الفصل الثاني

نظام الحكم في الإسلام

(١) نظام الحكم

الكلام في نظام الحكم في أمةٍ من الأمم لا يقف عند الفكرة العامة من الحكم، فردِي هو أم نيابي، ملكي أم جمهوري، ديمقراطي أم ديكتاتوري، بل هو يتناول أمورًا كثيرة تتصل بالفكرة العامة للحكم من قريب أو بعيد، يتناول النظام الاقتصادي، والنظام الخُلُقي، والنظام الاجتماعي، وألوانًا أخرى من النُّظم خاصة بالسلم والحرب، بالدين والعلم، وبغير ذلك من تفاصيل لا يتم تصور نظام الحكم إلا بتصورها كاملة في حال حركتها، وفي حال استقرارها.

فإنجلترا ديمقراطية، وأمريكا ديمقراطية، لكن صورة الحكم في إنجلترا تختلف عنها في أمريكا؛ إنجلترا ملكية وأمريكا جمهورية، إنجلترا برلمانية النظم وأمريكا نيابية النظم، العلاقات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية في إنجلترا غير العلاقات بين الحكومة المركزية في أمريكا وحكومات الولايات، القيم الخُلقية ليست واحدة في الدولتين، وهذا التباين طبيعي مرجعه إلى تاريخ الأمة، وإلى الأطوار التي مرت بها، والأحداث التي تعاقبت عليها.

وتستطيع أن تقول مثل ذلك عن الدولة الواحدة في أطوار حياتها المختلفة، فالفكرة العامة في النظام الإنجليزي اليوم هي بعينها الفكرة العامة في هذا النظام منذ قرون، لكن ما أكبر الفرق بين آثار النظام الإنجليزي اليوم وآثاره في العهد الفكتوري! وما أكبر الفرق بين آثاره في العهدين وآثاره في القرن الثامن عشر! ولا شبهة أن هذا النظام سيتطور بعد حين تطورًا عظيمًا مع بقاء فكرته العامة قائمة، وسيكون التطور أكثر وضوحًا في نواحيه الاقتصادية والاجتماعية.

أطوارٌ شتى

وهذا الكلام عن تطور صورة الحكم يصدُق كل الصدق على النظام الإسلامي، فالفكرة العامة في هذا النظام واحدة، لكن آثار هذه الفكرة تطورت على القرون أطوارًا شتى، وبدت في صور اختلفت باختلاف البيئة التي حلت بها، والأحداث التي وقعت أثناءها، والثورات التي كانت الإمبراطورية الإسلامية في العصور المختلفة مسرحها، فإذا أردنا أن نصور نظام الحكم في الإسلام تصويرًا يقربه من أذهان أهل هذا الجيل، وجب علينا أن نقف وقفات سريعة عند طائفة من هذه الأطوار، ولعل وقفاتنا هذه تجلو لنا صورة تتمشى فيها الوحدة المستمدة من الحياة الإسلامية، وإن غشيت هذه الوحدة في كثيرٍ من الأحيان مظاهر تجعل من المتعذر محاولة إثباتها بمقارنة الحكم الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد آل عثمان مثلًا.

ويجب أن تكون وقفتنا الأولى عند عهد النبي — عليه السلام — وخلفائه الأولين. وأول ما يلاحَظ أن العهد المكي من حياة رسول الله لم يتعرض للدولة، ولم يجعلها غرضًا من أغراضه، فقد اقتصرت السور المكية على الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وإلى السمو بالنفس الإنسانية عن الانخداع بالدنيا ومتاعها الغرور، لتكون بهذا السمو أقرب إلى الله وأدنى إلى رحمته. أما العهد المدني، فقد تقررت فيه القواعد الأساسية لحياة الأسرة وللميراث وللتجارة وللبيع، ولكثير مما فصَّله الفقهاء من بعد تطبيقًا لهذه القواعد الأساسية، واستنباطًا من حياة الجماعة التي كانوا يعيشون فيها.

على أن هذه القواعد الأساسية لشئون حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، لم تتناول أي تفصيل في الأساس الذي تقوم عليه الدولة، ولم تتعرض لنظام الحكم تعرضًا مباشرًا. والآيتان الكريمتان: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ لم تنزِلا في مناسبات تتصل بنظام الحكم، وهما بعدُ لا تُصوران نظام الحكم تفصيليًّا.

فهل يؤثِر الإسلام النظام الجمهوري على النظام الملكي؟ لقد بويع الخلفاء الراشدون في العهد الأول للإسلام على قاعدة من الشورى ليست هي الانتخاب المباشر، وليس بينها وبين النظام البرلماني أو النظام النيابي شَبَه واضح. وأنت تستطيع مع ذلك أن ترى في بيعة الخليفة بعد تشاور أهل الرأي ما يجعله أدنى إلى رئيس جمهورية منه إلى ملك. أما الدول الأموية والعباسية وما تلاهما، فقد قامت على أساس ملكي لا يمت للمعنى الجمهوري بصلة أو نَسب. أفنقول مع ذلك بأن أحد النظامين إسلامي والآخر غير إسلامي؟ من العسير أن نقرر ذلك بعد أن انعقد إجماع المسلمين خلال القرون على خلافه.

هذا، ثم إن فكرة الحكم لم تكن مفصلة القواعد في عهد النبي بعد الهجرة إلى المدينة، وهو لم يُغيِّر شيئًا من النظام العربي في الحكم على ما بيَّنه في الأساس الذي كان يقوم عليه في قبائل البادية، وفي حَضَر الحجاز واليمن من تباين واضح، فقد ترك الرسول هذه الشئون يوجهها الناس في كل أمة كما اعتادوا أن يوجهوها، مكتفيًا منهم بأن يقبلوا الدين الذي جاء به من عند الله.

