد — رحمه الله — وهو الذي قرَّب
بعض النصارى إلى أبي جعفر كما تقدم في موضعه من الكتاب.
ولقد وجدت الكُوفة من أعظم مُدن العراق،
١٩ وهي ذات ماء وشجر ونخيل،
٢٠ وقدَّرتُ أن تكون في الكبر كنصف بغداد، فحق تسميتها بالكوفة؛ لاجتماع الناس
فيها، من قولهم: تكوَّف الرمل، إذا ركب بعضه بعضًا،
٢١ وقد زارني فيها كثير من أدبائها المشهود لهم بالفضل والاجتهاد، ولكني لم
يتهيأ لي زيارتهم لقِصر الوقت، ولقد وجدتُ إسحاق أميرهم من العلم والعقل بالموضع الذي
أكتفي من الدلالة عليه بأنْ آسف لبُعده عن الإسلام، وهو يسكُن دارًا مُباركة تعزى إلى
عقيل بن أبي طالب،
٢٢ وهي بإزاء المسجد المبارك، الذي قال فيه بعض الصالحين: إن ركعتين فيه
تعدلان عشرًا فيما سواه من المساجد، وإن البركة منه إلى اثني عشر ميلًا من حيث أتيته،
٢٣ وقد زرته قبيل الانفصال على المدينة ولم أرَ في عمد المساجد كلها ما هو
أطول من عمده
٢٤ ثم زرت مشهد عليٍّ — عليه السلام،
٢٥ وتبركت به وقرأت عنده شيئًا من القرآن.
ولما انفصلت عن الكوفة تخلفت عني الدوابُّ المحمَّلة، فانقطعت في الفلاة مع جماعة
من
الحرس، ورُحنا نقطَع القفر بعد القفر، حتى إذا عَظُمت عليَّ مشقة السفر تذكرت طِيب
بغداد وظرائفها
٢٦ وحننت إلى مجالس البرامكة والدارُ عندهم جامعة، وأوقات الأنس بها رائعة،
فكنتُ أقولُ مُتمثلًا بكلام إسحاق النديم:
٢٧
على أهل بغداد السلام فإنني
أزيد بسيري عن ديارهمُ بُعدا
إذا ذَكرتْ بغدادَ نفسي تقطعت
من الشوق أو كادت تذوبُ بها وجدا
ولم أزل مجدًّا في السير حتى بلغت دِمَشق في اثنتي عشرة ليلة،
٢٨ ولو أني سرتُ تحت جناح الليل لبلغتها في ثمانية أيام
٢٩ فما دونها، فنزلت فيها عند قاضيها الإمام عمر بن أبي بكر بن تميم القرشي العدوي
٣٠ في دار بناها عويمر أبو الدرداء، وهو أول من ولي القضاء بدمشق، وكان
القُضاة فيها يسكنون قصر الحجاج
٣١ المعروف بالقصر الكبير.
أما الشام؛ فإنها بلاد مُباركة كثيرة الخيرات، وافرة الغلات، إلا أنها نكدة الحظ في
تغلب الأمم الغازية عليها؛ ولذلك قلَّتْ عمارتها إلى هذه الغاية بعد تغلب الكلدان عليها
والفرس الأولى والفراعنة واليونان والروم والفرس الثانية، ولا سيما قبيل أن يظهر
الإسلامُ، وقد كانت تُمزقها الحروبُ التي تسعرت نيرانها بين بني عامرٍ المتغرضين للفرس،
وآل غسان المتغرضين للرُّوم، فانتقض عمرانها ودرست سُبلها وتداعت أحوالها إلى الانحلال
بعد أن كانت في عظمة لم يكن مثلها في الدول إلا قليلًا، وكانت فيها التجارة كأعظم ما
يكون من النَّفاق وللعلوم والصنائع سوق رائجة رابحة، فدرست تلك المحاسن، وتقلصت تلك
الرسوم حتى لم يبقَ اليوم من مَصانعها غير رسوم شاخصة وآثار ناقصة.
وإنما دعا أهلها إلى الفساد وجلب عليهم المذلة وطمح بأبصار الملوك إلى التهامهم ما
وقع بينهم منَ الشِّقاقِ وما كان في نفوسهم من التحزب الذي هو أشد من الفتنة،
٣٢ فكان ظهور المرسلين فيهم سببًا لتعصب بعضهم على بعض، وإن كانت مواعظهم
داعية إلى المحبة والاتحاد، وهذا هو الأمرُ الغريبُ الذي لم يُسمع بمثله في البلدان،
فلقد كانت الشامُ مهبِط الوحي ومَسقط النبيين وموطِن الأولياء الطاهرين الذين كانوا
يتخذون الأنصار لنفوسهم ويرومون إدخال الناس في شيعتهم؛ ليجمعوا ما كان شتيتًا من شملهم
ومتفرقًا من كلمتهم وأغراضهم، إلا أنهم لم يبلغوا من ذلك الغاية التي كانوا يرومونها
من
أمرهم؛ فإنما الواجبُ على أهل الوطن الواحد أن تكون فيهم جامعة الألفة وألا يتعصبوا
بميولهم إلى غير ما يقصدون منه الوحدة؛ فإنَّ عظمة الأمم لا تحصل إلا بالاجتماع
والعَصبة، سنة الله في خلقه.
انظر إلى الدول الرومية كيف عبِث بها العدو حين وقع فيها الانقسام والتجزؤ، وانظر
إلى
الدولة الأموية لم يقارعها أبو مسلم على الخلافة إلا عندما تخالف عليها صِبيتهم
٣٣ فيما يرومون إليه من طمع النَّعيم، وانظر إلى أهل البيت السلالة الشريفة
والذرية الصالحة كيف وقعت بهم الشدَّة يوم تفرقوا على أغراض لا تجمع بينهم إلى الوحدة،
فلما اجتمعوا في المغرب إلى إدريس بن إدريس — رضي الله عنه — قام لهم مُلْك يرجف له
الشرق، فإن تنظر إلى ذلك كله وإلى كثير مما وقع وما هو واقع في الممالك تجد أنَّ الأمم
لا تقوم دولهم إلا برابطة الاجتماع والعصبية، ومتى تسقط من روابطهم تلك الأوصال ينذر
أمرهم بالانحلال وتتداعَ أحوالهم إلى الاضمحلال.
وصف دِمَشْق وأنها بهجة البُلدان
ولما وفدتُ على دمشق وسرحتُ الطرف ناحية الغُوطة امتلأتْ عيني من خضرة الأرض؛ حتى
تخيلت نفسي في جنة من جنات السماء؛ ولا غرو فإنَّ مياهها وأشجارَها ورَياحينها لأفضل
ما
في الدُّنيا من المتنزهات،
٣٤ يسيرُ الرَّجل في رياضها يومه لا تصيبه أشعة الشمس لالتفاف شجرها بعضه على
بعض، وهي في أسمى مقام بين مدن الإسلام، بعد دار السلام.
