الإسلام وحرية العقيدة
(١) حرية العقيدة ومقررات الإسلام
كانت نزعة السيادة التحكمية هي بعض ما أدى إلى الحرب العالمية الأخيرة وأثار لهيبها، فكان طبيعيًّا أن يُنصَّ في مواثيق التنظيم الدولي الحديث على حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها.
فهل يتفق هذان المبدآن مع مقررات الإسلام أو يخالفانها؟
ليس من غرضي أن أبحث الأمر على طريقة الجدل الفقهي، لأقرر قاعدة حاسمة أعتبرها حكمًا قاطعًا، فالذين يذهبون هذا المذهب في بحث المبادئ يتعرضون في أغلب الأحيان للخطأ؛ ذلك بأن المبادئ تكونت على الزمان بتأثيرات شتى عناصرها، وهي لذلك تختلف في واقع الحياة اختلافًا يتعذر معه الفصل بينها؛ ولذا أبحث هذا الأمر على ضوء الواقع من شئون الحياة لأرى هل يتفق المبدآن مع مقررات الإسلام الذي أدين به ويدين به مئات الملايين من الناس، بقدر ما يتفقان مع مقررات المسيحية التي يدين بها مئات الملايين من الناس.
وفي هذا الشأن أتردد في القول بأن المبدأين يتفقان مع مقررات الإسلام أيما اتفاق. وبيانًا لذلك، أبدأ بالكلام عن حرية التدين:
صحيح أن الإسلام يجزي المرتد عنه بالقتل، لكن المسيحية هي الأخرى تهدر دم المرتد عنها، وكذلك تفعل الأديان الأخرى غير الإسلام والمسيحية. وأما فيما وراء ذلك فإن الإسلام صريح في أنه لا إكراه في الدين، كما يقرر أن الصالحين من أهل الكتاب لهم جميعًا ثوابهم عند ربهم جزاء بما عملوا، وقد طُبِّق التعبير بأهل الكتاب في عهد عمر بن الخطاب على قوم من أبناء فارس لم يكونوا من اليهود ولا من النصارى، وهذا يدل أبلغ الدلالة على تسامح المسلمين الأولين الذين لم يفرضوا دينهم في الأمم التي فتحوها، ولم يكرهوا الناس حتى يكونوا مؤمنين.
ولأن القرآن الكريم ينص على أنه لا إكراه في الدين فقد ترك المسلمون النصارى واليهود والمجوس في بلاد الشام والعراق ومصر على دينهم، ولم يفرضوا الإسلام على أحد منهم. وقد بقيت في هذه البلاد إلى يومنا الحاضر طوائف لم تدخل دين العرب، بل تمسكت بدين آبائها، ثم تمتعت بالحماية التي تتمتع بها الأقليات اليوم في أكثر الأمم حضارة بل بأكثر منها.
وأنت تتلو معاهدات الصلح التي عُقدت في عهد الفتح الإسلامي، فتراها جميعًا صريحة في النص على احترام عقائد الأهلين في البلاد المفتوحة واحترام شعائرهم وبيعهم وكنائسهم وأحبارهم ورهبانهم. وقد شعر أهل مصر بعد الفتح العربي بأنهم أكثر حرية في تدينهم بمذهبهم المسيحي مما كانوا عليه حين كانوا خاضعين لسلطان الروم، إذ كان هرقل يحاول إكراههم على تغيير مذهبهم واعتناق المذهب الرسمي الذي فرضه، وتطبيقه في بلاد الإمبراطورية البيزنطية.
(٢) الحرية والاختلاف المذهبي
لقد حدث بعد ذلك العهد الأول، أن كانت حرية التدين مقيدة في بعض الأزمان، وأن القتال كان ينشب بين أهل المذاهب المختلفة في الدين الإسلامي بسبب هذا الاختلاف المذهبي، لكن هذا الأمر كان يقع في البلاد المسيحية كما كان يقع في البلاد الإسلامية؛ لأن السلطات الدينية في ذلك الوقت هي بعينها السلطات الزمنية، وكانت لذلك تعتبر مذهبها الديني من نظام الدولة، بل أساس هذا النظام، إلا أن هذه الحروب المذهبية كانت تنتهي حينًا بظفر مذهب بعينه، وحينًا آخر بانهزام هذا المذهب نفسه، هي التي أقنعت الناس بأن العقائد لا تفرضها القوة إنما يؤدي إليها الاقتناع.