وكان إذا سُئل في شيء من ذلك أجاب: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلما استقر سلطان المسلمين بالمدينة، وآل الأمر فيها إلى النبي العربي، لم يُغيِّر صورة الحكم عما كانت عليه، وكل ما حدث أن ما كان ينزل به الوحي من قواعد تخالف ما ألف العرب في حياتهم، كان يوجه المسلمين وجهتهم الجديدة في الحياة، دون أن يغير المبدأ الأساسي للحكم العربي.

كان هذا الحكم العربي يختلف من البادية إلى الحضر، ومن حضر الشمال إلى حضر الجنوب. وكان اختلافه يرجع إلى اعتبارات إقليمية، وتاريخية، تأثرت بها كل بيئة تأثرًا يختلف عما حدث في بيئةٍ أخرى.

كانت مدن الحجاز تستقل كل واحدة منها بنفسها، ولا تعرف لغيرها سلطانًا عليها، كذلك كان شأن مكة وشأن المدينة، وشأن الطائف. كان بكل واحدة من هذه المدن استقلالها ونظامها، وكان الحكم فيها متأثرًا بالعوامل التاريخية التي تعاقبت عليها، فكانت السلطة في المدينة مثلًا موضوع تنازع دائم بين الأوس والخزرج واليهود.

وظل الأمر على ذلك إلى أن استقرت كلمة الإسلام، وعاد الأمر إلى النبي العربي. أما مكة، فقد تقاسمت الأسر الكبيرة فيها شئونها العامة: كانت أمور الكعبة لبني هاشم، وكانت أمور الحرب لبني مخزوم، وكانت الديات والمغارم لبني تَيْم، وهلم جرًّا. ولم يتغير الأمر بمكة بعد فتح النبي إياها، بل ظلت الكلمة فيها لهذه الأسر الكبيرة.

وكان الخلاف في مبدأ الحكم بين شمال شبه الجزيرة وجنوبها أشد منه بين مدن الحجاز، كانت اليمن قد اندمجت في وحدة سياسية، قبل البعث بزمن غير قليل. وترجع وحدة اليمن السياسية إلى اعتبارات اقتصادية وأخرى تاريخية واضحة الأثر، فلم تكن بين مدن الحجاز روابط اقتصادية تقتضي خضوعها لنظام مشترك كنظام اليمن، أما في اليمن، فقد قضت المصالح الاقتصادية المشتركة — كقيام سد مأرب — بأن توضع قواعد عامة للحكم يحترمها أهل البيئة جميعًا. هذا، ثم إن اليمن خضعت في عهود كثيرة لأطوار سياسية لم يعرفها الحجاز، عَدت الحبشة، وعدت فارس، على استقلال اليمن، وأقامت فيها حاكمًا تخضع جميع أنحائها لسلطانه. كان طبيعيًّا إزاء هذه الاعتبارات أن يقوم الحكم في أنحاء اليمن كلها على قاعدة معترَف بها من أهلها جميعًا، ينفذها الحاكم بقوة القانون إن لم ينفذها الناس عن رضا واختيار.

ونظام القبائل في البادية لم يكن يتفق ونظام الحضر في اليمن أو في الحجاز، بل كان الغزو والسلب تحت إمرة رئيس القبيلة أساس الحياة عند البدو. وكان رئيس القبيلة هو القاضي، وهو القائد الأعلى، وهو الذي يصرف شئون القبيلة ما جَلَّ منها وما دَقَّ. وطبيعي أن يستند مثل هذا النظام إلى شخصية رئيس القبيلة وأن يتأثر بمنطقه وحكمته.

(٢) المبادئ الأساسية في الحكم

لم يغير النبي العربي شيئًا من هذه النظم المتباينة في الحجاز ولم يضع قواعد ثابتة لنظام الحكم الإسلامي، وكل الذي صنعه أنه كان يوفد من عنده إلى القبائل أو المدن التي تعتنق الإسلام من يفقه الناس في دينهم، ويعلمهم قواعده، ويحملهم بذلك على أن ينظموا سلوكهم على موجب هذه القواعد.

على أن القواعد الجديدة التي جاء بها الإسلام لتنظيم السلوك والمعاملات كانت مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره، وقد اطمأنت قواعده بالفعل شيئًا فشيئًا، متأثرة بالبيئة وأحداث التاريخ. وفي مقدمة القواعد التي تأثر بها النظام السياسي للإسلام الإيمان بالله لا إله إلا هو، وبأنه وحده تجب له العبادة. فقد أدى هذا الإيمان إلى تقرير قواعد المساواة والإخاء والحرية، فالمؤمنون جميعًا سواسية أمام الله، تجري عليهم جميعًا سننه بالقسط لا تفرق بين أحدهم وصاحبه، ولا فضل لعربي منهم على عجمي إلا بالتقوى. وهم لذلك إنما يجزون بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. والناس إخوان يجب أن تقوم المحبة بينهم مقام البأس، بل مقام القانون، فلا يكمل إيمان أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والناس أحرار في كل شيء، أحرار في العقيدة نفسها، فلا إكراه في الدين، ولا إيمان إلا بعد اقتناع بالحجة والموعظة الحسنة.

كانت هذه هي المبادئ الأساسية للحكم في العهد الإسلامي الأول، وكانت لذلك واضحة الأثر في تطور نظام الحكم في بلاد العرب تطورًا، بدا للعيان على أثر حروب الردة. وقد أكملت القواعد الاقتصادية والاجتماعية هذه المبادئ، وأسرعت بالنظام الإسلامي إلى أن تتضح صورته، وأن يستقر، على أن تطوره ظل متصلًا على العصور، لم يقتصر تأثره على العامل الإسلامي الذي نشير الآن إليه، بل تأثر أحيانًا بالبيئة وأحداث التاريخ تأثرًا بعيدًا عن القواعد الإسلامية، بل مناقضًا لهذه القواعد في بعض الأحيان مناقضةً صريحة.

