ثم إني نظرتُ في شأن ابنِ الأغلب إبراهيم وانقطاع أهل الشيعة إلى حَوزة إدريس بن إدريس
—
رضي الله عنه — من غير أنْ أكشف عمَّا بالنفس من الميل مع أهل البيت، إذ كنتُ أوجبت على
نفسي أنْ أقومَ بصدقِ الخدمة للرَّشيد في هذه الرِّسالة التي حملني مجاشمها واستودعني
فيها
أمانته، فاتصل بي من أخباره معهم جسيم حملت خبره إلى ملوكنا البرامكة — أعزهم الله. وقد
أذكرني حال العلويين في المغرب أيام عليٍّ وأبي بكر وعُمر بن الخطاب — رضي الله تعالى
عنهم
— من الصَّلاح والخير والبركة، يتبعون الرسومَ التي حفظوها عنِ النَّبي ﷺ ولا
يُقيمون أُبهة الملك إلا ما تدعوهم إليه حاجة الخلافة، وكذلك أهل الشيعة من التزام الخير
واتباع السنن العادلة والمحافظة على القراءة التي قرأها عليٌّ — عليه السلام — إلا أن
الأغلبي — دمَّر الله ملكه — ينقِم منهم أمر الدنيا والدين، ولا ذنبَ لهم إلا أنهم يحرصون
على الخير والصلاح ويميلون مع أهل السلالة الشريفة الطاهرة.
في ذكر الإسكندرية
الإسكندرية مدينة تجارة من أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعًا وأحفلها بنيانًا، وإليها
المنتهى في المَنَعة والحصَانة، إذ كانت مبنية على لسان من الأرض، والبَحر مُحيط بها
من
جميع جهاتها؛ ولذلك يصعب منالها على العدو، وإن لم يكن وراءها وعر ولا هضابٌ يتعزز بها
جانبًا من البر،
١١ ولقد كانت في قديم الزمان خاملة الذكر، يقال لها رقودة
١٢ فلما تبوَّأها الإسكندر الرومي
١٣ وصارت كُرسي الملك بعده؛ تجللت بجلال الحضارة، وتحلَّت بحُلل النَّضارة،
واتصلت عَمَائرها تحت الأرض
١٤ آزاجا يجتمع فيها الماء كاتصالها فوق الأرض، وأُقيمت أسواقها في نهاية من الإبداع،
١٥ وشوارعها في غاية من الاستقامة والاتساع، بحيثُ إن الغريب الزائر يسيرُ
فيها نهاره أَجمع فلا يضل.
١٦
ولقد لقيتُ في كثير من أماكنها وطرقاتها عمدًا وألواحًا من رخام تحمل العامة على
الظن
بأنها هي إرم ذات العماد
١٧ التي لم يخلق مثلها في البلاد، وأعظم ما شاهدتُ فيها العمود المعروف بعمود السواري
١٨ وهو ماثل للعيان في طرف المدينة تحف به غابة من النخيل، وهو حجر صلد من
الصوان الأحمر، يبتدئ من قاعدة غليظة، وينتهي إلى تاجٍ مُكلل بالرسوم، والناس يقولون:
إنه كان في أعلاه قصر مُعلق في الجو لأهل العلم والرياسة،
١٩ وإنه كانت فيه خزائن أحرقها عمرو بن العاص
٢٠ بإشارة عمر بن الخطاب — رضي الله عنهما — إذ كتب إليه: «الكتب التي ذكرتَها
إن كان فيها ما يُوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنًى، وإن كان فيها ما يُخالفه فلا
حاجة إليها فتقدم بإعدامها.» ولكنَّ هذا قول بعيد عن التدقيق والنظر. وظني بهذا العمود
أنَّه نصبه الروم معارضة للعمد التي اتخذها الفراعنة أمثال المسلات، وطمعًا في تخليد
آثارهم في مصر إلى انقضاء الدهر.
وقد رأيتُ أهل الإسكندرية أصحاء الذوق، لطاف الطباع والخلق؛ لقُرب مدينتهم من البحر،
وظهور الصَّبا عندهم واعتدال الحر والبرد في إقليمهم، على أنَّ أكثرهم مهزولو الأجسام
وُهْنُ البنية.
٢١ ووجدتُ لهم تصرفًا واسعًا في التجارة؛
٢٢ لأنَّ المال موفور عندهم، والخيراتُ تأتيهم من مصر وجميع الأمصار، فيتصرفون
في الليل بالبيع والشراء كتصرفهم بالنهار،
٢٣ وسمعتُ أنهم بلغوا من سعة العيش إلى أن بنَوْا في مدينتهم ألف حمام
وأربعمائة مَلهًى واثني عشر ألف دكان،
٢٤ وهذا شيء من الكثرة لم يُسمع بمثله في البلدان.
أما المسلمون في هذه المدينة؛ فإنهم على رأينا من القول بخلافة أهل البيت، ويتعبدون
على مذهب الإمام مالك،
٢٥ ولكنهم يجهرون بالبَسملة في صلاتهم، ويبتدئون بها عند الخطبة
٢٦ كأني بهم قد اقتدوا في ذلك بأهل الشام؛ إذ كان الاتصال فيما بينهم
مُستمرًّا على غير انقطاع.
وأمَّا أهلُ الذِّمة فإنهم يزيدون على أربعمائة ألف
٢٧ بين نصارى ويهود، وهم يؤدون جزيتهم إلى الرشيد دينارًا واحدًا ميمونيًّا
٢٨ بعد أن ضربها عليهم عمرو بن العاص دينارين، واستمرت على ذلك في عهود
الخلفاء السالفة.
وفي الإسكندرية وسائر الديار المصرية ملل كثيرة من النَّصرانية إلا أنَّ معظم سوادهم
٢٩ روم يرجعون في أمورهم إلى بطركهم بالقسطنطينية، وقبط ينكرون على الباب
خلافته للمسيح، ويرجعون في ملتهم إلى بطرك لهم يُسمى مُرقص
٣٠ كرجوع المشارقة إلى بطركهم في أنطاكية
٣١ كما مرَّ في موضعه من الكتاب.
وهؤلاء القبط هم أهل مصر الأوَّلون، وفي أيديهم الكنائس المعظَّمة التي لا يوجد مثلها
عند الروم، إذ كانوا السابقين إلى تشييدها والحافظين عليها تحت ظل الإسلام.
وأعظمها بيعتان؛ إحداهما: كنيسة مرقص
٣٢ وهي بجوار الدار التي بناها الزبير بن العوَّام،
٣٣ فيها رسوم عجيبة وصور تمثل الحواريين والعظماء الذين ظهرت لهم الكرامات في
ملتهم. والثانية: كنيسة يوحنا المعمدان
٣٤ قد مُوِّه سقفها بالذهب، وصورت فيه ملائكة الله محفوفة بالسحاب. وفي جوارها
دور كثيرة لهم قد رفعت على طبقات ثلاث،
٣٥ وارتفعت على دور المسلمين، مع أنَّ المطاولة عليهم في البناء محظورة على
أهل الذمة، وهذا أمر يتغاضى عنه الولاة كما يتغاضَوْن عن مجاهرتهم في ملتهم بأشياء لو
بدت منهم في العراق أو الحرمين لجلبت عليهم الحَيْن في أسرع من طرفة عين. وذلك مثل
مجاهرتهم بالإنجيل وإخراج آنيتهم إلى الأسواق وحمل صُلبانهم على رءوس الرماح
٣٦ وغير ذلك مما لا ينقمه منهم المسلمون،
٣٧ وكأنهم إنما يَتسامحون في أمرهم؛ تجنبًا لإثارة السواكِن، أو طمعًا في
استمرار الخلطة التي وقعت بينهم وأشبهت أنْ تكون أُلفة وصفاء، بل مودة وإخاء.
وقد وقع لهم وأنا في الإسكندرية موسم عظيم يسمونه عيد الميلاد، يتخذونه في اليوم
الذي
ولد فيه المسيح — عليه السلام — وهو اليوم التاسع والعشرون من شهر كيهك،
٣٨ وعادتهم في هذا الموسم أن يحيوا ليلهم كله بالسرور، ويخرجوا آنيتهم إلى
الأسواق، وينوِّروا كَنائسهم بالشموع المليحة الأصباغ، فكنتُ أرى كثيرًا من المسلمين
يبتاعون لأولادهم من هذه الشموع المسماة بالفوانيس ويحرقونها في أزقة المدينة، كأنهم
يُشاركون النصارى في أفراحهم، ويظهرون الأُنس بهم إلى انقضاء العِشاء الآخرة.