قد اشتبكت فيها العِمارة
٣٥ وتنزهت عن المثل في النضارة؛ لكنها ليست بالمفرطة في الكبر، وربما كانت إلى
الطول أميل منها إلى العرض،
٣٦ وهي لا تخلو من السقايات
٣٧ في أسواقها ولا بيوتها، ومبانيها طبقات فوق طبقات
٣٨ وتحتوي من الخلق على العدد الكثير، والناس على مذاهب فيمن بناها من
الأولين؛ فمنهم من يقول: إن عادًا أول من نزلها من الناس وإنها هي إرم ذات العماد،
٣٩ ومنهم من يذهب إلى أن بانيها الغادر غلام نمرود
٤٠ أو دمشاق بن كنعان، ومنهم من يزعم أن الذي اختطها هو دمشقس مولى الإسكندر الرومي،
٤١ ومنهم من يرى غير ذلك. إلا أنه ليس فيما يقولون حجة ترجع بهم إلى محاسن
التحقيق في وثائق الآثار، ولا سيما عند الذين يعزون بناءها إلى الروم، فإن الرد عليهم
واضح لا يحتمل التأويل بعد أن أتى موسى كليم لله على ذكر دِمَشق في غير ما آية من كتاب
التوراة.
ومهما يكن من اختلاف المؤرخين في ذلك؛ فإن هي إلا مدينة أوَّلية
٤٢ قد صحبت الملوك من الكنعانيين والروم وآل جفنة وبني أمية دهرًا طويلًا
ونالت من العزة والعمارة ما قلَّ أن يناله غيرها من المدن، ولو كان البناء الذي شاده
فيها الملوك من الحجر الصلد، ثم بقي ماثلًا إلى هذه الأيام لكانت دمشق زينة الدنيا،
ولكنه شيِّد من طينٍ ولَبِن فأتى عليه الانحلال ومحت الأيام آثاره،
٤٣ فلم يبقَ منه إلا قلعة من الحجر تُعزى إلى الروم
٤٤ وقصر يُقال له قصر جيرون عليه أبواب عجيبة من النَّحاس
٤٥ وبناء يُقال له البريص فيه كثير من العمد، وتزعم العامة أنَّه كان يجري منه
الشراب في قديم الزَّمان غير أنَّ أركانه اليوم قيام وقعود. وحيطانه ركع وسجود،
٤٦ وقصران من الحجر لعمر بن عبد العزيز
٤٧ وللوليد بن عبد الملك
٤٨ وهما جميع ما تخلف عن ملوك بني أمية؛ لأنَّ ما نجا من معول الزمان لم ينج
من معول أبي جعفر،
٤٩ كما مر في موضعه من الكتاب.
ولقد وجدت أهل دِمشق أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، يُكرمون الفقراء ويتلمسون منهم
أن
يتقبلوا صدقتهم؛ حتى يكونوا هم في صورة السائل،
٥٠ ولو أنَّ فقيرًا أعرض عن كِسرتهم لقالوا: ويحنا! لو علم فينا خيرًا لتناول
من طعامِنا.
٥١ وقد بلغني عن فضلائهم أنهم يزهدون في الدنيا، وينقطعون إلى الله — تعالى —
متبتلين في جبل لُبنان،
٥٢ غير أني لا أطلق هذه الرواية إلا على فئة قليلة من الصالحين؛ لأن جمهورهم
مائل إلى اللهو والطرب، ولا سيما في يوم السبت، فإنهم لا يشتغلون فيه إلا بالمجون
والتهتك، لا يبقى فيه للسيد حَجْر على المملوك، ولا للوالد على الولد، ولا للرجل على
المرأة،
٥٣ وهذا أمرٌ غريبٌ لم أرَه في غير دمشق ولا أعلم هل النصارى يشاركونهم في
ذلك؛ لأني رأيتهم مُنقطعين عن مُخالطة المسلمين في المنازل والأحياء، قد تألَّبوا على
كنيسة معظَّمة عندهم تُعرف بكنيسة مريم،
٥٤ ويُقال: إنها من أعظم بِيَعهم بعد بيت المقدس.
وبقيت في دمشق ثمانية أيام إلى أن وفد الغلمان بالدواب المحملة، وكنتُ قد استقصيت
البَحث عن هذا الأمويِّ الذي أتعب خاطر الرَّشيد أمره فلم أجد له غرضًا في السياسة، ولا
هو طامح إلى ملك ولا إمارة، ولا يُحدِّث نفسه بشيء مما يُقلق بال الرشيد حتى يخافه على
أمره، فأمسكت عن السِّعاية به؛ لأني رأيته وهو خِلو من هذه الأغراض مثل التاجر الكثير
المال والجاه ليس إلا، وقد تهيأ لي باستطلاع خبره أن أقف على سِيَر غيره من أقارب
الخلفاء مُتابعة لما نُقِل إليَّ من خبره فوجدتُ في الأولين عقلًا وسياسة إلا أنه لما
صار الأمر إلى صِبيتهم المترفين استرسلوا في القصف والتهتك،
٥٥ وعكفوا على اللَّذَّات واستخفُّوا بأمر الرعية، وغفلوا عن مصالح الملك؛
فأزاله الله — تعالى — عنهم وألبسهم ثياب الذل بذنوبهم.
وقد انتهى ترف مُلوكهم إلى الوليد ين يزيد
٥٦ وهو الذي أَخذتْ الخلافة في الانحلال بين يديه، وتحرَّك الدُّعاة في
خُراسان بما وجدوا فيه من قلة الخبرة بأمور الملك، وعكوفه على اللهو والطرب
٥٧ وقيام خلافته بين الكأس والوتر،
٥٨ وقد استرسل في التبذير حتى أنفق ما جمعه أجداده في بيت المال؛ لأنه أفرط في
الكرم إفراطًا فاحشًا؛ حتى إنه لم يقل: «لا» في سؤال سُئِله،
٥٩ وكان إذا وصل الشعراء عدَّ أبياتهم وأعطاهم عن كل بيت ألف درهم،
٦٠ وكان يتأنق في صنوف الملاذِّ من المطعم والمشرب والملبس، فيُقال إنَّه لبس
القلنسوة من الوشي
٦١ مُذهبة، واتخذَ العُقود من الجوهر كالنساء يُغيِّرها في اليوم مرارًا
٦٢ لشغفه بها، وكان يتختم بالياقوت، ووقع من خواتمه إلى بني العباس
٦٣ خاتم يُساوي أربعين ألف دينار، ويُقال في حسنه: إنَّه كان إذا أخرج من
محبسه أضاء المكان من شدَّة لمعانه.
وكان يسترسل في الطرب إلى أن يوجه رُسله
٦٤ في طلب المغنين من الحجاز وغيره، فتجد أنَّه لم يثقل أمره على الرَّعية من
وجه واحد، وإِنما هُناك وجوه قد ساقت عليه الفتنة، فقام الناس عليه وقتلوه شر قِتلة.
هذه نتف من أخبار حدثتْني بها مُغنية كانت له يُقال لها برق الأفق،
٦٥ وهي اليوم عجوزٌ تكاد تنال الأرض بوجهها من الكِبَر، وقد أخبرتني في بعض
حديثها أنَّ الجوهر كان في صباها مُتداولًا بين الناس، فلمَّا جمعه الوليد بن يزيد من
كل وجه وغالى به؛ غلا ثمنه منذ ذلك الحين،
٦٦ وهذا شيء من الإفراط في الترف لم نسمع بمثله عن أحد من الملوك المترفين.