وقد بدأت هذه العوامل الأجنبية يتضح أثرها منذ العهد الأول للإسلام، وكانت أولى المظاهر التي بدت بهذه العوامل الأجنبية ما كان من قتل أبي لؤلؤة، غلام المغيرة، عمر بن الخطاب الخليفة الثاني، ثم ما كان من مؤامرة انتهت إلى قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وما حدث بعد ذلك من ثورة شبت نارها وتلظت الحرب بسببها بين علي ومعاوية، فأبو لؤلؤة فارسي، وكانت مصر ذات يد في المؤامرة على عثمان، وكانت الشام تؤيد عليًّا. هذه العوامل الخارجية الآتية من فارس ومصر والشام هي التي نقلت النظام الإسلامي من الخلافة وإمارة المؤمنين إلى الملك الذي توارثه بنو أمية، فبنو العباس، فمن جاء بعدهم من الملوك في أقطار العالم الإسلامي المختلفة.

وهذه العوامل الخارجية هي التي رسمت الإطار الخارجي لصورة الحكم الإسلامي منذ العهد الأول، فبعد أن كان هذا الإطار عربيًّا صرفًا في عهد النبي، وفي عهد أبي بكر، وبعد أن كانت البساطة العربية تطبعه، حمل الفتح الإسلامي عمر بن الخطاب على إنشاء الديوان، ثم أدى امتداد الفتح إلى تنظيم الحكومة الإسلامية في حدود الدين الجديد، على مثال الحكومات القائمة في بلاد فارس وفي بلاد الروم.

وكان لهذا التطور الأول أثره في الحياة العامة، وإن لم يبعد بها عن الصورة العربية إلى مثل ما حدث من بعد في العهد العباسي والعهود التي تلته. وظل هذا التطور يتصل من بعد ذلك على الأجيال، وظل الفقهاء يستنبطون القواعد والأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، فيعاونون التطور بعلمهم ليبلغ غاية مداه.

(٣) تطور نظام الحكم

لم يضع النبي العربي نظامًا مفصلًا للحكومة الإسلامية، على أن ما جاء به من عند الله تنظيمًا لقواعد السلوك والمعاملات كان مقدمة لتنظيم سياسي لا مفر من استقراره. وقد بدأ هذا التنظيم السياسي تطوره البطيء من عهد النبي، ثم كان تطوره أكثر وضوحًا عقب حروب الردة. فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي بدأت العوامل الخارجية تُحدث أثرها في هذا التطور. وكان أثر هذه العوامل بعيدًا عن القواعد الإسلامية أحيانًا، مناقضًا لها كل المناقضة أحيانًا أخرى.

وكانت النظم القائمة في الروم وفي فارس هي التي تأثر بها نظام الحكم الإسلامي منذ أنشأ عمر الديوان، ثم ازداد تأثرًا بها في عهد عثمان. فلما قامت الدولة الأموية، واتخذت دمشق مقرًّا لها، كان طبيعيًّا أن تزداد هذه العوامل أثرًا في تصوير الإطار الخارجي لنظام الحكم، على أن الروح العربية ظلت سائدة إلى حد كبير في عهد بني أمية؛ لأن الذين كانوا يضطلعون بأعباء الحكم ومناصب الدولة الكبرى كانوا من العرب. فلما انتقل الأمر إلى العباسيين، بدأ الأثر الخارجي يبدو أكثر وضوحًا؛ لأن الفرس كانوا أصحاب نفوذ كبير في شئون الدولة.

هذا، ثم إن العهد العباسي امتاز بنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية؛ لذا بدأت نظريات هذه الفلسفة تعمل عملها في تطوير الحياة العامة للدولة الإسلامية. صحيح أن الفقهاء والمحدثين، ومن إليهم، عنوا في ذلك العهد باستنباط القواعد والأحكام من الكتاب والسنة، أو مهدوا بذلك لوضع التشريع الإسلامي، لكن كثيرين من هؤلاء الفقهاء والمحدثين، وكثيرين من الكتَّاب والمفكرين، كانوا من غير العرب، فكان طبيعيًّا أن تؤثر وراثتهم العقلية في أحكامهم وفي منطقهم. ثم إن النظام الذي كان قائمًا في فارس، وفي بلاد الروم يجعل لولي الأمر سلطانًا مطلقًا، فكان من أثر ذلك أن تطورت الفكرة الأساسية في الحكم إلى النقيض لما كانت عليه في أول العهد الإسلامي. ثم كان من أثره أن شاعت فكرة هذا الحكم المطلق متنقلة من أمير المؤمنين إلى الحكام والولاة، وإلى مَن دونهم مِن سائر من يتولون منصبًا من مناصب الدولة ذا أثر في توجيه حياة الناس ومنافعهم.

فكرتان

لما بويع أبو بكر بالخلافة خطب الناس فقال:

لقد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني … أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.

وهذا كلام صريح في أن الخليفة وكيل عن الأمة، وأن للأمة وهي الأصيل أن تراقبه وأن تقومه، وأن تطيعه في حدود توكيله. وكان عمر بن الخطاب يقول للناس: «من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه.» فيقول له أحد الناس: «والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا.»

أما في العهد العباسي، فكان أمير المؤمنين يخطب الناس بأنه ظِل الله على الأرض، وبأن الله وضع في يده مفاتيح خزائنه فيها، فإن شاء أن يفتحها فتحها، وإن شاء أن يغلقها أغلقها. وكانت نظرية الحق الإلهي أو الحق المقدس للملوك نظرية معترفًا بها منذ العهد العباسي، كما اعترف بها بعد ذلك في أمم أوروبا المسيحية. وأنت ترى من ذلك مبلغ التناقض بين الفكرتين: الفكرة العربية كما فهمها أبو بكر وعمر، وهي التي تتفق مع ما نزل في القرآن على محمد إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ والفكرة التي أخذ بها ملوك بني العباس من أنهم يستمدون سلطانهم من الله لا من الناس، وأنهم محاسبَون أمام الله، غير محاسَبين أمام الناس.