وقد وجدتُ القوم من الروم والقبط وسائر ملل النصرانية يتأنقون في صنوف الملابس من
الخز والديباج والوشي الذي يصنعونه في مدينتهم، ويضرب به المثل في جميع البلاد،
٣٩ ونوعٍ من الكَتان يتنافسون في لبسه إلى أن يبيعوا الدرهم من الثوب المخيط
منه بدرهم فضةٍ
٤٠ وكنت أُحبُّ أن تظهر آثار النعمة في لباس المسلمين
٤١ مثل ظهورها في أهل الذمة، فقد حدَّث الرواة عن النبي
ﷺ أنَّه اتخذ
جُبة مَكفوفة بالحرير،
٤٢ ولبس ثيابًا بأربعة آلافِ درهم وصلى فيها،
٤٣ وكذلك حدَّثوا عن عائشة أنها خلعت على عبد الله بن الزبير ثوبًا من الخزِّ
٤٤ وعن جماعة من العُلماء والفقهاء أَنهم لبسوا الثياب المهذَّبة،
٤٥ فلا أرى موضعًا بعد هذا لأن يكون لبس الحلل الفاخرة محظورًا في الشرع.
٤٦
الديار المصرية والنيل
توسع بي الكلامُ إلى ما خرجتُ به عن قصِّ الرحلة، ولكني أعود إلى ذِكر الأُمور التي
شاهدتها في ديار مصر، فإني ركبتُ من الإسكندرية أُريد الفُسطاط ثم أسوان ثم عَيْذاب إلى
طرف الصحراء من ساحل البحر؛ فمررتُ بدمنهور وصا وبِرما وطنتِدة وقليوب في أسرع مُدة من
الزمان؛ إذ ليس في مصر جبل ولا مسلك وعر يعترض الركبان.
وكانت العِمارة مُتصلة في طريقنا إلى الفُسطاط، ومن حولها اخضرار في السهل يمتد مع
البصر إلى أن ينقطع، فأخبرني مَن كان يصحبني مِن لدن الليث أنَّ البلاد يتنوع فيها هذا
المنظر أربعًا في كل سنة، فتكونُ ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء،
٤٧ أولها شهر أبيب المعروف بتموز عند المشارقة، يركبها النيل إلى أن تصير
ضِياعها في بحر من الماء لا سبيل إليها إلا في الزوارق؛ وثلاثة أشهر مِسكة سوداء أولها
شهر بابه وهو معروف بتشرين أو أقطوبر،
٤٨ ينكشف الماء عن الأرض ويترك عليها طينًا عَلِكًا أسود فيه دسومة صالحة
للزراعة يُقال له الإبليز،
٤٩ وثلاثة أَشهر زُمردة خضراء أولها شهر طوبة الذي يمرُّ بنا اليوم ينجم فيه
الزرع، ويظهر ربيع الأرض حتى لا يبين الثرى من خلاله، ثم ثلاثة أشهر سبيكة حمراء تبتدئ
من برمودة المعروف بأبريلس عند الروم، فيتورد الزَّرع ببلوغ الحصاد؛ ويكون كسبيكة الذهب
في المنظر.
وإنما يجلب الخيرات إلى مصر ويخرج الزرع اليانع من أرضها الجُرُزِ ما يحمل إليها
النيل من الطين، ويفيض عليها من الماء في أيام من السنة معلومات، فكأَنَّما تستعيض
بالمنفعة منه عن المطر الذي يحبسه الله عنها رفقًا بمصالحها أنْ تختل ومَساكنها الطينية
أن تبتل.
وقد قال — سبحانه وتعالى — في مُحكم كتابه:
٥٠ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى
الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ
وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ فجعل الله — عز وجل — النيل من
الغمورة والاستبحار بحيثُ يكفي البلاد كلها من غيرِ أنْ يكون فيها نهر ولا عين ولا مسيل
ماء غيره، والناس يجمعون محاسنه في ثلاثة:
٥١ الأول: في غمورته إلى أن يكون بحرًا تسير فيه السفن. والثاني: بُعد منفجره
إلى ما وراء الخط من جبال القمر. والثالث: طيب مسلكه على رمال تروِّقه وتأخذ الممزوجات
الغريبة منه.
وإني وجدتُ له خَلَّة من الخير والبركة أفضل من هذه المحاسن هي أنَّه يُزدرع عليه
ما
لا يُزدرع على نهر غيره من أنهر العالم
٥٢ فكأين من نهر تجتمع فيه محاسن الغمورة وبعد المنفجر وطيب المسلك ثم لا تحصل
المنفعة منه مثل ما يحصل لأهل مصر من بركة نيلهم.
وشأن هذا النهر المبارك في الفيضان أنَّه يبتدئ بالزِّيادة في شهر أبيب، والقِبط
يقولون: إذا دخل أبيب؛ كان للماء دبيب.
٥٣ ثم يغلُظ في مسرى وهو شهر آب، ويزيد بعد ذلك زيادة عظيمة إلى أن يقف حدُّها
في منتصف توت، وهو شهر أيلول المعروف بسبطمبر عند الروم، ثم لا يلبث بعد ذلك حتى يتراجع
بالانحسار، وقد كفى الناس سِقاية زرعهم بمدوده على حد قولهم:
٥٤
كأنَّ النيل ذو فهم ولب
لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه
ويمضي حين يستغنون عنه
وصفوة القول في هذا الفيضان أنَّ منشأه السحب الماطرة
٥٥ إلى ما وراء خط الاستواء من تلك البِطاح، وللقبط فيه أقوال كثيرة لا موضع
لها في هذا الكتاب،
٥٦ وهم يزعمون أنهم يعرفون قدر فيضه «قبل حدوثه» من هبوب الرِّيح في أول يوم
من بئونة وهو شهر حزيران عند المشارقة.
وقد قرأتُ في بعض الكتب أنَّ هذا النهر هو نهر العسل في الجنة،
٥٧ وأنَّ حائدًا اليهودي الذي تاه في الأرض دهرًا لم يستقر فيه بموضع وصل إلى
الجنة مما وراء السودان
٥٨ فوجد أرضًا ذهبًا وترعًا ذهبًا وتلاعًا ذهبًا،
٥٩ ورأى النيلَ ينساب فيها من طيقان قد ارتفعت مثلَ قوس السحاب، وهذا تصورٌ
لطيفٌ كُنت أقرأ مثله في دواوين الشعراء؛ فأحببت أن أذكره لك حتى إذا كنت بعيدًا أن
تعجَب منه من حيث الحقيقة؛ فلا أقلَّ من كونك تعجب به من حيث المجاز.
ولما وصلتُ إلى الفُسطاط نزلت على قاضيها عبد الرحمن بن عبد الله من ولد عمر بن
الخطاب — رضي الله عنه،
٦٠ فلما أصبحتُ وكان يوم الجمعة جمَّعتُ في جامع عمرو بن العاص الذي قاد
الجيوش الإسلامية إلى هذه البلاد وانتزعها من يد المُقَوْقِس كما هو معروف، وهو من
المساجد المشهورة في الإسلام حُسنًا وتزويقًا وإحكام صناعة، وجدت على حائطه القرآن
الكريم مكتوبًا على ألواح بيض من الرُّخام يقرؤه الإنسان وهو قاعد،
٦١ ثم زُرت مَشاهد كثيرة من مَشاهد آل البيت والصحابة والأولياء والشريفات
العلويات.
ولما مالت الشمسُ ركبتُ إلى موضع غربيِّ المدينة يُقال له الجزيرة وهو مُجتمع اللهو
والنُّزهة لإحاطة الماء به، وهُناك المقياس الذي يُعتبر به قدر زيادة النيل،
٦٢ بناه سُليمان بن عبد الملك الأموي في آخر المائة للهجرة النبوية المشرفة،
وهو عمود رُخام أبيض مفصَّل على اثنتين وعِشرين ذراعًا من الأَذرع القديمة التي كان
يتعامل الناس بها قبل أنْ يضع الرَّشيد الذراع السوداء التي تزيد عنها بإصبع وثلثي إصبع،
٦٣ وهو مبني في موضع ينحصر الماء فيه فإذا انتهى الفيض إلى ثماني عشرة ذراعًا
مُنغمرة فيه كان ذلك الغاية في طيب العام.