ومن نظر إلى ما كان عليه ملوك بني أمية من العزة والصولة وما صاروا إليه من الذلة علم
أنَّ الله — سبحانه وتعالى — لا يُغير ما بعبده من نعمة حتى يغير العبد ما بنفسه
بارتكاب المعصية.
ولما طال مُقامي بدمشق تهيأ لي أن أزور أماكنها المشهورة، فزُرت موضعًا يُقال إنَّ
هابيل وقابيل نزلا فيه،
٦٧ ومَوضعًا يُقال له باب الساعات
٦٨ يزعم أهل الأخبار أنه كانت فيه قارة تقدم عليها القرابين، فما يقبله الله
منها تبتلعه نار من السماء وما لم يقبله يبقى في موضعه على الصخرة.
وزرت مشاهد جماعة من أهل البيت المشرفين والصحابة والتابعين والأولياء الصالحين
٦٩ في جبل قاسيون ومقابر الشهداء
٧٠ وجبَّانة الباب الصغير
٧١ وبينها قبور ملوك بني أمية
٧٢ مُتهدِّمة والرُّخام عليها مُتكسر،
٧٣ وزرتُ قرية في سفح الجبل المذكور يُقال لها بَرْزة
٧٤ يزعمُ الناسُ أنها مولد الخليل إبراهيم عليه السلام
٧٥ حضينِ الملائكة، وإلى ما فوقها حِجارة مَصبوغة بشيءٍ يُشبه أن يكون أثر دم
عتيق، يقولونَ: إنها الحجارة التي رضَّ بها قابيل رأسَ أخيه هابيل
٧٦ ثم جرَّه إلى مغارة هُناك يُقال لها مغارة الدم،
٧٧ وفي حضيض الجبل مغارة أخرى تُسمى مغارة الجوع، يزعمون أنَّ سبعين نبيًّا
ماتوا فيها من الجوع، وإني لأستحيي أن أنقل حديثهم كما قالوه؛ فإنهم يقولونَ: إنهم
سبعون ألف نبي
٧٨ — كأنَّ كل مَن عاش في الشام نبي أو ولي — وفي طرف الجبل مما يلي الغرب ربوة
٧٩ يقول المفسرون: إنها هي المذكورة في قوله — تعالى:
وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ويرد عليهم
آخرون بأن المراد بها ربوة في الإسكندرية
٨٠ من ديار مصر.
وهناك مَسجد يقولون: إنَّ المسيح — عليه السلام — أوى إلى مغارة بجانبه، وفيه حجر
قد
انفلق إلى شطرين، ولم ينفصل أحد الشقين عن الآخر بل اتصلا كرمان مشقوق،
٨١ ولهذا المكان منظر حسن من البساتين والخضرة في جميع جوانبه، ولا إشراق
كإشراقه حُسنًا وجمالًا واتساع مسرح للأبصار، وفيه تنقسم مياه المدينة إلى أنهار سبعة
٨٢ أكبرها نهر يزيد ونهر ثَوْري
٨٣ وهما فيه نهر واحد يعرف بنهر بَرَدَى وهناك بعض قرى مثل نَيْرب ومز
٨٤ والسهم وسَطْرَى،
٨٥ وفيها الجوامع والمرافق والحمَّامات إلا أنه لا يظهر منها إلا ما سما بناؤه
لتطاول الشجر عليه، وفيها من الفواكه والتفاح والخوخ وسائر الثِّمار ما ليس في البلاد
مثله صحة وطيبًا،
٨٦ وإلى ما يليها من طرف الجبل موضعٌ يُقال له عين برما
٨٧ كان معمورًا لأيام معاوية بن أبي سُفيان بجماعة من أهل خراسان ثم توالى
عليه الخراب لظلم الخلفاء بعده حتى أصبح إلى هذه الغاية كليل العين، وبقي الأثر من
عمارته وذهبت العين.
ولقد كانت دِمشق فيما خلا من الزَّمن الغابر ممزوجة بصنوف غير مُحصاة من فضلات
العمران، ويعيبها كثرة الوحول في أزقتها وتراكم الطين في ساحاتها، فلما أقام فيها
الأمويون شرعوا في إزالة الأقذار
٨٨ منها وقاية من الطاعون الذي كان يقع بها تباعًا في السنين السَّالفة
٨٩ وهذا هو الأثر الذي تشهد لهم البِلاد به كما تشهد لهم الآثار الباقية عنهم
بتشييدهم البناء على الهندسة التي لا نجد أعظم منها وقعًا في القلوب، ولا أَتَمَّ
حُسنًا وجمالًا في العيون، كالذي يَبْلُغنا عما بنَوْه في الأندلس
٩٠ من القصور التي حارت في جمالها عقول الفرنجة، فقد شاهدت دار الوليد بن عبد
الملك من قصورهم في دمشق فوجدتُها بَدِيعة الحسن مبنية بالحجر والصُّفَّاح والأعمدة،
مفروشة بالرُّخام الأخضر
٩١ وهي تتناهى في البَهاء والإشراق إلى أن يضرب بها المثل
٩٢ في إحكام رسومها وجلالة بنيانها، ولو لم يكن من تمام زينتها إلا الأعمدة
المزخرفة مَنصوبة في أروقتها فُرادى وأزواجًا لكفى البصائر روعًا ووسع الأبصار
ابتهاجًا، وأذكر أنه لما أدخلني صاحب الوقوف رياضها لمشاهدة ما فيها منَ الأشجار الغريبة
٩٣ لم يتحول نظري عن القصر لما راعني من حُسنه المفرط، وأعجبت به من الزينة
التي يُكبرها الناظر، ويقف عندها وِقفة الذَّاهل الذي به عقدة من السِّحر، وهو بين
أساطين دقيقة وقِباب رفيعة ورواشن
٩٤ مخرمة وخرجات مُزينة وطيقان مُجسمة بالجصِّ المنقوش وبينها من الرسوم
العجيبة ما تجول فيه الأفكار فتجِلُّه وتميل إليه الأبصار فلا تَملُّه.
جامع الوليد المعروف بالجامع الأموي
هو أفخر مأثُرة لملوك بني أمية، بناه الوليد بن عبد الملك صاحب القصر المتقدم ذكره،
وكان ذا هِمة في تشييد العمارات والمساجد
٩٥ والقصور، وقد شملت عنايته جميع البلدان في تسهيل الثنايا وحفر الآبار
وإصلاح الطُّرق، حتى كانَ الناسُ في أيامه إذا تلاقوا في الأسواق والمجالس، تساءلوا عن
العِمارة وعن أي بناء شرع فيه خليفتهم، كدأبهم في التساؤل عن الخير والصلاة في أيام عمر
بن عبد العزيز، وعن الطَّعام في أيام سُليمان بن عبد الملك، وعن اللهو في أيام الوليد
بن يزيد، وليس في بلاد الإسلام كلها مثلُ هذا الجامع حُسنًا وإتقانًا
٩٦ وجمال رسمٍ وتمام زخرفة وزينة، وهو مائل إلى الجهة الشمالية من المدينة،
وقد سمعت عن سفيان الثوري أنَّه قال: الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة.