ليس عسيرًا تفسير هذا الفارق بين الفكرتين، فأبو بكر وعمر وعثمان كانوا أولياء على قومهم باختيار قومهم ومبايعتهم إياهم، أما الملوك الذين جلسوا على عرش المملكة الإسلامية فكانوا يَرون أنهم تسنموا هذه العروش بحق الفتح، أولئك إذن ولَّاهم الشعب فهم وكلاؤه، وهؤلاء غلبوا الشعب على أمره، وتسلطوا بقوة البأس على رقابه، فهم سادته وحكامه. وأهل الرأي الذين بايعوا أولئك كانوا من العرب الذين نزل الدين على رجل منهم فهم سواسية، وأهل الرأي ممن حول هؤلاء كانوا حاشية وبطانة يقولون لصاحب السلطان سمعنا وأطعنا، فهم تبع. وطبيعي أن يكون الشعب بعدهم تبعًا لهم، بذلك تطورت الفكرة العامة لنظام الحكم الإسلامي من تلك البيعة الحرة عن طواعية ورضا إلى هذا السلطان المطلق الذي أظل العالم الإسلامي خلال العصور منذ العهد الأموي.

أثر التطور في مبادئ الإسلام

هل أثر هذا التطور في الفكرة العامة للحكم على المبادئ التي جاء بها الإسلام لتكون أساس حضارة العالم؟ ذلك أمر لا ريب فيه؛ خذ الرق مثلًا، كان الرق شائعًا قبل الإسلام شيوعًا فاحشًا، فلما جاء الإسلام حدَّ منه، وجعل الرقيق أسير الحرب الذي لا يفتدى، أو لا يُقبل فيه فداء. ومع ذلك فتح باب العتق على مصراعيه، وجعل فك الرقبة مما يتقرب به المرء إلى الله، ثم جعل الرقيق في مقام كريم، على أن التطور الذي حدث في أمر الحكم رد شئون الرقيق إلى مثل ما كان عليه قبل الإسلام أو ما يقرب من ذلك، فأصبح الرقيق تجارة رائجة، ولم يقف الرق عند أسرى الحرب، بل تعدى ذلك إلى خطف الغلمان والفتيات، واعتبر هذا الخطف غزوًا.

ليس الرقيق إلا مثلًا نسوقه للدلالة على الأثر الذي أدى إليه تطور الفكرة العامة للحكم في أمر المبادئ السامية التي جاء بها الإسلام لتكون أساسًا لحضارة العالم. ولو أننا أردنا أن نتقصى هذا الأثر في حياة الجماعة، لما وَسِعنا هذا المقام. لكنا نقرر أنه تناول الأسرة ونظامها، وتناول الحرية العامة في مختلف صورها، وتناول الوجود الإنساني كله. لم تتقرر للمرأة حقوق في حضارة العالم ما قرره لها الإسلام، جعل للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف، وجعل للرجال عليهن درجة مقابل ما أُلقي على الرجال من أعباء أُعفي النساء منها. المرأة المسلمة حرة حرية الرجل، حرة في ذاتها، حرة في معاملاتها، يجب لها من احترام الرجل مثل ما يجب للرجل من احترامها. لا يملك الرجل من أمرها إلا ما يوحيه هذا الاحترام وهذه الحرية، في حدود مصلحة الأسرة ومصلحة الجماعة.

ومع ذلك لم يلبث هذا التطور الذي أحدثته العوامل الخارجية في الحياة الإسلامية أن ردها إلى ما يقرب من مكانها عند الرومان وعند الفرس، ضرب عليها الحجاب، وحُرِمت أقدس حق لها؛ حُرِمت حريتها في المتاع الشريف بالحياة. بذلك انقلبت نظرة الرجل إليها فسقطت عنها كرامة الإنسان، وصارت متاعًا للرجل يلهو به ويتحكم فيه تحكم السيد في الرقيق، وتحكم أمير المؤمنين في رعيته. صارت المودة والرحمة اللتان ورد ذكرهما في القرآن على أنهما أساس الصلة بين الرجل والمرأة، تفضلًا من الرجل على أحد الضعيفين: المرأة والرقيق. ووجد الفقهاء فيما وضع من الأحاديث سندًا يؤيدون به هذا التطور الذي جنى على الأسرة وعلى الأبناء وعلى سعادة الأمة الإسلامية وتقدمها.

الحكم المُطلَق

ثم ماذا؟! … ثم نشأ عن هذا التطور ما كان أبعد أثرًا في حياة العالم الإسلامي كله، هذا الحكم المطلق الذي جعل لأمير المؤمنين ما كان لإمبراطور الروم ولعاهل الفرس من سلطان غير محدود، أغرى كل حاكم في ولاية إسلامية بأن ينتقض على أمير المؤمنين كلما استطاع أن ينتقض عليه، ليكون له بذلك حقوق أمير المؤمنين في هذا السلطان المطلق.

فإذا استطاع أمير المؤمنين من بعد أن ينكل بمنافسه وأن يقضي عليه فبها، وإلا تنافس ذوو السلطان وأذاقوا الأمة ألوانًا من التضحية لمجدهم الذاتي لا لمجد الأمة، ولا لمجد الإسلام. بذلك عم الانتقاض أنحاء العالم الإسلامي، وبدأ التدهور الذي انتهى إليه هذا التطور.

وكان من أثر هذا التدهور أن زالت فكرة الإمبراطورية الروحية التي تربط المسلمين جميعًا بآصرة التقوى والإيمان بالله وحده، وإنكار الخضوع لغير الله، فصارت الإمبراطورية الإسلامية في طور الإمبراطوريات المتداعية الركن المهيضة الجناح. وكيف لأمة أو لإمبراطورية أن تقاوم التدهور والانحلال، إذا غاص ماء الحياة من مَثَلِها الأعلى وأصبحت لا تعرف التضامن ولا تعرف الاعتصام بحبل الله، بل صارت إلى مثل مصير الحيوان، لا همَّ له إلا أن يلتمس كل فرد من أفرادها الرزق لنفسه، والقضاء على أخيه.