٦٤
وقد أخبرني عبد الرحمن هذا القاضي النبيل أن ما يغمره النيل بمصر يبلغ مائة ألف ألف
فدان،
٦٥ والفدان عندهم أربعمائة قصبة، والقصبة عشر أذرع،
٦٦ «وهو القدر الذي وجده هشام بن عبد الملك عندما مسح البلاد»، وكلها ذات
خيرات كثيرة، وغلات وافرة مما يحمل الإنسان على أن يظن في أهلها اتساعًا في النعمة
واسترسالًا في الطيبات من بسطة العمران، غيرَ أنَّ الأمرَ على خلاف ذلك عند أهل الزراعة
بالأرياف إذ غلب على عامتهم الخمول
٦٧ وتَولاهم الشَّقاء، ولم ينفقوا المال الذي أعطاهم الله في مطالب السعة، بل
دفنوه تحت أطباق الأرض، وتظاهروا لدى ملوكهم بالمسكنة وعُسر الحالِ؛ ليسترقوا القلوب
رفقًا في جباية الأموال، فما كانت هذه الحيلة لتفيدهم شيئًا من الرحمة، ورُبما انقلبت
الغاية إلى التثقيل عليهم في الخراج لما تسومع عنهم من تخبئة الكنوز بحيثُ رأينا
لحكامهم اقتدارًا في تكثير الجباية ما عرفنا مثله لغيرهم من ملوك الأمم.
في وصف الأهرام
وفي غد اليوم الذي وصلتُ فيه إلى الفُسطاط ركبت إلى أهرام الجيزة،
٦٨ وهي ثلاثة كبار موضوعة على خط مستقيم
٦٩ غربيَّ النيل، وهي من أهوَل ما بناه المتقدمون وأجلِّه خطرًا، وأبقاه على
الأيام أثرًا، والعهد بجميع الأشياء يخشى عليها من الأيام إلا هذه الأهرام، فإنها صبرت
على طوارئ الحدثان حتى راح يُخشى منها على الزمان.
اثنان منها عظيمان وواحد دونهما في العظم، وهذان الهرمان الكبيران مُتناهيان في
السموِّ، يُخيل للرائي أنهما نهدان قد نهدا في صدر الديار المصرية،
٧٠ وهما مبنيان بحجارة بيض صلدة قد اقتُلعت من مغاور تحت الأرض بعيدةٍ يدخلها
الفارس برمحه فيرتاح فيها، وقد تقدمتُ إلى بعض من كان يصحبني من لدن السلطان أن يُطلق
سهمًا إلى أعلى الهرمين فرمى به عن قوس غليظةٍ وساعدٍ قويٍّ فسقط السهم دون ثلثي المسافة.
٧١
أما وصف الهرم فهو بناء مخروط مضلَّع مثلث الزوايا مربعها، يبتدئ من قاعدة عريضة
ويضيق قليلًا قليلًا كلما ارتفع إلى أن ينتهي إلى سطح صغير يكون مبرك بعيرين في الهرم
الصغير ومبرك ثمانية في الهرمين الكبيرين، وهذا نمط في البناء يزيده متانة يقوى بها على
ممرِّ الليالي.
أما السبب الذي دعا الفراعنة إلى نصب هذه الأهرام فلم يزل مستترًا تحت ظل الإبهام،
فمن قائل: إنها بُنيت مستودعًا للعلم، ومن قائل: إنها اتخذت لتحجز الرمال الثائرة من
القفر على الفسطاط، وفي وجه من التاريخ أنها بنيت لدفن الكنوز
٧٢ واحتكار الحبوب لأيام يوسف — عليه السلام،
٧٣ إلا أن ما يذهبون إليه من هذه الآراء بعيد عما لدينا من القياس الظاهر
للأشياء، فإن العلم لا تحفظه الحجارة إن لم يستودع صدور الرجال، والرمل لا يحجُزه سد
غير متصل العمارة، وبين الهرم والآخر فرجة واسعة المجال، والحَب لم يحتكره فرعون إلى
دهر لا انقضاء له، وفي موضع لا يقدر منه أن يتناوله، ولست أظن إلا أن هذه الأهرام قد
بُنيت لحودا
٧٤ للفراعنة الذين كانوا يدينون بالرجعة إلى هذه الدار، ويُعْنَوْن بتحصين
مدافنهم من عبث الأدهار؛ ليحفظوا فيها حليهم وأموالهم إلى يوم النشر كما كان يصنع في
جاهليتهم أهل مصر إذ يحملون مع الأموات مالهم وأشياءهم؛ ليجدوها بين أيديهم يوم رجعتهم
إلى هذه الدار كما كانوا يزعمون.
٧٥
وقد قرأت في بعض الكتب أن باني الهرم الكبير من الفراعنة ملك يقال له سوريد، وجَّه
زواياه إلى بعض الأبراج السماوية تيمنًا بالبركة في اعتقادهم وكتب عليه: «أنا سوريد
الملك أكملت بناء الهرم في ست سنين فمن جاء بعدي وزعم أن له ملكًا فليهدمه في ستين سنة
«وفي رواية ستمائة سنة»، والهدم أيسر من البنيان، وقد كسوته بالديباج الصرف فليكسه
بالحصير والحصير أهون من الديباج.»
٧٦
أما توجيه زواياه إلى بعض الكواكب كما يعتقدون فهو افتراض ليس للرد عليه موضع مع
ما
نعلم من عبادة المتقدمين للنجوم وتعظيمهم إياها، وأما الكتابة التي يعزونها إلى فرعون
فإني لم أجد لها أثرًا على الهرم الكبير ولا الصغير ولا أعلم على فرض أنها مرسومة فيه
أحدًا من الناس يقرؤها؛ حتى لو جاز أنها كتبت وقرئت ما صح أن تكون كسوته بالحصير مما
يُعجز عظماء الملوك، وسعته من الركن إلى الركن الآخر ثلثمائة وستون خُطوة، إنما المعجز
في هذه الآثار هو إحكام بنائها
٧٧ بهذا الشكل البالغ النهاية في الاستواء دون أن يتخلل الحجارة شيء تتلاصق به
من الكِلس وغيره من المواد، ولو أن نجارًا اتخذ صندوقًا من الخشب ما أحكم عمله
٧٨ ووصل قِطَعه مثل وصل هذه الحجارة الضخمة بالتصاق لا تنفذ فيه الإبرة
الصغيرة.
ورب زائر يقف بهذه الأهرام؛ فتشغله الدهشة بعظمها وهولها عن تأمل ما هو حقيق أن نعتبر
فيه من آثار السلف، فأنا لا أنكر أنَّ الذين رفعوها من الفراعنة كانوا ضِخام السلطة
عِظام الصول والحول، غير أني تمثلتهم في نفسي ملوكًا عُتاة قد ظلموا الرعية بما آتاهم
الله من السلطان، واستخدموا العباد في مشاقَّ لا فائدة منها، ولا طائل تحتها سوى أن
تنطق بظلمهم على ممر الأزمان، أو أني أتمثلهم جبابرة قد كثر المال تحت أيديهم فلم
ينفقوه في البر والإحسان، ولا انتفعوا به في غرض من العمران، بل رفعوا به جبالًا شاهقة
من الصوان؛ وليس في أحد الأمرين منصرف عن لؤم بهم أو لوم أوقِعه عليهم، فلئن أنفقوا
المال في غير سبيله لقد أسرفوا في الملك، ولئن قبضوا الأجور عن العَمَلَة بعد أن نهكوا
أبدانهم بالعنت الشديد لقد ضلوا سواء السبيل وباعوا رعاياهم بأبخس الأثمان.