٩٧
كان موضعه قبل الإسلام بِيعة للنَّصرانية تُعرف بكنيسة ماريحنا،
٩٨ ومن قبل ذلك كان بيت عِبادة لأهل جاهليتهم، فلما دخل المسلمون المدينة
عَنوة تحت قيادة خالد بن الوليد أخذوا نصف الكنيسة، ثم دخل أبو عبيدة بن الجرَّاح صلحًا
فانتهى إلى نصفها الآخر، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى فبقي نصفها في أيديهم، وقد
كانوا يزعمون أنَّ الذي يهدم بيعتهم يُجنُّ، فلما صارت الخلافة إلى الوليد قال: أنا
والله أول مَن يُجنُّ في سبيل الله، ثم بدأ الهدم بيده
٩٩ فبَادر المسلمُون وأكملوا تخريبها حتى هاجت النَّصارى وعلا صياحهم،
فعوَّضهم الوليد عنها مالًا جسيمًا وأرضاهم بكنائس عدَّة صالحهم عليها،
١٠٠ ثم وجَّه إلى ملك الروم
١٠١ في إشخاص اثني عشر ألفًا من العَمَلَة والصناع المرخمين، وتقدم إليه
بالوعيد إن هو توقف، ثم أكمل هدمها سوى حيطانها، وأنشأ فيها القناطر وحلَّاها بالذَّهب
وعلَّق فيها الأستار من الوشي والإبريسم، وبَقي العملُ فيها نحو تسع سنين، وكان يعملُ
فيها ألف مُرخم يجلب إليهم الرُّخام
١٠٢ والمرمر من كنيسة أخرى لأُمم النصرانية بمدينة أنطاكية تعرف بمزور.
١٠٣
وقد غرِم الوليد في هذا الجامع من الدنانير المضروبة زنة مائة وأربعة وأربعين قنطارًا
١٠٤ بالدمشقي، وذلك يُعادل عشرة آلاف ألف دينار،
١٠٥ وقرأتُ في بعض الكتب أنَّ جملة المنفق عليه كان أربعمائة صندوق، وفي كل
صندوق ثمانية وعشرونَ ألف دينار، ففي القَدر الحاصل منه توافق بين الروايتين.
وكان المتولي على النفقة عمر بن عبد العزيز
١٠٦ قبل أن يلي الخلافة، وقد اتخذ في المسجد ستمائة سلسلة من الذهب
١٠٧ للقناديل والثُّريَّات، وزيَّن جدرانه بفصوص من الذهب والفُسَيْفِساء
ممزوجة بأنواع من الأصباغ العَجيبة تُمثل أشكالًا من الرسوم لم يُرَ أبهج منها في
العيون، ورفع عُمده من الرُّخام المجزع طبقة فوق طبقة،
١٠٨ واتخذ الأساطين الضخمة فيما يجاور الأرض، والسواري الدقاق فيما يعلوا
الحنايا والقِباب، وفي خلال ذلك صور المدن والأشجار بالألوان والذهب، وكتب في حائط
المسجد بالذهب على اللازورد: «ربنا الله، لا نعبد إلا الله، أمر ببناء هذا المسجد وهدم
الكنيسة التي كانت فيه عبد الله الوليد أمير المؤمنين في ذي الحجة سنة سبع وثمانين.»
١٠٩
أمَّا طولُ هذا الجامِع — وذلك منَ الشرق إلى الغرب — فهو مئتا خُطوة أو ثلاثمائة
ذراع،
١١٠ وعرضه من القِبْلة إلى الجوف مائة وخمس وثلاثون خطوة. وأبوابه أربعة؛
أولها: الباب الشرقي ويعرف بباب جَيْرون، وعليه عمودان من الحجر في غاية الإفراط في
الطول والعرض، يُقال: إنهما من بقايا الكنعانيين؛
١١١ إذ ليس في وسع أهل هذا الزَّمان قطعهما ولا نقلهما. ثم الباب الشمالي
ويُعرف بباب الناطفيين، وكان مدخل الكنيسة قديمًا. ثم الباب الغربي ويُعرف بباب البريد.
ثم الباب الجنوبي ويُعرف بباب الزِّيادة وهو يُفضي بالخارج منه إلى دار مُعاوية
١١٢ المعروفة بالخضراء، وكان قد نزلها مروان بن الحكم بعد واقعة مرج راهط كما
هو معروف.
وفيه ثلاث مقصورات، أشرفها المقصورة التي اتخذها مُعاوية — رضي الله عنه — عندما
كان
للمسلمين نصف الكنيسة، وتُعرف بالمقصورة الصحابية، وهي أول مقصورة صنعت في الإسلام،
١١٣ بناها هذا الرجل العظيم وقاية لنفسه من الخوارج أن يغتالوه في أوقات الصلاة
كما اغتالوا عليًّا — عليه السلام — فكان إذا سجد قام الحرس على رأسه بالسيوف،
١١٤ وإلى جانب هذه المقصورة خزانة مُغشاة بالنقوش فيها المصحف الكريم الذي وجهه
عُثمان بن عفان — رضي الله عنه — إلى الشام
١١٥ وأخرج إليَّ منها صاحب الوقوف خاتمًا من الفضة للوليد بن عبد الملك، قد
نُقش عليه: «يا وليد، إنك ميت ومُحاسَب.» وآخر لأخيه سُليمان وكلماته: «آمنتُ بالله مُخلصًا.»
١١٦ فأخذتهما لأطرف بهما المأمون عند عودتي إلى بغداد ليضيفهما إلى ما لديه من
خواتم الخلفاء، وعلى هذا الجامع قبة دورها ثمانون خطوة عليها رَصاص يمتد منها إلى أن
يُغطي سُطوح الجامع كلها بألواح طولها أربعة أشبار في عرض ثلاثة، ورُبما اعترض فيها نقص
أو زيادة.
وهيئة السُّقوف من الخارج هيئة نسر قد نشر جناحيه، وكأنما القبة رأسه، وهي في سمو
الارتفاع بحيث تراها من أي موضع استقبلت دمشق. أما صحن المسجد فإنه من أجمل المناظر،
وعلى جُدرانه آيات من القرآن الكريم، ورسوم بالذهب تدهش البصر والبصيرة وهُناك مجتمع
الدمشقيين ومتُنزههم، لا يزالون فيه بكرة وعيشة يقرءون ويتحادثون.
ولهذا الجامع ثلاث صوامع
١١٧ واحدةٌ بالجانِب الشمالي، وهي مُذهبة من أسفلها إلى أعلاها،
١١٨ وفيها مقاعد ومجالس، واثنتان بالجانب الغربي وإحداهما أكبر الصوامع
الثلاث.