وأنت ترى هذه الظاهرات كلها واضحة، إذا تتبعت تاريخ الأمم الإسلامية منذ منتصف العهد العباسي، بل إنك لترى مقدماتها تستشري في كيان الأمة قبل ذلك ومنذ بداية العهد الأموي، بل منذ قتل أبو لؤلؤة عمر، ومنذ انتهت المؤامرة التي دُبرت بقتل عثمان. صحيح أن هذه المقدمات لم يبدُ أثرها إلا بعد قرنين أو ثلاثة قرون من قيام الإسلام، لكنها مع ذلك هي المقدمات التي أنتجت ما نلمسه من أثر في حياة الأمم الإسلامية منذ منتصف العهد العباسي.

التنافس والتطاحن

وأنت تتلو في القرآن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وتتلو: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وتتلو في الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.» مع ذلك ترى في تاريخ الأمم الإسلامية منذ مئات السنين من أسباب التنافس — بل التطاحن — ما لا يتفق في شيء مع هذه المعاني السامية، كم من أمير أو ملك في أمة إسلامية تحالَف مع الصليبين أو مع التتار ليكون وإياهم ألبًا على غيره من ملوك المسلمين وأمرائهم!

وأنت ترى القرآن الكريم يفرض على الذين آتاهم الله من فضله أن يؤتوا الزكاة وأن يؤدوا الصدقات إلى أهلها، ويقرر في أموال ذوي المال حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، ويقيم بذلك مزاجًا بين الفردية التي تحفز العامل للسعي وكسب الرزق، وبين الاشتراكية التي تكفل للجماعة الطمأنينة والاستقرار بسد عوز المعوز وحاجة المحتاج. ومع ذلك نرى عصور التدهور التي أشرنا إليها تشهد من آثار الأنانية ومظاهر الأثرة ما يناقض هذه المثل العليا كل المناقضة.

وأنت ترى في القرآن الكريم من معاني التعاون ما لا تشهد له أثرًا في العهود المتأخرة إلا بقدر ما يستدر به الرجل عطف ذوي السلطان عليه، فإن رأى ذوو السلطان في تشييد المساجد ما يتقربون به إلى الله، تقرب الناس إليهم بتشييد المساجد، وإن رأى ذوو السلطان الانصراف إلى اللهو، تنافس الناس في محاكاتهم وتقليدهم، بذلك صغرت النفوس، وضعفت القلوب، وهانت الكرامة الإنسانية، وأصبح أمر الناس مظاهرة لا تنطوي على حقيقة، ولا مأرب لهم منها إلا إرضاءهم لأنانيتهم وإشباعهم لغرورهم.

أثر الحضارة الغربية

ظل الأمر كذلك حتى بدأت الحضارة الغربية تظِل العالم بنفوذها، وتوقظ الراقدين من سباتهم، وكان ذلك منذ النصف الأخير للقرن الثامن عشر المسيحي. ومن يومئذ بدأت الأمم الإسلامية تفيق شيئًا فشيئًا، وينظر حكماؤها ومفكروها فيما آل إليه أمرها، أحق أنها هوت إلى المنحدر الذي هوت إليه بسبب عقائدها، أم بسبب نظام الحكم فيها؟ وهل يرجع هذا النظام إلى أصل من الدين، فلا سبيل إلى الخروج عليه إلا بالخروج على الدين؟ وهل هذه الحضارة الغربية بدعة منكرة في نظر الإسلام، أم أن ما فيها من خير يقره الإسلام ولا ينكره؟

هذه أمور تناولها أولئك الحكماء والمفكرون بالبحث والنظر، وفيما كانوا ينظرون كان غزو الحضارة الجديدة يسير بأسرع من تفكيرهم ومن نظرهم، وكانت نُظم الحكم الغربية تنتقل مع هذا الغزو إلى الأمم الإسلامية المختلفة. وكان من المسلمين من يقول إن هذه النظم التي كفلت سبق الأمم إلى مضمار الحضارة هي وحدها التي تتفق مع روح الإسلام وتوائم تعاليمه.

على أن أحدًا من فقهاء المسلمين في العصر الحديث لم يتجه نظره إلى تصوير الفكرة الإسلامية في الحكم تصويرًا كاملًا، وتطبيق هذا التصوير على الأمم الإسلامية في هذا الزمن الذي نعيش فيه، ولم يتجه أحدهم ليقيم مذهبًا كاملًا بين الحدود والتفاصيل، يضع كل شأن من شئون الجماعة في المكان الواجب له من نظام الحكم في الإطار الإسلامي الصحيح. قام جماعة من علماء الغرب بتصوير الاشتراكية المسيحية، ولست أعرف أحدًا قام بتصوير الاشتراكية الإسلامية في مذهب كامل. هذا، والتفكير الإسلامي القديم غني بالمادة التي تكفي لإقامة هذا المذهب الكامل في هذا الموضوع كغناها بالمادة التي تكفي لإقامة مذهب كامل لنظام الحكم على الأساس الإسلامي في صفاء جوهره.

أفأستطيع أن أصور هذا النظام الإسلامي في الحكم بما يتفق وما عليه العالم في هذا العصر، ذلك ما سوف يكون بيانه في الصفحات التالية.

(٤) الإسلام ومبادئ الحضارة الإنسانية

سبق أن أشرنا إلى أن الإسلام لم يضع للحكم نظامًا مفصلًا، ولكنه وضع قواعد للسلوك في الحياة وللمعاملات بين الناس، كانت مقدمة لنظام للحكم تطور على الزمان، وتأثر أثناء تطوره بعوامل إسلامية وأخرى خارجية، تباينت ومبادئ الإسلام في بعض الأحيان أشد التباين. وهذا الوضع الشاذ هو الذي أدى إلى تدهور الأمم الإسلامية بعد قرون معدودة من انتشار الحضارة الإسلامية في ربوع كثيرة من العالم.