ورأيت على مقربة من الهرم الكبير صورة عجيبة من الحجر قامت كالصومعة
٧٩ ومثلت رأس آدمي وعنقًا بارزة من الأرض في غاية العظم يسميها الناس بأبي
الهول، ويزعمون أنها طِلَّسْم الرمل لئلا يغلب على أرض الجيزة،
٨٠ وهي تشهد لصناع ذلك الوقت من القِبط بحذقهم في فنون الرسم وصحة التمثيل؛
لأنهم اتخذوا صورة الوجه متناسبة الأعضاء على كبره، وجعلوا عليه حمرة لا يزال دِهانها
محفوظًا مع الحجر،
٨١ وكأن الزمان يُعِيره رونقًا وجِدَّة، حتى إنه ليخيل للناظر إليه أنه ذو
مسحة من جمال وأن شفتيه تنفتحان للابتسام، وقد أخبرني حاجب الليث أنه كانت له لحية
تكسرت على تمادي الأيام، وأن جثته مدفونة تحت الأرض، ويقتضي القياس بالنسبة إلى رأسه
أن
يكون طولها سبعين ذراعًا،
٨٢ إلى حديث طويل مما يتعلق بهذا الصنم وبغيره من آثار فرعون، فيقول وهو أعرف
الناس بالبلاد:
٨٣ إن بمصر ثمانين كورة في كل كورة مدينة عظيمة وفي كل مدينة آثار حسان، ورسوم
باقية على ممر الزمان.
٨٤
إلى عَيْذاب فجُدة فالبلد الحرام
كان انفصالنا من الفسطاط في بكرة يوم قارسٍ برده، وكانت العمارة متصلة في طريقنا
على
شاطئ النيل، فاجتزنا بلدًا يعرف بمُنية ابن خصيب
٨٥ فيه الأسواق والمرافق والحمامات، ثم اجتزنا بلدة يقال لها أنصنا وهي تبعد
عنه بمرحلة طويلة
٨٦ فيها شجر اللبخ
٨٧ الذي تصنع منه السفن، وكثير من العمد والصخر المجمَّل بالنقوش والرسوم، وفي
بعض الكتب أنها كانت مسكنًا لسحرة فرعون،
٨٨ ثم اجتزنا بمحاذاة حائط عتيق البنيان يقال له حائط العجوز
٨٩ وهو يمتد من الفسطاط فما فوقه إلى جهات أسوان يزعم أهل الأخبار أنه بنتْه
ملِكة يقال لها دلوكة وقاية لابنها من الوحش أن يُهاجمه في مزاولة القَنْص،
٩٠ مع أن الأقرب إلى العقل أنْ يكون بناؤها له خوفًا من الآدميين وغزواتهم لا
من الوحوش التي يصح أن تكون في هذا الجانب منه كما هي في الجانب الآخر. ثم مررنا
بمنفلوط في البر الغربي
٩١ وفيها قمح مشهور برزانة حبه،
٩٢ ثم بأسيوط وهي من النيل على ثلاثة أميال، فيها الأفيون المصري الذي يحمل
إلى سائر البلاد
٩٣ وهو عصارة الخشخاش الذي يُزرع فيها
٩٤ وفيما جاورها من البلاد، ثم ركبنا مرحلتين إلى إخميم، وهو بلد مشهور فيه
البَرْبا العظيمة التي صور فيها ملوك مصر
٩٥ وصورت فيها الأفلاك والكواكب حين كان النسر الطائر في برج العقرب،
٩٦ وهي مرفوعة من صخور منحوتة، وفيها أربعون سارية مزينة بالرسوم والنقوش،
٩٧ وعليها سقف من الحجر مغشَّى بالأشكال العجيبة حتى لا يخلو مغرِز إبرة فيه
من رسم أو نقش أو رمز بالخط المسند لا يُعلم ما هو، فسبحان مَن أباد أمة اقتدرت على
عظائم الأمور، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
ثم تمادى بنا السير من هذه البلدة إلى دندرة، وهي مدينة عتيقة يُقال إنها من بناء
قفطريم بن مصرايم بن حام بن نوح — عليه السلام — وفيها بربا عظيمة من آثار الفراعنة يحف
بها نخل كثير،
٩٨ وقد تحققتُ فيما رأيتُ بها وبغيرها من آثار القِبط صحة ما نقلتْه الأخبار
عن قُدمائهم من بلوغهم الغاية القصوى من الحضارة في زمن كان به ظلام وجاهلية للناس، حتى
إنَّ الذين كانوا يطلبون العلم من اليونان أنفسهم لم تستكمل آدابهم إلا باقتباس الحكمة
عنهم واستخراج الفلسفة من كتبهم، وكذلك قوم موسى — عليه السلام — لم تكن لهم معرفة
بالعلوم إلا بعد مُقامهم في مصر ومحاضرتهم أهل العلم من رجالها.
فتجد أن للقبط في فلسفة التاريخ نكتة شغلت عقول الحكماء من كل عصرٍ وأمة، حتى ذهب
أفلاطون في بعض كتبه إلى أنه يلزم أن يكون أتى عليهم عشرة آلاف سنة حتى تمكنوا من بلوغ
الغاية التي بلغوها من الأدب والصناعة ودلت عليها الآثار الباقية عنهم إلى هذا
اليوم.
وإن كان قد غاب عنا معرفة كثير من سِيَرهم وأسرارهم فلا لوم نوجهه عليهم من قبيل
التقصير أو الإهمال؛ لأنهم لم يغفُلوا عما وجب عليهم نحونا من تأدية علمهم إلينا، بل
اجتهدوا أن يستَبِقُوه على الأيام صلة دائمة فيما بيننا وبينهم؛ إذ حفظوه لنا فيما هو
أصبر الأشياء على الزمان «الحجر» ليأمنوا اتصاله بنا، وإفادتنا به الغرض الذي شغلهم
قبلنا من الحكمة والغوص على أسرار الطيبعة؛ وإنما أفسد هذه الصلة علينا العَفاء الناشئ
من سنة الغلب في الناس، إذ يتعاقبون في الأرض دولًا بعد دول وأجيالًا تحيا بموت
أجيال.
وتحتاج لحفظ نوعها أن تبيد الجيل الذي كان من قبلها وتسبل على آثاره ستر المحو
والعفاء، وهذا هو السبب الذي قطع الآخرين عن الأولين، وعمَّى علينا قراءة رموز لهم إنْ
تبدُ لنا غوامضها تُفِدْنا علمًا واسعًا من حكمتهم، ونبأً صادقًا من سِيَرهم
وأعمالهم.
فكم رأيت لهؤلاء القبط من صور على الحجارة مودعةٍ هذا العلم تنظر إلينا بعيون قد غابت
تحت غبار القدم، وتبتسم بشفاه تكاد تنطق لو لم يصمتها الوَجَم كأني بها تنتظر أن
نخاطبها بلسان تعرفه، وإشارة تفهمها من رموز أهلها؛ لتبيح لنا بما استودعوها من هذه
الأسرار الثمينة.
على أنَّ أكثر ما وجدت في آثارهم من الصور — غير الأوثان التي كانوا يعبدونها
والحيوان الذي دخل في ملتهم بطريق التكريم إلى أن صار له تعظيم يشبه أن يكون عبادة
والعياذ بالله من جاهلية الناس — إنما هو رسوم هيئات مختلفة لملوك وسوقة منهم تمثلهم
في
معايشهم وأعمالهم، وفروض دينهم وصنائعهم وسائر أشيائهم، وليس بينها صور تمثل أناسًا
غيرهم من الأمم مثلما نرى في آثار الفرس الذين صوروا اليهود والنَّبَط والكنعانيين
والقبط والروم والهنود وغيرهم.
فيظهر أنه لم تكن لهم خُلطة مع الأمم، ولا اتسعت لهم الفتوح في دولتهم اتساعها للفرس
والروم من بعدهم، وكأنهم خَلَدوا إلى السكون والدعة بما كثر لديهم من الخيرات، وأغناهم
مصرهم عما سواه من الأمصار، وهذا مما يخالف طبائع العرب الذين يطمحون بأبصارهم إلى
بلدان الخصب؛ ليتوسعوا فيما لا تثمره باديتهم الجدباء من نعمة العمران.
عَوْدٌ إلى الحديث عن الرحلة: ثم ركبنا من دندرة إلى قوص من البر الشرقي، وهي من
أعظم
مدائن مصر،
٩٩ فيها قبائل من عرب عدن وغيرهم،
١٠٠ وليس بمصر أرض يسكنها العرب إلا قوص وأسوان وجهات بلبيس،
١٠١ ورُبما كانوا في أسوان أكثر منهم في بادية قوص، إذ كان يمازجهم فيها قبائل
من قريش وقحطان ونزار بن معد من ربيعة ومضر،
١٠٢ وليس هذا أول عهد العرب بمصر، فقد نبَّأَتِ الأخبار السالفة
١٠٣ أنهم غزوها في عهود الفراعنة الأولين واستقرُّوا بها زمنًا فيما لا كفاء له
من عز الدولة ونفوذ السلطان.