وقد وجدتُ في أروقته ودهاليزه وصحنه وفي المساجد المتشعبة منه ماء يجري بلا انقطاع،
وشاهدتُ في البلاط القِبلي قُبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابية تابوتًا مُعترضًا
من الأسطوانة وفوقه قنديل مُوقد أبدًا في الليل والنهار، يُقال إنه مشهد رأس يحيى بن
زكريا — عليهما السلام،
١١٩ ومِن حوله عمد عجيبة قد ظهرت فيها عروق أخرى من غير ألوانها تتخيلها العين
منزلة فيها بأيدي الصُّناع، إلى غير ذلك من المحاسن التي حواها هذا الجامع المبارك،
وعظمت عن أنْ يُحيط بها وصف، فإني لأحسب الزائر لو تردد إليه زمانه لرأى كل يوم ما لم
يكن قد رآه قبل
١٢٠ من جمال الرَّسم وإحكام الصَّنعة، كما أحسبُ أنه لا يزوره أحد إلا وهو
يجدِّد الدعاء لبانيه
١٢١ وإن لم يكن له ميل في السياسة مع الأمويين.
المرور ببعلبك وركوب البحر من بيروت
رَجْعٌ إلى قصِّ الرحلة، ركبتُ من دمشق في غد اليوم الذي سافرت فيه الغلمان إلى
بيروت، فوصلت في منتصف الطريق إلى بلدة غنَّاء ذات سور قديم، يُقال لها: بعلبك «ومنها
إلى الزَّبَداني؛ وهي مدينة على طرف وادي بَرَدَى ثمانية عشر ميلًا»،
١٢٢ وهي ذات أشجار وأنهار وعيون وخيرات كثيرة
١٢٣ وفيها الكرم الخصيب، ولقد لقيتُ فيها فيلسوفًا من النَّصارى يُقال له قسطا
بن لوقا،
١٢٤ صاحبني في زيارة الآثار التي فيها وأخبرني عنها بأشياء كثيرة، رُبما أتيت
على بعضها في سياق الحديث.
وقد أخذت هذه الآثار العظيمة بمجامع قلبي حيرة وإعجابًا، وأعظمها هيكلان كبيران
أحدهما أعتق من الآخر
١٢٥ وفيهما من النُّقوش العجيبة المحفورة في الحجر ما لا يتأتى حفر مثله في
الخشب، مَع ارتفاع جُدرانهما وضَخامة حِجارتهما وطول أساطينهما وعجيب بنيانهما
١٢٦ مما يذهب العقول تعجبًا من اقتدار الرجال على مثل هذه العظائم.
وقد أخبرني قسطا هذا الفيلسوف أنَّه لا يرى إلا هذين الهيكلين من بناء أُمَّة ماهرة
في فن الهندسة، كما أنه لا يرى الحنايا التي تُقِلهما إلا أعتق من الآثار الظاهرة، وفي
ظنه أنها وضعت في أيام سُليمان بن داود — عليهما السلام، ولما جاءت الروم الأولى هدموا
المعبد العتيق، ورفعوا الهياكل الماثلة مكانه.
أما الحجارة الثلاثة العظيمة التي تُعد من عجائب الدنيا؛ فقد رفعها الرُّوم بأيدي
عبيدهم على ما جرت به عادتهم من استخدام الأسرى في البنيان، وليس كما تزعم العامة من
أن
الجن هم الذين بنوها لسُليمان — عليه السلام — كدأبهم فيما يحدثون عن كل أثر
١٢٧ من آثار الأولين فيه معجزة للآخرين.
وإنما رفعها الروم بالحِيَل الهندسية والقوة الآدمية
١٢٨ يدلنا على ذلك ما نجد في أطرافها من النُّقَر التي تقضي بأنها كانت ترفع
جرًّا بالأمراس، بأن يمهد لها في الأرض سطح من التراب يرتفع شيئًا فشيئًا مع امتداده
إلى أن ينتهى إلى حيث هي مرفوعة، ثم تجر بالسلاسل على عجلات لها بكرات من الفولاذ عريضة
الأطراف حتى لا تغوص في التراب صغيرة الجرم حتى تحتمل الثقل، وتكون أشد من البكرات
الكبيرة التي لا بدَّ أن تلتوي تحت هذه الحجارة العظيمة، ولا تأتي بالمقصود من
استعمالها لرفع الأثقال.
وقد كانت سياسة الروم مع الأمم التي يتغلبون عليها أن يأخذوا دينها بالتعظيم والتبجيل
ليستميلوها إليهم ويبيتوا في أمن من تحركها للفتنة على غير اضطرار إلى حِراستها بالجند،
إذ تنبئ الأخبار السالفة أنهم كانوا يملكون مُعظم العالم، فلو دعاهم حفظ البلدان إلى
إقامة الجند فيها للزمهم آلاف الألوف، وهذا بعيد عن أنْ تقوم دولة من دول العالم
بكفالته؛ فلما دانت لهم الشام وكان بعل
١٢٩ معبودًا فيه من الصابئة وغيرهم كما قال — تعالى:
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ بنَوْا لعبادته
هذا الهيكل العظيم على شكل غريب يقصدون به الإعجاز؛ ليظهروا ضخامة ملكهم لأهل المشرق
واقتدارهم على عظائم الأمور، إذ ليس للظن بأنهم قصدوا إلى المَنَعة موضع في نظر
العقلاء.
فهذا أحد اللولبين اللذين يُفضيان بالراقي عليهما إلى سطح الهيكل قد اتخذ أعلاه بما
هو زائد على النصف من حجر واحد فُصِلت منه الدرجات والسقف والحائط الدائر من جميع
جهاته، وكذلك الحجارة الثلاثة العظيمة قد اتخذت في أعلى الجدار؛ لتظهر للوافد على بعلبك
من حيث هو مُستقبل للهيكل، فلو أنه أريد بها المنعة لاقتضى ذلك أن تكون في أسفل الجدار
لا في أعلاه، كما أنه لو أريد ذلك من اللولب لكان النصف المتخذ من قطعة واحدة قائمًا
فيما يُداني الأرض أو يماسها، حتى إذا وهَى أعلاه بقي هو في موضعه، أو تداعى جدار السور
بقيت الحجارة الثلاثة مردًّا لهجوم العدوِّ.
ثم إنَّه لما انقرضت الروم الأولى وانفرد ملك الروم الثانية بالقسطنطينية وسائر
المشرق، وقد أخذوا في تعظيم النصرانية رأوا أن بقاء هذا الهيكل محجةً للناس تنشغف
أفئدتهم بما فيه من الغريب، ولا يقصدون الكنائس وهي دونه في البهاء والإشراق مضرٌ
بالنصرانية، وحابس لها عن أن تعم الشام؛ فعمدوا إلى تخريبه ومحو الأثر الماثل منه، وكان
في القسطنطينية بطرك ذو عقل ودهاء يُقال له فم الذهب يحنا، فأشار على القيصر أن يتخذه
كنيسة لعبادتهم؛ لتحصل المنفعة منه مع حفظ الأثر الجميل، فاتخذه كذلك. وفي رواية أنه
أشار عليه بأن يُعمِل فيها الفئوس ففعل أو يُقال إنه لم يفعل. فانظر إلى هذا الهيكل
كيف
تقلبت به أغراض الأمم فقد شادتْه الروم الأولى لغرضهم في الدنيا، ثم خربته الروم
الثانية لغرضهم في دينهم، ثم مثلت آثاره لهذا الزمان ناطقة بعزة الله، شاهدة أن لا باقي
سواه.