ولئن لم يضع الإسلام للحكم نظامًا مفصلًا، فقد وضع مبادئ أساسية لحضارة الإنسانية من شأنها أن تتطور على الزمان ما تطور علم الإنسان وفنه وتفكيره. والأساس الإسلامي للحضارة الإنسانية روحي، يدعو إلى حسن إدراك الإنسان صلته بالوجود ومكانه منه، وإلى البلوغ بهذا الإدراك حد الإيمان، وعلى هذا الأساس الروحي، يجب أن ينظم الإنسان سلوكه في الحياة على مبادئ الأخوة والمحبة والبر والتقوى، وعلى أساس هذه المبادئ يجب أن ينظم الحياة الاقتصادية للجماعة الإنسانية.

عقيدة التوحيد

كيف نستخلص من هذه المبادئ التي وضعها الإسلام أساسًا للحضارة، ما يمكن أن يكون نظامًا للحكم صالحًا لتحقيق أغراضها؟ نستخلص هذا النظام من تاريخ الإسلام نفسه، ونستخلصه كذلك من تاريخ الأمم المختلفة على تباين العصور، فقد ثبت أن اختلاف العقيدة الأساسية كان دائمًا موضع قلق في الأمة الواحدة، لهذا دعا الإسلام إلى وحدة العقيدة على أساس بسيط كل البساطة، يسيغه العقل الإنساني في مختلف الأمم وفي مختلف الأزمان. يقول تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وأنت ترى التوحيد عقيدة يؤمن الناس بها في مختلف أقطار الأرض، وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم، اليهود موحدون في أساس عقيدتهم، ومنهم موحدون جهرة. وفي كثير من الأديان المعروفة في آسيا تعلو فكرة التوحيد على كل فكرة أخرى، أنت تراها في البوذية، وفي غير البوذية من الأديان. ولا عجب أن يكون ذلك، وفكرة التوحيد من البساطة والوضوح بما يدعو إليها كل عقل وكل جنان.

ثبات سنة الكون

هذا هو المبدأ الأول للحضارة الإسلامية، والمبدأ الثاني هو ثبات سنة الكون وعدم تعرضها للتغير. وقد وردت في هذا المعنى آيات كثيرة، تنص على أنك لن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنته تحويلًا. وقد انتهى العلم في عصرنا إلى تقرير هذا المبدأ في أمر الأحياء وغير الأحياء على السواء، وفي أمر الجماعات وأمر الأفراد كذلك. ومن خير ما وقعت عليه في هذا المعنى ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «هيبوليت تين» من أننا لو استطعنا أن نبلغ من طريق العلم معرفة شئون الأحياء بالدقة التي نعرف بها شئون غير الأحياء، لاستطعنا أن نعرف مصائر الأفراد والأمم بالدقة التي نعرف بها مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر، ولأتيح لنا يومئذ أن نقرر على نحو علمي ثابت مصير الإنسانية بعد قرون وقرون.

المساواة بين الناس

وحدانية الله وثبات سنته في الكون يقتضيان المساواة بين الناس أمام الله وخضوعهم على السواء لسنته جل شأنه، وهذه المساواة هي المبدأ الثالث من مبادئ الحضارة الإسلامية، وعلى أساسها أقام العرب صلاتهم بغيرهم من الأمم التي اتصل الغزو بينها وبينهم في العهد الأول، فالمؤمن أخ المؤمن، يتساوى معه في الحق والواجبات، لا فرق بين عربي وعجمي. ومع ذلك لم يُفرض الإسلام على الناس بالسيف، بل بقيت حرية الاعتقاد وحرية الرأي مطلقة من كل قيد. بذلك طُبقت الآيتان الكريمتان: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ تطبيقًا صادقًا.

وغاية ما فُرض على الذين لم يعتنقوا الإسلام، أن يدفعوا الجزية ليكونوا في حماية المسلمين يتولون دون سواهم القيام بأعباء الحرب، والدفاع عن كيان الدولة وذمارها، على أن عمر بن الخطاب لم يأبَ على من اطمأن إلى ولائهم حين الحرب واشتراكهم فيها في صفوفه، أن يُعفوا من الجزية وأن يتساووا مع المسلمين في الأعباء العامة.

عقيدة التوحيد، وثبات سنة الكون، والمساواة بين المؤمنين مساواة قائمة على الإخاء أكثر من قيامها على التنافس، مبادئ إسلامية مقررة، يشترك فيها الرجل والمرأة اشتراك مساواة تامة، فقد وجه القرآن الكريم الحديث للرجال والنساء في كل أمر من الأمور، وجعل على الجنسين واجبات متساوية. وهذه المساواة سبق بها الإسلام الشرائع الحديثة، وهي تعتبر بعض قواعد الحضارة الإنسانية كما صورها الإسلام، ويجب لذلك أن تكون من أسس النظام الإسلامي للحكم، يقررها التشريع وتجري على موجبها قواعد الخلق. وإذا كان الأمر فيها قد تغير بعد قليل من العهد الإسلامي الأول، فإنما مرجع ذلك إلى العوامل التي ناقضت القواعد الإسلامية، والتي أشرنا إليها من قبل.

هذه المبادئ وما يتصل بها من قواعد الخلق تعتبر في نظر الإسلام واجبات وثيقة الاتصال بإيمان الإنسان بالله. وإذا كانت حضارة عصرنا الحاضر تعتبر الكثير منها حقوقًا للإنسان، له حرية التمتع بها ما شاء، فإن الإسلام يراها فروضًا واجبة لا يصح للإنسان أن ينزل عنها أو يتهاون فيها. هي حقوق له إزاء أمثاله، وواجبات عليه إزاء بارئه جل شأنه، هو خلقه ليستمتع بها، واستمتاعه الصحيح بها عبادة الله. فإذا هو نزل عنها أو قصر فيها كان مسئولًا أمام الله في هذه الدنيا، وكان مسئولًا أمامه في الآخرة.