وقوص هذه المدينة فرضة التجار اليمنيين والمصريين والحبشيين، وفيها جبال وحجارة يجري
فيها النيل من غير أن يكون ثمة سبيل لجريان السفن عليه،
١٠٤ «وهي المعروفة بالجنادل والصخور» فتنقل بضاعات المسلمين إلى مراكب الحبشة،
وتنقل بضاعات الحبشة إلى مراكب المسلمين، فوقع فيها العمران من هذا القبيل باجتماع
التجار فيها وتوارد الحجاج إليها في ذهابهم وإيابهم على مراكب النيل.
ولما انفصلنا عن قوص ابتدأت صحراء عيذاب بالامتداد وهي مفازة قاحلة لا عمارة فيها
البتة، فكنا نبيت فيها حيث جنَّ الليل علينا
١٠٥ ثم نفوِّز إلى ورود الماء من آبار أو مناهل لا نكاد نترك فيها جرعة ماء بعد
سِقاية دوابنا، وكنت إذا أصابنا رَقدة من حرٍّ أجلس في هودج على ظهور الجمال وأرخي عليه
الأستار محركًا للهواء فيهون عليَّ احتمال عنتها الشديد.
إلا أن صحبي من لدن السلطان كان يبرِّح بهم العطش ويجهد دوابهم في الأيام الآبتَة؛
لأن السَّموم كانت تنشف المياه في الأسقية؛ فكانوا يحتالون لذلك بأن يستصحبوا أبعرة
فارغة من الأحمال ويعطشوها قبل الورود ثم يوردوها على الماء نَهَلًا وعَلَلًا حتى تمتلئ
أجوافها، ثم يشدُّو أفواهها كيلا تجتر فتبقى فيها الرطوبة فإذا نشفت الأسقية نحروا بضعة
أبعرة من هذه الجمال وسقوا خيلنا مما في بطونها،
١٠٦ وفي هذا من المشقة ما لم ينزل بنا أشد منه في جميع ما طرقناه من البلاد،
ولم نزل في مكابدة عنائه الشديد، وقد أضرَّ بنا الحرُّ وأخذ منا مأخذه حتى سهل الله
وصولنا بالسلامة إلى عيذاب، والحمد لله على جميل ما أولاه، حمدًا يبلغ رضاه، ويستفيض
النعمة من علياه.
وهذه المدينة هي آخر بلاد مصر،
١٠٧ وعاملها مفوَّض من لدن الليث بن الفضل الأبيوردي، وهي موسعة بأسباب الكسب
من الحجاج إلا أن مبانيها أشبه ببيوت القرى منها ببيوت المدن،
١٠٨ وكل ما فيها مجلوب إليها حتى الماء،
١٠٩ وليس لأهلها حرفة للتعيش إلا تعمير سفن للحجاج يسمونها الجُلُبات واحدها
جُلْبة وهي ملفقة الإنشاء، ولا يستعملون فيها المسامير، وإنما يخيطون الخشب بالليف،
ويضعون خلالها دُسُرًا من عيدان النخل ثم يطلونها بالشحوم والنورة،
١١٠ فتستمر عرضة للخطر وآفة لحجاج البيت، يغرق الكثير منهم بسببها في بحر فرعون
ذي الأهوال الموصوفة.
١١١
ولما أخذتُ فيها نصيبًا من الراحة ركبت البحر ثلاثة أيام إلى جدَّة، وهي قرية كبيرة
تجتمع فيها مراكب الحجاج، وفيها آثار كثيرة تدل على قدم اختطاطها وتنطق بأنها دخلت في
ولاية الفرس، وفيها قبة مشيدة يُقال إن موضعها كان منزلًا لحوَّاء — عليها السلام —
ومسجد بناه عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وجامع بناه الرشيد منذ ثلاث سنين،
١١٢ وهو أحفل بناية في المدينة، فمكثت فيها بقية النهار، ثم ركبت عنها تحت
الليل إلى القرين وهو محط رحال الحجاج؛ «إسراعًا في موافاة الرشيد بالمدينة المنورة —
على ساكنها أفضل السلام وأزكى التحية»؛ إذ كنت علمت بركوبه إليها من مكة في صباح اليوم
الذي وصلت فيه إلى جدَّة، فبلغته في جوف الليل ثم سريت منه إلى مكة المكرمة مهوى
الأفئدة الصالحة، فقضيت الواجب من زيارة المشاعر المباركة وابتهلت إلى الله — تعالى —
في موضع استجابة الدعاء
١١٣ من البيت العتيق، والحمد لله — عز وجل — على أن شرفنا بالوفادة إلى هذا
البيت الكريم.
في ذكر المشاعر المباركة
أما مكة — شرفها الله — فإنها بطن وادٍ
١١٤ بين الجبال تسع من الخلق ما لا يعلمه إلا الله — سبحانه؛
١١٥ لأنَّ الحجاج الوافدين إليها قد يزيدون على مائتي ألف في الموسم، إذ كان
الحج مفروضًا على المسلم المستطيع في العُمر مرة؛ لقوله — تعالى:
وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا١١٦ فلو قدَّرنا عدد الرجال بثلاثين ألف ألف، وقدَّرنا العمر بأربعين سنة
لاقتضى أن يكون نصيبها منهم في كل سنة أكثر مما ذكرنا، فما بالك بمن يحج أكثر من مرة
في
عمره، ويُقال في اجتماع الناس إليها من جميع الأطراف إنه لو جمع ما يباع ويشترى بها من
السِّلع والمآكل والبضاعات في ثمانية أيام وقت الموسم لأقام الأسواق
١١٧ في العراق كله ونال كل واحد من أهله نصيبه من حاجته.
ولها — كرمها الله تعالى — ثلاثة أبواب، أولها باب المعلى
١١٨ وهو إلى الشرق الشمالي، ومنه يذهب الذاهب إلى الحَجون وهو جبل بأعلى مكة له
ذكر في الأشعار، وفيه صَلَب الحَجَّاج بن يوسف جثة عبد الله بن الزبير لما غلبه على
الخلافة التي كان يناصب عليها الأمويين، ثم باب المسفل وهو إلى الجنوب، ومنه دخل خالد
بن الوليد يوم الفتح، ثم باب العمرة وهو إلى الغرب على طريق الشام وأمامه جبال مكة قد
مثُلت بلا ارتفاع وكأنها أهوتْ تواضعًا لبيت الله، أشهرها جبل حِراء وهو الذي اهتزَّ
حين كان فوقه النبي
ﷺ ومعه أبو بكر وعمر بن الخطاب — رضي الله عنهما — فقال له:
«اثبت حراء فما عليك إلا نبي وصدِّيق وشهيد.»
١١٩ وكان صلى الله عليه وسلم يختلف إليه ويتعبد فيه، وعليه نزلت أول آية من
القرآن الكريم وهي قوله — تعالى:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ.
١٢٠
وكفى هذه البلدة شرفًا أن بناها آدم — عليه السلام
١٢١ — وهبط إليها جبريل الملك الكريم، ونزل فيها الوحي على النبيين، وخصها الله
بالمشاهد المباركة والمواضع التي هي معدن الطهارة، ومظهر نور الملائكة؛ مما ليس مثله
في
جميع العالم.
فمما تبركت بزيارته من مواضعها الميمونة محل مولد النبي
ﷺ وقبة الوحي
١٢٢ التي فيها بنى النبي
ﷺ بخديجة أم المؤمنين — رضي الله عنها —
والموضع الذي كان يقعد فيه سيد ولد آدم محمد
ﷺ تبركتُ بلمسه وتقبيله، وزرتُ دار
أبي بكر ودار جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين ودار الخيزُران التي قدَّمتُ لك ذكرها في
الرسائل السالفة، وهي على باب زقاق الخيزران بمقربة من القصر المعروف بمنزل الأبجر،
١٢٣ وكنت أحب أن أزور المشاهد المباركة التي في الجبال والغار الذي أوى إليه
النبي
ﷺ المسمَّى بغار ثَوْر
١٢٤ الوارد ذكره في القرآن، ولكن لم يتيسر لي ذلك لقصر الوقت كما لم يتيسر لي
مزار بعض المواضع الميمونة التي هي في نفس البلدة.