ولما انفصلتُ عن بعلبك مررتُ بسهلٍ أفيحَ يُقال له البِقاع وعرَّجت فيه على موضع
يُسمى بكَرخ نوح،
١٣٠ يزعم أهْله أنَّ فيه قبر صاحب السفينة — عليه السلام.
وكنتُ أرى بمقرُبة من كل قرية من قراه ردومًا قد تراكمت أمثال التلال؛ كأنها من بقايا
أمة قد خلت، وصرفتُ من بعلبك إلى بيروت يومين في جبل لُبنان لصعوبة مسلكه، وكنت أميل
إلى عيون القرى لتنزيه النفس وإرواء الظمأ، وإنها لكثيرة في هذا الجبل المبارك وهي
تمذَع في شعفاته.
وأقمتُ في بيروت — حرسها الله — ثلاثة أيام أنتظر هبوب الريح الموافقة، وهي مدينة
جليلة
١٣١ على ضفة البحر، طيبة الإقليم، عليها سور من حجارة
١٣٢ تحف بها عمارة مُشتبكة في سفح لُبنان كان يستجيدها الوليد بن يزيد المقدم
ذكره فيقول:
١٣٣
رُبَّ بيت كأنه متن سهم
سوف نأتيه من قُرى بيروت
ثم يقول،
١٣٤ والنفس تائقة إليها والقلب مَشغوف بحماها:
ألا يا حبذا شخص
حِمَى لُقْياه بيروت
وهي فرضة دمشق ومعظم الشام، وفي مرساها مجتمع كثير من سفن التِّجارة، ويُجلب منها
حديد
١٣٥ لبنان إلى ديار مصر، وفي شرقيها نهر يُغلظ في الشتاء قد بنى له قدماء أهلها قناة
١٣٦ يُجرون الماء فيها إليهم، وإلى غربيها مشهد الأوزاعي — رحمه الله — وميلاده ببعلبك،
١٣٧ وهو فخر المحدِّثين من أهل الشام، وله في علم الحديث
١٣٨ مدونات جمع فيها الصحيح المروي عن الصحابة والتابعين ومن سمع منهم، واستخرج
الأحكام الشرعية على مذهب انفرد به أهل تلك البلاد.
وقد كان لبيروت شأنٌ عظيمٌ في غابر الأيام، وكان عليها ملوك من الكنعانيين، ومن قام
بعدهم بأعباء الدول الجِسام، وكان للعلوم فيها سوقٌ ليس بعدها غاية في الرواج، حتى إنها
دُعيت بمدينة الحكمة، وكان للروم فيها منازل وهياكل هجروها بعد الفتح وجلوا عنها جلاء
لم يرجعوا بعده، إلى أن عاد إليها العمران في الإسلام بقيام الخلافة في دمشق؛ إذ كانت
المدن لا تصلح إلا بقيامها بالملك أو قيام الملك في جوارها حيث تتوارد الخيرات وتتقاطر
الوفود ويحصل الأمن للتجارة.
وإن كنتُ قد شهدتُ لهذه المدينة بطيب الهواء؛ فإني لا أُنكر ما في ريحها الشمالية
من
الرطوبة التي تحدث في الرأس ألمًا لا يشعر به إلا الغريب الزائر،
١٣٩ غير أن هُبوبها فيها ليس بالمتواصل حتى نعدَّه من عيوب الأقاليم؛ بل الغالب
على بيروت ريحُ الصَبا التي تنعش النفس، تأتيها من ناحية الرِّمال المنبسطة على شاطئ
البحر، فرُبما وجدت هذا الموضع أصلح للسُّكنى من البلد العتيق.
وفي ظني أنه إذا توافر العمران فسيضطر الناسُ أن يحدثوا بناءهم في هذا الموضع؛ إذ
هو
أقرب وجهًا إلى نسيم الصبا منه إلى ريح الشمال.
وركبتُ البحر من هذا الثغر المحروس في أول يوم من شعبان، وجرى مَركبنا بهواء شمالي
لطيف ليس بالثقيل ولا بالخفيف، أرسله اللهُ إلينا بكرمه ولطفه، واستمرَّ سيرُنا في
البحر نحو عشرين يومًا إلى أن أقبلنا على مالِطَة، وهي جزيرة في أول بلاد الفرنجة، وبها
كنائس مُعظَّمة لأمم النصرانية، فلبثنا يومين في مرفئها نتسوق منها الزاد، ثم غادرنا
إلى مرسيلية في ساحل الديار الرُّومية إلى غرب اللنبردية.
١٤٠
لقاء القيصر والمنصَرف من الرسالة
ولما أقبلنا على مُرسيلية لم نرَ لها شيئًا من زخارف البُنيان، ولا وجدنا في أهلها
أثرًا من محاسن العمران؛ لأنهم كانوا قبل دخولهم في ولاية هذا الأنبرذور أهل جاهلية
وخشونة، تستعبدهم طائفة طاغية من أنفسهم، تُجري فيهم القضاء بحسب هوى النفس، فلمَّا
استولى على ممالكهم أقام عليهم أميرًا فوَّض إليه أمر الجند والقضاء وجباية الأموال،
وجعله بمنزلة الوزير في الإسلام. وأقام تحت يده طائفة من العمال يتولون المناصب في
ولايته، ولهم ألقاب معروفة عندهم مثل المركيس وغيره.
وليس في مرسيلية من البنايات المزخرفة سوى قصر مبني على عَلياء تُشرف على المدينة،
يَظهر أنه كان مسكنًا لبعض أمراء الجاهلية، وكنيسة عليها قباب مرفوعة نصبها هذا
الأنبرذور الذي نصر أُمَّته ونصر القسيسين والرُّهبان كما هو معروف، وقد نظر بعين
العِناية إليهم وأحسنَ بالنعم الطائلة عليهم، واتخذ منهم أولياء يستشيرُهم في أموره
ويرجع في السياسة إلى رأيهم، إذ كان القومُ من دونهم همجًا لا يعرفون القِراءة ولا
أميطت عن بصائرهم غشاوة الجهل، ومعظمهم عبيد للمتمول من التجار، يموتون جوعًا بين يديه
وهم يبللون أرضه بعرق تعبهم وشقائهم ثم لا يحصُلون على كِسرة تُمسك رَمقهم، فأينَ هذا
من حضارة العرب وصلاح أمرهم واتِّساع المعايش بين أيديهم واحتذائهم أشرف السُّنن
العادلة؟ فكأن الله — تعالى — قد خص هذه الأمة من الفضل والنعم
١٤١ بما حرم مثلَه أمم المغرب، فإنَّ العرب أحلى منهم وأحلم، وأعلى وأعلم،
وأقوى وأقوم، وأعطى وأعطف، وأحصى وأحصف، وأشرى للفخار وأشرف، وأنفى للعار وآنف، وحسبي
بما نقلت إليك من أخبارهم في هذا الكتاب دليلًا على ما ركَّب الله في طبائعهم من الأنفة
وعزة النفس، وما آتاهم الإسلام من المحاسن التي تُشرفهم وتُعلي ذكرهم.