وهذه المسئولية هي أساس الجزاء. والجزاء الأوفى عند الله هو الذي يجعل المسلم يسمو بالقيم الخلقية سموًّا كبيرًا أنه لا يخاف جزاء الشارع عنها في هذه الحياة، لكنه مع ذلك غير ناجٍ من جزاء الله المطلع على خافية الأنفس وما تخفي الصدور. من ثم كانت الأقدار الخلقية جليلة المقام في الحياة الإنسانية لدى الجماعة الإسلامية. ولذلك من غير ريب أثره البالغ في حياة الجماعة وفي نظامها وفي الحكم وآثاره.

والإسلام يقر التملك والأسرة والميراث ويقررها، ويرى بعضهم لذلك أنه يتفق في اتجاهه الاقتصادي مع المذهب الفردي، وهذا خطأ، فالإسلام حين يقرر التملك والأسرة والميراث، يجعل في مال ذي المال حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، ويجعل فرضًا على الجماعة أن تكفل للفرد حياته. ومن الخطأ الظن بأنه لذلك يتفق في اتجاهه الاقتصادي مع المذهب الاشتراكي، إنما الإسلام مزاج من المذهبين، يزاوج بينهما في ظل قواعد الخلق المتصلة بالإيمان ذلك الاتصال الوثيق الذي أشرنا إليه.

نظرية الواجب

يجعل الإسلام فرضًا على الجماعة أن تكفل للفرد حياته، وهذه الكفالة تبدأ من يوم وُلد، وتظل إلى يوم يموت. وهي لا تقف في حدود القوت لمن لا يجد القوت، بل هي تتناول كل حاجات الفرد الإنسانية على اختلاف صورها، فمنذ عهد النبي كان تعلم الناس وتفقههم في دينهم بعض واجبات الجماعة للفرد. وظل الأمر كذلك في مختلف العهود حتى في عهود الانحلال والتدهور، فحيثما أقيم مسجد للعبادة أقيمت معه مدارس يتعلم فيها أبناء المسلمين فتية وفتيات، واعتبر ذلك واجبًا لا محيد عنه، وأمر الصحة كأمر التعليم، كانت تقام المستشفيات إلى جوار المساجد، وعلى مقربة منها — وكان الناس جميعًا يؤمونها — لأن الصحة العامة كانت بعض واجبات الدولة للأفراد، كما كانت بعض واجبات الأفراد على أنفسهم لله.

نظرية الواجب هذه أساسية في النظام الإسلامي، وهي مستمدة من مسئولية الإنسان أمام الله أولًا وقبل كل شيء. الإنسان مسئول أمام الله عن كل أعماله، كبيرها وصغيرها، دقيقها وجليلها، مسئول عن نواياه مسئوليته عن أعماله، فالنوايا مظاهر نفسية يطلع الله عليها، كما أن الأعمال مظاهر مادية يطلع الله ويطلع الناس عليها. والجماعة الإنسانية مسئولة أمام الله كمسئولية الفرد سواءً بسواء، عليها واجبات للفرد وواجبات لنفسها، إن قصرت في أدائها لقيت جزاءها من الله كما يلقى الفرد جزاءه من قضائه، والقائمون بأمر الجماعة هم الذين تقع هذه المسئولية على عاتقهم أولًا وبالذات.

وتقرير نظرية الواجب على هذا النحو يجعل ما نسميه في التفكير الحديث حقوقًا، بعض هذا الواجب علينا أفرادًا وجماعات، ولهذا لا نملك النزول عنه، فالحرية العقلية واجب؛ لأننا إذا نزلنا عنها ضللنا طريق الهدى إلى الله وعجزنا عن معرفة سنته في الكون. والدفاع عن حرية الغير واجب؛ لأن الاعتداء عليها منكر، ورسول الله يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.» وحب الغير واجب؛ لأن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وفعل الخير واجب القادر عليه لأنه المظهر الأول لحب الغير، وتضامن الجماعة واجب لأنه الكفيل بحريتنا في أداء واجباتنا وإبراء ذمتنا منها أمام الله وأمام الناس، وهو الكفيل لذلك بسعادة الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة.

•••

حسبي ما قدمت من مبادئ جوهرية قررها الإسلام أساسًا للحضارة الإنسانية، فليس يتسع المقام لسرد سائر المبادئ، وهو لا يتسع لتفصيل الفكرة في أي من المبادئ التي قدمت. وهذا الذي قدمت يرسم أمام النظر إطارًا عامًّا للفكرة الإسلامية في الحياة ونظامها.

ونظام الحكم في الإسلام هو النظام الذي تتحقق في ظلاله الفكرة العامة، كما تتحقق المبادئ التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية في تطورها الدائم نحو الكمال.

(٥) الحكومة الإسلامية والتشريع

وقد رأينا نظام الحكومة الإسلامية اختلفت صورته، فهو في عهد الخلفاء الراشدين غيره في عهد بني أمية، وهو في هذين العهدين غيره في عهد بني العباس. ومن غير الميسور أن نختار نظامًا من هذه النظم فندعو للعودة إليه، فنظام الحكم لا يتأثر بالمبادئ وحدها، بل يتأثر كذلك بالبيئة التي يقوم فيها، وبالأحداث التي تمر بهذه البيئة، وبالتطور الفكري والعلمي الذي ينتهي الناس إليه.

وقد تأثر نظام الحكم في الممالك الإسلامية بهذه العوامل تأثرًا بينًا، ناقض بعض المبادئ التي أشرنا إليها في هذا الحديث مناقضة ظاهرة، فليس طبيعيًّا أن نسمي هذا النظام نظامًا إسلاميًّا سليمًا، وليس طبيعيًّا كذلك أن نعود بنظام الحكم الإسلامي إلى الفكرة العربية الأولى.