وأما البيت الحرام فقد بناه إبراهيم — عليه السلام — حضين الملائكة لقوله — تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ١٢٥ وقد أخذ الناس في تعظيمه والحج إليه من الجاهية والفرس والعماليق والتبابعة
وغيرهم ممن دنا ونأى، ثم صارت الولاية عليه بعد ولد إسماعيل إلى جُرْهم، وكانت سدانة
البيت ومفاتيحه معهم، وإلى ذلك يُشير مُضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي بقوله:
١٢٦
وكنا ولاة البيت من بعد ثابت
نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر
كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمُر بمكة سامر
ثم صارت ولايته إلى خزاعة ثم إلى قريش بعدهم، وكانت صورة إبراهيم وإسماعيل ماثلة
١٢٧ فيه لأيامهم، فأحسنوا ولايته وجددوا بناءه، كما أشار إلى ذلك زهير بن أبي
سُلمى في قوله:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهم
ثم صارت ولايته بعد الخلفاء الراشدين — رضي الله عنهم — إلى عبد الله بن الزبير —
رضي
الله عنهما — فنزع عن كسوته المسوح والأنطاع وكساه الديباج الملون، واتخذ له المفاتيح
وصفائح الأبواب من الذهب، وكان يُطيِّبه حتى يوجَد ريح المسك من خارج الحرم،
١٢٨ فلما رماه يزيد بن معاوية بالمنجنيق بعث إلى صنعاء في الفضة والكِلس
فحملهما، ثم شرع في البناء على أساس الخليل إبراهيم — عليه السلام — فما كاد يستكمل
بناءه حتى وفد الحجاج لقتاله بعد يزيد وحاصره بالزحف والترامي، وأحرق مكة ورماها
بالمنجنيق حتى تصدَّعت جدران الكعبة — نسأل الله السلامة من شرور الأنفس وسيئات الأعمال
— فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن يُعيد بناءها على الصفة التي بنتْها عليها قريش
١٢٩ في أيام النبي
ﷺ قبل النبوة،
١٣٠ فبناها على ذلك الرسم، وهي باقية عليه إلى أيامنا.
وهذا البيت المكرم مبني بالحجارة الصُّمِّ السود مفروش بالرخام المجزَّع، وفيه عمد
ضخمة من الساج، وسقف مغشًّى بالحرير الملون، وهو قريب من التربيع، ونصفه الأعلى من
الفضة المذهبة
١٣١ وله أركان أربعة؛ أولها: الركن الشرقي الذي فيه الحجر الأسود، ومنه ابتداء
الطواف، ولا يُدرى قدر ما استتر من الحجر في الركن،
١٣٢ وسعته الظاهرة ثلثا شبر وطوله شبر واحد، وقد وضعه النبي
ﷺ بيده
١٣٣ على ما هو معروف عند الكل، ثم الركن العراقي، وهو شمالي. ثم الركن الشاميُّ
وهو غربيٌّ. ثم الركن اليمانيُّ وهو جنوبي.
وارتفاع هذه الأركان ثمانٍ وعشرون ذراعًا، إلا الركن الشرقي فإنه يزيد عليها ذراعًا
في الارتفاع
١٣٤ لانصباب السطح إلى الميزاب،
١٣٥ وطول الكعبة سبع وعشرون ذراعًا،
١٣٦ وبابها في الصفح الذي بين الركن العراقي والركن الشرقي على أحد عشر شبرًا
من الأرض. وهو من الساج الملبس بالفضة والذهب المنقوش
١٣٧ وطوله ست أذرع وزيادة، وعرضه أربع أذرع، وهو قريب من الحجر الأسود ويسمى ما
بينهما المُلتَزَم، وهو موضع استجابة الدعاء يتزاحم الناس فيه عند طوافهم بالبيت؛ بحيث
لا يخلو منهم ساعة من نهار أو ليل، وقد أخبرني أميرُ مكة أنه لا يوجد مَن يخبر أنه رآه
خِلوًا من طائف به أو مصلٍّ، وأخبرني — وهو غاية ما يكون من احترام الدين وشعائره
المقدسة — أنَّ في مكة من الصالحين مَن لم يدخل الكعبة تعظيمًا لها؛
١٣٨ إذ كانت أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات «مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» ومن دخله
كان آمنًا.
وفي الركن العراقيِّ المذكور باب يسمَّى باب الرحمة ينتهي بالراقي عليه إلى سطح
البيت، وتحته قبو فيه حجر مغشًّى بالفضة
١٣٩ تبركت بزيارته ولمسه وهو مقام إبراهيم الخليل — عليه السلام، وتحت الميزاب
المذهب في صحن الحِجر قبر إسماعيل — عليه السلام — وموضعه رخامة بل رخامتان خضراوان
فيهما نُكت يميل لونهما إلى الاصفرار
١٤٠ حتى يخيل للناظر أن ذلك تجزيع بأيدي الصناع، وإلى جانبه مما يلي الركن
العراقي قبر هاجر أم إسماعيل — عليه السلام — وموضعه رخامة خضراء أيضًا، وفي مقابلة ركن
الحجر الأسود الميمون قبة بئر زمزم،
١٤١ وهي البئر التي شرب منها الخليل — عليه السلام،
١٤٢ وداخلها مفروش بالرخام، وعمقها — فيما يقال — إحدى عشرة قامة، أربع فضاء
وسبع ماء، وماؤها لمن شربه كما ورد عنه: «طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ.»
أما الحرم فإنه يحدق بالبيت العتيق من جميع جهاته، وهو قائم على عمد من الرُّخام،
١٤٣ وله صوامع سبع، أكبرها في دار الندوة
١٤٤ وأصغرها على باب الصفا، وهو أكبر أبواب الحرم، ثم بعده باب السلام وباب
السِّدرة وباب الندوة،
١٤٥ وشاهدت في بعض مقاصير الحرم الشريف مُصحفًا بخط زيد بن ثابت الأنصاري،
١٤٦ نسخه بأمر عثمان بن عفان — رضي الله عنه — سنة ثماني عشرة للهجرة كما تقدم
بيان ذلك، ولا أدري في أي موضع كان قبل أن يوضع هناك؛ لأنه لم يكن للحرم في تلك الأيام
جدار، وإنما كان موضعه دورًا
١٤٧ لم تتم زيادتها فيه إلا في خلافة الوليد بن عبد الملك، كما أنه لم يتم
بناؤه على ما هو عليه اليوم إلا في خلافة المهدي — رحمه الله — وهو الذي زيَّنه بالرسوم
١٤٨ وكتب اسمه في مواضع كثيرة منه تبرُّكًا بالخير الذي صنع، ومما كتب على
سارية منه خارج باب الصفا: «أمر عبد الله محمد المهدي — أصلحه الله — بتوسعة المسجد
الحرام مما يلي باب الصفا؛ لتكون الكعبة في وسط المسجد، في سنة سبع وستين
ومائة.»
موافاة الرشيد بالمدينة
وكان انفصالي عن مكة المكرمة لسبع بقين من ذي الحجة، ومررتُ في طريقي إلى المدينة
المنورة بمنازل أعراب لم يتغربوا بالأسفار، ولا سبق لهم عهد بحضارة الأمصار، فوجدتهم
١٤٩ يقولون بالقِيافة والزَّجْر والعنقاء والبُومة التي تأخذ بثأر المقتول،
وغير ذلك مما كان يقول به أهل الجاهلية، وبلغني أنَّ بجوارهم أعرابًا لم يدخلوا في دين
الإسلام لا يختلفون عنهم إلا بتعظيم عيسى — عليه السلام — وينطقون بالجيم كافًا مخففة،
فينادون الرجل: يا ركل.
١٥٠
فوصلتُ من مكة إلى بطن مر
١٥١ وهو وادٍ خصيب ذو عين فوَّارة، ثم عطفتُ إلى عسفان وهي مدينة تحف بها
الجبال وفيها كثير من شجر المُقْل وآبار منسوبة إلى عثمان بن عفان
١٥٢ — رضي الله عنه، ثم ركبتُ إلى الخُلَيص وهو موضع في بسيط من الأرض، وفيه
خيامٌ لقبيلتين كبيرتين من العربِ يُقال لهما كِنانة وخزاعة وهم متقاربون في المنزل
وبينهم نسبٌ لم تُرْمَ فيه العصا،
١٥٣ ثم امتد بنا السير من خليص إلى بدر وهي قرية كثيرة الخيرات كانت بإزاء موضع
من مواضعها يُقال له القليب وقعة النبي
ﷺ المباركة التي أعز الله — تعالى — بها
الدين وقهر المشركين.