وقد شاهدتُ في ديار القوم كثيرًا منَ الأمور التي أخاف إن أتيت على بيانها أن تجرَّ
الحديث إلى الخروج عمَّا أنا بصدده من ذكر الرسالة.
وقد وجدتُ عاداتهم غير مُنطبقة على عادات الشرقيين، بل كثيرها مُستهجن أو باقٍ على
خُشونة جاهليتهم، ومِنَ الغريب المألوف عِندهم أنَّ النِّساء يمشين في الأسواق بلا
نقاب، ويجلسن مع الرجال سافرات الوجوه، وهذا استرسال لا أظن أنْ تُصان معه الأعراض
صيانتها في المشرق من وراء الحجاب.
وقد وقع بيني وبين الأمير الذي صحبني في مرسيلية مذاكرة في هذا الأمر، وكان يظنُّ
أنَّ المرأة ذليلة في ملتنا، وأنَّ منع ظهورها إلى الرجال ناشئ من جهة استصغارها
وتحقيرها، فذكرتُ له أن الله — تعالى — قد وفَّاهن حقوقهن
١٤٢ في الدنيا والدين، ووعد الصالحات منهُنَّ نعيمًا مُقيمًا في الآخرة وأمر
بأن تُجرى عليهن الوراثة التي لم تكن لهن قبل الإسلام.
وكان أمير مُرسيلية عندما اتصل به خبر وصولي بالرسالة قد أخرج إليَّ الجند، ولم يترك
شيئًا من مظاهر الاحتفاء إلا أجراه في سبيل تعظيمها وإجلالها، فلمَّا سألته عن
الأنبرذور أخبرني أنَّ له غيبة في رُومة لأمرٍ بينه وبينَ الباب
١٤٣ الذي هو خليفة الأمم النصرانية، وأنه يمكث عنده أربعين أو خمسين يومًا،
فاستطلت هذه الغيبة منه، وخِفت فوات الحج إن بقيت متنظرًا رجوعه، فرأيت أنْ أوافيه
برومة، فركب معي من لدن الأمير رسولٌ إلى القيصر وجزنا عباب هذا البحر الذي لم تجُزْه
بعدُ سفن المسلمين إلى أن منَّ الله — تعالى — علينا بالوصول إلى رومة بأيمن طائر وألطف
ريح، والحمد لله على جميل ما يولينا من النعمة ويتداركنا به من اللطف.
ولما أقبلنا على رُومة أبلغ الرَّسُول الأنبرذور خبر قدومي من لدن الرَّشيد فسيَّر
إليَّ أمراء دولته وأهل حاشيته وبطانته، فساروا بي إلى حيث هو مُقيم في دار الباب، وهو
قصر بل قصور جمعت بين الضخامة والإحكام، وعُنِي البابون من خلفاء بطرس كبير الحواريين
بتجميلها وتزويقها حتى صيروها نزهة جمعت الجمال والحسن، وكنت حين جاوز بي الأمراء
مقصوراتها إلى مجلس الأنبرذور قد رأيتُ على جُدرانها صور مُلوك وأئمة وعباد قد طحنتهم
رحى المنون، فلمَّا دخلت عليه وجدته جالسًا على مِنصة من فوقها قبة عليها كتابة
بالرومية، وهي مجللة بالذهب، وعلى رأسه تاج مرصع باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وفي يده
قضيب الملك، وعليه حُلَّة من الوشي كأعظم ما يكون من حلل الملوك، وبين يديه حرس قد
وقفوا بالسيوف المشهورة والحراب والأعمدة، وبينهم جماعة من العلوج وأشراف العساكر
وطائفة من الجثالقة والرُّهبان المقدمين قد لَبسوا الوشي الذي يُقيمون به الصلاة في
أعيادهم ومواسمهم، ولكن لم نرَ مثله على مَن يجاورنا منهم في المشرق حُسنًا يُعشِي
الأبصار بريقه ولمعانه.
فلما مثلتُ بين يديه قمتُ بما وجب عليَّ من الإجلال له، وبلغته سلام الرشيد على لسان
المترجم، فكلمني بترفُّع الملوك الذين توقع جلالتهم مهابة في قلوب الوافدين عليهم، ولكن
من غير أن يكون في نفسه جبروت، وشكر للرشيد مودته وأثنى عليه ثناء جميلًا، وكان الأمراء
والرهبان يمدون إليَّ أعناقهم ويحدقون فيَّ بأبصارهم كأنهم لم يرَوْا من قبلي مشرقيًّا
على دين الرسول ﷺ.
ثم أشرتُ إلى الترجمان أنْ يذكر له هدية الرشيد، وأنه يُطرف بها جلالته لارتباط
المودة بينهما، فشكرني على ذلك مرة ثانية، ثم استدناني منه وأمرني بالجلوس، وأخذ يسألني
عن رحلتي إليه عطفًا مال إليه بعد الترفع الذي استقبلني به، فكنت أجيبه بما تقتضيه
الرسوم من حمد الله على ما آتاه من الملك العظيم، والثناء عليه لما أوجد لرعيته من
أسباب الخير والراحة، ثم سألني عن الدولة في المشرق وأنه يروم أن يكون الدهرُ للرشيد
في
صفاء، فأجبته بما في الإشارة إليه تحفُّظ عن ذكر بني أُمية، والملأ من الأعيان
والرُّهبان حاضرون، ثم سألته أنْ يأذن لي بالدخول عليه في خلوة وانفراد فأجابني إلى ذلك
وهو يُظهر ائتناسه بي وتَوسمه الخير مما وقع بينه وبين الرَّشيد من التوادِّ.
ولما انصرفتُ من حضرته وقف لصحبتي أميرًا من عظماء دولته مَلك قلبي برقة نفسه، وأحسن
مُنقلبي بلطيفِ أُنسه، وأحل كرامتي عنده بالمحل الأرفع، لم يترك أثرًا مشهورًا في رومة
من قصر منيف ولا منزل مزخرف ولا موضع ذي حسن وبهاء إلا سار بي إليه وأرانيه؛ ليعظم في
عيني أمر الفرنجة، فما كنتُ لأُكبِر من مبانيهم إلا الكنائس التي يُعظمونها ويتأنقون
في
تنميقها بالرسوم التي تتناهى في الحسن وجمال الزينة، وهذا الرسم أثر لهم من الصناعة
ينفردون به دون المشارقة
١٤٤ الذينَ ينهاهم الدِّين عنه،
١٤٥ وإنما يَكونون في حَاجةٍ إلى صناعتهم إذا بنو مَسجدًا أو قصرًا مُزخرفًا
كما علمت، إلا أنَّه لا يصحُّ انفرادهم بالحِذق فيه دونهم لبطلانِ الموازنة فيما يتركه
فريق ويأخذ فيه الآخرون.