فالتطور الذي مر به العالم خلال القرون الثلاثة عشر الأخيرة يجعل هذا العود غير مستطاع، لكن هذا ليس معناه أن نظام الحكم الإسلامي لا يستطاع تطبيقه في عصرنا الحاضر، وإنما معناه أننا يجب أن نجعل هذا النظام قائمًا في حدود تفكيرنا، محققًا في نفس الوقت للفكرة العامة وللمبادئ التي وضعها الإسلام أساسًا للحضارة الإنسانية لا يحيد عنها ولا يجري على نقيضها.

ولن يعترض أحد بأن مراعاة التطور الفكري والعلمي الذي انتهى الناس إليه والملاءمة بينه وبين النظام الإسلامي للحكم فيه ما يخالف المبادئ الإسلامية، ما دام النظام الذي يقوم تكون غايته تحقيق هذه المبادئ، وما دام النظام نفسه يقوم في حدود هذه المبادئ.

خذ مبدأ المساواة مثلًا، أشرنا إلى أن مبادئ الإسلام الأساسية لقيام الحضارة الإنسانية تفرض تساوي الناس جميعًا أمام الله، وانطباق سنته — جل شأنه — في الكون على الجميع على السواء. هذا المبدأ يجعل للناس جميعًا حقًّا ثابتًا في الاشتراك في الحكم عن طريق الشورى، ويجعل الحاكم والمحكوم متساويين أمام القانون وأمام ما أمر الله به وما نهى عنه. وذلك قول أبي بكر حين بويع بالخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.» فكل نظام تراعَى فيه هذه المساواة، وتكون وسيلته الشورى نظام إسلامي، سواء أكان هذا النظام من نوع خلافة الراشدين، أم من نوع إمارة المؤمنين على عهد الأمويين، أم من نوع آخر تتحقق به هذه المساواة.

ومثل آخر نسوقه، وفيه من الدلالة على مراعاة التطور ما يشهد بأن النظام الإسلامي لا يقف في سبيل كل تطور تمليه مصلحة الجماعة، ما دام متفقًا مع مبادئ الإسلام العامة، فالأسرة هي الحجر الأول في بناء الجماعة الإسلامية كما قدمنا، لكن الأسرة الإسلامية تقوم على أساس المودة والرحمة، ولا تقوم على أساس جامد من الإكراه الذي يشقى به الناس، فإذا خيف الشقاق بين الشريكين اللذين يكونانها — الزوج والزوجة — وجب العمل على إزالة هذا الشقاق، فإن أمكنت إزالته فذاك، وإلا افترق الزوجان على ما في ذلك من مضرة هي دون مضرة الحياة القائمة على أساس من الشقاق، ولهما أن يتراجعا ليُعيدا للأسرة كيانها. وفُرقة الزوجين هي الطلاق، والطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وذلك لتيسير المراجعة.

ومع ذلك، رأى عمر بن الخطاب أن الناس أسرفوا في الطلاق الثلاث دفعة واحدة، فأجازه واعتبره عقوبة لهم على تسرعهم وعلى خروجهم على أمر كان لهم فيه أناة، وظل الأمر في شأن الطلاق على رأي عمر قرونًا كثيرة، وها نحن أولاء نعود إلى ما كان الأمر عليه في حياة رسول الله، وفي حياة أبي بكر، فلا يقع الطلاق ثلاثًا إلا واحدة ليتراجع الزوجان وتستقر الأسرة.

والأمر في تعدد الزوجات كالأمر في الطلاق، تطوَر من التقييد الذي جاء في القرآن إلى الإطلاق من القيد في عهد التدهور والانحلال، وهو الآن يعود إلى ما يتفق والمبدأ الذي أقره الإسلام دون حاجة إلى تشريع خاص، وهو وحدة الزوجة إلا لحاجة ماسة.

وأود قبل أن أختم هذا الحديث، أن أذكر أن نظام الحكم لا يُقصد به التفاصيل التي يراها بعضهم كل شيء، إنما يُقصد بنظام الحكم في الإسلام تحقيق الفكرة السامية والمثل الأعلى والمبادئ العامة التي أرادها الإسلام أساسًا للحضارة، فإذا حقق النظام هذا الغرض، وإن تجاوزته بعض التفاصيل، كان النظام الإسلامي القدير على التطور مع تقدم الإنسانية في تفكيرها وعلمها وفنها. وإن هو وقف عند التفاصيل دون تحقيق الغرض الأسمى، كان نظامًا جامدًا متداعيًا كالنظم التي قامت في عهود الانحلال.

وبَعُد بذلك عن أن يكون نظام الحكم في الإسلام كما أراده صاحب الوحي للإسلام أن يكون.

والواقع أن نظام الحكم شيء، والتشريع والقانون شيء آخر، نظام الحكم هو الإطار العام الجدير بالثبات والاستقرار لتحقيق الأغراض الإنسانية السامية، فلا تعتريه الغير إلا إذا عجز عن تحقيق هذه الأغراض، أو كان إدخال التعديل عليه كفيلًا بأن يجعله أدنى إلى تحقيقها. أما التشريع والقانون فيتطوران في حدود هذا النظام المستقر على أنهما أداة الحركة والنشاط. والنظام الإسلامي الذي أردنا في هذا الحديث أن نصوره هو النظام الذي تتحقق بقيامه المبادئ الإسلامية والمستمد من الإيمان الحق بالله، وبثبات سنته في الكون ثباتًا ندركه بعقولنا الحرة وتفكيرنا المتصل، وأن نتعاون فيما بيننا على أن يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يؤدي الفرد واجبه لله وللجماعة، وأن تؤدي الجماعة واجبها لله وللأفراد جميعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