وليس للاقتناع سبيل غير حرية الرأي وحرية الدعوة إليه، فإذا اقتنع الناس بما تنطوي عليه هذه الدعوة، اطمأنوا إلى الرأي فاعتقدوه وآمنوا به.
وهذا التطور هو الذي انتهى بإقرار الدساتير الحرة لحرية التدين، كما أنه هو الذي دعا إلى إيضاح هذا المبدأ في ميثاق الأطلنطي ليكون من الأسس التي يقوم عليها عالم ما بعد الحرب. وإقرار هذا المبدأ يؤدي إلى أن ينظر الناس بعضهم إلى بعض — على اختلاف أديانهم — نظرة احترام متبادَل، وأن يلتمسوا في مقررات أديانهم المختلفة وسائل التقريب بينهم بدون أن يلتمسوا في هذا المقررات أسباب التنازع والشحناء، فالأديان كلها تدعو إلى مبادئ سامية غاية السمو وتناجي الوجدان بأرفع المعاني، وتدعو الناس ليتوجهوا إلى الله بقلب سليم يربط بينهم بروابط الأخوة والمحبة والسلام.
ونحن المسلمين ننظر إلى الأديان الكتابية نظرة تقديس لأننا نؤمن بما أوتي عيسى وموسى وإسحاق ويعقوب والنبيون من قبلهم، ونؤمن بأن الله الواحد هو الذي هداهم ويهدي من يشاء طريق الخير وسواء السبيل.
(٣) حرية العقيدة والتقدم
وقواعد الخلق المقررة في الأديان كلها أساسها الحق والخير والإيثار النفسي والعفو عند المقدرة وما إلى ذلك من فضائل تعارف الناس في كل الأمم وفي كل العصور على أنها قوام السعادة للإنسان.
وليس بين الأديان دين يدعو إلى البغضاء أو الانتقام أو إلى نقيصة من النقائص، وهي فيما تدعو إليه من الفضائل تسمو بالنفس الإنسانية إلى المجد الأرفع، وتناجي خير عناصرها لتزداد سموًّا ورفعة.
لذلك كان المتدين الحق، الصادق الإيمان المطمئن العقيدة، أدنى الناس إلى الكمال أيًّا كانت العقيدة التي يؤمن بها؛ لأن العقائد على اختلافها تدعو إلى السمو الإنساني وتحقق غاية الحياة.
إذا أدت حرية العقيدة إلى أن يتبادل الناس الاحترام، وأن يلتمسوا في الأديان المختلفة أسباب الكمال عن طريق التسامح والأخوة والمحبة، كان ذلك من أكثر العوامل الدافعة للتقدم، المؤدية إلى استقرار السلام في العالم، فإنما نشبت الحروب وقامت الثورات الكبرى لأن كثيرين كانوا يشجعون على تجسيم ما بين الناس من أسباب الخلاف، فتتسع هوة هذا الخلاف بينهم ويصبح سببًا للبغض وللعدوان التي تنتهي إلى التنازع وإلى الحرب. وقد اتخذوا الأديان ذريعة لإثارة أسباب العداوة في بعض العصور، وإثارة هذه الأسباب هي التي أدت إلى الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى، وإلى ما كان بين البروتستانت والكاثوليك من اضطهاد ومجازر.
ولو أن حرية العقيدة كانت مبدأ مقررًا في سالف العصور لعرف الناس التسامح ولما امتُحنت الإنسانية بما امتُحنت به، ولما أصابها يومئذ من الويلات ما أصابها.
ولا أدل على ذلك من اطمئنان الناس إلى حرية العقيدة في العصور الأخيرة، فقد كانت هذه الحرية كاملة وكنت ترى مظاهرها واضحة في إنجلترا وأمريكا وفرنسا وفي الأمم الديمقراطية جميعًا. ولم تثر مع ذلك من جرائها أية ثائرة، بل بقي للأديان جميعًا من الحرمة في نفس الناس ما لا يجني عليه التعصب ولا يذهب به التفريق. فإذا اتجه الناس من بعد إلى اعتبار الأديان وسيلة تقارب ومودة بما تدعو إليه من رفعة وسمو، ولم يسمعوا إلى الذين يدعونهم إلى التنافس والتنازع بسببها، تحققت أسباب الوئام والمحبة والسلام.
أما ومقررات الإسلام لا تأبى حرية العقيدة، ومقررات المسيحية لا تأباها، فسيكون لهذه الحرية، التي يؤمن الناس بها صادقين، أثر خير الأثر في علاقة ما بين الأمم الإسلامية وغيرها من الأمم نصيرة الحرية.