١٥٤
ثم اتجهتُ إلى الصفراء في صدر النهار، وهي تبعد من بدر بريدًا، ثم إلى الرَّوحاء
وهي
موضع بئر يُقال في الحكاية: إنَّ عليًّا — عليه السلام — قاتل فيها الجان،
١٥٥ ثم رحتُ أفوز في الهضاب والبِطاح حتى أقبلت على المدينة المنوَّرة، حرسها
الله وزادها شرفًا بمنه وكرمه.
وبعد أن تبركتُ بزيارة المسجد المكرم وصليتُ في الروضة التي بين القبر المقدس والمنبر
الذي كان موطئ الرسول
ﷺ، ركبتُ إلى قصر الإمارة حيث حلَّت ركاب الرشيد، فأصبته
إلى مجلس يُشبه أن يكون من مجالس قصر له في بغداد يُقال له قصر الفُرْجة، وهو مزخرف بالصدف
١٥٦ الأبيض وفيه كتابة بالصدف الأحمر والأخضر كأنها لعين الناظر ياقوت وزبرجد،
١٥٧ فلما وقفت بين يديه بادرني بالسؤال عن أمر الرسالة وما كلمني به الأنبرذور،
فأخبرته بما توسَّم في غايتها من الخير في البلاد من عدل العمال، ودعائهم له في مساجد
مصر والغرب، وذكرت له من كلام القيصر ما اقتضتْه جلالة الخلافة؛ فشكرني على حسن القيام
بهذه المهمة، ولكنْ من غير أن يُظهِر إليَّ ذلك الصفاء الذي كان يُشرفني به من قبل،
ولما أذن لي بالانصراف ذهبتُ إلى موضع البرامكة؛ فوجدتُ في نفوسِهم ما وجدتُ في نفس
الرشيد، ليس من تجافيهم عن المصافاة، بل من إدمان فكرتهم في أمر ظننتُ أنه وقع بينهم
وبينه في المشاعر المباركة بحيلة المدالسين التي تصادف محلًّا في قلوب
العباسيين.
هذا ختام رسالتي إليك عن رسالتي إلى القيصر، وأحبُّ قبل أن أُفارق هذه المواطن
المقدسة أنْ أذكر لك شيئًا عنِ المدينة المنوَّرة تبركًا بذكره، فأقولُ: إني وجدت
المسجد المكرم قائمًا على أعمدة من الحجارة اللامعة، وسقفه من الساج المزين بالرسوم،
١٥٨ وجدرانه منزلة بفصوص من الفُسَيْفِساء
١٥٩ تمثل أشجارًا وثمارًا وأزهارًا بأبدع ما يكون من الصناعة، وهي من عمل الروم والقبط
١٦٠ فيما رَسم لهم عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك.
١٦١
ووجدتُ الروضة التي تجاور القبر المقدس مؤزَّرة إلى ثلثها برخام بديع النحت غريب
النعت، وأعلاها مُضمَّخ بالمسك والطيب،
١٦٢ ورأيت القبر المقدس مبنيًّا برُخام يُقال إنه من عمل وردان،
١٦٣ وعلى رأسه صندوق من الآبنوس مخَتَّم بالصندل مُصفَّح بالفضة طوله خمسة
أشبار في ارتفاع أربعة وعرض ثلاثة، وإلى طرف القبر مما يلي أقدام النبي
ﷺ رأس
أبي بكر، أما عمر بن الخطاب فمدفون عند رجلي أبي بكر — رضي الله عنهما — وعليهما قناديل
من فضة وذهب،
١٦٤ وبين الركن الجوفي والركن الغربي من المسجد موضع عليه ستر مسبل يُقال إنه
مهبِط جبريل
١٦٥ — عليه السلام.
أما المدينة المنورة؛ فإنها بمكان من العظم والاتساع وتدل تسميتها بيثرب بن وائل
من
ولد سام
١٦٦ بن نوح مع ما هو فيها من الآثار العتيقة على قِدم اختطاطها وعلوِّ شأنها
بين مدن الحجاز؛ ولها أربعة أبواب؛ أعظمها: باب الحديد، وهو من الحديد،
١٦٧ ثم باب البقيع؛ حيث الآثار المذكورة والمشاهد المباركة الميمونة،
١٦٨ وفيها قصور لا يُوجد فيما نقله السَفْر المخبرون ما هو أعظم منها في ديار
العرب، وأعظمها قصر للمقداد بن الأسود في الموضع المعروف بالجرف،
١٦٩ وهو مجصص الظاهر والباطن،
١٧٠ وقصر لعثمان بن عفان مُشيد بالحجر والكِلس، وأبوابه من الساج والعَرْعر
١٧١ وفيها مشاهد كثير من الصحابة والتابعين والأنصار وأهل البيت الكريم — شرفهم
الله تعالى
١٧٢ — وقد زرتُ منها قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي
ﷺ وقبور أوزاج
النبي
ﷺ وأولاده ومشاهد أولاد عليٍّ — عليه السلام — وفي موضع هذه القبور رخامة
مكتوب عليها:
١٧٣
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله مُبيد الأمم ومُحيي الرِّمَم، هذا قبر فاطمة بنتِ رَسول الله
ﷺ سيدة نساء العالمين، وقبرُ الحسن بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهما
— وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، رضي الله
عنهم أجمعين.
فيالها من قبور ما أشرفها وأكرمها!
وإلى مَقْرُبة من المدينة المنوَّرة موضع يقال له قُباء
١٧٤ وفيه كان مبرك الناقة بالنبي
ﷺ وموضعه المسجد المبارك الذي أُسس على
التقوى والرضوان،
١٧٥ وفي صحنه شِبه محراب على مصطبة يُقال إنه أول موضع ركع فيه
١٧٦ النبي
ﷺ وفي قِبْلته بئرٌ معروفة ببئر أريس يُقال إن النبي
ﷺ
تَفَلَ فيها فعاد ماؤها عذبًا صافيًا بعد أن كان آجنًا أُجاجًا، وفيها سقط خاتمه
ﷺ من يد عثمان بن عفان — رضي الله عنه.
هذا بعض الخبر عن المشاعر المباركة والمواطن المقدَّسة، والقليل دليل على الكثير.
وقد
خصَّ الله — تعالى — تلك البقاع المباركة من الشرف والتكريم بما لم يخص به غيرها من
البلاد، وهو مالك الملك، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
الرشيد والبرامكة في مكة
هذا ذيل للرسالة أكتبه إليك من ظاهر الحيرة، وأنا منفصل عن البرامكة في كتاب أحمله
إلى الرَّقة من لدن الرَّشيد؛ لأعلمك ما بينه وبينهم من الأمر العظيم.