وفي نفسي أنَّ المسلمين لولا نهي الشرع عن التصوير ما بَعُد أن يفوقوا فيه الروم،
فقد
رأيتُ من عمل الرسامين في المشرق الأقصى ما يقرب أن يكون في جودة عمل الروم، ورأيتُ
صورًا من بلاد الصين وصلت إلى البرامكة، وهي تمثل رجالًا ونساء وأولادًا بحيث إن الناظر
إليها يميز بين الضاحك والباكي، حتى لقد يميز بين ضحك السرور وضحك الشماتة،
١٤٦ وهذه غاية في المهارة لم يبلغها إلا كبراء أرباب العقول من صناع
الروم.
وأعظم ما شاهدتُ من كنائس رُومة بِيْعة بطرس حواري المسيح عيسى — عليه السلام — وهي
من عجائب الدُّنيا،
١٤٧ وفيها منَ الرسوم والنقوش والأصباغِ والأعْمدة والذهب
١٤٨ ما أذكرني جامع دمشق في بهائه وجماله، وهي أَبدع ما شاهدته من مَباني
الروم، وامتدادها مع مقصوراتها نحو سِتمائة ذِراع
١٤٩ فيما سَمعت، وامتداد الكنيسة يبلغ نصف ذلك،
١٥٠ وهي مسقوفة بالرصاص مفروشة بأفخر أنواع الرخام.
وعلى يمين الداخل من آخر أبوابها حوض عظيم للمعمودية يجري فيه الماء دائمًا من نهر
يشق هذه المدينة
١٥١ كما تشق دجلة مدينة الزوراء، وفي صدرها كُرسي مُذَهَّبٌ يجلس فيه الباب في
أيام المواسم والأعياد، وتحته باب مُصفح بالفِضة
١٥٢ يوصل إلى سرداب فيه مشهد بطرس فيما يزعم أهل هذه البلاد، ولكني علمتُ أن
أهل المشرق من أمم النَّصرانية يردون ذلك عليهم، ويذهبون إلى أن بطرس إنما قبض في
أنطاكية لا في رُومة، وأن كُرسي أنطاكية عندهم هو المقدَّم على كرسي رومة، وفي هذه
الأقوال نظر لا محل لذكره في هذا الكتاب، وفي خارج الكنيسة عمود من رخام قائم على قواعد
أربع من النحاس، وفي أعلاه عمود من الصُّفْر قد رفعت على رأسه كرة مذهبة يراها كل مَن
في رُومة كأنها عَلَمٌ لموضع الكنيسة.
ولما كان الغد أذن القيصر لي بالدخول عليه، فلقيته في ثياب من الديباج، وعليه تاج
من
الجوهر أعظم مما كان عليه بالأمس، كأنه أراد أن يظهر لي عظم سلطانه
١٥٣ بما يحوي خزائنه من الجوهر والمال، ولما أمرني بالجلوس بلَّغته ما أوصاني
الرشيد بتبليغه من أمر بني أمية بالأندلس، وما يروم من موافقته عليهم، ولكن بإيجاز
أبعدتُ فيه التأكيد ليَكون له إشارَة إلى المصلحة ليس غير، فخاطبني بما يقرب معناه من
كلام وَزيرنا جعفر — أعزه الله — فأكبرتُ ذلك من غير أن أعجب منه، إذ كنت أعلم أن عقول
الحكماء قد تتوارد على الشيء الواحد ولو على اختلاف الآماد، وتتلاقى ولو على بُعد
البلاد.
ولما ذكرتُ له قرابة العباسيين من النبي ﷺ فكَّر في نفسه؛ حتى ظننتُ أنه سيقول
لي: إنَّ من الناس من هم أقرب منهم ومن بني أمية إليه، ثم انبسط له مجال الحديث، فقال:
إني لأرى الإسلام اليومَ أقل اجتماع عصبةٍ منه في أيام الخلفاء الرَّاشدين — رضي الله
عنهم — لتجزئته بين المشرق والمغرب، على أَنِّي أرى دولة صاحبك أعظم هذه الدول وأوسعها
رُقعة مملكة.
وأما أمر الأمويين؛ فإنه وَعْر المرام لا يناله إلا على تمادي الأيام؛ إذ لا يدل
الشقاق بين السلطان وعمَّيْه على ضعفهم عن ردِّ العدوِّ، فلو شدَّ صاحبك عليهم لحوطوه
بأطرافهم، وقاتلوه بغرض واحد تدعوهم إليه الحالة التي يقعون فيها جميعًا من الغَرَر
والإشراف على الخطر، ولقد كنتُ أرى تغَلُّبه قسرًا على الأندلس من قبل أن يُوافيها
الأمويون، وقد كانت قُضاتها على أغراض مُتضاربة أفضت بعدَ الحروب فيما بينهم إلى
تغَلُّب الحيرة عليهم، أمَّا اليوم وقد وافَوْها بالأموال
١٥٤ فليس من السداد أنْ يُبادِئهم بالقتال على حين يأتون من إفريقية بالمرتزقة
من الرجال «وهم الذين يُكرون أنفسَهم للحروب»
١٥٥ ورُبما تعذر عليه مُقاتلتهم من المغرب لما هو ناشبٌ من الفرقة بينه وبين
العلويين فيكون له عدوَّان من الأمويين وأهل البيت جميعًا، وقد قيل في الأمثال: «إنَّ
الزِّئبر إذا جُمع منه حبل يُوثق به الفيل المغتلم.» ثم إنَّه ذكر لي عِندما استنهضته
إلى مُظاهرة الرَّشيد أنَّ بينه وبين الأندلس مُلوكًا يحب أن يبقى معهم على عهد
المسالمة والموادعة، وأنَّه يوجه همته إلى مُناصبة الملوك الذين هم في ناحية المشرق
كأنه يُريد أن يستولى على القسطنطينية.
هذا ما وقع بيني وبينه من الحديث، وقد قال لي في خاتمة المفاوضة: قل لأمير المؤمنين:
إني عنيت بحاجته، وسأكون ظهيرًا له فيما يروم، واقرأ عليه السلام.
ذلك ما كان من أسرار الرسالة، لم تتوسع المصلحة منها إلى ما وراء التوادِّ الظاهر
من
السياسة كما رأيت، ولبِثت في رُومة ثلاثة أيام مُتواليات، وكان الأنبرذور قد اتخذ لي
وليمة دعا إليها عُظماء دولته، وتكرم عليَّ بخاتم من الياقوت في سبيل التعطف، ثم طلب
إليَّ أن آخذ الطريق إلى تُونس لأوجه إليه مِنها بِرِمَّة عظيم من عظماء النصرانية،
يقولون إنه من أهل الجنة،
١٥٦ فأجبته بالامتثال إلى ذلك، فسير في صحبتي مركبًا من أسطوله ليحملها إليه،
وغادر مركبنا ساحل رومة في يوم شديد الحر من شهر رمضان كأنَّ الحرارة فيه تشمل الأقاليم
المرتفعة أيضًا، وقد حَقَّ تسميته برمضان من الرَّمَض وهو شدة الحرِّ.
١٥٧
وكان الفراغ من تقييد هذا الكتاب وأنا على متن السفينة وبيني وبين تونس مسيرة يوم
وليلة. واللهَ أسأل أن يبلغنا المقصِد بالسلامة، وهو الكفيل بالتيسير والتسهيل، لا رب
سواه.