كان انفصالنا عن المدينة المنوَّرة في غد اليوم الذي كتبت فيه هذه الرسالة، وعلِمتُ
فيما نقل إليَّ أبو زنج الهمذاني صاحب جعفر
١٧٧ — أيَّده الله — أنَّ الرشيدَ إنما تحول عن البرامكة خوفًا من ميل الناسِ
إليهم بما أغدقوا عليهم من الجود والكَرم؛ فإنه كان إذا جَلسَ في مكَّة للعطاء جلسَ معه
يحيى فأعطى مثل عطائه، وإذا جلسَ الأمين جلس معه الفضل فأعطى مثل عطائه، وإذا جلس
المأمون جلس معه جعفر فأعطى مثل عطائه، ثم استرسلوا هم وأولادهم من بعدُ في سعة الهبات
حتى ذهبت أعطياتهم مثلًا بين الناس؛ فانصرفوا عن مديح الخليفة إلى صوغ الشعر في مديحهم
بالكرم، وكانوا يقولون: والله هذا عام الأعطِيات
١٧٨ وينشدون:
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خُلِقت إلا لجودٍ أكفُّهم
وأقدامهم إلا لأعواد مِنبر
فأحدث ذلك في نفس الرشيد غيظًا من تمام النعمة عليهم؛ وانطلق المجال لأخصامهم من
آل
الربيع فيما كانوا يرتقبون من فرصة لتهويل أمرهم على الرشيد؛ فخوَّفوه استقواءهم بالمال
والرجال، واستعانوا برُقعة رفعوها إليه وزعموا أنها تدور بين الناس وفيها هذه الأبيات:
١٧٩
قلْ لأمين الله في أرضه
ومَن إليه الحلُّ والعقدُ
هذا ابن يحيى قد غدا مالكًا
مثلك ما بينكما حدُّ
أمرُك مردود إلى أمره
وأمرُه ليس له ردُّ
وقد بنى الدار التي ما بنى الْـ
ـفُرسُ لها مِثلًا ولا الهندُ
الدر والياقوت حصباؤها
وتربها العنبر والنَّدُّ
ونحن نخشى أنه وارث
مُلكك إن غيَّبك اللحْدُ
فأدخلوا عليه الخوف منهم على سلطانه؛ فاستدعى مَن كان بمكة من بني هاشم، وبعث إلى
المدينة يستقدم أهل الحل والعقد، وجدَّد البيعة بمحضرهم للمأمون بعد الأمين، وكتبها من
بعدهما لمحمد القاسم، ولقَّبه بالمؤتمن فصيَّر ولاية العهد إلى ثلاثة من أولاده
يتعاقبُون فيها كما قالت الشعراء في مديحهم له:
١٨٠
أبو أمين ومأمون ومؤتمن
أكرِمْ به والدًا برًّا وما ولدا
ثم إنه ولَّى المأمون خراسان وهمذان إلى أواخر المشرق، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم
أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه
شيء،
١٨١ وضمَّ إلى القاسم الجزيرة والثغور والعواصم، وفرَّق في الناس نحو ألف ألف دينار؛
١٨٢ ليظهر اقتداره على العطاء الكثير ويحطُّ من قدر البرامكة وما وقع في نفوسِ
النَّاس من انفرادهم بسعة العطاء دون غيرهم من خليفة أو سُلطان، وهو يظن أنه يفعل هذا
أمنًا لمكروه من ناحيتهم وردًّا لمكيدة خافها من وراء ما كانوا يعارضونه من قبل في قسمة
المُلك بين المأمون والمؤتمن، مع أنهم إذا لم تجرِ لهم موافقة على هذه القسمة فلم يكن
ذلك إلا حبًّا فيه، ومنعًا لوقوع الشقاق بين أولاده.
وكان مع ما في قلبه من المَوْجِدة يُصانعهم ويُظهر استرسال نفسه إليهم؛ حتى لا
يفطُنوا إلى ما يُريد من المكروه، فإذا جلسوا إليه أظهر الرضا عنهم وأقبل بالعطف عليهم؛
ليوهمهم أن الأمر على غاية الصفاء، فكان يغرُّهم ذلك منه إلا جعفرًا — حفظه الله —
لأنَّه كان أعلم الناس بما في نفسه من حب الأَثَرَة، حتى إذا أهداه مَسروقًا غلامه
١٨٣ قال لي: والله، إن في إهدائه إليَّ هذا الغلام لحيلةً لم يخفَ عليَّ أمرها،
فإنه يُوهمنا برضاه حتى لا نظن به سوءًا فيما داخله من الحسد، وقد أخبرني جبريلُ بن
بختيشوع أنَّ الرَّشيد إنما تحوَّل عنهم بتمحُّل الفضل بن الربيع الذي كان يذكر له ما
على بابهم من الجيوش والأعوان، ويخوِّفه استقواءهم في فارس وخراسان، وتعميرهم خِطط
الدولة بمَن يعرفون فيه حبًّا لأهل البيت، ويتهمهم لديه باحتياز مال الجباية
١٨٤ وتصرفهم في الأمور بما يشاءون، والملوك لا تصبر على مثل ذلك فأوغر صدره
خوفًا منهم بعد أن ملأ قلبه عداوةً لهم.
١٨٥
هذا ما اتصل بي في مكة من أمر الرشيد بالبرامكة،
١٨٦ وقد تحوَّل عنهم لأمرين لا أرى له مندوحة في أحدهما؛ فأما استفحال ملكهم في
الإسلام وتزلُّف الملوك إليهم بالهدايا الفاخرة والأموال الطائلة؛ فإنه غير مضرٍّ
بالرشيد، وله بهم سند للدولة وفخر في الملة، إلا أن يكون ضعيف البصيرة فاتر الهمة، وقد
مضى لهم من تعظيم شأنه وتقويم سُلطانه ما يشهد بأنَّ سيفهم خادم لنصره.
وأما وفور المال تحتَ أيديهم وانبساط الجاه لديهم وكثرة الضياع عندهم فذلك لهم بعد
أن
تولَّوا المراتب خمسين سنة في الوزارة والولاية وقيادة الجيوش، وليس فيه فيء من أموال
المسلمين كما يزعم الواشون بهم إلى السلطان، فكان أولى بالرشيد وأكرم لنفسه أن يذكر
بلوغه المجد والصولة بهم؛ لا أن يدِبَّ فيه الطمع ويمدَّ عينه إلى ما ادخروا لولدهم بعد
أن دبروا دولته هذا التدبير العظيم.
ولما اجتمعتُ بالبرامكة بعد ذلك وخلوت بجعفر النفس الزكية، علمتُ مقدار النُّفرة
التي
وقعت بينه وبين الرشيد، فقال لي جعفر: انظر كيف أنَّه يركب هذا المركب الوعر؟ ما كفاه
أننا أقمنا ملكه ومهَّدنا أمره حتى صار يحسُدنا على ما آتانا الله من النعمة، فوالله،
لئن لم يرجع عن غيِّه ليكونن ذلك وبالًا سريعًا عليه،
١٨٧ فقلتُ: يا سيدي، ليس للرشيد عنكم مَرغب ولا أظنه يحرم دولته عنايتكم، فقال:
تمهل على نفسك، إن لنا فارس وخراسان، فإن يُجاهرنا بالعدوان يقُمْ في وجهه مَن يُغالبه
على السلطان.
فلما رأيتُ ما بنفس جعفر من التأثُّر أخذتُ في تهدئة خاطره، وقد كنتُ أعرفه سريع
الرجوع عن غضبه، فلم يهدأ ثائر صدره، وإنما أدمن الفكرة فيما يشغله من القلق، وأمرني
بألا أفارق بابه في ذلك الوقت.
وكان الفضلُ بن الرَّبيع لا يفتُرُ عن السعاية إلى الرشيد ساعة من ليل أو نهار،
ويخوفه منه اشتراكه في مؤامرة جارية بينه وبين الفرس، فكان الرشيدُ يحتال باستبقاء جعفر
عنده، والميل إليه بتصنع العطف؛ ليوهمه زوال ما بنفسه من الموجدة، وكان جلوسي إليه في
ذلك الوقت قد أقلقه كل القلق، فرأى أن يفصلني عن البرامكة بوجهٍ لا يُرَدُّ على الملوك
بأن يوجهني إلى الرَّقَّة في كتاب من لدنه إلى عاملها، وهو يقول لي: إن بنا من جميل
الاعتقاد بك ما نرتاح فيه إلى إنفاذك برسائلنا، فكن عند رجائنا فيك، فأدركتُ الحيلة من
ذلك الأمر، ولكنْ أشار إليَّ البرامكة ألَّا أُخالف أمره حتى نطمع في حسن النجاح ونحصل
من المراد بما تم عليه العزم من إثارة خُراسان والمناداة بخلافة أهل البيت.
فانفصلتُ عن البرامكة بالحيرة في اليوم الذي نزل الرشيدُ فيه السفن إلى العُمْر الذي
بناحية الأنبار،
١٨٨ وكان الرشيد قد غلب عليه الخوف في ذلك الوقت؛ حتى كان إذا تناول الطعام
يخشى أن يكون فيه سُمٌّ
١٨٩ فاستبقى الأطباء على مائدته ممن كان مخالفًا للبرامكة إلا جبريل بن بختيشوع،
١٩٠ وقد طوى عنه سرَّ ما عزم عليه من إقصائهم عن المراتب إلا كلمة حسد قالها له
حين رأى إقبال الملوك على بابهم،
١٩١ وأنا اليوم أسير حثيثًا حتى لا يفوتني الرجوع إلى بغداد قبل وصول جعفر
بموكب الحُجَّاج.